بثيــــنة 19
:: عضو فعّال ::

السـلام عليـكم ورحمـة الله وبركـاته ,
كيف ننمّي تذوّقَ الطفل للغة العربيـة الفصيحـة وقدرتَه على استخدامها
اللغة العربية الفصحى محبّبة للنفس، سهلة على التقبّل، ميسّرة للتذوُّق والتعلُّم والاستخدام، إلا أن واقعنا اليوم وما يمرّ به المسلمون من ضعف وهوان، ومع امتداد اللغات الأجنبية واللغة العامية في معظم المجتمعات الإسلامية، جعل صعوبات أمام الطفل والشباب، أمام أبناء المسلمين بصفة عامة، في تذوقهم أو دراستهم للغة العربية.
إن كلّ لغة تحتاج من أجل تعلُّم أبنائها لها إِلى بيئة يتلقّي الطفل فيها لغته منذ صغره، منذ طفولته، هذه البيئة المطلوبة غير متوافرة في واقعنا اليوم بالنسبة للغة العربية، يضاف إلى ذلك أن من بين أبنائنا من تخلى عن اللغة العربية مدّعياً صعوبتها ادعاءً لا يقوم على أساس.
ملايين من المسلمين في الأرض لا يعرفون اللغة العربية، أصبحت لغتهم الرسمية لغة أخرى غير العربية مما يوجد صعوبة كبيرة في نشر اللغة العربية، يضاف إلى ذلك وجود قوى شديدة تحارب الإسلام ولغته بين المسلمين، وقامت دعوات كثيرة للتخلّي عن العربية، أو لتغيير حروفها، أو لتغيير حركاتها، قوى كثيرة تعمل مزوّدة بالعدة والعلم والنهج.
في هذا الجو نريد أن ننشر اللغة العربيّة ونحبّبها إلى المسلمين جميعاً، وخاصة إلى أطفال المسلمين، أمام تحدّيات كثيرة جداً.
ولكن الذي يسهّل الأمر أن هذه اللغة هي لغة القرآن، لغة الذكر الذي تعهد الله بحفظه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9].
ومما يسهل الأمر كذلك ارتباط هذه اللغة العظيمة بالإيمان، بالإسلام، والقلوب المؤمنة مازالت تخفق بإيمانها وإن كانت ألسنتها عجمت، ومازال هناك مؤمنون يعملون ويجاهدون.
ولكن لا بدَّ أن تلتقي الجهـود على هذا الأمر وعلى غيره من قضايا الإسلام، بدلاً من أن يظل كلٌّ يعمل بمفرده، فتتناثر الجهود ويضعف أثرها.
وكذلك يجب أن يأخذ العملُ صورة الخطة والنهج حتى يتضاعف أثره وعطاؤه، وأن يكون النهج بصورته العامة واحداً لدى الجميع، ولا نستطيع هنا في هذه العجالة إلا أن نُعْطِي ملامح عامة، حتى تتم الدراسات المفصّلة.
إن تذوّق الطفل للغة العربية الفصيحة وقدرته على استخدامها يعتمد على عوامل رئيسة يمكن إيجازها بما يلي:
- المربي وقدرته وما يحمل من خصائص تفيد في هذا الهدف، ومدى التزامه باستخدام اللغة العربية الفصيحة، أو المؤسسات وأمثالها.
- البيئة ومدى توفيرها للجو الصالح، وعدم إثارتها عقبات.
- طبيعة اللغة العربية وخصائصها التي يمكن الاستفادة منها لهذه الغاية.
- الطفل طبيعته وخصائصه التي يمكن الاستفادة منها في هذا السبيل.
أما المربي فلا بدَّ أن يكـون هو نفسه ملتزماً باستخدام اللغة العربية الصحيحة، ويملك القدرة على التوجيه والتربية والبناء، أو أن يكون نال تدريبات وافية على هذه المهمة.
والبيئة هي العامل المؤثِّر بصورة مباشرة وغير مباشرة على تنمية هذا التذوق للغة العربية وعلى استخدامها، والبيئة قد تكون عائقاً أمام هذا الهدف، حين تغزوها اللغات العامية وتسود فيها، أو اللغات الأجنبية، ونقصد بالبيئة: البيت والأسرة، والمدرسة والمربّين، والمجتمع ومؤسساته الثقافية والإعلامية والتربوية.
ولقد كان بعض الخلفاء المسلمين، وبخاصة في العصر الأموي، يرسلون أولادهم إِلى أجواء القبائل العربية حيث تكون اللغة أصفى، ويبقون فيها مدة يتلقون اللغة تلقّيا نقيّاً حتى تصبح طبيعة لهم، ذلك لأنهم أدركوا دور البيئة في الترغيب باللغة وتعلمها، فلا بُدَّ من توفير البيئة الصالحة لتنمية تذوّق الطفل للغة العربية الفصحى، ولا بد من توفير التعليم مع الرعاية والتوجيه.
البيت والأسرة هو الحضن الأول للطفل، سواءً أكان ذلك في مرحلة الحمل أَم الولادة أَم في سائر مراحل نمو الطفل التي سنأتي على ذكرها، ويتحمل الوالدان أكبر مسؤولية في تربية الطفل وتعهّده ونشأته. وبذلك جاء حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، وأبواه يهوّدانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون منها من جدعاء)) [رواه الشيخان وأبو داود]([1]).
فنستفيد من هذا الحديث الشريف عدة فوائد رئيسة: مسؤولية الوالدين، الفطرة التي فطر الله الناس جميعاً عليها، وأهمية دورها في التربية والبناء، وما أودع الله فيها من قدرات وغرائز، ولنتدبر قوله - سبحانه وتعالى -: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 30ـ32].
فالفطرة تكون في الطفل المولود سليمة غنية بما أودع الله فيها من قدرات تأخذ بالنمو على سنن ربانية، وأهم هذه القدرات: قوة التفكير، العاطفة، الغرائز المختلفة، وقبل ذلك كله الإيمان والتوحيد كأنه النبع الذي يروي جميع القوى والغرائز في الفطرة لتؤدِّي كل قوة أو غريزة دورها الذي خُلِقَتْ له، ما دامت الفطرة سليمة لم تنحرف ولم تلوّث ولم تفسد.
وسلامة الفطرة وحمايتها من الانحراف أو التلوث أو الفساد هي الحق الأول للإنسان، الحق الذي أهملته جميع المؤسسات الدولية أو القطرية لحقوق الإنسان.
وفي جو الأسرة بين الوالدين وسائر أفراد الأسرة يتلقَّى الطفل أَول غذاء لفطرته وقدراته، وأول حاسة تنشط عند الطفل هي حاسة السمع، إنها تنشط فيه وهو جنين في بطن أمه، ويتأثر بكل ما يدخل سمعه في هذا الجو، ولذلك كان من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم أن نبَّهَنا إلى أهمية حاسة السمع، وذلك بالتوصية بالأذان في أذن المولود اليمنى والإقامة في أذنه اليسرى: فعن الحسين بن علي - رضي الله عنهما - عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((من ولد له ولد فأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى لم تضره أم الصبيان)) ([2])، وأم الصبيان هي التابعة من الجن، فالصوت يؤثر في المولود ولو كان لا يعي معنى الكلام.
وعند الموت كان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُلقّن المحتضر لا إله إلا الله، فعن أبي سعيد وأبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهم - وعن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لقّنوا موتاكم: لا إله إلا الله)) [رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي]([3])، وفي حياة المؤمن تظل الشهادتان تتردّدان على لسانه وفي قلبه، فهي السمة الأولى التي تظل ترافق المسلم منذ ولادته حتى وفاته، مادام مسلماً مؤمناً.
فحاسة السمع ونشاطها يمكن الاستفادة منها في ترغيب الطفل باللغة العربية وبتغذية الإيمان في قلبه، فالصوت يترك أثره في الجنين وفي الطفل بطريقة ربّانية لا يدركها العلم حتى اليوم.
تقول د. آريان آيزينبرغ وزميلتاها في كتابهنّ: " ماذا تتوقع عندما تنتظر الجنين "، إن حاسة السمع عند الجنين تكون قد تطورت تطوراً كبيراً مع نهاية المرحلة الثانية من الحمل أو بداية المرحلة الثالثة. فيصبح أن الأجنّة يسمعون ما يدور من أحاديث أو قراءات في البيت، أو عند الأصدقاء، ويعتقد بعض الباحثين المختصين في هذا العلم أنه يمكن إثارة الجنين قبل ولادته ليكون مولوداً متميزاً ".
فالبيت والأسرة هما الحضن الأول للطفل، للإنسان، وما يناله في هذه المرحلة المبكرة يكون أَثبت في القلب مما قد يناله في سنوات متأخرة من عمره، وصدق المثل القائل: " العلم في الصغر كالنقش في الحجر "! فلا بد من الحرص على توفير الجو الصالح في البيت والأسرة، وإنها مسؤولية الأمة كلها والعلماء والدعاة والدولة عن العمل لبناء هذا الجو الإيماني في الأسرة المسلمة، ومن هذا الجو يتوافر كثير من العوامل التي تعين على بناء تذوق الطفل للغة العربية الفصيحة وتنميتها، وتنمية قدرته على استخدامها.
والمدرسة جزء رئيس من البيئة كذلك، حيث تتواصل عملية البناء للطفل بين البيت والمعهد، فتكون مسؤولية المربين في المدارس أن يتقنوا التحدّث بالفصحى ليتكونّ الجو المناسب الذي يرعى ويربى في الطفل تذوقه للفصحى واستخدامه لها.
ثم يأَتي المسجد حيث يغلب أن لا يسمع المسلم في المسجد إلا الفصحى، سواءً أكان ذلك بالقرآن الكريم أم الدروس التي تعطى فيه، أم خطبة الجمعة أم غيرها من الأنشطة الإيمانية، وبذلك يرتبط البيت والمعهد والمسجد برباط قوي بحيث تتعاون هذه المراكز الثلاثة فيما بينها على تحقيق الهدف.
وتمتد ميادين البيئة بعد ذلك إلى ما يشاهده الطفل على التلفاز وسائر وسائل الإعلام، وما يسمعه من أقربائه وزملائه في حياتهم العامة.
ولكن هذه الميادين: البيت، المدرسة، المسجد، المجتمع، تكون كلها مسؤولية أُمَّةٍ واحدة، تحمل رسالة واحدة، رسالة الإسلام، وتجاهد من أجله، فيصبح غذاء الطفل في جميع مراحل نموِّه غذاء صالحاً، بالفصحى والإيمان والخلق وغير ذلك، وفي هذه الميادين كلها، يكون هنالك المربي المسؤول.
ونودّ أن نشير هنا إلى قضية رئيسة ذلك أن المسؤولية لا تقف عند حدود المسؤولية المادية الدنيوية، ولكنها مسؤولية ممتدة حتى الدار الآخرة، بين يدي الله - سبحانه وتعالى -، حين يحاسب كل إنسان عن عمله ونيته.
والعامل الآخر الذي يساعد على تنمية التذوق للفصحى هو طبيعة اللغة العربية نفسها، وعظمة خصائصها، وأعتقد أن اللغة العربية وكذلك سائر اللغات انبثقت في أول مراحل تكوينها من لغـة آدم - عليه السلام -، اللغة التي علمه الله إياها: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا....) [البقرة: 31].
وخاطب الله آدم - عليه السلام - باللغة التي علّمه إياها، وخاطب آدم - عليه السلام - ربـه بهذه اللغة، ثم تعلَّمها أولاده الذين تفرّقوا في الأرض باتجاهات مختلفة، ومع كل اتجاه أخذت اللغة تنمو وتتطور في تاريخ طويل حتى أخذت الصـورة التي نجد اللغة عليها اليوم، لغات مختلفة، كان اختلافها آية من آيات الله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم: 22].
فهذه اللغات آية من آيات الله ونعمة من نعمه، فبها يتم التخاطب وتتعارف الشعوب، وتقضى الحاجات، وللغة بصورة عامة أثرها الكبير في عملية التفكير لدى الإنسان، حتى إن بعض العلماء المختصين، اعتبروا اللغة هي التفكير، وبعضهم اعتبرها وعاء التفكير، ويزداد أثر اللغة في التفكير كلما كانت اللغة أغنى وأقوى و أكثر نمُوّاً.
وكان من فضل الله كذلك على الإنسان أن علمه البيان كما علمه القرآن: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن: 1ـ4].
وإذا كان لكل لغة نعرفها اليوم تاريخ خاص تطورت من خلاله، فللغة العربية تاريخ خاص متميز، فإذا قلنا إن أول أمرها كان مثل سائر اللغات انبثقت من لغة آدم - عليه السلام -، ثم تطورت حتى أصبحت اللغة العربية الفصحى على لسان إسماعيل - عليه السلام -: فعن عليٍّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((أول من فُتِق لسانه بالعربية المبيَّنة إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة)) [الشيرازي في الألقاب]([4]).
ولقد كشفت الآثار أن لغة النبي صالح - عليه السلام - قريبة جداً من اللغة العربية الفصحى في حروفها وقواعدها، مما يوحي أن اللغة العربية في كلّ مرحلة من مراحل نموّها كانت لغة نبيّ من الأنبياء ولغة الرسالة الربانية، وكأنها لغة النبوة في مسارها الطويل، حتى إذا اكتمل نضجها نزل بها الوحي الكريم قرآناً عربياً غير ذي عوج، فزادت بركتها وزاد فضلها، وأصبحت بميزان الإسلام والإيمان اللغة المتميزة بخصائص كثيرة من حيث الجمال، والجرس، والبيان، والفصاحة، وحتى ميَّزها الله في كتابه الكريم وأثنى عليها: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت: 3].
وآيات أخرى كثيرة في كتاب الله كشفت عظمة هذه اللغة التي اختارها الله - سبحانه وتعالى - وفضلها على لغات العالم كله، فتصبح هذه اللغة العربية منذ نشأتها قديماً وحتى اليوم لغة النبوّة الممتدة في التاريخ مع كل مرحلة من مراحل نموها، على الشكل الذي كانت عليه في كل مرحلة.
ولما فرض الله ورسوله طلب العلم وبخاصة من القرآن الكريم بلغته العربية الفصيحة أصبحت لغةُ القرآن الكريم، لغةَ الإسلام، لغةَ الرسالة الخاتمة التي جاءت للعالمين، للناس كافة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [سبأ: 28].
فهي أصبحت بذلك لغة كلّ مسلم آمن بالله واليوم الآخر، وهي بذلك لغة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فهي رحمة من الله، وهي بذلك كله لغة الإنسان تمتد مع امتداد الدعوة والبلاغ، وبذلك يكون تقبّلها وتذوّقها سهلاً عند الطفل الذي سلمت فطرته، وهذه خاصة رئيسة لتساعد على تنمية تذوق الفصحى عند الطفل في جميع مراحل نموه.
فلم تعد اللغة العربية لغة قوم محدودين، ولكنها أصبحت لغة الرسالة الممتدة للبشرية كلها.
كيف ننمّي تذوّقَ الطفل للغة العربيـة الفصيحـة وقدرتَه على استخدامها
اللغة العربية الفصحى محبّبة للنفس، سهلة على التقبّل، ميسّرة للتذوُّق والتعلُّم والاستخدام، إلا أن واقعنا اليوم وما يمرّ به المسلمون من ضعف وهوان، ومع امتداد اللغات الأجنبية واللغة العامية في معظم المجتمعات الإسلامية، جعل صعوبات أمام الطفل والشباب، أمام أبناء المسلمين بصفة عامة، في تذوقهم أو دراستهم للغة العربية.
إن كلّ لغة تحتاج من أجل تعلُّم أبنائها لها إِلى بيئة يتلقّي الطفل فيها لغته منذ صغره، منذ طفولته، هذه البيئة المطلوبة غير متوافرة في واقعنا اليوم بالنسبة للغة العربية، يضاف إلى ذلك أن من بين أبنائنا من تخلى عن اللغة العربية مدّعياً صعوبتها ادعاءً لا يقوم على أساس.
ملايين من المسلمين في الأرض لا يعرفون اللغة العربية، أصبحت لغتهم الرسمية لغة أخرى غير العربية مما يوجد صعوبة كبيرة في نشر اللغة العربية، يضاف إلى ذلك وجود قوى شديدة تحارب الإسلام ولغته بين المسلمين، وقامت دعوات كثيرة للتخلّي عن العربية، أو لتغيير حروفها، أو لتغيير حركاتها، قوى كثيرة تعمل مزوّدة بالعدة والعلم والنهج.
في هذا الجو نريد أن ننشر اللغة العربيّة ونحبّبها إلى المسلمين جميعاً، وخاصة إلى أطفال المسلمين، أمام تحدّيات كثيرة جداً.
ولكن الذي يسهّل الأمر أن هذه اللغة هي لغة القرآن، لغة الذكر الذي تعهد الله بحفظه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9].
ومما يسهل الأمر كذلك ارتباط هذه اللغة العظيمة بالإيمان، بالإسلام، والقلوب المؤمنة مازالت تخفق بإيمانها وإن كانت ألسنتها عجمت، ومازال هناك مؤمنون يعملون ويجاهدون.
ولكن لا بدَّ أن تلتقي الجهـود على هذا الأمر وعلى غيره من قضايا الإسلام، بدلاً من أن يظل كلٌّ يعمل بمفرده، فتتناثر الجهود ويضعف أثرها.
وكذلك يجب أن يأخذ العملُ صورة الخطة والنهج حتى يتضاعف أثره وعطاؤه، وأن يكون النهج بصورته العامة واحداً لدى الجميع، ولا نستطيع هنا في هذه العجالة إلا أن نُعْطِي ملامح عامة، حتى تتم الدراسات المفصّلة.
إن تذوّق الطفل للغة العربية الفصيحة وقدرته على استخدامها يعتمد على عوامل رئيسة يمكن إيجازها بما يلي:
- المربي وقدرته وما يحمل من خصائص تفيد في هذا الهدف، ومدى التزامه باستخدام اللغة العربية الفصيحة، أو المؤسسات وأمثالها.
- البيئة ومدى توفيرها للجو الصالح، وعدم إثارتها عقبات.
- طبيعة اللغة العربية وخصائصها التي يمكن الاستفادة منها لهذه الغاية.
- الطفل طبيعته وخصائصه التي يمكن الاستفادة منها في هذا السبيل.
أما المربي فلا بدَّ أن يكـون هو نفسه ملتزماً باستخدام اللغة العربية الصحيحة، ويملك القدرة على التوجيه والتربية والبناء، أو أن يكون نال تدريبات وافية على هذه المهمة.
والبيئة هي العامل المؤثِّر بصورة مباشرة وغير مباشرة على تنمية هذا التذوق للغة العربية وعلى استخدامها، والبيئة قد تكون عائقاً أمام هذا الهدف، حين تغزوها اللغات العامية وتسود فيها، أو اللغات الأجنبية، ونقصد بالبيئة: البيت والأسرة، والمدرسة والمربّين، والمجتمع ومؤسساته الثقافية والإعلامية والتربوية.
ولقد كان بعض الخلفاء المسلمين، وبخاصة في العصر الأموي، يرسلون أولادهم إِلى أجواء القبائل العربية حيث تكون اللغة أصفى، ويبقون فيها مدة يتلقون اللغة تلقّيا نقيّاً حتى تصبح طبيعة لهم، ذلك لأنهم أدركوا دور البيئة في الترغيب باللغة وتعلمها، فلا بُدَّ من توفير البيئة الصالحة لتنمية تذوّق الطفل للغة العربية الفصحى، ولا بد من توفير التعليم مع الرعاية والتوجيه.
البيت والأسرة هو الحضن الأول للطفل، سواءً أكان ذلك في مرحلة الحمل أَم الولادة أَم في سائر مراحل نمو الطفل التي سنأتي على ذكرها، ويتحمل الوالدان أكبر مسؤولية في تربية الطفل وتعهّده ونشأته. وبذلك جاء حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، وأبواه يهوّدانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون منها من جدعاء)) [رواه الشيخان وأبو داود]([1]).
فنستفيد من هذا الحديث الشريف عدة فوائد رئيسة: مسؤولية الوالدين، الفطرة التي فطر الله الناس جميعاً عليها، وأهمية دورها في التربية والبناء، وما أودع الله فيها من قدرات وغرائز، ولنتدبر قوله - سبحانه وتعالى -: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 30ـ32].
فالفطرة تكون في الطفل المولود سليمة غنية بما أودع الله فيها من قدرات تأخذ بالنمو على سنن ربانية، وأهم هذه القدرات: قوة التفكير، العاطفة، الغرائز المختلفة، وقبل ذلك كله الإيمان والتوحيد كأنه النبع الذي يروي جميع القوى والغرائز في الفطرة لتؤدِّي كل قوة أو غريزة دورها الذي خُلِقَتْ له، ما دامت الفطرة سليمة لم تنحرف ولم تلوّث ولم تفسد.
وسلامة الفطرة وحمايتها من الانحراف أو التلوث أو الفساد هي الحق الأول للإنسان، الحق الذي أهملته جميع المؤسسات الدولية أو القطرية لحقوق الإنسان.
وفي جو الأسرة بين الوالدين وسائر أفراد الأسرة يتلقَّى الطفل أَول غذاء لفطرته وقدراته، وأول حاسة تنشط عند الطفل هي حاسة السمع، إنها تنشط فيه وهو جنين في بطن أمه، ويتأثر بكل ما يدخل سمعه في هذا الجو، ولذلك كان من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم أن نبَّهَنا إلى أهمية حاسة السمع، وذلك بالتوصية بالأذان في أذن المولود اليمنى والإقامة في أذنه اليسرى: فعن الحسين بن علي - رضي الله عنهما - عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((من ولد له ولد فأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى لم تضره أم الصبيان)) ([2])، وأم الصبيان هي التابعة من الجن، فالصوت يؤثر في المولود ولو كان لا يعي معنى الكلام.
وعند الموت كان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُلقّن المحتضر لا إله إلا الله، فعن أبي سعيد وأبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهم - وعن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لقّنوا موتاكم: لا إله إلا الله)) [رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي]([3])، وفي حياة المؤمن تظل الشهادتان تتردّدان على لسانه وفي قلبه، فهي السمة الأولى التي تظل ترافق المسلم منذ ولادته حتى وفاته، مادام مسلماً مؤمناً.
فحاسة السمع ونشاطها يمكن الاستفادة منها في ترغيب الطفل باللغة العربية وبتغذية الإيمان في قلبه، فالصوت يترك أثره في الجنين وفي الطفل بطريقة ربّانية لا يدركها العلم حتى اليوم.
تقول د. آريان آيزينبرغ وزميلتاها في كتابهنّ: " ماذا تتوقع عندما تنتظر الجنين "، إن حاسة السمع عند الجنين تكون قد تطورت تطوراً كبيراً مع نهاية المرحلة الثانية من الحمل أو بداية المرحلة الثالثة. فيصبح أن الأجنّة يسمعون ما يدور من أحاديث أو قراءات في البيت، أو عند الأصدقاء، ويعتقد بعض الباحثين المختصين في هذا العلم أنه يمكن إثارة الجنين قبل ولادته ليكون مولوداً متميزاً ".
فالبيت والأسرة هما الحضن الأول للطفل، للإنسان، وما يناله في هذه المرحلة المبكرة يكون أَثبت في القلب مما قد يناله في سنوات متأخرة من عمره، وصدق المثل القائل: " العلم في الصغر كالنقش في الحجر "! فلا بد من الحرص على توفير الجو الصالح في البيت والأسرة، وإنها مسؤولية الأمة كلها والعلماء والدعاة والدولة عن العمل لبناء هذا الجو الإيماني في الأسرة المسلمة، ومن هذا الجو يتوافر كثير من العوامل التي تعين على بناء تذوق الطفل للغة العربية الفصيحة وتنميتها، وتنمية قدرته على استخدامها.
والمدرسة جزء رئيس من البيئة كذلك، حيث تتواصل عملية البناء للطفل بين البيت والمعهد، فتكون مسؤولية المربين في المدارس أن يتقنوا التحدّث بالفصحى ليتكونّ الجو المناسب الذي يرعى ويربى في الطفل تذوقه للفصحى واستخدامه لها.
ثم يأَتي المسجد حيث يغلب أن لا يسمع المسلم في المسجد إلا الفصحى، سواءً أكان ذلك بالقرآن الكريم أم الدروس التي تعطى فيه، أم خطبة الجمعة أم غيرها من الأنشطة الإيمانية، وبذلك يرتبط البيت والمعهد والمسجد برباط قوي بحيث تتعاون هذه المراكز الثلاثة فيما بينها على تحقيق الهدف.
وتمتد ميادين البيئة بعد ذلك إلى ما يشاهده الطفل على التلفاز وسائر وسائل الإعلام، وما يسمعه من أقربائه وزملائه في حياتهم العامة.
ولكن هذه الميادين: البيت، المدرسة، المسجد، المجتمع، تكون كلها مسؤولية أُمَّةٍ واحدة، تحمل رسالة واحدة، رسالة الإسلام، وتجاهد من أجله، فيصبح غذاء الطفل في جميع مراحل نموِّه غذاء صالحاً، بالفصحى والإيمان والخلق وغير ذلك، وفي هذه الميادين كلها، يكون هنالك المربي المسؤول.
ونودّ أن نشير هنا إلى قضية رئيسة ذلك أن المسؤولية لا تقف عند حدود المسؤولية المادية الدنيوية، ولكنها مسؤولية ممتدة حتى الدار الآخرة، بين يدي الله - سبحانه وتعالى -، حين يحاسب كل إنسان عن عمله ونيته.
والعامل الآخر الذي يساعد على تنمية التذوق للفصحى هو طبيعة اللغة العربية نفسها، وعظمة خصائصها، وأعتقد أن اللغة العربية وكذلك سائر اللغات انبثقت في أول مراحل تكوينها من لغـة آدم - عليه السلام -، اللغة التي علمه الله إياها: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا....) [البقرة: 31].
وخاطب الله آدم - عليه السلام - باللغة التي علّمه إياها، وخاطب آدم - عليه السلام - ربـه بهذه اللغة، ثم تعلَّمها أولاده الذين تفرّقوا في الأرض باتجاهات مختلفة، ومع كل اتجاه أخذت اللغة تنمو وتتطور في تاريخ طويل حتى أخذت الصـورة التي نجد اللغة عليها اليوم، لغات مختلفة، كان اختلافها آية من آيات الله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم: 22].
فهذه اللغات آية من آيات الله ونعمة من نعمه، فبها يتم التخاطب وتتعارف الشعوب، وتقضى الحاجات، وللغة بصورة عامة أثرها الكبير في عملية التفكير لدى الإنسان، حتى إن بعض العلماء المختصين، اعتبروا اللغة هي التفكير، وبعضهم اعتبرها وعاء التفكير، ويزداد أثر اللغة في التفكير كلما كانت اللغة أغنى وأقوى و أكثر نمُوّاً.
وكان من فضل الله كذلك على الإنسان أن علمه البيان كما علمه القرآن: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن: 1ـ4].
وإذا كان لكل لغة نعرفها اليوم تاريخ خاص تطورت من خلاله، فللغة العربية تاريخ خاص متميز، فإذا قلنا إن أول أمرها كان مثل سائر اللغات انبثقت من لغة آدم - عليه السلام -، ثم تطورت حتى أصبحت اللغة العربية الفصحى على لسان إسماعيل - عليه السلام -: فعن عليٍّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((أول من فُتِق لسانه بالعربية المبيَّنة إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة)) [الشيرازي في الألقاب]([4]).
ولقد كشفت الآثار أن لغة النبي صالح - عليه السلام - قريبة جداً من اللغة العربية الفصحى في حروفها وقواعدها، مما يوحي أن اللغة العربية في كلّ مرحلة من مراحل نموّها كانت لغة نبيّ من الأنبياء ولغة الرسالة الربانية، وكأنها لغة النبوة في مسارها الطويل، حتى إذا اكتمل نضجها نزل بها الوحي الكريم قرآناً عربياً غير ذي عوج، فزادت بركتها وزاد فضلها، وأصبحت بميزان الإسلام والإيمان اللغة المتميزة بخصائص كثيرة من حيث الجمال، والجرس، والبيان، والفصاحة، وحتى ميَّزها الله في كتابه الكريم وأثنى عليها: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت: 3].
وآيات أخرى كثيرة في كتاب الله كشفت عظمة هذه اللغة التي اختارها الله - سبحانه وتعالى - وفضلها على لغات العالم كله، فتصبح هذه اللغة العربية منذ نشأتها قديماً وحتى اليوم لغة النبوّة الممتدة في التاريخ مع كل مرحلة من مراحل نموها، على الشكل الذي كانت عليه في كل مرحلة.
ولما فرض الله ورسوله طلب العلم وبخاصة من القرآن الكريم بلغته العربية الفصيحة أصبحت لغةُ القرآن الكريم، لغةَ الإسلام، لغةَ الرسالة الخاتمة التي جاءت للعالمين، للناس كافة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [سبأ: 28].
فهي أصبحت بذلك لغة كلّ مسلم آمن بالله واليوم الآخر، وهي بذلك لغة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فهي رحمة من الله، وهي بذلك كله لغة الإنسان تمتد مع امتداد الدعوة والبلاغ، وبذلك يكون تقبّلها وتذوّقها سهلاً عند الطفل الذي سلمت فطرته، وهذه خاصة رئيسة لتساعد على تنمية تذوق الفصحى عند الطفل في جميع مراحل نموه.
فلم تعد اللغة العربية لغة قوم محدودين، ولكنها أصبحت لغة الرسالة الممتدة للبشرية كلها.
