بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على رسول الله و على صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) قال عمرو بن ميمون بن مهران: خرجت بأبي اقوده في بعض سكك البصرة، فمررت بجدول، فلم يستطع الشيخ يتخطاه، فاضطجعت له فمر على ظهري، ثم قمت فأخذت بيده، فدفعنا إلى منزل الحسن، فطرقت الباب، فخرجت جارية سداسية، فقالت: من هذا ؟ فقلت: هذا ميمون بن مهران اراد لقاء الحسن. فقالت: كاتب عمر بن عبد العزيز ؟ قلت لها: نعم. قالت: يا شقي ما أبقاك إلى هذا الزمان السوء ؟ قال: فبكى الشيخ فسمع الحسن بكاءه فخرج إليه، فاعتنقا ثم دخلا فقال ميمون: يا أبا سعيد إني قد آنست من قلبي غلظة، فاستلن لي منه فقرأ الحسن: بسم الله الرحمان الرحيم (أفرأيت إن متعناهم سنين.ثم جاءهم ما كانوا يوعدون.ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) قال: فسقط الشيخ، فرأيته يفحص برجله ما تفحص الشاة المذبوحة، فأقام طويلا، ثم أفاق فجاءت الجارية، فقالت: قد أتعبتم الشيخ قوموا تفرقوا، فأخذت بيد أبي فخرجت به ثم قلت له: يا أبتاه هذا الحسن قد كنت أحسب انه اكثر من هذا. قال: فوكز في صدري، ثم قال: يا بني لقد قرأ علينا آية لو تفهمتها بقلبك لألفيت لها فيه كلوماً.
====
وفد عاصم بن أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان على سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز فنزلت على عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز وهو أعزب وكنت معه في بيته فلما صلينا العشاء وأوى كل رجل منا إلى فراشه أوى عبد الملك إلى فراشه فلما ظن أن قد نمنا قام إلى المصباح فأطفأه وأنا أنظر إليه ثم جعل يصلي حتى ذهب بي النوم قال فاستيقظت فإذا هو يقرأ في هذه الآية " أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " ثم بكى ثم رجع إليها ثم بكى ثم لم يزل يفعل ذلك حتى قلت سيقتله البكاء فلما رأيت ذلك قلت سبحان الله والحمد لله كالمستيقظ من النوم لأقطع ذلك عنه فلما سمعني ألبد فلم أسمع له حسا
=== حدثني محمد بن الحسين ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال : سمعت الحسن بن صالح ، يقول : « لقد دخل التراب من هذا المصر قوم قطعوا عنهم الدنيا بالصبر على طاعة الله ، وبين لهم هذا القرآن غير الدنيا قال : أفرأيت إن متعناهم سنين ، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون » ثم بكى الحسن ثم قال : « إذا جاء الموت وسكراته لم يغن عن الفتى ما كان فيه من النعيم واللذة ثم مال مغشيا عليه » ==
قال ابن رجب: ما مضى من العمر وإن طالت أوقاته فقد ذهب لذاته وبقيت تبعاته وكأنه لم يكن إذا جاء الموت وميقاته قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ,ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ، مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} تلا بعض السلف هذه الآية وبكى وقال: إذا جاء الموت لم يغن عن المرء ما كان فيه من اللذة والنعيم وفي هذا المعنى ما أنشده أبو العتاهية للرشيد حين بنى قصره واستدعى إليه ندماءه. عش ما بدا لك سالما ... في ظل شاهقة القصور يسعى عليك بما اشتهيت ... لدى الرواح وفي البكور فإذا النفوس تقعقعت ... في ضيق حشرجة الصدور فهناك تعلم موقنا ... ما كنت إلا في غرور قال ابن القيم: وإن من أيام اللذات لو صفت للعبد من أول عمره إلى آخره لكانت كسحابة صيف تنقشع عن قليل وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى آذن بالرحيل قال الله تعالى: أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ومن ظفر بمأموله من ثواب الله فكأنه لم يوتر من دهره بما كان يحاذره ويخشاه وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت من الشعر كأنك لم توتر من الدهر مرة ... إذا أنت أدركت الذي أنت طالبه
ما لكم لا ترجون لله وقارا قال ابن القيم/ الفوائد من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير من الناس وقلبك خال من تعظيم الله وتوقيره فإنك توقر المخلوق وتجله أن يراك في حال لا توقر الله أن يراك عليها قال تعالى: ما لكم لا ترجون لله وقارا أي لا تعاملونه معاملة من توقرونه و التوقير العظمة و منه قوله تعالى: و توقروه قال الحسن :ما لكم لا تعرفون لله حقا و لا تشكرونه و قال: مجاهد لا تبالون عظمة ربكم و قال :ابن زيد لا ترون لله طاعة و قال: ابن عباس لا تعرفون حق عظمته و هذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد و هو أنهم لو عظموا الله و عرفوا حق عظمته ,وحدوه و أطاعوه و شكروه فطاعته سبحانه اجتناب معاصيه و الحياء منه بحسب وقاره في القلب و لهذا قال بعض السلف ليعظم وقار الله في قلب أحدكم أن يذكره عند ما يستحي من ذكره فيقرن اسمه به كما تقول قبح الله الكلب و الخنزير و النتن و نحو ذلك فهذا من وقار الله و من وقاره أن لا تعدل به شيئا من خلقه لا في اللفظ بحيث تقول والله و حياتك ,مالي إلا الله و أنت, و ما شاء الله و شئت و لا في الحب والتعظيم و الإجلال و لا في الطاعة فتطيع المخلوق في أمره ونهيه كما تطيع الله بل أعظم كما عليه اكثر الظلمة والفجرة و لا في الخوف والرجاء و يجعله أهون الناظرين إليه و لا يستهين بحقه ويقول هو مبنى على المسامحة و لا يجعله على الفضلة و يقدم حق المخلوق عليه و لا يكون الله و رسوله في حد و ناحية و الناس في ناحية وحد فيكون في الحد والشق الذي فيه الناس دون الحد والشق الذي فيه الله ورسوله و لا يعطي المخلوق في مخاطبته قلبه و لبه ويعطى الله في خدمته بدنه ولسانه دون قلبه و روحه و لا يجعل مراد نفسه مقدما على مراد ربه فهذا كله من عدم وقار الله في القلب و من كان كذلك فإن الله لا يلقى له في قلوب الناس وقارا و لا هيبة بل يسقط وقاره و هيبته في قلوبهم وإن وقروه مخافة شره فذاك وقار بغض لا وقار حب و تعظيم و من وقار الله أن يستحي من إطلاعه على سره وضميره فيرى فيه ما يكره و من وقاره أن يستحي منه في الخلوة أعظم مما يستحي من أكابر الناس و المقصود أن من لا يوقر الله و كلامه و ما آتاه من العلم و الحكمة كيف يطلب من الناس توقيره و تعظيمه و القرآن و العلم و كلام الرسول صلات من الحق و تنبيهات و روادع و زواجر واردة إليك و الشيب زاجر و رادع و موقظ قائم بك فلا ما ورد إليك وعظك ولا ما قام بك نصحك و مع هذا تطلب التوقير و التعظيم من غيرك فأنت كمصاب لم تؤثر فيه مصيبة وعظا و انزجارا وهو يطلب من غيره أن يتعظ و ينزجر بالنظر إلى مصابه فالضرب لم يؤثر فيه زجرا و هو يريد الانزجار ممن نظر إلى ضربه.
جزاك الله خيرا ونفع بك
=====
و إن من شيء إلا عندنا خزائنه
و إن إلى ربك المنتهى
قال ابن القيم/ الفوائد
و إن من شيء إلا عندنا خزائنه
متضمن لكنز من الكنوز و هو أن لا يطلب كل شيء إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيديه
و أن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده و لا يقدر عليه
و قوله :و إن إلى ربك المنتهى
متضمن لكنز عظيم و هو أن كل مراد إن لم يرد لأجله و يتصل به و إلا فهو مضمحل منقطع فإنه ليس إليه المنتهى
و ليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها فانتهت إلى خلقه ومشيئته و حكمته و علمه
فهو غاية كل مطلوب و كل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء و عذاب
و كل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع و باطل
و كل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته و فلاحه
فاجتمع ما يراد منه كله في قوله:
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه
و اجتمع ما يراد له كله في قوله :
وان إلى ربك المنتهى
فليس وراءه سبحانه غاية تطلب وليس دونه غاية إليها المنتهى
و تحت هذا سر عظيم من أسرار التوحيد وهو أن القلب لا يستقر و لا يطمئن و يسكن إلا بالوصول إليه و كل ما سواه مما يحب و يراد فمراد لغيره
و ليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى
و يستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين
فمن كان انتهاء محبته و رغبته و إرادته و طاعته إلى غيره بطل عليه ذلك و زال عنه و فارقه أحوج ما كان إليه
و من كان انتهاء محبته و رغبته و رهبته و طلبه هو سبحانه ظفر بنعمه ولذته وبهجته وسعادته أبد الآباد
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ
كان الفضل بن عياض شاطرًا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقى الجدران إليها، إذ سمع تاليًا يتلو:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]،
فلما سمعها قال: بلى يا رب قد آن، فرجع فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سائل، فقال بعضهم: نرتحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا،
قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل فى المعاصى وقوم من المسلمين هاهنا يخافوننى، وما أرى الله ساقنى إليهم إلا لأرتدع، اللهم إنى قد تبت إليك وجعلت توبتى مجاورة البيت الحرام.
من كلامه: " إذا أحب الله عبداً أكثر همه - أي: بأمر أخرته - وإذا أبغض الله عبداً أوسع عليه دنياه " .
وقال: " خمس من علامات الشقاء: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل " .
وقال: " من أظهر لأخيه الود والصفا بلسانه، وأضمر العداوة والبغضاء، لعنه الله وأصمه، وأعمى بصيرة قلبه " .
وقال: " ما أدرك - عندنا - من أدرك بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بسخاء النفس وسلامة الصدر، والنصح للأمة " .
وقال: " من عرف الناس استراح " . أي في أنهم لا يضرون ولا ينفعون.
وقال لرجل: " لأعلمنك كلمة خير من الدنيا وما فيها: والله!، إن علة الله منك إخراج الأدميين من قلبك، حتى لا يكون في قلبك مكان لغيره. لم تسأله شيئاً إلا أعطاك! " .
وقال: " إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فأعلم أنك محروم بذنوبك " .
وقال: " اصلح ما أكون أفقر ما أكون. وإني لأعصى الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي " .
وقال: " يأتي على الناس زمان إن تركتهم لم يتركوك، وهو زمان لم يبق فيه أحد يستريح إلا القليل " .
وروى أن الرشيد قال له يوماً: " ما أزهدك! " . فقال: " أنت أزهد منى! " . قال: " وكيف ذاك؟! " . قال: " لأني أزهد في الدنيا، وأنت تزهد في الآخرة؛ والدنيا فانية، والآخرة باقية "
قال الفضيل يوما لأصحابه: ما تقولون في رجل في كمه ثمر يقعد على رأس الكنيف فيطرحه فيه ثمرة ثمرة
قالوا: هو مجنون،
قال: فالذي يطرحه في بطنه حتى يحشوه فهو أجن منه، فإن هذا الكنيف يملأ من هذا الكنيف
وقال: لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي على أن لا أحاسب عليها لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه.
وقال: ترك العمل لأجل الناس هو الرياء، والعمل لأجل الناس هو الشرك
. وقال: لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام، لأنه إذا صلح الإمام أمن البلاد والعباد. وقال: لأن يلاطف الرجل أهل مجلسه ويحسن خلقه معهم خير له من قيام ليله وصيام نهاره.
و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و إن إلى ربك المنتهى قال ابن القيم/ الفوائد و إن من شيء إلا عندنا خزائنه متضمن لكنز من الكنوز و هو أن لا يطلب كل شيء إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيديه و أن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده و لا يقدر عليه و قوله :و إن إلى ربك المنتهى متضمن لكنز عظيم و هو أن كل مراد إن لم يرد لأجله و يتصل به و إلا فهو مضمحل منقطع فإنه ليس إليه المنتهى و ليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها فانتهت إلى خلقه ومشيئته و حكمته و علمه فهو غاية كل مطلوب و كل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء و عذاب و كل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع و باطل و كل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته و فلاحه فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: وإن من شيء إلا عندنا خزائنه و اجتمع ما يراد له كله في قوله : وان إلى ربك المنتهى فليس وراءه سبحانه غاية تطلب وليس دونه غاية إليها المنتهى و تحت هذا سر عظيم من أسرار التوحيد وهو أن القلب لا يستقر و لا يطمئن و يسكن إلا بالوصول إليه و كل ما سواه مما يحب و يراد فمراد لغيره و ليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى و يستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين فمن كان انتهاء محبته و رغبته و إرادته و طاعته إلى غيره بطل عليه ذلك و زال عنه و فارقه أحوج ما كان إليه و من كان انتهاء محبته و رغبته و رهبته و طلبه هو سبحانه ظفر بنعمه ولذته وبهجته وسعادته أبد الآباد.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُم وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيْكُمْ بِهِ " قال ابن الجوزي/ صيد الخاطر: قرأت هذه الآية: " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُم وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيْكُمْ بِهِ " فلاحت لي فيها إشارة كدت أطيش منها. وذلك أنه إن كان عني بالآية نفس السمع والبصر فإن السمع آلة لإدراك المسموعات، والبصر آلة لإدراك المبصرات، فهما يعرضان ذلك على القلب، فيتدبر، ويعتبر. فإذا عرضت المخلوقات على السمع والبصر، أوصلا إلى القلب أخبارها من أنها تدل على الخالق، وتحمل على طاعة الصانع، وتحذر من بطشه عند مخالفته. وإن عني معنى السمع والبصر، فذلك يكون بذهولهما عن حقائق ما أدركا، شغلا بالهوى، فيعاقب الإنسان بسلب معاني تلك الآلات، فيرى وكأنه ما رأى ويسمع وكأنه ما سمع، والقلب ذاهل عن ما يتأدب به، فيبقى الإنسان خاطئاً على نفسه لا يدري ما يراد به، لا يؤثر عنده أنه يبلى، ولا تنفعه موعظة تجلى، ولا يدري أين هو، ولا ما المراد منه، ولا إلى أين يحمل، وإنما يلاحظ بالطبع مصالح عاجلته ولا يتفكر في خسران آجلته، لا يعتبر برفيقه، ولا يتعظ بصديقه، ولا يتزود لطريقه كما قال الشاعر: الناس في غفلة والموت يوقظهم ... وما يفيقون حتى ينفد العمر يشيعون أهاليهم بجمعهم ... وينظرون إلى ما فيه قد قبروا ويرجعون إلى أحلام غفلتهم ... كأنهم ما رأوا شيئاً ولا نظروا وهذه حالة أكثر الناس، فنعوذ بالله من سلب فوائد الآلات، فإنها أقبح الحالات.
الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ قال ابن القيم/ الفوائدك الناس إذا أرسل الله إليهم الرسل بين أمرين : إما أن يقول أحدهم آمنا وإما أن لا يقول آمنا بل يستمر على عمل السيئات فمن قال آمنا امتحنه الرب عز و جل وابتلاه وألبسه الابتلاء والاختبار ليبين الصادق من الكاذب ومن لم يقل آمنا فلا يحسب أنه يسبق الرب لتجربته فإن أحدا لن يعجز الله تعالى هذه سنته تعالى يرسل الرسل إلى الخلق فيكذبهم الناس ويؤذنهم قال تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن وقال تعالى كذلك: ما أتي الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون وقال تعالى : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ومن آمن بالرسل وأطاعهم عادوه وآذوه فابتلى بما يؤلمه , وإن لم يؤمن بهم عوقب فحصل ما يؤلمه أعظم وأدوم فلا بد من حصول الألم لكل نفس سواء آمنت أم كفرت لكن المؤمن يحصل له الألم في مدة من الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة والآخرة والكافر تحصل له النعمة ابتداء ثم يصير في الألم سأل رجل الشافعي فقال :يا أبا عبد الله أيما أفضل للرجل أن يمكن ؟أو يبتلي ؟ فقال الشافعي :لا يمُكن حتى يبتلي فإن الله ابتلي نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلما صبروا مكنهم فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة وهذا اصل عظيم فينبغي للعاقل أن يعرفه وهذا يحصل لكل أحد فإن الإنسان مدني بالطبع لا بد له من أن يعيش مع الناس والناس لهم إرادات وتصورات يطلبون منه أن يوافقهم عليها وإن لم يوافقوهم آذوه وعذبوه وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب تارة منهم وتاره من غيرهم ومن اختبر أحواله وأحوال الناس وجد من هذا شيئا كثيرا
و المقصود هنا أنه لا بد من الابتلاء بما يؤذي الناس فلا خلاص لأحد مما يؤذيه البتة ولهذا ذكر الله تعالى في غير موضع انه لا بد أن يبتلي الناس والابتلاء يكون بالسراء والضراء ولا بد أن يبتلى الإنسان بما يسره وبما يسوؤه فهو محتاج إلى أن يكون صابرا شكورا
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد قال الذهبي/ السير: قَالَ يَعْلَى بنُ عُبَيْدٍ،: دَخَلْنَا عَلَى ابْنِ سُوْقَةَ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، أُحَدِّثُكُم بِحَدِيْثٍ، لَعَلَّهُ يَنْفَعُكُم، فَقَدْ نَفَعَنِي، قَالَ لَنَا عَطَاءُ بنُ أَبِي رَبَاحٍ: إِنَّ مَنْ قَبْلَكُم كَانُوا يَعُدُّوْنَ فُضُوْلَ الكَلاَمِ مَا عَدَا كِتَابِ اللهِ، أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوْفٍ، أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ أَنْ تَنْطِقَ فِي مَعِيْشَتِكَ الَّتِي لاَ بُدَّ لَكَ مِنْهَا، أَتُنْكِرُوْنَ أَنَّ عَلَيْكُم حَافِظِيْنَ، كِرَاماً كَاتِبِيْنَ، عَنِ اليَمِيْنِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيْدٌ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيْبٌ عَتِيْدٌ؟ أَمَا يَسْتَحْي أَحَدُكُم لَوْ نُشِرَتْ صَحِيْفَتُهُ الَّتِي أَمْلَى صَدْرَ نَهَارِهِ، وَلَيْسَ فِيْهَا شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ آخِرَتِهِ؟ === قَالَ مَرَّةً رَجُلٌ: مَا أَشَدَّ البَرْدَ اليَوْمَ، فَالتَفَتَ إِلَيْهِ المُعَافَى، وَقَالَ: أَسْتَدْفَأْتَ الآنَ؟ لَوْ سَكَتَّ، لَكَانَ خَيْراً لَكَ. قُلْتُ( الذهبي): قَوْلُ مِثْلِ هَذَا جَائِزٌ، لَكِنَّهُم كَانُوا يَكْرَهُوْنَ فُضُولَ الكَلاَمِ، وَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي الكَلاَمِ المُبَاحِ، هَلْ يَكْتُبُهُ المَلَكَانِ، أَمْ لاَ يَكْتُبَانِ إِلاَّ المُسْتَحَبَّ الَّذِي فِيْهِ أَجْرٌ، وَالمَذْمُوْمَ الَّذِي فِيْهِ تَبِعَةٌ؟ وَالصَّحِيْحُ كِتَابَةُ الجَمِيْعِ، لِعُمُوْمِ النَّصِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيْبٌ عَتِيْدٌ} [ق: 18]، ثُمَّ لَيْسَ إِلَى المَلَكَيْنِ اطِّلاَعٌ عَلَى النِّيَّاتِ وَالإِخْلاَصِ، بَلْ يَكْتُبَانِ النُّطْقَ، وَأَمَّا السَّرَائِرُ البَاعِثَةُ لِلنُّطْقِ، فَاللهُ يَتَوَلاَّهَا. == قال مالك بن أنس في قول الله عز وجل { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } يكتب عليه حتى الأنين فى مرضه == قال ابن الجوزي قال سفيان الثوري يوما لأصحابه أخبروني لو كان معكم من يرفع الحديث إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء ؟ قالوا: لا قال :فإن معكم من يرفع الحديث إلى الله عز وجل قوله تعالى: ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) أي ما يتكلم من كلام فيلفظه أي يرميه من فيه إلا لديه رقيب عتيد أي حافظ وهو الملك الموكل به والعتيد الحاضر معه أينما كان يا كثير الكلام حسابك شديد يا عظيم الإجرام عذابك جديد يا مؤثرا ما يضره ما رأيك سديد يا ناطقا بما لا يجدي ولا يفيد ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) كلامك مكتوب وقولك محسوب وأنت يا هذا مطلوب ولك ذنوب وما تتوب وشمس الحياة قد أخذت في الغروب فما أقسى قلبك من بين القلوب وقد أتاه ما يصدع الحديد ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) أتظن أنك متروك مهمل أم تحسب أنه ينسى ما تعمل أو تعتقد أن الكاتب يغفل هذا صائح النصائح قد أقبل يا قاتلا نفسه بكفه لا تفعل يا من أجله ينقص وأمله يزيد ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) أنا من خوف الوعيد=== في قيام وقعود كيف لا أزداد خوفا===وعلى النار ورودي كيف جحدي ما تجرمت===وأعضائي شهودي كيف إنكاري ذنوبي===أم ترى كيف جحودي وعلي القول يحصى===برقيب وعتيد ==== قال ابن القيم
والكلام أسيرك فإذا خرج من فيك صرت أسيره و الله عند لسان كل قائل و ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد و فى اللسان آفتان عظيمتان إن خلص العبد من احدهما لم يخلص من الآخرة آفة الكلام و آفة السكوت و قد يكون كل منهما أعظم إثما من الاخرى في وقتها فالساكت عن الحق شيطان أخرس عاص لله مراء مداهن إذا لم يخف على نفسه والمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاص لله وأكثر الخلق منحرف فى كلامه وسكوته فهم بين هذين النوعين و أهل الوسط و هم أهل الصراط المستقيم كفوا ألسنتهم عن الباطل واطلقوها فيما يعود عليهم نفعه فى الآخرة فلا يرى أحدهم أنه يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة فضلا أن تضره فى آخرته و إن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها و يأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله عز و جل وما اتصل به
و تزودوا فإن خير الزاد التقوى قال على بن أبى طالب : الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عفها ومطلب نجح لمن سالم فيها مساجد انبياء الله ومهبط وحيه ومصلى ملائكته ومتجر أوليائه فيها اكتسبوا الرحمة وربحوا فيها العافية فمن ذا يذمها وقد آذنت بنيها ونعت نفسها وأهلها فتمثلت ببلائها وشوقت بسرورها الى السرور تخويفا وتحذيرا وترغيبا فذمها قوم غداة الندامة وحمدها آخرون ذكرتهم فذكروا ووعظتهم فاتعظوا فيا أيها الذام للدنيا المغتر بتغريرها متى استذمت اليك بل متى غرتك
أبمنازل آبائك فى الثرى ؟ أم بمضاجع أمهاتك فى البلاء ؟ كم رأيت موروثا؟ كم عللت بكفيك عليلا ؟ كم مرضت مريضا بيديك تبتغى له الشفاء وتستوصف له الأطباء ثم لم تنفعه شفاعتك ولم تسعفه طلبتك مثلت لك الدنيا غداة مصرعه مصرعك ومضجعه مضجعك ثم التفت الى المقابر فقال يا أهل الغربة ويا أهل التربة أما الدور فسكنت وأما الاموال فقسمت وأما الأزواج فنكحت فهذا خبر ما عندنا فهاتوا خبر ما عندكم ثم التفت الينا فقال أما لو أذن لهم لأخبروكم ان خير الزاد التقوى
==== قال عبد الله بن مسعود إن أصدق الحديث كتاب الله عز و جل وأوثق العرى كلمة التقوى وخير الملل ملة إبراهيم وأحسن السنن سنة محمد صلى الله عليه و سلم
وخير الهدي هدي الأنبياء وأشرف الحديث ذكر الله وخير القصص القرآن وخير الأمور عواقبها وشر الأمور محدثاتها وما قل وكفى خير مما كثر وألهى ونفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها وشر المعذرة حين يحضر الموت وشر الندامة ندامة يوم القيامة وشر الضلالة الضلالة بعد الهدى وخير الغنى غنى النفس وخير الزاد التقوى وخير ما ألقي في القلب اليقين والريب من الكفر وشر العمى عمى القلب والخمر جماع الإثم والنساء حبالة الشيطان والشباب شعبة من الجنون والنوح من عمل الجاهلية ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا ولا يذكر الله إلا هجرا وأعظم الخطايا الكذب وسباب المسلم فسوق وقتاله كفر وحرمة ما له كحرمة دمه ومن يعف يعف الله عنه ومن يكظم الغيظ يأجره الله ومن يغفر يغفر الله له ومن يصبر على الرزية يعقبه الله وشر المكاسب كسب الربا وشر المآكل أكل مال اليتيم والسعيد من وعظ بغيره والشقي من شقي في بطن أمه وإنما يكفي أحدكم ما قنعت به نفسه وإنما يصير إلى أربعة أذرع والأمر إلى آخرة وملاك العمل خواتمه وشر الروايا روايا الكذب وأشرف الموت قتل الشهداء ومن يعرف البلاء يصبر عليه ومن لا يعرفه ينكره ومن يستكبر يضعه الله ومن يتول الدنيا تعجز عنه ومن يطع الشيطان يعص الله ومن يعص الله يعذبه
===== خطب عمر بن عبد العزيز ، فقال : إن الدنيا ليست بدار قراركم ، دار كتب الله عليها الفناء ، وكتب على أهلها منها الظعن فكم عامر موثق عما قليل يخرب وكم مقيم مغتبط عما قليل يظعن فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة وتزودوا فإن خير الزاد التقوى إنما الدنيا كفيء ظلال قلص فذهب بينما ابن آدم في الدنيا ينافس فيها قرير العين قانعا ، إذ دعاه الله بقدره ، ورماه بيوم حتفه ، فسلبه آثاره ودنياه ، وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر ، إنها تسر قليلا ، وتحزن حزنا طويلا
==== كان صالح بن بشير ، يتمثل هذا البيت في قصصه : وغائب الموت لا ترجون رجعته ===إذا ذوو سفر من غيبة رجعوا قال : ثم يبكي ، ويقول : « هو والله السفر البعيد ، فتزودوا لمراحله ، فإن خير الزاد التقوى ، واعلموا أنكم في مثل أمنيتهم ، فبادروا الموت ، فاعملوا له قبل حلوله » قال : ثم بكى.
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تفسير ابن كثير
روى وَكِيع في تفسيره عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ } قال: البر الجنة وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، سمع أنس بن مالك يقول: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا وكانَ أحبَّ أمواله إليه بيْرَحاءُ -وكانت مُسْتقْبلة المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب-قال أنس: فلما نزلت: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } قال أبو طلحة: يا رسول الله، إن الله يقول: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وإن أحبَّ أموالي إلَيَّ بيْرَحاءُ وإنها صدقة لله أرجو بِرَّها وذُخْرَها عند الله تعالى، فَضَعْها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بَخٍ، ذَاكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَاكَ مَالٌ رَابِح، وَقَدْ سَمِعْتُ، وَأَنَا أرَى أنْ تجْعَلَهَا فِي الأقْرَبِينَ". فقال أبو طلحة: أفْعَلُ يا رسول الله. فَقَسَمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. أخرجاه
وفي الصحيحين أن عُمَر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، لم أُصِبْ مالا قطُّ هو أنْفَسُ عندي من سهمي الذي هو بِخَيْبَرَ، فما تأمرني به؟ قال حَبِّس الأصْل وسَبِّل الثَّمَرَةَ". وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى الحَساني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمْرو، عن أبي عمرو بن حَماس عن حمزة بن عبد الله بن عُمر، قال: قال عبد الله: حضرتني هذه الآية: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } فذكرتُ ما أعطاني الله، فلم أجد شيئًا أحبَّ إليّ من جارية رُوميَّة، فقلتُ، هي حُرَّة لوجه الله. فلو أنِّي أعود في شيء جعلته لله لنكَحْتُها، يعني تَزوَّجتُها ===== ذم الهوى /ابن الجوزي
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا قال ابن كثير / تفسير القرآن العظيم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القُمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا فلان، ما لي أراك محزونًا؟" قال: يا نبي الله شيء فكرت فيه؟ قال: "ما هو؟" قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك. فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه شيئا، فأتاه جبريل بهذه الآية: { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَم اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره.
قال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ [فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَم اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ] } الآية، قال: إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم له فضل على من آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدقه، وكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا؟ فأنزل الله في ذلك -يعني هذه الآية-فقال: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الأعْلَيْنَ ينحدرون إلى من هو أسفل منهم، فيجتمعون في رياضها، فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه، وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهُون وما يدعون به، فهم في روضة يحبرون ويتنعمون
قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد، حدثنا عبد الله بن عمران، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إنك لأحب إلي من نفسي و أحب إلي من أهلي، و أحب إلي من ولدي، و إني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، و إذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، و إن دخلت الجنة خشيت ألا أراك. فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه: "صفة الجنة"، من طريق الطبراني، عن أحمد بن عمرو بن مسلم الخلال، عن عبد الله بن عمران العابدي، به. ثم قال: لا أرى بإسناده بأسا
و أعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحاح والمسانيد وغيرهما، من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال: "المرء مع من أحب" قال أنس: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث.
كان الفضل بن عياض شاطرًا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقى الجدران إليها، إذ سمع تاليًا يتلو: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]، فلما سمعها قال: بلى يا رب قد آن، فرجع فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سائل، فقال بعضهم: نرتحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل فى المعاصى وقوم من المسلمين هاهنا يخافوننى، وما أرى الله ساقنى إليهم إلا لأرتدع، اللهم إنى قد تبت إليك وجعلت توبتى مجاورة البيت الحرام.
من كلامه: " إذا أحب الله عبداً أكثر همه - أي: بأمر أخرته - وإذا أبغض الله عبداً أوسع عليه دنياه " . وقال: " خمس من علامات الشقاء: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل " . وقال: " من أظهر لأخيه الود والصفا بلسانه، وأضمر العداوة والبغضاء، لعنه الله وأصمه، وأعمى بصيرة قلبه " .
وقال: " ما أدرك - عندنا - من أدرك بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بسخاء النفس وسلامة الصدر، والنصح للأمة " .
وقال: " من عرف الناس استراح " . أي في أنهم لا يضرون ولا ينفعون. وقال لرجل: " لأعلمنك كلمة خير من الدنيا وما فيها: والله!، إن علة الله منك إخراج الأدميين من قلبك، حتى لا يكون في قلبك مكان لغيره. لم تسأله شيئاً إلا أعطاك! " .
وقال: " إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فأعلم أنك محروم بذنوبك " .
وقال: " اصلح ما أكون أفقر ما أكون. وإني لأعصى الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي " . وقال: " يأتي على الناس زمان إن تركتهم لم يتركوك، وهو زمان لم يبق فيه أحد يستريح إلا القليل " . وروى أن الرشيد قال له يوماً: " ما أزهدك! " . فقال: " أنت أزهد منى! " . قال: " وكيف ذاك؟! " . قال: " لأني أزهد في الدنيا، وأنت تزهد في الآخرة؛ والدنيا فانية، والآخرة باقية "
قال الفضيل يوما لأصحابه: ما تقولون في رجل في كمه ثمر يقعد على رأس الكنيف فيطرحه فيه ثمرة ثمرة قالوا: هو مجنون، قال: فالذي يطرحه في بطنه حتى يحشوه فهو أجن منه، فإن هذا الكنيف يملأ من هذا الكنيف
وقال: لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي على أن لا أحاسب عليها لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه.
وقال: ترك العمل لأجل الناس هو الرياء، والعمل لأجل الناس هو الشرك
. وقال: لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام، لأنه إذا صلح الإمام أمن البلاد والعباد. وقال: لأن يلاطف الرجل أهل مجلسه ويحسن خلقه معهم خير له من قيام ليله وصيام نهاره.
سئل الحسن ، عن قوله تعالى هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين يا أبا سعيد في الدنيا أم في الآخرة ؟ قال : « في الدنيا يرى الرجل من ولده وزوجته عملا صالحا تقر به عينه »
حدثنا حزم قال : سمعت كثيرا يسأل الحسن قال : يا أبا سعيد ، قول الله عز وجل هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين أفي الدنيا أم في الآخرة ؟
قال : لا بل في الدنيا قال : وما ذاك ؟ قال : المؤمن يرى زوجته وولده مطيعين الله عز وجل ، قال : وأي شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وولده يطيعون الله عز وجل ذكره
و عن ابن عباس ، والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين أما إنه لم يكن قرة أعين أن يرونه صحيحا جميلا ولكن أن يرونه مطيعا لله عز وجل
عن الضحاك ، هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين قال : يقولون : اجعل أزواجنا وذرياتنا صالحين أتقياء
عن سلمة بن كهيل ، في قوله عز وجل هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين قال : يطيعونك فلا يعصونك.
عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله فيه: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِير }
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله إليه، لقد أعذر الله إليه"
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخَّر عمره حتى بَلَّغَه ستين سنة".
وقوله: { وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ } : روي عن ابن عباس، وعِكْرِمَة، وأبي جعفر الباقر، وقتادة، وسفيان بن عُيَيْنَة أنهم قالوا: يعني: الشيب. وقال السُّدِّيّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني به الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن زيد: { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى } [النجم: 56] .
وهذا هو الصحيح عن قتادة، فيما رواه شيبان، عنه أنه قال: احتج عليهم بالعمر والرسل.
قال ابن القيم/ الفوائد:
و العاقل المؤيد بالتوفيق يتم نقائص خلقته بفضائل أخلاقه وأعماله فكلما امتحى من جثمانه أثر زاد إيمانه وكلما نقص من قوى بدنه زاد في قوة إيمانه ويقينه و رغبته في الله والدار الآخرة وإن لم يكن هكذا فالموت خير له لأنه يقف به على حد معين من الألم والفساد بخلاف العيوب والنقائص مع طول العمر فإنها زيادة في ألمه وهمه وغمه وحسرته
و إنما حسن طول العمر ونفع ليحصل التذكر والاستدراك واغتنام الغرض والتوبة النصوح كما قال تعالى أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر فمن لم يورثه التعمير وطول البقاء إصلاح معائبه وتدارك فارطه واغتنام بقية أنفاسه فيعمل على حياة قلبه وحصول النعيم المقيم وإلا فلا خير له في حياته
فإن العبد على جناح سفر إما إلى الجنة و إما إلى النار فإذا طال عمره وحسن عمله كان طول سفره زيادة له في حصول النعيم و اللذة فإنه كلما طال السفر أليها كانت الصبابة أجل وأفضل و إذا طال عمره و ساء عمله كان طول سفره زيادة في ألمه وعذابه ونزولا له إلى أسفل فالمسافر إما صاعد وإما نازل
و في الحديث المرفوع خيركم من طال عمره وحسن عمله و شركم من طال عمره وقبح عمله
فالطالب الصادق في طلبه كما خرب شيء من ذاته جعله عمارة لقلبه وروحه وكلما نقص شيء من دنياه جعله زيادة في آخرته وكلما منع شيئا من لذات دنياه جعله زيادة في لذات آخرته و كلما ناله هم أو حزن أو غم جعله في أفراح آخرته فنقصان بدنه ودنياه ولذته وجاهه ورئاسته إن زاد في حصول ذلك وتوفيره عليه في معاده كان رحمة به وخيرا له و إلا كان حرمانا وعقوبة على ذنوب ظاهرة أو باطنه أو ترك واجب ظاهر أو باطن فإن حرمان خير الدنيا والآخرة مرتب على هذه الأربعة وبالله التوفيق.
{ وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي: لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر لأجل المال -هذا معنى قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، وغيرهم
{ لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ [عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ] } أي: سلالم و درجا من فضة -قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي: وابن زيد، وغيرهم-{ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } ، أي: يصعدون . { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا } أي: أغلاقا على أبوابهم { وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } ، أي: جميع ذلك يكون فضة، { وزخرفا } ، أي: وذهبا. قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي، وابن زيد.
ثم قال: { وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }
أي: إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله تعالى أي: يعجل لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب، ليوافوا الآخرة وليس لهم عند الله حسنة يجزيهم بها، كما ورد به الحديث الصحيح .وقد ورد في حديث آخر: "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرا شربة ماء"،
و في حديث آخر: "لو عدلت الدنيا جناح بعوضة، ما أعطى كافرا منها شيئا" .
ثم قال: { وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } أي: هي لهم خاصة لا يشاركهم: فيها أحد غيرهم
ولهذا لما قال عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين صعد إليه في تلك المشربه لما آلى من نسائه، فرآه عمر على رمال حصير قد أثر بجنبه فابتدرت عيناه بالبكاء وقال: يا رسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس وقال: "أوَ في شك أنت يا ابن الخطاب؟" ثم قال: "أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا" وفي رواية: "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟"
وفي الصحيحين أيضا وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة".
وإنما خولهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها، كما روى الترمذي وابن ماجه، من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرا شربة ماء أبدا"، قال الترمذي: حسن صحيح .
تفسير القرآن العظيم/أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي/ بتصرف
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) ------------------------------------- قال ابن القيم أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم [ المائدة : 41 ] عقيب قوله : (سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه )[ المائده : 41 ] مما يدل على أن العبد إذا اعتاد سماع الباطل و قبوله أكسبه ذلك تحريفا للحق عن مواضعه, فإنه إذا قبل الباطل أحبه و رضيه فإذا جاء الحق بخلافه رده و كذبه إن قدر على ذلك و إلا حرفه كما تصنع الجهمية بآيات الصفات وأحاديثها يردون هذه بالتأويل الذي هو تكذيب بحقائقها, و هذه بكونها أخبار آحاد لا يجوز الاعتماد عليها في باب معرفة الله تعالى و أسمائه و صفاته فهؤلاء و إخوانهم من الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم, فإنها لو طهرت لما أعرضت عن الحق وتعوضت بالباطل عن كلام الله تعالى و رسوله كما أن المنحرفين من أهل الإرادة لما لم تطهر قلوبهم تعوضوا بالسماع الشيطاني عن السماع القرآني الإيماني قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله .
فالقلب الطاهر لكمال حياته و نوره و تخلصه من الأدران والخبائث لا يشبع من القرآن و لا يتغذى إلا بحقائقه و لا يتداوى إلا بأدويته بخلاف القلب الذي لم يطهره الله تعالى فإنه يتغذى من الأغذية التي تناسبه بحسب ما فيه من النجاسة فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض لا تلائمه الأغذية التي تلائم الصحيح
و دلت الآية على أن من لم يطهر الله قلبه فلابد أن يناله الخزي في الدنيا و العذاب في الآخرة بحسب نجاسة قلبه و خبثه ولهذا حرم الله سبحانه الجنة على من في قلبه نجاسة و خبث و لا يدخلها إلا بعد طيبه و طهره فإنها دار الطيبين ولهذا يقال لهم طبتم فادخلوها خالدين )[ الزمر : 73 ] أي ادخلوها بسبب طيبكم و البشارة عند الموت لهؤلاء دون غيرهم كما قال تعالى الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) [ النحل : 32 ]
فالجنة لا يدخلها خبيث و لا من فيه شيء من الخبث فمن تطهر في الدنيا و لقي الله طاهرا من نجاساته دخلها بغير معوق و من لم يتطهر في الدنيا فإن كانت نجاسته عينية كالكافر لم يدخلها بحال و إن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعدما يتطهر في النار من تلك النجاسة ثم لا يخرج منها, حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة و النار فيهذبون و ينقون من بقايا بقيت عليهم قصرت بهم عن الجنة و لم توجب لهم دخول النار حتى إذا هذبوا و نقوا أذن لهم في دخول الجنة
و الله سبحانه بحكمته جعل الدخول عليه موقوفا على الطهارة فلا يدخل المصلي عليه حتى يتطهر و كذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفا على الطيب والطهارة فلا يدخلها إلا طيب طاهر
فهما طهارتان : طهارة البدن و طهارة القلب و لهذا شرع للمتوضىء أن يقول عقيب وضوئه: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فطهارة القلب بالتوبة و طهارة البدن بالماء فلما اجتمع له الطهران صلح للدخول على الله تعالى و الوقوف بين يديه ومناجاته
إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ----------------------
و قوله: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } : يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، فقال: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة } لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي. ثم يندب إلى الوضع عنه، و يعد على ذلك الخير والثواب الجزيل، فقال: { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي: وأن تتركوا رأس المال بالكلية و تضعوه عن المدين. و قد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بذلك:
عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة ". قال: ثم سمعته يقول: "من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثلاه صدقة". قلت: سمعتك -يا رسول الله -تقول: "من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة". ثم سمعتك تقول: "من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة"؟! قال: "له بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثلاه صدقة" .
عن محمد بن كعب القرظي: أن أبا قتادة كان له دين على رجل، وكان يأتيه يتقاضاه، فيختبئ منه، فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه، فقال: نعم، هو في البيت يأكل خزيرة فناداه: يا فلان، اخرج، فقد أخبرت أنك هاهنا فخرج إليه، فقال: ما يغيبك عني؟ فقال: إني معسر، و ليس عندي شيئ . قال: آلله إنك معسر؟ قال: نعم. فبكى أبو قتادة، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نفس عن غريمه -أو محا عنه -كان في ظل العرش يوم القيامة". ورواه مسلم في صحيحه .
عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة، قال: ماذا عملت لي في الدنيا؟ فقال: ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها، قالها ثلاث مرات، قال العبد عند آخرها: يا رب، إنك أعطيتني فضل مال، وكنت رجلا أبايع الناس وكان من خلقي الجواز، فكنت أيسر على الموسر، وأنظر المعسر. قال: فيقول الله، عز وجل: أنا أحق من ييسر، ادخل الجنة".
أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه".
تفسير القرآن العظيم/ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي/ بتصرف