السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
الجملة الإنشائية وأقسامها
وفيه ما يلي:
(1) مقدمة.
(2) ومقولتان.
المقولة الأولى: شرح الإِنشاء غير الطلبي، وهو خمسة أنواع:
النوع الأول: أمر التكوين.
النوع الثاني: إنشاء العقود وحلّها.
النوع الثالث: إنشاء المدح و الذمّ.
النوع الرابع: إنشاء القسم.
النوع الخامس: إنشاء التوجع أو التفجْع ونحوهما.
المقولة الثانية: شرح الإِنشاء الطلبي، وفيه ستة أنواع:
النوع الأول: الأمر والنهي.
النوع الثاني: التحذير والإِغراء.
النوع الثالث: النداء.
النوع الرابع: التمني والترجي.
النوع الخامس: الدعاء.
النوع السادس: الاستفهام.
***
المقَدّمَة
لدى تقسيم الجملة إلىخبريّة وإنشائية عرفنا أنّ الإِنشاء هو ما لا ينطبق عليه تعريف الخبر، ولدى تحليل حقيقته أقول:
هو الكلام الذي يتوقف تحقُّقُ مدلوله على النطق به، كالأمر والنهي والدعاء والاستفهام، وإنشاء العقود، وإنشاء المدح والذمّ، وأمر التكوين، والْقَسَم، ونحو ذلك.
وأضيف هنا أنّ الإِنشاء في اللّغة هو الإِبداع والابتداء، وكلُّ من ابتدأ شيئاً فقد أنشأه.
والإِنشاء في الجملة الإِنشائية ينقسم إلى قسميّن:
القسم الأول: الإِنشاء غير الطلبي.
القسم الثاني: الإِنشاء الطلبي.
---
المقولة الأولى
شرح الإِنشاء غير الطّلبي
تعريفه:
الإِنشاء غير الطلبي: هو ما لا يستدعي مطلوباً، إلاَّ أنّه يُنْشِىءُ أمراً مرغوباً في إنشائه، وله أنواع وصيَغٌ تَدُلُّ عليه، ومنها الأنواع التالية:
النوع الأول: وهو أعلاها، وهو ما يمكن أن نُسَمّيَهُ "أمْرَ التكوين" وجملَة أمْرِ التكوين هي لفظ "كُنْ" كما قال الله عزَّ وجلَّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول):
{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82)}.
***
النوع الثاني: إنشاءُ العقود، وحلُّ المعقود منها، مثل عقود البيع، وعقود الزواج، وأوامر ضَرْبِ الرّق، وقرارات تعيين الموظفين، وقرارات الإِقالة من الوظائف ممّن يملك ذلك، وكعبارات الطلاق والعتق، ومبايعة رئيس الدولة، وخلع البيعة عنه، ونحو ذلك.
وتأتي صِيَغُ العقود وصِيَغُ حلّها بعباراتٍ مختلفات من الجمل الفعليّة والاسميّة، وما يقوم مقامها اختصاراً، مثل:
(1) إنشاء عقود البيع والشراء بما يدلُّ عليها اصطلاحاً من عبارات: "كبِعْتُكَ، اشْتَريتُ منك - أبيعك، أشتري منك - بِعْني، بْعتُك - اشْتَرِ مِنْي، اشْتَرَيتُ منك" ونحوها
(2) إنشاء عقود الزواج بما يدلُّ عليها اصطلاحاً من عبارات: "كزَوّجتُك بنتي، قبلت زواجها - أُزَوَجُك ابنتي، تَزَوَّجتها - زَوّجْنِي ابْنَتَك، زوّجْتُكَهَا" ونحوها.
(3) إنشاء عقد مبايعة أمير المؤمنين بما يدلُّ عليها من عبارات: "أبايعك على السّمع والطاعة - بايعتُكَ على السّمع والطاعه" ونحوها.
إلى غير ذلك من عباراتٍ تتضمَّن في عرف الناس إنشاء العقود، وهي جُمَلٌ، أو مختصراتٌ تتضَمَّنُ معنَى جُمَلٍ إنْشَائِيّة.
(4) إنشاءُ الدخول في الإِسلام بإعلان الشهادتين، فهو عَقْدٌ مع اللهِ بالإِسْلاَم له، مع عقد النيّة على هذا الدخول.
(5) إنشاء الدخول في نحو عبادة الصلاة، أو عبادة الحج والعمرة، فالدخول في الصلاة يكون بعقد النيّة مع تكبيرة الإِحرام، إذْ تكبيرة الإِحرام تنوب مناب: عقدت الدخول في الصلاة وأنشأته، مع استحضار النيّة في النفس.
والدخول في عبادة الحج أو العمرة يكون بعد النيّة مع التلبية، إذ عبارة "لبَّيْكَ اللَّهُمَ لبَّيْكَ" تنوبُ مناب: عقدتُ الدخول في الحج أو العمرة وأنشأْته، مع استحضار النيّة في النفس.
(6) حلُّ العقود بعبارات تدلُّ عليه، مثل:
"فَسَخْتُ البيع - خَلَعْتُ الْبَيْعَةَ - قول الرجل لزوجته: طلَّقْتُكِ أو أنتِ طالق، أو نحو ذلك - قول مالك الرقيق لمملوكة: أعتقتك، أو أَنْتَ عَتِيقٌ، أو قوله له: كاتَبْتُكَ على كذا" ونحو ذلك.
النوع الثالث: إنْشاء المدح أو الذّم، ويأتي في أفعالٍ وصِيغ:
* فيأتي المدح بفعل: "نِعْم" مثل: "نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّه أوّاب - ولَنِعْمَ دار المتَّقين - فَنِعِمَّا هِي".
* ويأتي الذَّمُّ بفعل: "بئْسَ" مثل: "بِئْسَ الشَّرَابُ - فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبِّرِينَ".
ويُحَوَّلُ الفعل الماضي الثلاثي عن وزْنِه فَيُصَاغُ على وَزْنِ "فَعُلَ، لازماً بضمّ العين، ويُسْتَعْمَلُ عندئذٍ قريباً من استعمال "نعم وبئس" للدلالة على المدح أو الذم، مثل: "وَحَسُنَ أولئِكَ رَفيقاً - حَسُنَتْ مُسْتقرّاً وَمُقاماً - إنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً ومُقَاماً - وسَاءَتْ مَصِيراً - وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً - مُحْمُّدٌ عَظُمَ رَسُولاً، وكَرُمَ أصْلاً، وجَمُلَ خُلُقاً، وجَادَ عطاءً، وفَاقَ بَيَاناً".
أفْعَالُ "ساءَ وجَادَ وفاقَ" في هذه الأمثلة هي على تقدير تحويلها إلى وزنِ "فَعُل" وإن شابَهَ لفظُها الذي حُوِّلَتْ إلَيْهِ لَفْظَهَا الذي حُوِّلَتْ مِنْهُ، لأنّ لَفْظَها الّذِي حُوِّلَتْ إليهِ هو "سَوُءَ - جَوُدَ - وفَوْق" ولكن تحرَّكتِ الواو وانْفَتَحَ ما قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ ألفاً، فعادت إلى مثل ما حُوّلَتْ عَنْهُ في اللفظ.
ونُلاحِظُ أنْ عبارات إنشاء المدح والذمّ من بدائع الصِّيَغ والتركيباتِ في اللِّسَان العربي.
ويُمْكِن أن نُلْحِقَ الشتائم بإنْشاءِ الذّم.
-النوع الرابع: إِنْشَاءُ الْقَسَم، ولَهُ صِيَغٌ كثيرَة، منها: "أُقْسِمُ بالله لَفَعَلْتُ أَوْ لأَفْعَلَنَّ - أَحْلِفُ بالله لأَفْعَلُ أو لَتَفْعَلَنَّ - أَشْهَدُ لأَفْعَلَنَّ - أُشْهِدُ اللهَ لأَفْعَلَنَّ - عَلِمَ اللهُ أو يَعْلَمُ اللهُ لأفْعَلَنّ".
ويختصر العرب عباراتِ الْقَسَم فَيَحْذِفون منها فعل الْقَسَمِ، ويشيرون إليه بأداةٍ كحرف الْقَسَم، مثل: واللهِ - باللهِ - تَاللهِ" أو بحركة إعرابٍ مثل: "اللهِ لأفْعَلَنَّ" على تقدير وجود حرف القسم الجارّ، أو "اللهَ لأفْعَلَنَّ" أي: أَحْلِفُ اللهَ بالنصب، والنصب جاء على طريقة الحذف والإِيصال، وهو حذف الجار ونصْبُ المجرور به على أنّه مفعولٌ به.
والغرضُ من إنشاء الْقَسَمِ تأكيد الجملة الخبريَّة كما سَبَقَ بيانه في مؤكداتِ الخبر.
النوع الخامس: إنشاء التوجّعِ أو التَّفَجُّعِ، أو التَّرَحُّمِ، أو التَّثْرِيب، أَوْ تَقْبيحِ الحال.
وتَدُلُّ على هذه المعاني عبارات هي في الحقيقة اختصارٌ لجمل أو رَمْزٌ لها من جهة المعنى.
* ففي التوجّع نلاحظ عبارات مثل: "يا عُمراه - واعُمَراهُ - وامُحمّداهُ - واحُزْنَاه - وافَجِيعَتاه".
ومثل: "آه - أَوّه".
* وفي الترحم أو التخوّف من وقوع مكروه، مثل "ويْحَهُ - وَيْسَه".
* وفي التقبيح والتثريب، مثل: "وَيْلَه - وَيْبَه" قالوا: وهما كلمتا عذاب، أي هما كلمتان لإِنْشَاءِ التقبيح والتثريب بسبب استحقاق العذاب.
***
المقولة الثانية
شرح الإِنشاء الطّلبي
تعريفه:
الإِنشاء الطلبي: هو ما يستدعي مطلوباً غير حاصل في اعتقاد المتكلّم وقت الطلب، ويكون الإِنشاء بأنواع من الكلام: "الأمر والنهي - التحذير والإِغراء - النداء - التمنّي والترجّي - الدعاء - الاستفهام".
***
(1) النوع الأول: الأمر والنهي
تعريف الأمر: هو طلَبُ تحقيق شيْءٍ ما، مادّيٍّ أو معنويّ، وتدُلُّ عليه صِيَغٌ كلاميّة أربع، هي:
"فعل الأمر - المضارع الذي دخلت عليه لام الأمر - اسم فعل الأمر - المصدر النائب عن فعل الأمر".
تعريف النهي: هو طلَبُ الكفّ عن شيءٍ ما، مادّيٍّ أو معنويٍّ، وتدلُّ عليه صيغةٌ كلامية واحدة هي: "الفعل المضارع الذي دخلت عليه (لاَ) الناهية".
أمثلة من الأمر:
(1) من صيغة "فعل الأمر":
* {قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً...} [الآية 158] (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):
* {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول).
* وقول أبي الطيّب المتنبّي:
*عِشْ عَزِيزاً أَوْ مُتْ وَأَنْتَ كَرِيمٌ * بَيْنَ طَعْنٍ الْقَنَا وَخَفْقِ الْبُنُودِ*
* وقَوْلُ الشاعر:
*إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَة اللَّيالي * وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ*
(2) مِنْ صيغة "المضارع الذي دخلَتْ عليه لاَمُ الأَمْر".
* {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} (آل عمران/ 3 مصحف / 89 نزول).
* وقول البحتري:
*فَمَنْ شَاءَ فَلْيَبْخَلْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَجُدْ * كَفَانِي نَدَاكُمْ عَنْ جَمِيعِ الْمَطَالِبِ*
* وقول المتنبي في مدح سيف الدولة:
*كَذَا فَلْيَسْرِ مَنْ طَلَبَ الأَعَادِي * وَمِثْلَ سَرَاكَ فَلْيَكُنِ الطِّلاَبُ*
* وقول الشاعر:
*لِيَكُنْ بِرَبّكَ كُلُّ عِزِّك يَسْتَقِرُّ ويَثْبتُ * فَإذَا اعْتَزَزْتَ بِمَنْ يَمُوتُ فَإِنَّ عِزَّكَ مَيِّتُ*
(3) مِنْ صِيغَةِ :اسم فِعْلِ الأَمْرِ":
* {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)} (الطارق/ 86 مصحف/ 36 نزول).
رَوَيدا: اسم فعل بمعنى "أَمْهلْ".
* {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ (19)} (الحاقة/ 69 مصحف/ 78 نزول).
ها: اسم مفعل أمر بمعنى "خذ".
* وقول المعرّي:
*أَبَنَاتِ الْهَدِيلِ أَسْعِدْنَ أَوْعِدْ * نَ قَلِيلَ الْعَزَاءِ بالإِسْعَادِ*
*أيهِ للهِ دَرُّكُنَّ فَأَنْتُنَّ * اللَّوَاتِي تُحْسِنَّ حِفْظَ الْوِدَادِ*
إِيهِ: اسْمُ فعل أمر، معناه طلب الزيادة.
الْهَدِيل: صوتُ الحمام - أو ذكر الحمام الوحشي.
فالمعري يطالِبُ بناتِ الهديل، وهي أنغام صوت الحمام، بأن تُسْعِدَه بما لديها من ترجيعٍ وترديدِ ألحان، وبأن تزيده من غنائها.
(4) من صيغة "المصدر النائب عن فعل الأمر".
* {فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} (الملك/ 67 مصحف/ 77 نزول).
فَسُحْقاً: أي فَبُعْداً شديداً، وهو مصْدَر "سَحُقَ" بمعنى: بَعُدَ أَشَدَّ الْبُعْد، وقد ناب عنْ فعل الأمر، والمعنى: "اسْحُقُوا" أي: ابْتَعِدوا ابتعاداً شديداً".
* قول قَطَرِيّ بن الْفُجَاءَة:
* فَصَبْراً فِي مَجَالِ الْمَوْتِ صَبْراً * فَمَا نَيْلُ الْخُلُودِ بَمُسْتَطَاعِ*
فَصَبْراً: أي: فاصْبِرْ.
أَمْثِلةٌ مِنَ النهي:
* {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً...} [الآية 118] (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول).
بِطَانَةً: أي: أصْحاباً يُخالطونكم ويطلعون على أسراركم وبواطن أموركم.
لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً: أي: لا يُقَصِّرُونَ في إفساد شؤونكم وخططكم وأفكاركم وأعمالكم.
* {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً...} [الآية 5] (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول).
* وقول المعرّي:
*وَلاَ تَجْلِسْ إِلَى أَهْلِ الدَّنَايَا * فَإِنَّ خَلاَئِقَ السُّفَهَاءِ تُعْدِي*
* وقول المتنبي في مدح سيفِ الدولة:
*فَلاَ تُبْلِغَاهُ مَا أَقُولُ فَإِنَّهُ * شُجَاعٌ مَتَى يُذْكَرْ لَهُ الطَّعْنُ يَشْتَقِ*
* وقول أبي الأسود الدُّؤَلِي:
*لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ * عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ*
دلالات صِيَغِ الأمْرِ والنهي:
(1) يُسْتَفادُ مِنْ صِيَغِ الأَمر التكليفُ الإِلْزامِيُّ بالفعل.
(2) ويستفادُ منْ صيغة النهي التكليف الإِلزاميُّ بالترك وعدم الفعل.
وكلُّ من صِيَغِ الأمْرِ وصيغةِ النهي قد تخرج عن دلالَتَيْهِما بقرائنِ حاليّة أو قوليّة إلى معانٍ كثيرة، منها ما يلي:
"الدعاء - الالتماس - الإِرشاد - التمنّي - الترجّي - التيئيس - التخيير - التسوية - التعجيز - التهكّم والإِهانة - الإِباحة - التوبيخ والتأنيب والتقريع - الندب - التهديد - الامتنان - الاحتقار والتقليل من أمر الشيء - الإِنذار - الإِكرام - التكوين - التكذيب - المشورة - الاعتبار - التعجّب أو التعجيب" إلى غير ذلك من معان.
أمثلة:
(1) من الدعاء ويكون عادةً من العبد لربّه:
* {...فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ...} (الأعراف/ 7 مصحف / 39 نزول).
* {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول).
(2) ومن الالتماس، ويكونُ عادةً من الإِنسان لمن هو أعلى منه، أو لمساويه:
* قول هارون لموسى عليهما السلام: {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)} (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول).
* وكقول الصِّدِيقِ لصَدِيقه: أعِرْنِي كتابَكَ وَلاَ تُحْرِجْنِي أَنْ أُعِيدَهُ قَبْلَ أُسْبُوعٍ.
* وقول الشاعر:
*لاَ تَطْوِيَا السِّرَّ عَنِّي يَوْمَ نَائِبَةٍ * فَإنَّ ذَلِكَ ذَنْبٌ غَيْرُ مُغْتَفَرِ*
(3) ومن الإِرشاد، ويكونُ عادةً في مجال النُّصْحِ وإِبْدَاءِ المشورة:
* {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ...} [الآية 282] (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول).
* وقَوْلُ المستَشار في نَصيحَتِه: تَزَوّجْ بِكْراً وَلاَ تَتَزَوَّجْ مَنْ تَعَدَّدَ عَلَيْهَا الأزواج.
* وقول المعرّي:
*لاَ تَحْلِفَنَّ عَلَى صِدْقٍ وَلاَ كَذِبٍ * فَلا يُفِيدُك إِلاَّ الْمَأْثَمَ الْحَلِفُ*
(4) ومن التَّمنِي، ويكون عادة في الميئوس من الحصول عليه، أو فيما هو بعيد المنال:
* تمنِّي أهل النّار أنْ يُقْضَى عَلَيْهِمْ بالْمَوِتِ وَهُمْ يائسونَ مِنْ ذلك:
{وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ (77)} (الزخرف/ 43 مصحف/ 63 نزول).
* وطَلَبُهُم من أصحاب الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء او مما رزقهم الله.
{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ...} [الآية 50] (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول).
* وقولي واضعاً مثلاً:
*أَمْطِرِي يَا سَمَاءُ كُلَّ صَبَاحٍ * فَوْقَ بَيْتِي مِنَ الدنانِيرِ ألْفاً*
*لاَ تَكُفِّني مِنْ فَيْضِ جُودِكِ عَنِّي * عَادَتِي لاَ أَسُوءُ بِالْقَبْضِ كَفّاً*
(5) ومن الترجّي، ويكونُ في المطموع فيه، والمترقّب الحصول عليه:
* قول امرىء القيس:
*أَلاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلاَ انْجَلِي * بصُبْحٍ وما الإِصْبَاحُ مِنْكَ بَأَمْثَلِ*
فالصبْحُ مَرْجُوٌّ قُدُومُه بعد اللَّيل الطويل.
(6) ومن التيئيس:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) بشأن المنافقين:
{لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ...} [الآية 66].
(7) وَمِنَ التَّخيير:
* قولُنَا للطالب في الامتحان: أجبْ على أَحَدِ السؤالَيْن التاليين:
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الملك/ 67 مصحف/ 77 نزول):
{وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)}.
* وقول المتنبي:
*عِشْ عَزِيزاً أَوْ مُتْ وَأَنْتَ كَرِيمٌ * بَيْنَ طَعْنِ الْقَنَا وَخَفْقِ الْبُنُودِ*
القنا: الرماح. البنود: الأعلام.
(8) ومن التسوية:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الطور/ 52 مصحف/ 67 نزول) حكاية لما يُقال لأهل النار يوم الدين:
هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَاذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (16)}.
* وقول الشاعر:
*أَسِيئِي بنَا أَوْ أحْسِنِي لاَ مَلُومَةٌ * لَدَيْنَا وَلاَ مَقْلِيَّةٌ إِنْ تَقَلَّتِ*
تَقَلَّتْ: تَبَغَّضَتْ - أو تَمَلْمَلَتْ.
(9) ومن التّعجيز:
* قولُ الله عزَّ وجلَّ في صورة (الرحمن/ 55 مصحف/ 97 نزول):
{يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ (33)}.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول): {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}.
* وقول اللهِ عزَّ وجلَّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول):
{أَاله مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (64)}.
(10) ومِنَ التهكّم والإِهانة:
* ما يقال للمعذَّب في النار يوم الدّين، كما جاء في سورة (الدخان/ 44 مصحف/ 64 نزول):
{خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)}.
ففي الأمر بفعل [ذُقْ] تهكُّم به.
* وما يُقال جواباً لِمَنْ قَضِي عليهم بالخلود في النار حين يقولون:
رَبَّنَا أَخْرجْنَا مِنْها فإنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالِمُونَ، كماجاء في سورة (المؤمنون/ 23 مصحف/ 74 نزول):
{قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ (108)}.
(11) ومن الإِباحة:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول)
{ياأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً...} [الآية 168].
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول):
{...وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ...} [الآية 2].
(12) ومن التوبيخ والتأنيب والتقريع:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) خطاباً لأهل الكتاب:
{وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)}.
(13) ومن الندب ويقابله في النهي الكراهَة:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):
{وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}.
دل على أنّ الأمر للنّدب قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ففي هذا ترغيب لا ترهيب.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول):
{وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37)}.
(14) وَمِنَ التهديد:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (فُصّلت/ 41 مصحف/ 61 نزول):
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)}.
أي: فَسَتَلْقَونَ عِقابَ أعمالكم في النار.
(15) ومن الامتنان:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):
{*وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)}.
ففي الأمر بعبارة (كلوا) امتنان من الله على عباده.
(16) ومن الاحتقار والتقليل من أمر الشيء:
* قول مُوسَى عليه السلام للسَّحَرةِ: {أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} كما جاءَ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول):
{فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ (80)}.
لقد احتقر موسى عليه السلام وسائلهم واستهان بسحرهم، فقال لهم: ألْقُوا. أي: قبلي:
(17) ومن الإِنذار:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول):
{...قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)}.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المرسلات/ 77 مصحف/ 33 نزول):
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ (46)}.
(18) ومن الإِكرام والتكريم:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحجر/ 15 مصحف/ 54 نزول):
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ (46)}.
(19) ومن التكوين:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول):
{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82)}.
(كُنْ): من الله أمْرُ تكوين.
(20) ومن التكذيب:
* قولُ الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):
{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَاذَا...} [الآية 150].
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول):
{*كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93)}.
(21) ومن المشورة:
* قول سيدنا إبراهيم لولده إسماعيل عليهما السلام كمَا حكَى اللهُ في سورة الصافات/ 37 مصحف/ 56 نزول):
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)}.
فقول إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام: {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} قول طالب مشورة في أمْرِ الرؤيا.
(22) ومن الاعتبار:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):
{...انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ ذالِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)}.
(23) ومن التعجب والتعجيب:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) خطاباً لرسوله:
{انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)}.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (مريم/ 19 مصحف/ 44 نزول):
{...فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَاكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (38)}.
ذَكَرهُ السَّكَاكِيُّ في استعمال الإِنشاءِ بمعنى الخبر، والمعنَى: ما أشدّ سمعهم وبصرهم يومئذٍ.
إلى غير ذلك من معانٍ أخرى، وعلى متدبرّ النصوص القرآنيّة، ودارِسِ النصوص الأخرى أن يكون باحثاً درّاكاً للمراد من صِيَغِ الأَمْرِ والنهي، مستفيداً مِنْ قرائِن الأحوال وسِبَاقِ الكلامِ وسيَاقِه.
***
(2) النوع الثاني: التَّحْذِير والإِغراء
التحذير والإِغراء هما في المعنى من فروع الأمر والنهي، وينطبق عليهما ما ينطبق عليهما.
* فعبارات التحذير هي في معنى: احذر - أو تجنّبْ - أو تَوَقَّ - أو تَبَاعَدْ - أو لا تَقْرَبْ - أو لاَ تَدْنُ".
أو نحو ذلك ممّا يُلائم حال الْمُحَذَّرِ منه.
وعبارات الإِغراء هي في معنى: (افْعَلْ - أَو الْزَم - أو اطْلُبْ - أو أَقْبِلَ - أو تَقَدَّم - أَوْ خُذْ -" أو نحو ذلك مما يُلائم حال الْمُغْرَى به.
أمثلة:
(1) من التحذير:
قول الشاعر:
*وَإِيّاكَ والْمَيْتَاتِ لاَ تَقْرَبَنَّهَا * وَلاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللهَ فَاعْبُدا*
وقولي صانعاً مثلاً:
*إِيَّاكَ والصَّبْوَةَ إِنْ أقْبَلَتْ * مُنْذِرةُ الشَّيْبِ تَهَادَى إِلَيْك*
*زَلَّتُكَ الْيَوْمُ وَأنْتَ الَّذِي * قَدْ شِبْتَ تُرْدِيكَ وَتَقْضِي عَلَيْكَ*
* وقول الشاعر:
*فَلاَ تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ * واِيَّاكَ وَإيَّاهُ*
(2) ومن الإِغراء:
* قول الشاعر:
*أَخَاك أَخَاكَ إِنَّ مَنْ لاَ أخَا لَهُ * كَسَاعٍ إِلَى الْهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاَحِ*
* وقول الداعي إلى الصلاة: الصَّلاَةَ جَامعة.
***
(3) النوع الثالث: النداء
تعريف النداء: هو طلَبُ الإِجابة لأمْرٍ ما بحرف من حروف النداء يَنُوبُ مَنابَ "أدعو".
وأدوات النداء ثمان: "أَ - أَيْ - يَا - آ - آي - أَيَا - هَيَا - وَا".
* أمَّا "أَ - أَيْ" فلنِدَاء القريب.
* وأمّا "أَيَا - هَيَا - آ" فلنداء البعيد.
* وأمّا "يا" فالراجع أنّها موضوعةٌ لنداء البعيد حقِيقةً أو حكماً، وقيل مشتركة.
* وتُسْتَعَمل "وَا" للنّدْبة، وهيَ الَّتي يُنَادَى بها المندوبُ الْمُتَفجَّعُ عليه، وتُسْتَعْمَلُ في النُّدْبة أيضاً "يَا" عند أَمْنِ الالتباسِ بالنداء الحقيقي.
تصرُّف البليغ في استعمال أدوات النداء:
(1) قد يستعملُ البليغ أدوات النداء الّتي للقريب فينادي بها البعيد،م لمعنًى يُريدُ الإِشارة إليه، كأن يُريدَ الإِشارَة إِلَى أنَّ هذا البعيد في جَسَده هو قريب إلى قبله ونفسه حاضر في تصوّره المستمر، وكأن يريد الإِشارة إلى أنّه لشدّة سمعه وانتباهه وسرعة استجابته، كأنّه قريب، فهو لا يحتاج أن ينادى بأدوات نداءِ البعيد.
(2) وقد يَسْتَعْمِلُ البليغ أدوات النداء الَّتي للبعيد فينادي بها القريب، لمعنى يُريدُ الإِشارة إليه، كأنْ يُريدَ أنّه رفيع المنزلة عالي المقام، فهو لارتفاع منزلته وبعد مقامه بمثابة البعيد إلى الأعلى في جسده، فاللاّئق به أنْ يُنَادَى بأدوات النداء التي للبعيد. وكأَنْ يريد أنَّه مُنْحَطُّ المنزلة جداً، فهو لانحطاط منزلته بمثابة البعيد إلى الأسفل في جسده، فاللاّئق به أن يُنَادى بأدَواتِ النّداءِ الّتي للبعيد. وكأن يُرِيدَ التعبيرَ عن حَالةِ تَلَهُّفِهِ وشدّةِ طلَبِه، فهو بمثابة المستغيث الذي يمدُّ صوته في النداء، فيستعمل أدوات النداء التي للبعيد لما فيها من مدِّ الصّوْت وَطُول النفس معه. فيستعمل أدوات النداء التي للبعيد لما فيها من مدِّ الصّوْت وَطُول النفس معه. وكأن يريد أنّ المنادَى غافل شارد الذهن أو غير مستعدٍّ للاستجابة فهو بمثابة البعيد.
(3) وقد يخرج النداء عن المعنى الأصليّ الموضوع له، فيُسْتَعْمَلُ لدى البلغاء وغيرهم في أغراضٍ أخْرى غير النداء، وهذه الأغراضُ تُفْهَمُ من قرائن الحال أو قرائن المقال، فكلُّ حَرَكَةٍ نفسيَّةٍ ذات مشاعِرَ تَدْفَعُ الإِنسان إلى التعبير عنها بنداء ما بطريقةٍ تلقائية، ولو لم يشعر بأنّ هذا النداء يحقق له مرجوّاً أو مؤمولاً أو يدفع عنه مكروها.
كأن يستعمل النداء في الزّجْر واللّوم، أو التحسّر والتأسّف والتَفجع والندم أو النُّدْبة، أو الإِغراء، أو الاستغاثة، أو اليأس وانقطاع الرجاء، أو التمني، أو التذكر وبث الأحزان، أو التضجر، أو الاختصاص، أو التعجب، إلى غير ذلك.
(4) وكثيراً ما تُحذَفُ أداة النداء ولا سيما في نداء الرّبّ ودُعائه، فتكون مقدَّرة ذِهناً، مثل: "رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمناً - رَبّ اغْفِر لي وَلأِخي - رَبّ زِدْنِي عِلماً - رَبِّ انْصُرنِي بمَا كذَّبُونِ".
والأداةُ التي تُقدَّرُ عند الحذف هي: "يا" فيما ذكر النحاة.
أقول: إنّ حذف أداة النداء لَهُ دلالةٌ في نفس البليغ، وهي أنّ المنَادى هو في أقرب منازل القرب من المنادِي،حتّى لَمْ يحتج إلى ذكر أداة نداءٍ لَهُ لشدّةِ قُربِهِ، وهذا يليق بمقام دُعاءِ الرّبّ جلّ وعلا، فإذا قال الداعي "يَارب" فهو يعبرّ بذكر أداة النداء عن شِدَّةِ حاجة نفسه لما يدعو به، أو يعبّر عن ألمه أو استغاثته أو ضيقِ صدره، أو نحو ذلك من المعاني.
لذلك وجدتُ في القرآن أنّ كلّ نداءٍ فيه دعاءٌ للربّ قد حُذِفَتْ منه أداة النداء، باستثناء نِدَاءَيْنِ نَادَاهُما الرسُول محمّد صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر فيهما أداةَ النداء "يا" تعبيراً عن حالة نفسه الحزينة من أجل قومه الذين اتّخَذوا القرْآن مهجوراً بعد أن بلّغهم ما أُنْزِل عليه منه، وأسْمَعَهُمْ آياتِهِ، وأعادَهَا عليهم مَرَاتٍ ليفهموا دلالاتها فأصرُّوا على كُفْرهم وعنَادهم حتَّى رأى أنَّهُمْ لا يُؤْمِنُون مَهْمَا ذكَّرَهُمْ وأقنعهم وحذَّرَهُمْ وأَنْذَرَهُمْ.
فالأول: ما جاء في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) بقول الله عزَّ وجلَّ فيها:
{وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)}.
فذكَر الرسول حرف النداء "يا" مع أنه يُنَادِي ربَّهُ الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد، ليعبّر بمدّ صوته بأداة النداء عن حزنه منْ أجل قومه، وتلَهُّفِهِ لاستجابتهم، وحِرْصِه على نجاتِهِمْ من عذاب ربّهم في جهنم دار عذاب الكافرين يوم الدين.
والثاني: ما جاء في سورة (الزخرف/ 43 مصحف/ 63 نزول):
{وَقِيلِهِ يارَبِّ إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ (88)}.
أي: تَصَلَّبُوا على العناد و الكفر، فَهُمْ لاَ يتحرَّكونَ حركة جديدةً يُشْعِرُون فيها باقترابهم من الإِيمان، فعبّر بأداة النداء عن تلهُّفِهِ لإِيمانهِم ونجاتهم، وتوجُّعِ قلبه من أجلهم.
فائدة: قال الزمخشري: "كثُر في القرآن النداء بـ[يا أيُّها] دون غيرها لأنّ فيها أوجهاً من التأكيد، وأسباباً من المبالغة، منها:
(1) ما في "يا" من التأكيد والتنبيه.
(2) ما في "ها" من التنبيه.
(3) وما في التدرّج من الإِبهام في "أي" إلى التوضيح.
والمقام يناسب المبالغة والتأكيد، لأنّ كلّ ما نادى الله له عباده من أوامره، ونواهيه، وعطائه، وزواجره، ووعده، ووعيده، ومن اقتصاص أخبار الأمم الماضية، وغير ذلك ممّا أنطق الله به كتابه، أمورٌ عظام، وخطوبٌ جسام، ومعانٍ واجبٌ عليهم أن يتيقظُوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها، وهُمْ غافلون، فاقتضى الحال أن يُنَادَوْا بالآكد الأبلغ".
***
أمثلة من استعمال أدوات النداء على وفق أو على خلاف مقتضى الأصل من القرب والبعد
* نادى نوح عليه السلام ولده الذي كان في معزل عنه مستخدِماً أداة النداء الّتي للبعيد، دلَّ على ذلك قول الله عزّ وجلّ في سورة (هود/11 مصحف/ 52 نزول):
{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يابُنَيَّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42)}.
فاستعمل أداة النداء الّتي تُسْتَعْمَلُ للبعيد وفْقَ مقتضى الأَصْلِ، إذْ كان بعيداً في معزلٍ عن أبيه.
* ونُلاَحِظُ أنَّ هارُونَ عليه السلام كانَ لَهُ مَوْقِفَانِ مَعَ أخِيهِ موسَى عليه السلام، تُجَاهَ مَا كَانَ مِنْ مُوسَى إذْ أَخَذَ برأسِهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ:
أمَّا في المرّةِ الأَولَى فَحَذَفَ مِنْ عبارَتِهِ أَداةَ النداء لإِشعارِه بأنَّه أكْثَرُ مِنْ قَريبٍ بالنسبة إليه، دلَّ عَلى هذه المرّة ما جاء في سُورَةِ (الأَعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول)
{قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)}.
فحذفَ أدامة النداء مُسْتَعطِفاً، لأنّه كان قريباً منه جَسَدِيّاً، وأشْعَرَهُ بزيادة القرب منه نفسيّاً، إذْ هو أبْنُ أُمِّهِ.
وأمَّا في المرّة ا لأُخْرَى حِينَ أَخَذَ مُوسَى عليه السلام برأسِ هارون ولحيته محاسباً، فقد ناداه بحرف النداء "يا" قائلاً لَهُ كما جاء في سورة (طَه/ 20 مصحف/ 45 نزول):
{قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)}.
أي: ولم تَرْقُبْ قَوْلي السّابقَ لَكَ: إنَّ الْقَومَ اسْتَضعَفُوني وكادُوا يَقْتُلُونَنِي "هذا فيما أرى والله أعلم".
فأنزل هارون أخاه موسى في هذا النداء الثاني منزلة البعيد، لأنّه لم يَرْقُبْ قولَهُ السّابِق لَهُ، أي: لم يضعه موضع المراقبة ليعمل بمقتضاه.
* ونلاحظ في خطاب الله لعباده في القرآن أنّه يُنزِّلُهُم مَنْزِلَة البعيدين عنه، فيناديهم بحرف النداء "يا" مع أنّه أقربُ إليهم من حبْلِ الوريد، مراعاةً لمقام الربوبيَّةِ الرفيع، في الأمر والنهي والتوجيه، إذْ هو سبحانه العليُّ الأعْلَى.
فجاء في النصوص القرآنية: يا عبادي - يا معشر الجنّ والإِنس - يا يَحْيَى - يا عِيسَى - يا داود - يا زكريا - يا أيُّها الناس - يا أيُّها النبيّ - يا أيُّها المزّمل - يا أيُّها المدَّثِّر".
* وأنزل أبو العتاهية مخاطَبَهُ الذي يعظه منزلة البعيد، فناداه بأداة النداء التي للبعيد "أيَا" ليشير إلى أنه غافِلٌ لاهٍ في دُنياه، فهو بمثابة البعيد الذي يحتاج إلى أداة النداء التي يُنَادى بها البعيد، فقال:
*أَيَا مَنْ عَاشَ فِي الدُّنيا طَوِيلاً * وَأَفْنَى الْعُمْرَ فِي قِيلٍ وَقَالِ*
*وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ فِيمَا سَيَفْنَى * وَجَمَّعَ مِنْ حَرَامٍ أَوْ حَلاَلِ*
*هَبِ الدُّنْيَا تُقَادُ إِلَيْكَ عَفْواً * أَلَيْسَ مَصِيرُ ذَلِكَ للزَّوَالِ"
وخَاطَبَ سَوَارُ بْنُ المضَرَّب قلْبَهُ الذي هو منه، فناداه كما يُنادي البعيد، ليشير بذلك إلى غفلَتِه فكأنَّه بعيد، فقال:
*يَا أَيُّهَا الْقَلْبُ هَلْ تَنْهَاكَ مَوْعِظَةٌ؟ * أَوْ يُحْدِثَنْ لَكَ طُولُ الدَّهْرِ نسياناً*
* وكتب والِدٌ لوَلَدِه البعيد عنه في سفر رسالةً قال له فيها ناصحاً:
*أَحُسَيْنُ إِنّي واعظٌ وَمُؤَدِّبٌ * فافْهَم فَإِنَّ الْعَاقِلَ الْمُتَأَدِّبُ*
فاستعملَ أداة النداء " أ " الّتي هي للقريب على خلاف الأصل، ليشير بذلك إلى أنّه حاضر في ذهْنِهِ لا يغيب عن باله.
* ونزَّل المتنبّي سيفَ الدولة منزلة البعيد مُشِيراً إلى ارتفاع منزلَته مع الإِشارة إلى أنّه ابتعد عن معاملته بالعدل فناداه بحرف النداء "يا" في مخاطبته، فقال له مُعَاتِباً:
*يَا أَعْدَلَ الناسِ إلاَّ في مُعَامَلَتي * فيكَ الخِصَامُ وَأَنْتَ الْخَصْمُ والْحَكَمُ*
*أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صَادِقَةً * أَنْ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ وَرَمُ*
***
أمثلة من خروج النداء عن معناه الأصلي إلى معاني أخرى
الّذي أراه أنّ النداء بمعنى رفع الصوت بحرف " أ " أو "يا" أو "وا" أو نحوها، عند تحرّك النفس بأيّ شعورٍ داخليٍّ هو من مظاهر الفطرة التلقائيّة الموجودة لدى الأطفال عند مطالبهم وأوجاعهم وأحزانهم وفرحهم وسرورهم وتعجُّبهم وغير ذلك من مشاعر على اختلاف هذه المشاعر على اختلاف هذه المشاعر التي تتحرّك في نفوسهم، وعلى تناقضها، فهم بالدافع الفطريّ يريدون التعبير عنها بأصواتهم، وقد يُسْتَدَلُّ على اختلاف المعاني باختلاف نغمات الأصوات، وما يقترن بها من بكاء أو ضحك أو مظاهر دهشة، أو تلَهُّفٍ لمطلوبٍ يريدونه، أو نزعاجٍ من أمرٍ يكرهونه، أو حركةٍ تدلُّ على أَلَمٍ يعانون منه.
وبقي لهذا المظهر من مظاهر التعبيرات الفطريّة التلقائيّة أثَرٌ في اللّغة، وبدأ المفكّر المعبّر بالكلمة يتصرّف باستخدام أدوات النداء في غير طلب الإِجابة لأمْرٍ ما، كحالِ الطفْلِ، إلاَّ أَنَّهُ خَصَّصَ بعض الأدوات لبعض المعاني، وجعلَ القرائن القولية والحالية تدلُّ على مشاعره النفسيَّةِ التي يريد التعبير عنها.
الجملة الإنشائية وأقسامها
وفيه ما يلي:
(1) مقدمة.
(2) ومقولتان.
المقولة الأولى: شرح الإِنشاء غير الطلبي، وهو خمسة أنواع:
النوع الأول: أمر التكوين.
النوع الثاني: إنشاء العقود وحلّها.
النوع الثالث: إنشاء المدح و الذمّ.
النوع الرابع: إنشاء القسم.
النوع الخامس: إنشاء التوجع أو التفجْع ونحوهما.
المقولة الثانية: شرح الإِنشاء الطلبي، وفيه ستة أنواع:
النوع الأول: الأمر والنهي.
النوع الثاني: التحذير والإِغراء.
النوع الثالث: النداء.
النوع الرابع: التمني والترجي.
النوع الخامس: الدعاء.
النوع السادس: الاستفهام.
***
المقَدّمَة
لدى تقسيم الجملة إلىخبريّة وإنشائية عرفنا أنّ الإِنشاء هو ما لا ينطبق عليه تعريف الخبر، ولدى تحليل حقيقته أقول:
هو الكلام الذي يتوقف تحقُّقُ مدلوله على النطق به، كالأمر والنهي والدعاء والاستفهام، وإنشاء العقود، وإنشاء المدح والذمّ، وأمر التكوين، والْقَسَم، ونحو ذلك.
وأضيف هنا أنّ الإِنشاء في اللّغة هو الإِبداع والابتداء، وكلُّ من ابتدأ شيئاً فقد أنشأه.
والإِنشاء في الجملة الإِنشائية ينقسم إلى قسميّن:
القسم الأول: الإِنشاء غير الطلبي.
القسم الثاني: الإِنشاء الطلبي.
---
المقولة الأولى
شرح الإِنشاء غير الطّلبي
تعريفه:
الإِنشاء غير الطلبي: هو ما لا يستدعي مطلوباً، إلاَّ أنّه يُنْشِىءُ أمراً مرغوباً في إنشائه، وله أنواع وصيَغٌ تَدُلُّ عليه، ومنها الأنواع التالية:
النوع الأول: وهو أعلاها، وهو ما يمكن أن نُسَمّيَهُ "أمْرَ التكوين" وجملَة أمْرِ التكوين هي لفظ "كُنْ" كما قال الله عزَّ وجلَّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول):
{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82)}.
***
النوع الثاني: إنشاءُ العقود، وحلُّ المعقود منها، مثل عقود البيع، وعقود الزواج، وأوامر ضَرْبِ الرّق، وقرارات تعيين الموظفين، وقرارات الإِقالة من الوظائف ممّن يملك ذلك، وكعبارات الطلاق والعتق، ومبايعة رئيس الدولة، وخلع البيعة عنه، ونحو ذلك.
وتأتي صِيَغُ العقود وصِيَغُ حلّها بعباراتٍ مختلفات من الجمل الفعليّة والاسميّة، وما يقوم مقامها اختصاراً، مثل:
(1) إنشاء عقود البيع والشراء بما يدلُّ عليها اصطلاحاً من عبارات: "كبِعْتُكَ، اشْتَريتُ منك - أبيعك، أشتري منك - بِعْني، بْعتُك - اشْتَرِ مِنْي، اشْتَرَيتُ منك" ونحوها
(2) إنشاء عقود الزواج بما يدلُّ عليها اصطلاحاً من عبارات: "كزَوّجتُك بنتي، قبلت زواجها - أُزَوَجُك ابنتي، تَزَوَّجتها - زَوّجْنِي ابْنَتَك، زوّجْتُكَهَا" ونحوها.
(3) إنشاء عقد مبايعة أمير المؤمنين بما يدلُّ عليها من عبارات: "أبايعك على السّمع والطاعة - بايعتُكَ على السّمع والطاعه" ونحوها.
إلى غير ذلك من عباراتٍ تتضمَّن في عرف الناس إنشاء العقود، وهي جُمَلٌ، أو مختصراتٌ تتضَمَّنُ معنَى جُمَلٍ إنْشَائِيّة.
(4) إنشاءُ الدخول في الإِسلام بإعلان الشهادتين، فهو عَقْدٌ مع اللهِ بالإِسْلاَم له، مع عقد النيّة على هذا الدخول.
(5) إنشاء الدخول في نحو عبادة الصلاة، أو عبادة الحج والعمرة، فالدخول في الصلاة يكون بعقد النيّة مع تكبيرة الإِحرام، إذْ تكبيرة الإِحرام تنوب مناب: عقدت الدخول في الصلاة وأنشأته، مع استحضار النيّة في النفس.
والدخول في عبادة الحج أو العمرة يكون بعد النيّة مع التلبية، إذ عبارة "لبَّيْكَ اللَّهُمَ لبَّيْكَ" تنوبُ مناب: عقدتُ الدخول في الحج أو العمرة وأنشأْته، مع استحضار النيّة في النفس.
(6) حلُّ العقود بعبارات تدلُّ عليه، مثل:
"فَسَخْتُ البيع - خَلَعْتُ الْبَيْعَةَ - قول الرجل لزوجته: طلَّقْتُكِ أو أنتِ طالق، أو نحو ذلك - قول مالك الرقيق لمملوكة: أعتقتك، أو أَنْتَ عَتِيقٌ، أو قوله له: كاتَبْتُكَ على كذا" ونحو ذلك.
النوع الثالث: إنْشاء المدح أو الذّم، ويأتي في أفعالٍ وصِيغ:
* فيأتي المدح بفعل: "نِعْم" مثل: "نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّه أوّاب - ولَنِعْمَ دار المتَّقين - فَنِعِمَّا هِي".
* ويأتي الذَّمُّ بفعل: "بئْسَ" مثل: "بِئْسَ الشَّرَابُ - فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبِّرِينَ".
ويُحَوَّلُ الفعل الماضي الثلاثي عن وزْنِه فَيُصَاغُ على وَزْنِ "فَعُلَ، لازماً بضمّ العين، ويُسْتَعْمَلُ عندئذٍ قريباً من استعمال "نعم وبئس" للدلالة على المدح أو الذم، مثل: "وَحَسُنَ أولئِكَ رَفيقاً - حَسُنَتْ مُسْتقرّاً وَمُقاماً - إنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً ومُقَاماً - وسَاءَتْ مَصِيراً - وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً - مُحْمُّدٌ عَظُمَ رَسُولاً، وكَرُمَ أصْلاً، وجَمُلَ خُلُقاً، وجَادَ عطاءً، وفَاقَ بَيَاناً".
أفْعَالُ "ساءَ وجَادَ وفاقَ" في هذه الأمثلة هي على تقدير تحويلها إلى وزنِ "فَعُل" وإن شابَهَ لفظُها الذي حُوِّلَتْ إلَيْهِ لَفْظَهَا الذي حُوِّلَتْ مِنْهُ، لأنّ لَفْظَها الّذِي حُوِّلَتْ إليهِ هو "سَوُءَ - جَوُدَ - وفَوْق" ولكن تحرَّكتِ الواو وانْفَتَحَ ما قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ ألفاً، فعادت إلى مثل ما حُوّلَتْ عَنْهُ في اللفظ.
ونُلاحِظُ أنْ عبارات إنشاء المدح والذمّ من بدائع الصِّيَغ والتركيباتِ في اللِّسَان العربي.
ويُمْكِن أن نُلْحِقَ الشتائم بإنْشاءِ الذّم.
-النوع الرابع: إِنْشَاءُ الْقَسَم، ولَهُ صِيَغٌ كثيرَة، منها: "أُقْسِمُ بالله لَفَعَلْتُ أَوْ لأَفْعَلَنَّ - أَحْلِفُ بالله لأَفْعَلُ أو لَتَفْعَلَنَّ - أَشْهَدُ لأَفْعَلَنَّ - أُشْهِدُ اللهَ لأَفْعَلَنَّ - عَلِمَ اللهُ أو يَعْلَمُ اللهُ لأفْعَلَنّ".
ويختصر العرب عباراتِ الْقَسَم فَيَحْذِفون منها فعل الْقَسَمِ، ويشيرون إليه بأداةٍ كحرف الْقَسَم، مثل: واللهِ - باللهِ - تَاللهِ" أو بحركة إعرابٍ مثل: "اللهِ لأفْعَلَنَّ" على تقدير وجود حرف القسم الجارّ، أو "اللهَ لأفْعَلَنَّ" أي: أَحْلِفُ اللهَ بالنصب، والنصب جاء على طريقة الحذف والإِيصال، وهو حذف الجار ونصْبُ المجرور به على أنّه مفعولٌ به.
والغرضُ من إنشاء الْقَسَمِ تأكيد الجملة الخبريَّة كما سَبَقَ بيانه في مؤكداتِ الخبر.
النوع الخامس: إنشاء التوجّعِ أو التَّفَجُّعِ، أو التَّرَحُّمِ، أو التَّثْرِيب، أَوْ تَقْبيحِ الحال.
وتَدُلُّ على هذه المعاني عبارات هي في الحقيقة اختصارٌ لجمل أو رَمْزٌ لها من جهة المعنى.
* ففي التوجّع نلاحظ عبارات مثل: "يا عُمراه - واعُمَراهُ - وامُحمّداهُ - واحُزْنَاه - وافَجِيعَتاه".
ومثل: "آه - أَوّه".
* وفي الترحم أو التخوّف من وقوع مكروه، مثل "ويْحَهُ - وَيْسَه".
* وفي التقبيح والتثريب، مثل: "وَيْلَه - وَيْبَه" قالوا: وهما كلمتا عذاب، أي هما كلمتان لإِنْشَاءِ التقبيح والتثريب بسبب استحقاق العذاب.
***
المقولة الثانية
شرح الإِنشاء الطّلبي
تعريفه:
الإِنشاء الطلبي: هو ما يستدعي مطلوباً غير حاصل في اعتقاد المتكلّم وقت الطلب، ويكون الإِنشاء بأنواع من الكلام: "الأمر والنهي - التحذير والإِغراء - النداء - التمنّي والترجّي - الدعاء - الاستفهام".
***
(1) النوع الأول: الأمر والنهي
تعريف الأمر: هو طلَبُ تحقيق شيْءٍ ما، مادّيٍّ أو معنويّ، وتدُلُّ عليه صِيَغٌ كلاميّة أربع، هي:
"فعل الأمر - المضارع الذي دخلت عليه لام الأمر - اسم فعل الأمر - المصدر النائب عن فعل الأمر".
تعريف النهي: هو طلَبُ الكفّ عن شيءٍ ما، مادّيٍّ أو معنويٍّ، وتدلُّ عليه صيغةٌ كلامية واحدة هي: "الفعل المضارع الذي دخلت عليه (لاَ) الناهية".
أمثلة من الأمر:
(1) من صيغة "فعل الأمر":
* {قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً...} [الآية 158] (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):
* {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول).
* وقول أبي الطيّب المتنبّي:
*عِشْ عَزِيزاً أَوْ مُتْ وَأَنْتَ كَرِيمٌ * بَيْنَ طَعْنٍ الْقَنَا وَخَفْقِ الْبُنُودِ*
* وقَوْلُ الشاعر:
*إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَة اللَّيالي * وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ*
(2) مِنْ صيغة "المضارع الذي دخلَتْ عليه لاَمُ الأَمْر".
* {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} (آل عمران/ 3 مصحف / 89 نزول).
* وقول البحتري:
*فَمَنْ شَاءَ فَلْيَبْخَلْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَجُدْ * كَفَانِي نَدَاكُمْ عَنْ جَمِيعِ الْمَطَالِبِ*
* وقول المتنبي في مدح سيف الدولة:
*كَذَا فَلْيَسْرِ مَنْ طَلَبَ الأَعَادِي * وَمِثْلَ سَرَاكَ فَلْيَكُنِ الطِّلاَبُ*
* وقول الشاعر:
*لِيَكُنْ بِرَبّكَ كُلُّ عِزِّك يَسْتَقِرُّ ويَثْبتُ * فَإذَا اعْتَزَزْتَ بِمَنْ يَمُوتُ فَإِنَّ عِزَّكَ مَيِّتُ*
(3) مِنْ صِيغَةِ :اسم فِعْلِ الأَمْرِ":
* {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)} (الطارق/ 86 مصحف/ 36 نزول).
رَوَيدا: اسم فعل بمعنى "أَمْهلْ".
* {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ (19)} (الحاقة/ 69 مصحف/ 78 نزول).
ها: اسم مفعل أمر بمعنى "خذ".
* وقول المعرّي:
*أَبَنَاتِ الْهَدِيلِ أَسْعِدْنَ أَوْعِدْ * نَ قَلِيلَ الْعَزَاءِ بالإِسْعَادِ*
*أيهِ للهِ دَرُّكُنَّ فَأَنْتُنَّ * اللَّوَاتِي تُحْسِنَّ حِفْظَ الْوِدَادِ*
إِيهِ: اسْمُ فعل أمر، معناه طلب الزيادة.
الْهَدِيل: صوتُ الحمام - أو ذكر الحمام الوحشي.
فالمعري يطالِبُ بناتِ الهديل، وهي أنغام صوت الحمام، بأن تُسْعِدَه بما لديها من ترجيعٍ وترديدِ ألحان، وبأن تزيده من غنائها.
(4) من صيغة "المصدر النائب عن فعل الأمر".
* {فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} (الملك/ 67 مصحف/ 77 نزول).
فَسُحْقاً: أي فَبُعْداً شديداً، وهو مصْدَر "سَحُقَ" بمعنى: بَعُدَ أَشَدَّ الْبُعْد، وقد ناب عنْ فعل الأمر، والمعنى: "اسْحُقُوا" أي: ابْتَعِدوا ابتعاداً شديداً".
* قول قَطَرِيّ بن الْفُجَاءَة:
* فَصَبْراً فِي مَجَالِ الْمَوْتِ صَبْراً * فَمَا نَيْلُ الْخُلُودِ بَمُسْتَطَاعِ*
فَصَبْراً: أي: فاصْبِرْ.
أَمْثِلةٌ مِنَ النهي:
* {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً...} [الآية 118] (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول).
بِطَانَةً: أي: أصْحاباً يُخالطونكم ويطلعون على أسراركم وبواطن أموركم.
لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً: أي: لا يُقَصِّرُونَ في إفساد شؤونكم وخططكم وأفكاركم وأعمالكم.
* {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً...} [الآية 5] (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول).
* وقول المعرّي:
*وَلاَ تَجْلِسْ إِلَى أَهْلِ الدَّنَايَا * فَإِنَّ خَلاَئِقَ السُّفَهَاءِ تُعْدِي*
* وقول المتنبي في مدح سيفِ الدولة:
*فَلاَ تُبْلِغَاهُ مَا أَقُولُ فَإِنَّهُ * شُجَاعٌ مَتَى يُذْكَرْ لَهُ الطَّعْنُ يَشْتَقِ*
* وقول أبي الأسود الدُّؤَلِي:
*لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ * عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ*
دلالات صِيَغِ الأمْرِ والنهي:
(1) يُسْتَفادُ مِنْ صِيَغِ الأَمر التكليفُ الإِلْزامِيُّ بالفعل.
(2) ويستفادُ منْ صيغة النهي التكليف الإِلزاميُّ بالترك وعدم الفعل.
وكلُّ من صِيَغِ الأمْرِ وصيغةِ النهي قد تخرج عن دلالَتَيْهِما بقرائنِ حاليّة أو قوليّة إلى معانٍ كثيرة، منها ما يلي:
"الدعاء - الالتماس - الإِرشاد - التمنّي - الترجّي - التيئيس - التخيير - التسوية - التعجيز - التهكّم والإِهانة - الإِباحة - التوبيخ والتأنيب والتقريع - الندب - التهديد - الامتنان - الاحتقار والتقليل من أمر الشيء - الإِنذار - الإِكرام - التكوين - التكذيب - المشورة - الاعتبار - التعجّب أو التعجيب" إلى غير ذلك من معان.
أمثلة:
(1) من الدعاء ويكون عادةً من العبد لربّه:
* {...فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ...} (الأعراف/ 7 مصحف / 39 نزول).
* {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول).
(2) ومن الالتماس، ويكونُ عادةً من الإِنسان لمن هو أعلى منه، أو لمساويه:
* قول هارون لموسى عليهما السلام: {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)} (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول).
* وكقول الصِّدِيقِ لصَدِيقه: أعِرْنِي كتابَكَ وَلاَ تُحْرِجْنِي أَنْ أُعِيدَهُ قَبْلَ أُسْبُوعٍ.
* وقول الشاعر:
*لاَ تَطْوِيَا السِّرَّ عَنِّي يَوْمَ نَائِبَةٍ * فَإنَّ ذَلِكَ ذَنْبٌ غَيْرُ مُغْتَفَرِ*
(3) ومن الإِرشاد، ويكونُ عادةً في مجال النُّصْحِ وإِبْدَاءِ المشورة:
* {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ...} [الآية 282] (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول).
* وقَوْلُ المستَشار في نَصيحَتِه: تَزَوّجْ بِكْراً وَلاَ تَتَزَوَّجْ مَنْ تَعَدَّدَ عَلَيْهَا الأزواج.
* وقول المعرّي:
*لاَ تَحْلِفَنَّ عَلَى صِدْقٍ وَلاَ كَذِبٍ * فَلا يُفِيدُك إِلاَّ الْمَأْثَمَ الْحَلِفُ*
(4) ومن التَّمنِي، ويكون عادة في الميئوس من الحصول عليه، أو فيما هو بعيد المنال:
* تمنِّي أهل النّار أنْ يُقْضَى عَلَيْهِمْ بالْمَوِتِ وَهُمْ يائسونَ مِنْ ذلك:
{وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ (77)} (الزخرف/ 43 مصحف/ 63 نزول).
* وطَلَبُهُم من أصحاب الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء او مما رزقهم الله.
{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ...} [الآية 50] (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول).
* وقولي واضعاً مثلاً:
*أَمْطِرِي يَا سَمَاءُ كُلَّ صَبَاحٍ * فَوْقَ بَيْتِي مِنَ الدنانِيرِ ألْفاً*
*لاَ تَكُفِّني مِنْ فَيْضِ جُودِكِ عَنِّي * عَادَتِي لاَ أَسُوءُ بِالْقَبْضِ كَفّاً*
(5) ومن الترجّي، ويكونُ في المطموع فيه، والمترقّب الحصول عليه:
* قول امرىء القيس:
*أَلاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلاَ انْجَلِي * بصُبْحٍ وما الإِصْبَاحُ مِنْكَ بَأَمْثَلِ*
فالصبْحُ مَرْجُوٌّ قُدُومُه بعد اللَّيل الطويل.
(6) ومن التيئيس:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) بشأن المنافقين:
{لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ...} [الآية 66].
(7) وَمِنَ التَّخيير:
* قولُنَا للطالب في الامتحان: أجبْ على أَحَدِ السؤالَيْن التاليين:
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الملك/ 67 مصحف/ 77 نزول):
{وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)}.
* وقول المتنبي:
*عِشْ عَزِيزاً أَوْ مُتْ وَأَنْتَ كَرِيمٌ * بَيْنَ طَعْنِ الْقَنَا وَخَفْقِ الْبُنُودِ*
القنا: الرماح. البنود: الأعلام.
(8) ومن التسوية:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الطور/ 52 مصحف/ 67 نزول) حكاية لما يُقال لأهل النار يوم الدين:
هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَاذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (16)}.
* وقول الشاعر:
*أَسِيئِي بنَا أَوْ أحْسِنِي لاَ مَلُومَةٌ * لَدَيْنَا وَلاَ مَقْلِيَّةٌ إِنْ تَقَلَّتِ*
تَقَلَّتْ: تَبَغَّضَتْ - أو تَمَلْمَلَتْ.
(9) ومن التّعجيز:
* قولُ الله عزَّ وجلَّ في صورة (الرحمن/ 55 مصحف/ 97 نزول):
{يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ (33)}.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول): {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}.
* وقول اللهِ عزَّ وجلَّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول):
{أَاله مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (64)}.
(10) ومِنَ التهكّم والإِهانة:
* ما يقال للمعذَّب في النار يوم الدّين، كما جاء في سورة (الدخان/ 44 مصحف/ 64 نزول):
{خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)}.
ففي الأمر بفعل [ذُقْ] تهكُّم به.
* وما يُقال جواباً لِمَنْ قَضِي عليهم بالخلود في النار حين يقولون:
رَبَّنَا أَخْرجْنَا مِنْها فإنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالِمُونَ، كماجاء في سورة (المؤمنون/ 23 مصحف/ 74 نزول):
{قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ (108)}.
(11) ومن الإِباحة:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول)
{ياأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً...} [الآية 168].
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول):
{...وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ...} [الآية 2].
(12) ومن التوبيخ والتأنيب والتقريع:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) خطاباً لأهل الكتاب:
{وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)}.
(13) ومن الندب ويقابله في النهي الكراهَة:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):
{وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}.
دل على أنّ الأمر للنّدب قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ففي هذا ترغيب لا ترهيب.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول):
{وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37)}.
(14) وَمِنَ التهديد:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (فُصّلت/ 41 مصحف/ 61 نزول):
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)}.
أي: فَسَتَلْقَونَ عِقابَ أعمالكم في النار.
(15) ومن الامتنان:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):
{*وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)}.
ففي الأمر بعبارة (كلوا) امتنان من الله على عباده.
(16) ومن الاحتقار والتقليل من أمر الشيء:
* قول مُوسَى عليه السلام للسَّحَرةِ: {أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} كما جاءَ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول):
{فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ (80)}.
لقد احتقر موسى عليه السلام وسائلهم واستهان بسحرهم، فقال لهم: ألْقُوا. أي: قبلي:
(17) ومن الإِنذار:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول):
{...قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)}.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المرسلات/ 77 مصحف/ 33 نزول):
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ (46)}.
(18) ومن الإِكرام والتكريم:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحجر/ 15 مصحف/ 54 نزول):
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ (46)}.
(19) ومن التكوين:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول):
{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82)}.
(كُنْ): من الله أمْرُ تكوين.
(20) ومن التكذيب:
* قولُ الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):
{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَاذَا...} [الآية 150].
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول):
{*كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93)}.
(21) ومن المشورة:
* قول سيدنا إبراهيم لولده إسماعيل عليهما السلام كمَا حكَى اللهُ في سورة الصافات/ 37 مصحف/ 56 نزول):
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)}.
فقول إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام: {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} قول طالب مشورة في أمْرِ الرؤيا.
(22) ومن الاعتبار:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):
{...انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ ذالِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)}.
(23) ومن التعجب والتعجيب:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) خطاباً لرسوله:
{انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)}.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (مريم/ 19 مصحف/ 44 نزول):
{...فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَاكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (38)}.
ذَكَرهُ السَّكَاكِيُّ في استعمال الإِنشاءِ بمعنى الخبر، والمعنَى: ما أشدّ سمعهم وبصرهم يومئذٍ.
إلى غير ذلك من معانٍ أخرى، وعلى متدبرّ النصوص القرآنيّة، ودارِسِ النصوص الأخرى أن يكون باحثاً درّاكاً للمراد من صِيَغِ الأَمْرِ والنهي، مستفيداً مِنْ قرائِن الأحوال وسِبَاقِ الكلامِ وسيَاقِه.
***
(2) النوع الثاني: التَّحْذِير والإِغراء
التحذير والإِغراء هما في المعنى من فروع الأمر والنهي، وينطبق عليهما ما ينطبق عليهما.
* فعبارات التحذير هي في معنى: احذر - أو تجنّبْ - أو تَوَقَّ - أو تَبَاعَدْ - أو لا تَقْرَبْ - أو لاَ تَدْنُ".
أو نحو ذلك ممّا يُلائم حال الْمُحَذَّرِ منه.
وعبارات الإِغراء هي في معنى: (افْعَلْ - أَو الْزَم - أو اطْلُبْ - أو أَقْبِلَ - أو تَقَدَّم - أَوْ خُذْ -" أو نحو ذلك مما يُلائم حال الْمُغْرَى به.
أمثلة:
(1) من التحذير:
قول الشاعر:
*وَإِيّاكَ والْمَيْتَاتِ لاَ تَقْرَبَنَّهَا * وَلاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللهَ فَاعْبُدا*
وقولي صانعاً مثلاً:
*إِيَّاكَ والصَّبْوَةَ إِنْ أقْبَلَتْ * مُنْذِرةُ الشَّيْبِ تَهَادَى إِلَيْك*
*زَلَّتُكَ الْيَوْمُ وَأنْتَ الَّذِي * قَدْ شِبْتَ تُرْدِيكَ وَتَقْضِي عَلَيْكَ*
* وقول الشاعر:
*فَلاَ تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ * واِيَّاكَ وَإيَّاهُ*
(2) ومن الإِغراء:
* قول الشاعر:
*أَخَاك أَخَاكَ إِنَّ مَنْ لاَ أخَا لَهُ * كَسَاعٍ إِلَى الْهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاَحِ*
* وقول الداعي إلى الصلاة: الصَّلاَةَ جَامعة.
***
(3) النوع الثالث: النداء
تعريف النداء: هو طلَبُ الإِجابة لأمْرٍ ما بحرف من حروف النداء يَنُوبُ مَنابَ "أدعو".
وأدوات النداء ثمان: "أَ - أَيْ - يَا - آ - آي - أَيَا - هَيَا - وَا".
* أمَّا "أَ - أَيْ" فلنِدَاء القريب.
* وأمّا "أَيَا - هَيَا - آ" فلنداء البعيد.
* وأمّا "يا" فالراجع أنّها موضوعةٌ لنداء البعيد حقِيقةً أو حكماً، وقيل مشتركة.
* وتُسْتَعَمل "وَا" للنّدْبة، وهيَ الَّتي يُنَادَى بها المندوبُ الْمُتَفجَّعُ عليه، وتُسْتَعْمَلُ في النُّدْبة أيضاً "يَا" عند أَمْنِ الالتباسِ بالنداء الحقيقي.
تصرُّف البليغ في استعمال أدوات النداء:
(1) قد يستعملُ البليغ أدوات النداء الّتي للقريب فينادي بها البعيد،م لمعنًى يُريدُ الإِشارة إليه، كأن يُريدَ الإِشارَة إِلَى أنَّ هذا البعيد في جَسَده هو قريب إلى قبله ونفسه حاضر في تصوّره المستمر، وكأن يريد الإِشارة إلى أنّه لشدّة سمعه وانتباهه وسرعة استجابته، كأنّه قريب، فهو لا يحتاج أن ينادى بأدوات نداءِ البعيد.
(2) وقد يَسْتَعْمِلُ البليغ أدوات النداء الَّتي للبعيد فينادي بها القريب، لمعنى يُريدُ الإِشارة إليه، كأنْ يُريدَ أنّه رفيع المنزلة عالي المقام، فهو لارتفاع منزلته وبعد مقامه بمثابة البعيد إلى الأعلى في جسده، فاللاّئق به أنْ يُنَادَى بأدوات النداء التي للبعيد. وكأَنْ يريد أنَّه مُنْحَطُّ المنزلة جداً، فهو لانحطاط منزلته بمثابة البعيد إلى الأسفل في جسده، فاللاّئق به أن يُنَادى بأدَواتِ النّداءِ الّتي للبعيد. وكأن يُرِيدَ التعبيرَ عن حَالةِ تَلَهُّفِهِ وشدّةِ طلَبِه، فهو بمثابة المستغيث الذي يمدُّ صوته في النداء، فيستعمل أدوات النداء التي للبعيد لما فيها من مدِّ الصّوْت وَطُول النفس معه. فيستعمل أدوات النداء التي للبعيد لما فيها من مدِّ الصّوْت وَطُول النفس معه. وكأن يريد أنّ المنادَى غافل شارد الذهن أو غير مستعدٍّ للاستجابة فهو بمثابة البعيد.
(3) وقد يخرج النداء عن المعنى الأصليّ الموضوع له، فيُسْتَعْمَلُ لدى البلغاء وغيرهم في أغراضٍ أخْرى غير النداء، وهذه الأغراضُ تُفْهَمُ من قرائن الحال أو قرائن المقال، فكلُّ حَرَكَةٍ نفسيَّةٍ ذات مشاعِرَ تَدْفَعُ الإِنسان إلى التعبير عنها بنداء ما بطريقةٍ تلقائية، ولو لم يشعر بأنّ هذا النداء يحقق له مرجوّاً أو مؤمولاً أو يدفع عنه مكروها.
كأن يستعمل النداء في الزّجْر واللّوم، أو التحسّر والتأسّف والتَفجع والندم أو النُّدْبة، أو الإِغراء، أو الاستغاثة، أو اليأس وانقطاع الرجاء، أو التمني، أو التذكر وبث الأحزان، أو التضجر، أو الاختصاص، أو التعجب، إلى غير ذلك.
(4) وكثيراً ما تُحذَفُ أداة النداء ولا سيما في نداء الرّبّ ودُعائه، فتكون مقدَّرة ذِهناً، مثل: "رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمناً - رَبّ اغْفِر لي وَلأِخي - رَبّ زِدْنِي عِلماً - رَبِّ انْصُرنِي بمَا كذَّبُونِ".
والأداةُ التي تُقدَّرُ عند الحذف هي: "يا" فيما ذكر النحاة.
أقول: إنّ حذف أداة النداء لَهُ دلالةٌ في نفس البليغ، وهي أنّ المنَادى هو في أقرب منازل القرب من المنادِي،حتّى لَمْ يحتج إلى ذكر أداة نداءٍ لَهُ لشدّةِ قُربِهِ، وهذا يليق بمقام دُعاءِ الرّبّ جلّ وعلا، فإذا قال الداعي "يَارب" فهو يعبرّ بذكر أداة النداء عن شِدَّةِ حاجة نفسه لما يدعو به، أو يعبّر عن ألمه أو استغاثته أو ضيقِ صدره، أو نحو ذلك من المعاني.
لذلك وجدتُ في القرآن أنّ كلّ نداءٍ فيه دعاءٌ للربّ قد حُذِفَتْ منه أداة النداء، باستثناء نِدَاءَيْنِ نَادَاهُما الرسُول محمّد صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر فيهما أداةَ النداء "يا" تعبيراً عن حالة نفسه الحزينة من أجل قومه الذين اتّخَذوا القرْآن مهجوراً بعد أن بلّغهم ما أُنْزِل عليه منه، وأسْمَعَهُمْ آياتِهِ، وأعادَهَا عليهم مَرَاتٍ ليفهموا دلالاتها فأصرُّوا على كُفْرهم وعنَادهم حتَّى رأى أنَّهُمْ لا يُؤْمِنُون مَهْمَا ذكَّرَهُمْ وأقنعهم وحذَّرَهُمْ وأَنْذَرَهُمْ.
فالأول: ما جاء في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) بقول الله عزَّ وجلَّ فيها:
{وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)}.
فذكَر الرسول حرف النداء "يا" مع أنه يُنَادِي ربَّهُ الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد، ليعبّر بمدّ صوته بأداة النداء عن حزنه منْ أجل قومه، وتلَهُّفِهِ لاستجابتهم، وحِرْصِه على نجاتِهِمْ من عذاب ربّهم في جهنم دار عذاب الكافرين يوم الدين.
والثاني: ما جاء في سورة (الزخرف/ 43 مصحف/ 63 نزول):
{وَقِيلِهِ يارَبِّ إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ (88)}.
أي: تَصَلَّبُوا على العناد و الكفر، فَهُمْ لاَ يتحرَّكونَ حركة جديدةً يُشْعِرُون فيها باقترابهم من الإِيمان، فعبّر بأداة النداء عن تلهُّفِهِ لإِيمانهِم ونجاتهم، وتوجُّعِ قلبه من أجلهم.
فائدة: قال الزمخشري: "كثُر في القرآن النداء بـ[يا أيُّها] دون غيرها لأنّ فيها أوجهاً من التأكيد، وأسباباً من المبالغة، منها:
(1) ما في "يا" من التأكيد والتنبيه.
(2) ما في "ها" من التنبيه.
(3) وما في التدرّج من الإِبهام في "أي" إلى التوضيح.
والمقام يناسب المبالغة والتأكيد، لأنّ كلّ ما نادى الله له عباده من أوامره، ونواهيه، وعطائه، وزواجره، ووعده، ووعيده، ومن اقتصاص أخبار الأمم الماضية، وغير ذلك ممّا أنطق الله به كتابه، أمورٌ عظام، وخطوبٌ جسام، ومعانٍ واجبٌ عليهم أن يتيقظُوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها، وهُمْ غافلون، فاقتضى الحال أن يُنَادَوْا بالآكد الأبلغ".
***
أمثلة من استعمال أدوات النداء على وفق أو على خلاف مقتضى الأصل من القرب والبعد
* نادى نوح عليه السلام ولده الذي كان في معزل عنه مستخدِماً أداة النداء الّتي للبعيد، دلَّ على ذلك قول الله عزّ وجلّ في سورة (هود/11 مصحف/ 52 نزول):
{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يابُنَيَّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42)}.
فاستعمل أداة النداء الّتي تُسْتَعْمَلُ للبعيد وفْقَ مقتضى الأَصْلِ، إذْ كان بعيداً في معزلٍ عن أبيه.
* ونُلاَحِظُ أنَّ هارُونَ عليه السلام كانَ لَهُ مَوْقِفَانِ مَعَ أخِيهِ موسَى عليه السلام، تُجَاهَ مَا كَانَ مِنْ مُوسَى إذْ أَخَذَ برأسِهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ:
أمَّا في المرّةِ الأَولَى فَحَذَفَ مِنْ عبارَتِهِ أَداةَ النداء لإِشعارِه بأنَّه أكْثَرُ مِنْ قَريبٍ بالنسبة إليه، دلَّ عَلى هذه المرّة ما جاء في سُورَةِ (الأَعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول)
{قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)}.
فحذفَ أدامة النداء مُسْتَعطِفاً، لأنّه كان قريباً منه جَسَدِيّاً، وأشْعَرَهُ بزيادة القرب منه نفسيّاً، إذْ هو أبْنُ أُمِّهِ.
وأمَّا في المرّة ا لأُخْرَى حِينَ أَخَذَ مُوسَى عليه السلام برأسِ هارون ولحيته محاسباً، فقد ناداه بحرف النداء "يا" قائلاً لَهُ كما جاء في سورة (طَه/ 20 مصحف/ 45 نزول):
{قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)}.
أي: ولم تَرْقُبْ قَوْلي السّابقَ لَكَ: إنَّ الْقَومَ اسْتَضعَفُوني وكادُوا يَقْتُلُونَنِي "هذا فيما أرى والله أعلم".
فأنزل هارون أخاه موسى في هذا النداء الثاني منزلة البعيد، لأنّه لم يَرْقُبْ قولَهُ السّابِق لَهُ، أي: لم يضعه موضع المراقبة ليعمل بمقتضاه.
* ونلاحظ في خطاب الله لعباده في القرآن أنّه يُنزِّلُهُم مَنْزِلَة البعيدين عنه، فيناديهم بحرف النداء "يا" مع أنّه أقربُ إليهم من حبْلِ الوريد، مراعاةً لمقام الربوبيَّةِ الرفيع، في الأمر والنهي والتوجيه، إذْ هو سبحانه العليُّ الأعْلَى.
فجاء في النصوص القرآنية: يا عبادي - يا معشر الجنّ والإِنس - يا يَحْيَى - يا عِيسَى - يا داود - يا زكريا - يا أيُّها الناس - يا أيُّها النبيّ - يا أيُّها المزّمل - يا أيُّها المدَّثِّر".
* وأنزل أبو العتاهية مخاطَبَهُ الذي يعظه منزلة البعيد، فناداه بأداة النداء التي للبعيد "أيَا" ليشير إلى أنه غافِلٌ لاهٍ في دُنياه، فهو بمثابة البعيد الذي يحتاج إلى أداة النداء التي يُنَادى بها البعيد، فقال:
*أَيَا مَنْ عَاشَ فِي الدُّنيا طَوِيلاً * وَأَفْنَى الْعُمْرَ فِي قِيلٍ وَقَالِ*
*وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ فِيمَا سَيَفْنَى * وَجَمَّعَ مِنْ حَرَامٍ أَوْ حَلاَلِ*
*هَبِ الدُّنْيَا تُقَادُ إِلَيْكَ عَفْواً * أَلَيْسَ مَصِيرُ ذَلِكَ للزَّوَالِ"
وخَاطَبَ سَوَارُ بْنُ المضَرَّب قلْبَهُ الذي هو منه، فناداه كما يُنادي البعيد، ليشير بذلك إلى غفلَتِه فكأنَّه بعيد، فقال:
*يَا أَيُّهَا الْقَلْبُ هَلْ تَنْهَاكَ مَوْعِظَةٌ؟ * أَوْ يُحْدِثَنْ لَكَ طُولُ الدَّهْرِ نسياناً*
* وكتب والِدٌ لوَلَدِه البعيد عنه في سفر رسالةً قال له فيها ناصحاً:
*أَحُسَيْنُ إِنّي واعظٌ وَمُؤَدِّبٌ * فافْهَم فَإِنَّ الْعَاقِلَ الْمُتَأَدِّبُ*
فاستعملَ أداة النداء " أ " الّتي هي للقريب على خلاف الأصل، ليشير بذلك إلى أنّه حاضر في ذهْنِهِ لا يغيب عن باله.
* ونزَّل المتنبّي سيفَ الدولة منزلة البعيد مُشِيراً إلى ارتفاع منزلَته مع الإِشارة إلى أنّه ابتعد عن معاملته بالعدل فناداه بحرف النداء "يا" في مخاطبته، فقال له مُعَاتِباً:
*يَا أَعْدَلَ الناسِ إلاَّ في مُعَامَلَتي * فيكَ الخِصَامُ وَأَنْتَ الْخَصْمُ والْحَكَمُ*
*أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صَادِقَةً * أَنْ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ وَرَمُ*
***
أمثلة من خروج النداء عن معناه الأصلي إلى معاني أخرى
الّذي أراه أنّ النداء بمعنى رفع الصوت بحرف " أ " أو "يا" أو "وا" أو نحوها، عند تحرّك النفس بأيّ شعورٍ داخليٍّ هو من مظاهر الفطرة التلقائيّة الموجودة لدى الأطفال عند مطالبهم وأوجاعهم وأحزانهم وفرحهم وسرورهم وتعجُّبهم وغير ذلك من مشاعر على اختلاف هذه المشاعر على اختلاف هذه المشاعر التي تتحرّك في نفوسهم، وعلى تناقضها، فهم بالدافع الفطريّ يريدون التعبير عنها بأصواتهم، وقد يُسْتَدَلُّ على اختلاف المعاني باختلاف نغمات الأصوات، وما يقترن بها من بكاء أو ضحك أو مظاهر دهشة، أو تلَهُّفٍ لمطلوبٍ يريدونه، أو نزعاجٍ من أمرٍ يكرهونه، أو حركةٍ تدلُّ على أَلَمٍ يعانون منه.
وبقي لهذا المظهر من مظاهر التعبيرات الفطريّة التلقائيّة أثَرٌ في اللّغة، وبدأ المفكّر المعبّر بالكلمة يتصرّف باستخدام أدوات النداء في غير طلب الإِجابة لأمْرٍ ما، كحالِ الطفْلِ، إلاَّ أَنَّهُ خَصَّصَ بعض الأدوات لبعض المعاني، وجعلَ القرائن القولية والحالية تدلُّ على مشاعره النفسيَّةِ التي يريد التعبير عنها.