بسم الله الرحمن الرحيم
لا شك أن الترفق والتريث في أخذ القرآن أمر ضروري لتثبيت الحفظ واستمراره وفقه معاني القرآن وأحكام التجويد والأداء، فإن الأناة مظنة لكل ذلك لمن وفقه الله. بيد أن في بعض ما ينقل عن القراء من الاكتفاء في اليوم الواحد بأخذ آية واحدة كما في النقول السابقة مشقة على الطالب في زماننا هذا، لضيق أوقات الشيوخ والطلاب معاً، وتزاحم حاجات الناس، مما يدفع الطلاب إلى اغتنام فرصة التمكين من القراءة، للانتهاء من إتمام القرآن قبل اعتراض العوائق. وهذا ربما يكون خاصاً بعرض القرآن على الشيوخ.
وأما حفظ الطالب للقرآن فالترفق فيه أمر في غاية الأهمية لاستمرار الحفظ وتثبيته والقدرة على الاحتفاظ به في الذاكرة دون مشقة وعسر، فإن ما يأتي سريعاً يذهب سريعاً في الحفظ وغيره، ولذلك فلا بد من طول النفس في حفظ القرآن، واغتنام الفرص، كما كان يفعل السلف رحمهم الله. وإن كنتَ تجد في سير السلف من القصص ما يدل على سرعة عرضهم وحفظهم للقرآن الكريم، ولكنها حالات قليلة، كما في ترجمة علي بن أبي الأزهر اللاحمي (ت707هـ) في (غاية النهاية) 1/526، وكما في ترجمة يحيى بن المبارك اليزيدي في (غاية النهاية) 2/377.
والذي يبدو والله أعلم أن التوسط في الأمر هو الغالب، ولذلك لا يذكر في كتب التراجم، بخلاف طول المدة أو قصرها، وهذا أمر يختلف الناس فيه بحسب القدرات، وتوفيق الله للعبد، والظروف المحيطة بالحافظ من حيث قدرته على المراجعة، ومواظبته عليها، وإتقان الحفظ الأول. والتثريب على من يستعجل الآن في الحفظ أو ينظم الدورات العلمية التي تقام لضبط القرآن أو ضبط الحفظ يجب أن يتوخى فيه الدعوة إلى ترشيد هذه الدورات ومحاولة الإفادة منها على أتم وجه، لا التوقف عنها وتركها؛ حيث لا يتيسر للقائمين عليها وقت آخر أوسع من وقت فراغ الطلاب في الإجازات، وإن كانت بعض الدورات تستمر أكثر من شهرين في السنة، ولكن هناك من يقيم دورات يكتفي القائمون عليها بمدة شهرين أو نحوها في الصيف للانتهاء من حفظ القرآن فيها في الحرم وفي غيره. ولا أشك أن لهم برامج متابعة لطلابهم بعد ذلك، وقد سمعنا طرفاً من أخبارها الحسنة من الناس، نسأل الله لهم التوفيق والسداد، وطلب الكمال وقف عائقاً في طريق إنجاز كثير من جلائل الأعمال، ولكن التسديد والمقاربة.
الموضوع الذي أريد التنبيه عليه هنا هو ضرورة الانتباه إلى حكاية بعض الأقوال المختلفة في تفسير بعض الآيات المقروءة بأكثر من وجهٍ مؤثرة في المعنى، فتدل إحدى القراءات على معنى، والأخرى على معنى مختلف. وتنقل الأقوال عن السلف على سبيل الاختلاف دون التنبه إلى القراءة التي فسر عليها الآية.
وقد نبه على هذه المسألة السيوطي (ت911هـ) في (الإتقان [6 / 2306]) فقال: “من المهم معرفة التفاسير الواردة عن الصحابة بحسب قراءة مخصوصة، وذلك أنه قد يرد عنهم تفسيران في الآية الواحدة مختلفان فيُظَنُّ اختلافاً وليس باختلاف، وإنما كل تفسير على قراءة”.
ومن أمثلة ذلك في تفسير قوله تعالى: {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجرمن الآية:15].
حيث ورد في (سكرت) قراءتان. إحداهما:
– سُكِّرَتْ بضم السين وتشديد الكاف.
– سُكِرَت بضم السين، وكسر الكاف مع التخفيف.
وقد أخرج ابن جرير من طرقٍ عن ابن عباسٍ أن معنى (سكرت): سُدَّتْ.
وأخرج من طرق أخرى عن ابن عباس أنها بمعنى: أُخِذَتْ.
فظن بعضهم أن هذا اختلاف في النقل عن ابن عباس، أو تضارب في التفسير.
ولكن التابعي الجليل قتادة بن دعامة السدوسي (ت117هـ) فطن لسبب هذا الاختلاف في التفسير، وهو اختلاف القراءة. فقال: “من قرأ (سُكِّرَتْ) مشددةً فإنما يعني: سُدَّتْ، ومن قرأ (سُكِرَت) مخففةً فإنه يعني سُحِرَت، وهو معنى قول ابن عباس:أُخِذَت”.
قال السيوطي: “وهذا الجمعُ من قتادة نفيسٌ بديعٌ”.
ثم اضاف السيوطي مثالين آخرين على هذا فقال: ومثله قوله تعالى: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} [إبراهيم من الآية:50] أخرج ابن جرير عن الحسن أَنَّه الذي تُهنأُ به الإبلُ.
وأخرج من طرقٍ عنه وعن غيره أَنَّهُ النحاسُ المُذابُ.
وليسا بقولين. وإنما الثاني تفسير لقراءة من “قطرٍ آنٍ”، بتنوين قطر وهو النحاس و “آن” شديد الحر كما أخرجه ابن أبي حاتم هكذا عن سعيد بن جبير.
وقد خَرَّجتُ على هذا قديماً الاختلافَ الوارد عن ابن عباس وغيره في تفسير آية: {أَوْ لَامَسْتُمُ} [النساء من الآية:44]، هل هو الجماعُ أو الجَسُّ باليدِ؟
فالأول تفسيرٌ لقراءة (لامستم).
والثاني لقراءة (لمستم) ولا اختلاف”.
هذه لفتةٌ أحببت المشاركة بها تنبيهاً لمن يقرأ تفسيراً لأحد علماء الصحابة والتابعين فيظن هذا من التعارض في الأقوال، وهو قد يرجع إلى اختلاف القراءة التي فسر عليها والله أعلم.