تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين 30

ابو عمر البلدي

:: عضو مُشارك ::
إنضم
15 أكتوبر 2015
المشاركات
323
نقاط التفاعل
385
النقاط
13
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على افضل الانبياء والمرسلين . وبعد يقول الامام العلامة الاصفهاني رحمه الله الإنسان لما كان على هيئة العالم أوجد فيه كلُّ ما أوجد في العالم، وكما أن في العالم أشياء لا يتأتى إصلاحها وحيوانات لا يمكن تأديبها كذلك في الإنسان قوى لا يتآتى إصلاحها وتهذيبها وكان له مع ذلك مثبطات عما أمر به وتقصير عما كُلف ولهذا قال الله تعالى: (قُتل الإنسان ما أكفره من أي شيءٍ خَلَقَه). إلى قوله: (كلا لم يقض ما أمره). فنبه على أن الإنسان لا يكاد يخرج من دنياه وقد قضى وطره، ولذلك يجب على الإنسان أن يجتهد في أداء ما أمكنه، ويطهر نفسه بقدر ما يتيسر له والرغبة إلى الله تعالى في تكفير ما قصر فيه ويتحقق أنه إذا فعل ما أمكنه فقد أعذر لقوله تعالى: (لا يكلف نفساً إلا وسعها). فإذا فعل ما أمكنه يكون قد ترشح أن يزيل الله عنه باقي السيئات كما قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحة عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم). وقال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريما). ولهذا أمرنا تعالى أن ندين الدعاء بقوله: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أَخْطَأْنَا ). وقال تعالى: (والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبإيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا). فأمرنا أن نرغب إليه في إتمام ما قصرنا عن اكتسابه وقوله: (والذي جاء بالصدق إلى قوله ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون). ولهذه الجملة قال جعفر الصادق رضي الله عنه: من زعم أنه يصل إلى الحق ببذل المجهود فهو متعنٍ ومن زعم أنه يصل إليه بغير بذل المجهود فهو متمنّ ولقصور الإنسان عن تزكية نفسه بالتمم قال ﷺ: " ما أحدٌ يدخل الجنة بعمله " قيل ولا أنت يا نبي الله قال: " ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمته " . وقال تعالى تنبيهاً على هذا المعنى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء). وبيان قصور الإنسان عن تزكية نفسه على التمام هو أن الإنسان حيوان ناطق متفكر والحيوان جوهر متنفس حساس، والمتنفس جوهر متغذ مترب لا قوام له إلا بالغذاء كما قال الله تعالى: (وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين) فالإنسان ما دام في الدنيا لا ينفك عن مشاركة البهائم والسباع لكونه حيواناً محتاجاً إلى ما تحتاج إليه وعن مشاركة الحيوان والنبات لكونه متنفساً محتاجاً الى ما تحتاج إليه. والإنسان إذا لم يقتحم العقبة ويفك الرقبة وما لم يتعر عن الحاجات الدنية لم يأمن شياطين الإنس والجن فكيف يأمن وقد قال الله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا). قال بعض المفسرين: إن إبراهيم لما سأل الله تعالى فقال: (ربي أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي). إنما سأله أن يريه الحياة المتعرية عن العوارض العارضة للحيوانات فقال: أو لم تؤمن أي أو لم تتحقق؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي أي ليتصور لي كيفية الطمأنينة أي تبري النفس من الشره والحرس والأمل والإفتخار وأعاين الحالة المذكورة في قوله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية فأدخلي في عبادي وأدخلي جنتي). فأمره أن يأخذ أربعة طيور. غراباً وهو المخصوص بالحرص والشره. ونسراً وهو المخصوص بالأمل وطاووساً وهو المخصوص بالإفتخار. وديكاً بالشبق، فأَمره أَن يقطّعهن ويصرهنَّ أي يدعوهن، ولما فعل ذلك صِرن إليه عاجلاً فنبه الله تعالى بذلك على أن الإنسان وإن اجتهد كلَّ الاجتهاد في حذف هذه المعاني عن نفسه وتطهير ذاته منها لن يتطهر ما دامت البشرية الدنيوية حاصلة له ولن تحصل له الطمأنينة المطلوبة. فأَما ما يدعيه قوم أن من الناس من قد تجرد عن هذه الخصائص حتى يستغني عن الطعام والشراب ويصير بحيث لا تعتريه الأخلاق البهيمية فهذا إن حصل في بعض الناس فإن ذلك يكون ملكاً متشبهاً يسمى بإسم الإنسان على سبيل الإشتراك في الإسم، فيكون متبدل الجوهر تبدل جوهر النار إذا صارت برداً وسلاماً، وتبدل الدُعموص إذا صار ضفدعاً، والدود إذا صار فراشاً، وكثيراً من النبات إذا صار جوهراً آخر، وحيواناً كدودة القز وليس ذلك بمنكر في القدرة الإلهية وهو حينئذ خارج عن الاستصلاح للأفعال التي خلق الإنسان لأجلها مستخلفاً في الأرض مستعمراً فيها.
فصل
اعلم من هاجر إلى الله وجاهد في سبيله فحقيق أن يهديه إلى سبيله كما وعد في قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهديّنهم سبلنا). وقال: (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا... إلى قوله: أولئك هم المؤمنون حقاً). والهجرة العظمى هجران فضول الشهوات والمجاهدة الكبرى مدافعة الهوى كما قال النبي ﷺ: " جهادك في هواك " . فمن هدي إلى سبيله وأمعن في مسيره مسارعاً في الخيرات ومسابقاً إلى مغفرة ربه فحقيق أن يصير من الإبدال، ومعنى الإبدال هم الذين يبّدلون من أخلاقهم وأفعالهم الذميمة أخلاقاً وأفعالاً حميدة، فيجعلون بدل الجهل العلم وبدل الشح الجود وبدل الشره العفة وبدل الظلم العدالة وبدل الطيش التؤَدة وعلى ذلك دل قوله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق إلى قوله: يبدّل الله سيئاتهم حسنات). والإنسان إذا صار من الإبدال فقد ارتقى إلى درجة الأحباب الذين عناهم الله تعالى بقوله: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونهم). فجعله مهيباً في البشر، معظم القدر عند كل واحد، بل قد يبلغ مبلغاً تخضع له البهائم والسباع والوحوش والحشرات كخضوعها لسليمان بن داود عليهما السشلام، ويصير الحديد له ليِّناً كما لان لنبيه داود عليه السلام، وتصير النار له إذا خاضها برداً وسلاماً كما صارت على إبراهيم عليه السلام وتنقاد له الريح فيركبها كركوب سليمان، وتسخر له المياه فيمشي عليها كتسخيرها للخضر عليه السلام، ويكلمه النبات والمعادن والأفلاك والنجوم فتفقه على منافعها وتخبره بسرائرها كمكالمتها لإدريس عليه السلام. روي أنه إذا أحب الله عبداً ألبسه صورة من صورته، ونفخ فيه روحاً من روحه، حتى ينقاد له كل حجر ومدر، ويتواضع له كل طائر وسبع، بل قد يخصه بكرامات لا يمكن أن يطلع على معرفتها غيرُ من خُصَّ بها كما قال النبي ﷺ عن ربه: " أعددتُ لعبادي الصلحين ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر " وقال تعالى إشارة لها هذا المعنى. (فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين) وهذه الأحوال كما تكون للأنبيء فقد تكون للأولياء المخصوصين بالكرامة وليس ذلك بمستبدع ولا منكر في قدرة الله تعالى ولا بمناف في حكمته كما ظن بعض المتكلمين أن ذلك إذا أظهره لا يُؤمَنُ أن يُفتن به الناسُ وإنه يؤدي إلى اشتباه أمر لمعجزة على الكافة، فإن أحكم الحاكمين لا يؤتى هذه المكرمة إلا من هو أهلها كما نبه عليه سبحانه بقوله: (ألله أعلم حيث يجعل رسالته) ومن بلغه هذه المنزلة فقد آتاه لا شك من العلم والحكمة قدر ما يهديه ويؤدبه، وعرف ما يمسكه فيستقيم كما أمر فيه فيعرف قدره ولا يتعدى طوره.
والى غد ان شاء الله والباب الواحد والثلاثون
في إثبات المعاد وفضيلة الموت وما يحصل بعده من السعادة
 
رد: تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين 30

بارك الله فيك على الموضوع القيم
جعله في ميزان حسناتك
 
رد: تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين 30

يعطيك العآفيــه
رآئع آنتقآئك
سلمت وبآنتظآر القآدم
 
رد: تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين 30

السلام عليكم
شكراااا اخي على الطرح الممتاز
بارك الله فيك
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top