مقتطفات من تفسير العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله تعالى
في أدب الدعوة والمناظرة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فهذه مقتطفات من كلام العلامة السلفي والداعية المصلح الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله تعالى أوقفني عليها أحد إخواني بارك الله فيه وهي تتناول مسائل مهمة تتعلق بجانب الدعوة وأدب النقاش والمناظرة عالج فيها الشيخ الكثير من الأخلاق السيئة والمعاملات المشينة التي تطبَّع عليها بعض من يتصدر للدعوة ومجادلة الخصوم خصوصا الشباب رواد المنتديات، وهذا ما يلاحظه الكثير على مناقشات بعض السلفيين فيما بينهم أو ردودهم على المخالفين للحق.
ولاشكَّ أن الذي دأب عليه أهل السنة مصابيح الدجى وسار عليه العلماء أئمة الهدى التزامهم خلال نقد المخالف والرَّدِّ على أهل الباطل الضوابطَ الشرعية والآدابَ الإسلامية؛ فيتحرَّون العلم والصدق، والعدل والإنصاف، ويتحاشون الجهل والبغي، والظلم والإجحاف؛ لأن مطلوبَهم نصرةُ الشريعة والذَّبُّ عن أهلها لا الانتصار للأنفُس حميَّةً وعصبيَّةً. كما أنهم يتجنُّبون السَّباب والشَّتم والتفاحُش والبذاءة في المقال. متحلِّين في ذلك بالآداب الإسلامية العالية والأخلاق الفاضلة الرفيعة التي تلقوها عن أسلافهم الصالحين وتربَّوا عليها حتى صارت شعارا لهم.
تنبيه: بعض العناوين من وضعي وأخرى من كلام العلامة ابن باديس رحمه الله تعالى.
من أدب الخطاب حال الدعوة والمناظرة
قال الله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}. [سورة الإسراء: الآية 54]
قال العلامة ابن باديس رحمه الله تعالى:
أقوى الأحوال مظنة لكلمة السوء هي حالة المناظرة والمجادلة.
وأقرب ما تكون إلى ذلك إذا كان الجدال في أمر الدين والعقيدة، فما أكثر ما يضلل بعض بعضاً أو يفسقه أو يكفره، فيكون ذلك سبباً لزيادة شقة الخلاف اتساعاً، وتمسك كل برأيه ونفوره من قول خصمه. دع ما يكون عن ذلك من البغض والشر.
فذكَّر الله تعالى عباده بأنه هو العالم ببواطن خلقه وسرائرهم وعواقب أمرهم، فيرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، بحكمته وعدله.
فلا يقطع لأحد بأنه من أهل النار لجهل العاقبة سواء كان من أهل الكفر، أو كان من أهل الفسق، أو كان من أهل الابتداع.
كما لا يقطع لأحد بالجنة كذلك، إلاَّ من جاء النَّص بهم.
فلا يقال للكافر عند دعوته أو مجادلته: إنك من أهل النار، ولكن تذكر الأدلة على بطلان الكفر، وسوء عاقبته.
ولا يقال للمبتدع: يا ضال، وإنما تبين البدعة وقبحها.
ولا يقال لمرتكب الكبيرة: يا فاسق، ولكن يبين قبح تلك الكبيرة وضررها وعظم إثمها.
فتقبح القبائح والرذائل في نفسها، وتجتنب أشخاص مرتكبها.
إذ رب شخص هو اليوم من أهل الكفر والضلال تكون عاقبته إلى الخير والكمال. ورب شخص هو اليوم من أهل الإيمان ينقلب- والعياذ بالله تعالى- على عقبه في هاوية الوبال. وخاطب الله تعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: أنه لم يرسله وكيلاً على الخلق، حفيظاً عليهم، كفيلاً بأعمالهم. فما عليه إلاّ تبليغ الدعوة، ونصرة الحق بالحق، والهداية والدلالة إلى دين الله وصراطه المستقيم. خاطبه بهذا ليؤكد لخلقه ما أمرهم به، من قول التي هي أحسن للموافق والمخالف. فلا يحملنّهم بغض الكفر والمعصية على السوء في القول لأهلها، فإنما عليهم تبليغ الحق كما بلغه نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. ولن يكون أحد أحرص منه على تبليغه؛ فحسبهم أن يكونوا على سنته وهديه. أحيانا الله عليهما، وأماتنا عليهما، وحشرنا في زمرة أهلهما. آمين.
تفسيرُ ابْن باديس ج 1 ص292 الى 293 ت أبو عبد الرحمن محمود ط .الرشيد
الجدال بالتي هي أحسن:
قال الله تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125].
قال العلامة ابن باديس رحمه الله تعالى:
لا بد أن يجد داعية الحق معارضة من دعاة الباطل، وأن يلقى منهم مشاغبة بالتشبهات، واستطالة بالأذى والسفاهة؛ فيضطر إلى رد باطلهم وإبطال شغبهم، ودحض شبههم، وهذا هو جدالهم ومدافعتهم الذي أمر به نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بقوله: {وَجَادِلْهُمْ ... }.
ولما كان أهل الباطل لا يجدون في تأييد باطلهم إلاّ الكلمات الباطلة يموهون بها، والكلمات البذيئة القبيحة يتخذون سلاحاً منها، ولا يسلكون في مجادلتهم إلاّ الطرق الملتوية المتناقضة، فيتعسفون فيها ويهربون إليها؛ لما كان هذا شأنهم، أمر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أن يجتنب كلماتهم الباطلة والقبيحة، وطرائقهم المتناقضة والملتوية.
وأن يلتزم في جدالهم كلمة الحق والكلمات الطيبة البريئة.
وأن يسلك في مدافعتهم طريق الرفق والرجاحة والوقار، دون فحش ولا طيش ولا فظاظة.
وهذه الطريقة في الجدال هي التي هي أحسن من غيرها، في لفظها ومعناها، ومظهرها وتأثيرها، وإفضائها للمقصود من إفحام المبطل وجلبه، ورد شره عن الناس، وإطلاعهم على نقصه، وسوء قصده.
وهذه هي الطريقة التي أمر الله نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالجدال بها في قوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]
تفسيرُ ابْن باديس ج 1 ص 146 - 147
الاستغناء بالكتاب والسنة عما سواهما في معرفة الطريق الشرعية في الجدال:
هدتنا الآية الكريمة إلى الطريقة المحمودة المشروعة في الجدال.
وفي آيات القرآن بيان لهذه الطريقة البيان التام، فإنه كما لم يترك القرآن عقيدة من عقائد الإسلام إلاّ بينها وأوضح دليلها، ولا أصلاً من أصول أحكامه أو أصول آدابه إلاّ بينه واحتج له وذكر حكمته وثمرته، كذلك لم يترك شبهة من شبه الباطل إلاّ ردها بالطريقة الحسنة التي أمر بها. وجاءت السنة النبوية الكريمة، والسيرة المحمدية الشريفة، مطبقة لذلك ومنفذة له.
فالكتاب والسنة، فيهما البيان الكافي الشافي للجدال بالتي هى أحسن، كما فيهما البيان الشافي الكافي للحكمة والموعظة الحسنة.
فعلينا أن نطلب هذا كله من الكتاب والسنة، ونجهد في تتبعه وأخذه واستنباطه منهما، وندأب على العمل بما نجده، والتحلي به، والإلتزام له، من هذه الأصول الثلاثة في الدعوة والدفاع عنها.
تفسيرُ ابْن باديس ج 1 ص147.
بين الدعوة إلى دين الله تعالى والجدال عنه.
أمر الله بالدعوة وبالجدال على الوجه المذكور، فكلاهما واجب على المسلمين أن يقوموا به. فكما يجب لسبيل الرب جل جلاله، أن تُعرف بالبيان بالحكمة، وأن تُحب بالترغيب بالموعظة الحسنة؛ كذلك يجب أن يدافع من يصدون عنها بالتي هي أحسن، إذ لا قيام لشيء من الحق إلاّ بهذه الثلاث. غير أن الدعوة بوجهيها والجدال ليستا في منزلة واحدة في القصد والدوام: فإن المقصود بالذات هو الدعوة، وأما الجدال فإنه غير مقصود بالذات، وإنما يجب عند وجود المعارض بالشبهة، والصادّ بالباطل عن سبيل الله؛ فالدعوة بوجهيها أصل قائم دائم، والجدال يكون عند وجود ما يقتضيه، ولهذا كانت الدعوة بوجهيها محمودة على كل حال، وكان الجدال مذموماً في بعض الأحوال؛ وذلك فيما إذا استعمل عند عدم الحاجة إليه، فيكون حينئذ شاغلًا عن الدعوة ومؤديًا - في الأكثر- إلى الفساد والفتنة.
فإذا كان جدالًا لمجرد الغلبة والظهور، فهو شر كله. وأشد شراً منه إذا كان لمدافعة الحق بالباطل. وفي هذه الأقسام الممنوعة جاء مثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40]، {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56]. وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلاّ أوتوا الجدل» ثم تلا: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58].
تفسيرُ ابْن باديس ج 1 ص 148 – 149.
تحذيرٌ مِن خُلُق المُغَالَبة والمُدَافَعة عِند المُنَاقَشَة والمُجَادَلَة:
المدافعة والمغالبة من فطرة الإنسان، ولهذا كان الإنسان أكثر شيء جدلاً. غير أن التربية الدينية هي التي تضبط خلقه، وتقوم فطرته، فتجعل جداله بالحق عن الحق.
فلنحذر من أن يطغى علينا خلق المدافعة والمغالبة، فنذهب في الجدل شر مذاهبه، وتصير الخصومة لنا خلقاً، ومن صارت الخصومة له خلقاً أصبح يندفع معها في كل شيء، ولأدنى شيء، ولا يبالي بحق ولا باطل، وإنما يريد الغلب بأي وجه كان، وهذا هو الذي قال فيه النبي صلى اله عليه وآله وسلم:«إن أبغض الرجال إلى الله الألذ (الشديد الخصومة) الخصم ( الكثير الخصومات)» ومن ضبط نفسه وراقب ربه، لا يجادل إذا جادل إلاّ عن الحق وبالتي هي أحسن.
تفسيرُ ابْن باديس ج 1 ص 149
ثمـــــرة:
ثمرة العلم بهذا:
أن الداعي يدعو ولا ينقطع عن الدعوة ولو لم يتبعه أحد، لأنه يعلم أن أمر الهدى والضلال إلى الله، وإنما عليه البلاغ. وأنه يصبر على ما يلقى من إعراض وعناد وكيد وأذى، دون أن يجازي بالمثل، أو يفتر في دعوته من أذاه؛ لعلمه بأن الذي يجازي إنما هو الله.
جعلنا الله والمسلمين من الدعاة إلى سبيله كما أمر، الصابرين المحتسبين أمام من آمن وشكر، ومن جحد وكفر؛ غير منتظرين إلاّ جزاءه، ولا متكلين إِلا عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
تفسيرُ ابْن باديس ج 1 ص150.
أدب الإسلام في دعوة المخالفين:
قال الله تعالى:{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15 - 16].
قال العلامة ابن باديس: هذا هو أدب الإسلام في دعوة غير أهله، ليعلمنا كيف ينبغي أن نختار عند الدعوة لأحد أحسن ما يدعى به، وكيف ننتقي ما يناسب ما نريد دعوته إليه: فدعاء الشخص بما يحب مما يلفته إليك، ويفتح لك سمعه وقلبه، ودعاؤه بما يكره يكون أول حائل يبعد بينك وبينه، وإذا كان هذا الأدب عاماً في كل تداع وتخاطب، فأحق الناس بمراعاته هم الدعاة إلى الله، والمبينون لدينه سواء دعوا المسلمين أو غير المسلمين.
بيانُه لهم حجتُه عليهم: كانت كتبهم مقصورة على أحبارهم ورهبانهم، مخفية عندهم لا تصل إليها أيدي عامتهم؛ فكانوا لا يظهرون منها إلاّ ما يشاءون، ولا تعرف عامتهم منها إلاّ ما أظهروا، فجاءهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وهو أُمِّيٌّ مِن أُمَّة أُمِّيَّة، يبين لهم بما أنزله الله عليه، وأوحى إليه به، من آيات الله وحججه وأحكامه وكلمات رسله، فيما عندهم مما هو حجة عليهم مقداراً كثيراً، ويتجاوز عن كثير. فيما عندهم من ذكر قبائح أسلافهم وذمهم، وما لقي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من عنتهم وشرهم وأذاهم.
فكان هذا البيان العليم وهذا الخلق الكريم من هذا النبيِّ الأُمِّيِّ كافياً أن يعرفهم بنبوته وصدق دعوته ونهوض حجته؛ ولهذا ذكر الله هذا البيان وهذا التجاوز في أول صفاته، لما أخبرهم بمجيئه إليهم بقوله: {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}.
تفسيرُ ابْن باديس ج 1 ص106 – 107.
من أدب الداعي والمناظر تجنبه ذكر العيوب والمثالب:
قال العلامة ابن باديس رحمه الله تعالى:
على الداعي إلى الله والمناظر في العلم، أن يقصد إحقاق الحق وإبطال الباطل، وإقناع الخصم بالحق وجلبه إليه؛ فيقتصر من كل حديثه على ما يحصل له ذلك، ويتجنب ذكر العيوب والمثالب، ولو كانت هنالك عيوب ومثالب؛ اقتداءً بهذا الأدب القرآني النبوي في التجاوز مما في القوم عن كثير، وفي ذكر العيوب والمثالب خروج عن القصد وبعد عن الأدب، وتَعَدٍّ على الخصم وإبعاد له، وتنفير عن الاستماع والقبول، وهما المقصود من الدعوة والمناظرة.
تفسيرُ ابْن باديس ج 1 ص 108- 109.
كيف تكون الدعوة إلى الله والدفاع عنها
قال الله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125].
قال العلامة ابن باديس رحمه الله تعالى:
شرع الله لعباده بما أنزل من كتابه، وما كان من بيان رسوله ما فيه استنارة عقولهم، وزكاء نفوسهم، واستقامة أعمالهم.
وسماه سبيلاً ليلتزموه في جميع مراحل سيرهم في هذه الحياة، ليفضي بهم إلى الغاية المقصودة، وهي السعادة الأبدية قي الحياة الأخرى.
وأضافه إلى نفسه، ليعلموا أنه هو وضعه، وأنه لا شيء يوصل إلى رضوانه سواه.
وذكر من أسمائه الرب؛ ليعلموا أن الرب الذي خلقهم وصورهم ، ولطف بهم في جميع أطوار خلقهم ومراحل تكوينهم: هو الذي وضع لهم هذه السبيل لطفاً منه بهم، وإحساناً إليهم، لينهجوها في مراحل حياتهم، فكما كان رحيماً بهم في خلقه، كان رحيماً بهم في شرعه، فيسيروا فيها عن رغبة ومحبة فيها ومع شكر له وشوق إليه.
وأمر نبيه - عليه السلام - أن يدعو الناس أجمعين - وحذف معمول "ادع" لإفادة العموم - إلى هذه السبيل، فقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ}.
أمر الله نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن يدعو إلى سبيل ربه، وهو الأمين المعصوم فما ترك شيئاً من سبيل ربه إلاّ دعا إليه، فعرفنا بهذا أن ما لم يدع إليه محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فليس من سبيل الرب جل جلاله؛ فاهتدينا بهذا - وأمثاله كثير - إلى الفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، ودعاة الله ودعاة الشيطان.
فمن دعا إلى ما دعا إليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فهو من دعاة الله، يدعو إلى الحق والهدى. ومن دعا إلى ما لم يدع إليه محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فهو من دعاة الشيطان يدعو إلى الباطل والضلال.
تفسيرُ ابْن باديس ج.1 ص135-163.
القَول الحسَنُ حالَ الخِطاب من أعظم وسائلِ دفع نَزَغات الشَّيطان
قال الله تعالى:{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) } [الإسراء:53].
قال العلامة ابن باديس رحمه الله تعالى:
اللسان أداة البيان، وترجمان القلب والوجدان. والكلام به يتعارف الناس ويتقاربون، وبه يتحاجون ويتفاضلون، ولولاه لما ظهرت ثمرات العقول والمدارك، ولما تلاحقت الأفكار والمشاعر، ولما تزايدت العلوم والمعارف، ولما ترقّى الإنسان في درجات أنواع الكمالات، ولما امتاز على بقية الحيوانات. فهو رابطة أفراد النوع الإنساني وعشائره وأممه. وبريد عقله وواسطة تفاهمه.
فإذا حسن قويت روابط الإلفة، وتمكنت أسباب المحبة، وامتد رواق السلام بين الأفراد والعشائر والأمم. وتقاربت العقول والقلوب بالتفاهم، وتشابكت الأيدي في التعاون والتآزر. وجنى العالمَ من وراء ذلك تقرُّر الأمنِ واطِّراد العمران.
وإذا قبح كان الحال على ضد ذلك:
فالكلام السيء قاطع لأواصر الأخوة، باعث على البغضاء والنفرة، يبعد بين العقول فتحرم الاسترشاد والاستعداد والتعاون، وبين القلوب فتفقد عواطف المحبة وحنان الرحمة، وهما أشرف ما تتحلى به القلوب، وإذا بطلت الرحمة والمحبة بطلت الألفة والتعاون، وحلت القساوة والعداوة، وتبعهما التخاصم والتقاتل.
وفي ذلك كل الشر لأبناء البشر.
فالمحصل للناس سعادتهم وسلامتهم، والمبعد لهم عن شقاوتهم وهلاكهم- هو القول الحسن. ولهذا أمر الله تعالى نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يرشد العباد إلى قول التي هي أحسن، فقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
والعباد المأمورون هنا هم المؤمنون لوجهين:
الأول: أنهم أضيفوا إليه وهذه إضافة شرف لا يكون إلاّ للمؤمنين به.
الثاني: أن الذين يخاطبون بهذا الإرشاد ويكون منهم الامتثال إنما هم من حصلوا أصل الإيمان.
و (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) هي الكلمة الطيبة، والمقالة التي هي أحسن من غيرها فيعم ذلك ما يكون من الكلام في التخاطب العادي بين الناس، حتى ينادي بعضهم بعضاً بأحب الأسماء إليه.
وما يكون من البيان العلمي فيختار أسهل العبارات وأقربها للفهم حتى لا يحدث الناس بما لا يفهمون، فيكون عليهم حديثه فتنة وبلاء.
وما يكون من الكلام في مقام التنازع والخصام فيقتصر على ما يوصله إلى حقه في حدود الموضوع المتنازع فيه، دون أذاية لخصمة، ولا تعرض لشأن من شؤونه الخاصة به.
وما يكون من باب إقامة الحجة وعرض الأدلة، فيسوقها بأجلى عبارة وأوقعها في النفس، خالية من السب والقدح، ومن الغمز والتعريض، ومن أدق تلميح إلى شيء قبيح.
وهذا يطالب به المؤمنون سواء كان ذلك فيما بينهم، أو بينهم وبين غيرهم.
وقد جاء في الصحيح: «أن رهطا من اليهود دخلوا على النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: السام عليكم ففهمتها عائشة- رضي الله عنها- فقالت: وعليكم السام واللعنة. فقال لها رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: مهلاً يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله. فقالت: ألم تسمع ما قالوا؛ فقال: قد قلت: وعليكم». فكان الرد عليهم بمثل قولهم بأسلوب العطف على كلامهم، وهو قوله وعليكم، أحسن من الرد عليهم باللعنة. فقال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- القولة التي هي أحسن، وهذا أدب الإسلام للمسلمين مع جميع الناس.
وأفاد قوله تعالى: {أحسن} بصيغة اسم التفضيل أن علينا أن نتخير في العبارات الحسنة، فننتقي أحسنها في جميع ما تقدم من أنواع مواقع الكلام.
فحاصل هذا التأديب الرباني هو اجتناب الكلام السيء جملة، والاقتصار على الحسن، وانتقاء واختيار الأحسن من بين ذلك الحسن. وهذا يستلزم استعمال العقل والروية عند كل كلمة تقال، ولو كلمة واحدة: فرب كلمة واحدة أوقدت حرباً، وأهلكت شعباً، أو شعوباً.
ورب كلمة واحدة أنزلت أمناً وأنقذت أمة أو أمما.
وقد بين لنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مكانة الكلمة الواحدة من الأثر في قوله: «الكلمة الطيبة صدقة» و«اتقوا النار ولو بكلمة طيبة».
وهذا الأدب الإسلامي - وهو التروي عند القول، واجتناب السيء واختيار الأحسن - ضروري لسعادة العباد وهنائهم. وما كثرت الخلافات وتشعبت الخصومات وتنافرت المشارب، وتباعدت المذاهب حتى صار المسلم عدو المسلم - والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: «المسلم أخو المسلم» - إلاّ بتركهم هذا الأدب، وتركهم للتروي عند القول والتعمد السيء، بل للأسوأ في بعض الأحيان.
تفسيرُ ابْن باديس ج 1 ص 286 -290.
التحذير من كيد العدو الفتان:
قال الله تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}. [الإسراء:53].
قال العلامة ابن باديس رحمه الله تعالى: (نزغ الشيطان) وسوسته ليهيج الشر والفساد، وعداوته باعتقاده البغيض، وسعيه في جلب الشر والضر، وإبانته لعداوته بإعلانه لها كما علمنا القرآن. وهو يلقي للإنسان كلمة الشر والسوء، ويهيج غضبه ليقولها، ويهيج السامع ليقول مثلها، وهكذا حتى يشتد المراء ويقع الشر والفساد.
ولون آخر من نزغه: وهو أنه يحسن للمرء قول الكلمة التي يكون فيها احتمال السوء، ويلح عليه في قولها، ويبالغ في تحسين الوجه السالم منه، وفي تهوين أمر وجهها القبيح حتى يقولها. فإذا قالها عاد لسامعه بالنزغ يطمس عنه الوجه السالم منها، ويكبر له الوجه القبيح، ولا يزال به يثير نخوته، ويهيج غضبه، حتى يثور فيقع الشر والفساد بينه وبين صاحبه.
فحذَّر الله تعالى عباده من كيده حتى يحترسوا منه إذا تكلموا وإذا سمعوا، فيتباعدون عما فيه احتمال السوء فضلاً عن صريحه، ويحملون الكلام على وجهه الحسن عند احتماله له، ويتجاوزون عن سيئة الصريح ما أمكن التجاوز.
تفسيرُ ابْن باديس ج 1 ص 291.
هذا وأسأل الله تعالى أن ينفع بكلام هذا العلَم أهل السنة؛ خصوصا الدعاة وطلبة العلم، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناته، وأن يرفع به درجته في عليين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقا، وصلى وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والحمد لله رب العالمين.
رتَّبه ونسَّقه: عبد الرحمان أحمد.
المصدر ..منتديات اهل الحديث السلفية