بسم الله الرحمن الرحيم
و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
النصيحة لولاة الأمور كيفيتها وصورها وأقوال السلف فيها
فاعلم أخي المسلم أن هذه هي الطريق الشرعي والطريقة الأثرية من هدي سلفنا الصالح في الإنكار على ولاة الأمر, فأسأل الله أن يوفق ولاة أمر المسلمين لما فيه نصرة
الإسلام وعز المسلمين, وأسأله أن يحفظ جميع بلاد المسلمين أمنها وإيمانها ويكفيها شرأعدائها الغالين في الدين والجافين عنه من أهل الأهواء والبدع أجمعين
المناصحة بتقديم النصح له سرا:
والسلف الصالح هم المصلحون الأولون , وهم الأئمة المهتدون , , هم ورثة الأنبياء , ونورٌ لمن يمشي في الظلماء فالسَّيرُ على طريقهم أمرٌ حميد ورأيٌ سديد , لأنه طريق
الأنبياء الذي يرضاه الله عز وجل فطريقة السلف أعلم وأسلم وأحكم .
وإن من مقتضيات البيعة النصح لولاة الأمر
قال الله تعالى: أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (الأعراف 68).
وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلنَا: لِمَنْ؟ قال: وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ(رواه مسلم.)
فمن الدين: النصيحة لولاة الأمر
قال ابن عبدالبر -رحمه الله-:مناصحة ولاة الأمر فلم يختلف العلماء في وجوبها إذا كان السلطان يسمعها ويقبلها(الاستذكار8/579)
وقال النووي-رحمه الله-:أما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق, وطاعتهم فيه, وأمرهم به, وتنبيهم وتذكيرهم برفق ولطف, وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من
حقوق المسلمين, وترك الخروج عليهم, وتألف قلوب الناس لطاعتهم, قال الخطابي -رحمه الله-: ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم, والجهاد معهم, وأداء الصدقات اليهم, وترك
الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة, وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم, وأن يدعى لهم بالصلاح(شرح صحيح مسلم(2/227.)
قال أبونعيم الأصبهاني:" من نصح الولاة والأمراء اهتدى ومن غشهم غوى واعتدى " (فضيلة العادلين 140.) .
وعن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس
بفقيه ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمر ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من وراءهم ومن كانت الدنيا نيته فرق الله عليه أمره
وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن كانت الآخرة نيته جمع الله أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة
رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي بتقديم وتأخير وروى صدره إلى قوله ليس بفقيه
رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه بزيادة عليهما
(( صحيح ) صحيح الترغيب والترهيب )
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم: أن تعبدوه و لا تشركوا به
شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ويكره لكم: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال(رواه مسلم)
كيفية النصيحة للولاة
فعن عياض بن غنم رضي الله عنه قال : قال رسول الله: من أراد أن ينصح لذي سلطان في أمر فلا يبده علانية ، وليأخذ بيده, فإن قبل منه فذاك, وإلا كان قد أدى الذي عليه
(أخرج الإمام أحمد ورواه ابن أبي عاصم في السنة وصححه الشيخ الألباني)
و عن أسامة بن زيد-رضي الله عنهما- قال : قيل له ألا تدخل على عثمان فتكلمه ؟ فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟! والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمراً
لا أحب أن أكون أول من فتحه).رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم)
قال النووي رحمه الله موضحا قصد أسامة قوله “أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من افتتحه” يعنى المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ
وَقَالَ عِيَاض : مُرَاد أُسَامَة أَنَّهُ لَا يَفْتَح بَاب الْمُجَاهَرَة بِالنَّكِيرِ عَلَى الْإِمَام لِمَا يَخْشَى مِنْ عَاقِبَة ذَلِكَ ، بَلْ يَتَلَطَّف بِهِ وَيَنْصَحهُ سِرًّا فَذَلِكَ أَجْدَر بِالْقَبُولِ(فتح الباري)
وقال الإمام الألباني
يعني المجاهرة بالانكار على الاْمراء في الملأ لأن في الانكار جهارأ ما يخشى عاقبته، كا اتفق في الانكار عل عثمان جهارأ إذ نشأ عنه قتله.
( مختصر صحيح مسلم تحقيق الألباني)
عن سعيد بن جبير-رحمه الله- قال: قال رجل لابن عباس-رضي الله عنهما-: آمر أميري بالمعروف؟ قال: إن خفت أن يقتلك, فلا تؤنب الإمام, فإن كنت لا بد فاعلا فيما
بينك وبينه.( رواه ابن أبي شيبة)
وعن سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ قَالَ: أَتَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى وَهُوَ مَحْجُوبُ الْبَصَرِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، قَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ وَالِدُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَتَلَتْهُ
الْأَزَارِقَةُ، قَالَ: لَعَنَ اللهُ الْأَزَارِقَةَ، لَعَنَ اللهُ الْأَزَارِقَةَ، حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُمْ كِلَابُ النَّارِ "، قَالَ: قُلْتُ: الْأَزَارِقَةُ وَحْدَهُمْ أَمِ الْخَوَارِجُ كُلُّهَا؟ قَالَ: " بَلِ الْخَوَارِجُ كُلُّهَا
". قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَظْلِمُ النَّاسَ، وَيَفْعَلُ بِهِمْ، قَالَ: فَتَنَاوَلَ يَدِي فَغَمَزَهَا بِيَدِهِ غَمْزَةً شَدِيدَةً ، ثُمَّ قَالَ: " وَيْحَكَ يَا ابْنَ جُمْهَانَ عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ إِنْ
كَانَ السُّلْطَانُ يَسْمَعُ مِنْكَ، فَأْتِهِ فِي بَيْتِهِ، فَأَخْبِرْهُ بِمَا تَعْلَمُ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْكَ، وَإِلَّا فَدَعْهُ، فَإِنَّكَ لَسْتَ بِأَعْلَمَ مِنْهُ "(مسند الإمام أحمد بن حنبل )
قال شيخنا أحمد بازمول حفظه الله في كتابه القيم "السنة في ما يتعلق بولي الأمة
صور النصيحة لولي الأمر :
النصيحة لولي الأمر لها أربع صور:
الأولى: نصيحة ولي الأمر فيما بينه وبين الناصح سراً.
والثانية: نصيحة ولي الأمر أمام الناس علانية بحضرته مع إمكان نصحه سراً.
والثالثة: نصيحة ولي الأمر فيما بينه وبين الناصح سراً ثم يخرج من عنده وينشرها بين الناس.
والرابعة: الإنكار على السلطان في غيبته من خلال المجالس والمواعظ والخطب والدروس ونحوها.
هذه أربع صور سنأتي إن شاء الله تعالى على صورة صورة:
الصورة الأولى: النصيحة لولي الأمر فيما بينه وبين الناصح سراً.
النصيحة لولي الأمر سراً أصل من أصول المنهج السلفي الذي خالفه أهل الأهواء
والبدع كالخوارج:
إذ الأصل في النصح لولي الأمر الإسرار بالنصيحة وعدم العلن بها ويدل عليه ما أخرجه أحمد في المسند عن عِيَاض قال قال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" مَنْ أَرَادَ أَنْ
يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ ".
فقوله (من أراد أن ينصح لسلطان بأمر)) فيه العموم في الناصح والعموم في المنصوح به
وقوله: ((فلا يبد له علانية)) فيه النهي عن النصيحة علانية والنهي يقتضي التحريم
وعليه الواجب الإسرار.
قوله: ((ولكن ليأخذ بيده فيخلو به)) فيه بيان الطريقة الشرعية لنصيحة الولاة وهي الإسرار دون العلانية ((فيخلو به)) أي منفرداً كقول أسامة - - رضي الله عنه -: " أترون أني لا
أكلمه إلا أسمعكم؟ والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ".
وذلك فيما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قِيلَ لَهُ أَلَا تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ فَقَالَ أَتَرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِي
وَبَيْنَهُ دُونَ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ ".
ففي هذا الأثر أن النصيحة علانية أمر منكر تنتج عنه الفتنة وأن الإسرار هو الأصل الذي تتم فيه النصيحة دون فتنة أو تهييج للرعية على الراعي لقوله - رضي الله عنه -: "
والله لقد كلمته فيما بيني وبينه " وقوله - رضي الله عنه - " دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أوّل من فتحه... ".
قال النووي: " يعني المجاهرة بالإنكار على الأُمراء في الملأ كما جرى لقتلة عثمان - رضي الله عنه - وفيه الأدب مع الأمراء واللطف بهم، ووعظهم سراً وتبليغهم ما يقول
الناس فيهم لينكفوا عنه وهذا كله إذا أمكن ذلك، فإن لم يمكن الوعظ سراً والإنكار فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق " (شرح مسلم (18/ 160)) .
قوله: " وهذا كله إذا أمكن ذلك " أي أمكن الناصح السرية في النصيحة للسلطان فهو الواجب عليه لا غيره.
وقوله: " فإن لم يمكن الوعظ سراً والإنكار فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق " أي أنه لا ينكر علناً إلا عند الضرورة الشديدة (وعليه يحمل فعل السلف كقصة أبي سعيد الخدري
مع مروان أمير المدينة لمّا قدّم الخطبة على الصلاة. انظر صحيح البخاري (2/ 449 رقم956 فتح) ك العيدين ب الخروج إلى المصلى بغير منبر)
ولذلك أنكر عياض -رضي الله عنه- على هشام - - رضي الله عنه - إنكاره عليه علانية بدون ضرورة فما كان من هشام - - رضي الله عنه - إلا التسليم والله أعلم.
وقال الشيخ ابن باز معلقاً على أثر أسامة - رضي الله عنه -:" لما فتحوا الشر في زمن عثمان - رضي الله عنه - وأنكروا على عثمان - رضي الله عنه - جهرة تمت الفتنة
والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية وقتل عثمان وعلى بأسباب ذلك وقتل جم كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب
الإنكار العلني وذكر العيوب علناً حتى أبغض الناس ولي أمرهم وحتى قتلوه نسأل الله العافية " (المعلوم23 والمعاملة 44) .
وأخرج أحمد في المسند عن سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ أنه قَالَ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى فقُلْتُ له: إِنَّ السُّلْطَانَ يَظْلِمُ النَّاسَ وَيَفْعَلُ بِهِمْ قَالَ فَتَنَاوَلَ يَدِي فَغَمَزَهَا بِيَدِهِ غَمْزَةً شَدِيدَةً ثُمَّ قَالَ
وَيْحَكَ يَا ابْنَ جُمْهَانَ عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ إِنْ كَانَ السُّلْطَانُ يَسْمَعُ مِنْكَ فَأْتِهِ فِي بَيْتِهِ فَأَخْبِرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فَإِنْ قَبِلَ مِنْكَ وَإِلَّا فَدَعْهُ فَإِنَّكَ لَسْتَ بِأَعْلَمَ مِنْهُ ".
فتأملوا كيف أن الصحابي الجليل ابن أبي أوفى - رضي الله عنه - منعه من الكلام في السلطان وأمره بنصيحته سراً دون العلانية.
قال ابن النحاس رحمه الله: " يختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام معه على رؤوس الأشهاد " (تنبيه الغافلين 64) .
وقال الشوكاني:" ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه ولايظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به
ويبذل له النصيحة ولا يذل سلطان الله " (السيل (4/ 556)) .
وقال أئمة الدعوة:" ما يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق واتباع
ما عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس " (نصيحة مهمة 30) .
وقال العلامة السعدي رحمه الله:" على من رأى منهم ما لا يحل أن ينبههم سراً لا علناً بلطف وعبارة تليق بالمقام " (الرياض الناضرة 50.) .
وقال الشيخ ابن باز:" الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان والكتابة إليه أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير.
وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل فينكر الزنى وينكر الخمر وينكر الربا من دون ذكر من فعله ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير ذكر أن فلاناً يفعلها
لا حاكم ولا غير حاكم " (المعلوم 22.) .
الصورة الثانية: نصيحة السلطان أمام الناس علانية بحضرته مع إمكان نصحه سراً.
وهذه الصورة محرمة لا تجوز للأمور التالية:
1- مخالفتها لحديث عياض بن غَنْم - رضي الله عنه - الذي فيه الأمر بالإسرار.
2- مخالفتها لآثار السلف ومنهجهم كأسامة بن زيد وعبدالله بن أبي أوفى وغيرهما.
3- لقوله صلى الله عليه وسلم: " من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله " أخرجه الترمذي.
قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن عثيمين ـ رحمه الله -:" إذا كان الكلام في الملك بغيبة أو نصحه جهراً والتشهير به من إهانته التي توعد الله فاعلها بإهانته، فلا شك أنه يجب
مراعاة ما ذكرناه ـ يريد الإسرار بالنصيحة ـ لمن استطاع نصيحتهم من العلماء الذين يَغْشَوْنَهم " (مقاصد الإسلام ص393) .
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:" إذا صدر المنكر من أمير أو غيره ينصح برفق خُفْية ما يستشرف ـ أي ما يطلع ـ عليه أحد فإن وافق وإلا استلحق عليه رجلاً
يقبل منه بخفية فإن لم يفعل؛ فيمكن الإنكار ظاهراً إلا إن كان على أمير ونصحه ولا وافق واستلحق عليه ولا وافق فيرفع الأمر إلينا خُفْية" (نصيحة مهمة 33.) .
والصورة الثالثة: نصيحة السلطان فيما بينه وبين الناصح سراً ثم ينشرها بين الناس:
وهذه الصورة محرمة لما يلي:
1- مخالفتها لحديث عياض بن غَنْم - - رضي الله عنه - إذ الغرض والمقصود عدم إطلاع الناس عليها لما يترتب عليها من مفاسد.
2- مخالفتها لهدي السلف مع ولي الأمر.
3- لما فيها من الرياء وعلامة ضعف الإخلاص.
4- لما فيه من الفتنة والبلبلة والتفرقة للجماعة.
5- لما فيها من إهانة السلطان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله) .
قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن عثيمين ـ رحمه الله-: " إذا كان الكلام في الملك بغيبة أو نصحه جهراً أو التشهير به من إهانته التي توعد الله فاعلها بإهانته فلا شك أنه يجب
مراعاة ما ذكرناه " (مقاصد الإسلام 393) ـ يريد الإسرار بالنصح ونحوه ـ.
قال الشيخ السعدي ـ رحمه الله-: "أحذر أيها الناصح لهم على هذا الوجه المحمود ـ أي: سراً بلطف ولين ـ أن تفسد نصيحتك بالتمدح عند الناس فتقول لهم: إني نصحتهم
وقلت وقلت؛ فإن هذا عنوان الرياء وعلامة ضعف الإخلاص وفيه أضرار أخرى معروفة " (الرياض الناضرة ص50) .
الصورة الرابعة: نصيحة ولي الأمر في غيبته من خلال المجالس والمواعظ والخطب ونحوها:
وهذه الصورة محرمة لما يلي:
لأنها غيبة وبهتان على ولي الأمر قال تعالى {وَلاََ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} وأخرج مسلم في الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ قَالُوا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ؟ قَالَ ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ" فنهى الله عز وجل ورسوله
- صلى الله عليه وسلم - عن الغيبة ولا شك أن الكلام في ولي الأمر من الغيبة في غيبته إن كان حقاً فإن كان كذباً فهو بهتان.
ولأن هذه الصورة تدخل في القالة بين الناس مما يترتب عليها من الفتنة والبلبلة كما أخرج مسلم في الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
" أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ: الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ ".
ولأنها تخالف حديث عياض بن غَنْم - رضي الله عنه - في وجوب النصيحة سراً.
ولأنها تخالف هدي السلف الصالح في كيفية النصيحة لولي الأمر
ولأنها من باب إهانة السلطان وهي محرمة
ولأنها تؤدي إلى سفك الدماء وإلى القتل كما أخرج ابن سعد في الطبقات عن عبدا لله بن عكيم الجهني أنه قال: لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان!!
فقيل له: يا أًبا معبدٍ أًوَ أًعنت على دمِهِ؟ فيقول إِني أًعد ذكر مساويه عوناً على دمِهِ! ".فتأملوا هذا الأثر جيداً حيث اعتبر أن ذكر مساوي الحاكم مما يعين على سفك
الدماء (وهذا يفيد أن الخروج يكون بالسيف ويكون باللسان، بخلاف من يقول: إن الخروج لا يكون إلا بالسيف. فتأمل هذا واحفظه جيداً.)
قال أئمة الدعوة:" ما يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق واتباع ما
عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد وهذا غلط فاحش وجهل ظاهر لا يعلم صاحبه
ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا كما يعرف ذلك من نور الله قلبه وعرف طريقة السلف الصالح وأئمة الدين "
(نصيحة مهمة 30.) .
وقال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله-: " بعض الناس ديدنه في كل مجلس يجلسه الكلام في ولاة الأمور والوقوع في أعراضهم ونشر مساوئهم وأخطائهم معرضاً بذلك عمّا لهم
من محاسن أو صواب، ولا ريب أن سلوك هذا الطريق والوقوع في أعراض الولاة لا يزيد في الأمر إلا شدة فإنه لا يحل مشكلاً ولا يرفع مظلمة إنما يزيد البلاء بلاءاً ويوجب
بغض الولاة وكراهيتهم وعدم تنفيذ أوامرهم التي يجب طاعتهم فيها " (وجوب طاعة السلطان للعريني ص23-24) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى:" ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر لأن ذلك يفضي إلى الانقلابات وعدم السمع والطاعة في
المعروف ويفضي إلى الخروج الذي يضر ولا ينفع " (المعلوم 22 والمعاملة 43.) .
وقال الشيخ ابن عثيمين:" الله الله في فهم منهج السلف الصالح في التعامل مع السلطان وأن لا يتخذ من أخطاء السلطان سبيلاً لإثارة الناس وإلى تنفير القلوب عن ولاة الأمور
فهذا عين المفسدة وأحد الأسس التي تحصل بها الفتنة بين الناس كما أن ملء القلوب على ولاة الأمر يحدث الشر والفتنة والفوضى وكذا ملء القلوب على العلماء يحدث التقليل
من شأن العلماء وبالتالي التقليل من الشريعة التي يحملونها فإذا حاول أحد يقلل من هيبة العلماء وهيبة ولاة الأمر ضاع الشرع والأمن لأن الناس إن تكلم العلماء لم يثقوا
بكلامهم وإن تكلم الأمراء تمردوا على كلامهم وحصل الشر والفساد.
فالواجب أن ننظر ماذا سلك السلف تجاه ذوي السلطان وأن يضبط الإنسان نفسه وأن يعرف العواقب.
وليعلم أن من يثور إنما يخدم أعداء الإسلام فليست العبرة بالثورة ولا بالانفعال بل العبرة بالحكمة.
ولست أريد بالحكمة السكوت عن الخطأ بل معالجة الخطأ لنصلح الأوضاع لا لنغير الأوضاع فالناصح هو الذي يتكلم ليصلح الأوضاع لا ليغيرها " (المعاملة 32) .
شبهة من يتكلم في ولي الأمر غيبة وردها:
بعض الناس يتكلم في ولي الأمر غيبة وإذا قلت له هذا لا يجوز يستدل بما أخرجه الترمذي في السنن عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ
كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ".
ويقول هذه كلمة حق ولاشك أن هذا خطأ شنيع لأمور:
أولاً: الحديث إنما قال عند أي أمام ولي الأمر وحضوره لا من خلفه
ثانياً: أن هذا الحديث لا يدل على أن المراد أن تنكر علناً أو تنكر غيبة بل يجب أن يفهم هذا الحديث مع حديث عياض الذي أفاد وجوب الإسرار فنقول تنصحه على الانفراد
لا علناً ولا غيبة.
ثالثاً: أنه قال عند سلطان جائر ونحن بحمد الله ـ في المملكة العربية السعودية ـ في ظل سلطان عادل عامل بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح داع للتوحيد ومحارب
للبدع والخرافات.
قال الشيخ ابن عثيمين:" أشهد الله تعالى على ما أقول وأُشهدكم أيضاً أَنني لا أَعلم أَن في الأرض اليومَ من يطبق شريعة الله ما يطبقه هذا الوطن ـ أعني: المملكة العربية السعودية ـ
وهذا بلا شك من نعمة الله علينا فلنكن محافظين على ما نحن عليه اليوم بل ولنكن مستزيدين من شريعة الله عز وجل أكثر مما نحن عليه اليوم لأنني لا أدعي الكمال وأننا
في القمة بالنسبة لتطبيق شريعة الله لا شك أَننا نخل بكثير منها ولكننا خير والحمد لله من ما نعلمه من البلاد الأخرى...إننا في هذه البلاد نعيش نعمة بعد فقر وأَمناً بعد خوف وعلماً
بعد جهل وعزاً بعد ذل بفضل التمسك بهذا الدين مما أوغر صدور الحاقدين وأقلق مضاجعهم يتمنون زوال ما نحن فيه ويجدون من بيننا وللأسف من يستعملونه لهدم
الكيان الشامخ بنشر أباطيلهم وتحسين شرهم للناس {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} (الحشر: من الآية2) .
ولقد عجبت لما ذُكر من أن أحد الجهلة هداه الله ورده إلى صوابه يصور النشرات التي ترد من خارج البلاد التي لا تخلو من الكيد والكذب ويطلب توزيعها من بعض الشباب
ويشحذ هممهم بأن يحتسبوا الأجر على الله. سبحان الله هل انقلبت المفاهيم؟ هل يطلب رضى الله في معصيته؟ هل التقرب إلى الله يحصل بنشر الفتن وزرع الفرقة بين
المسلمين وولاة أمورهم؟ معاذ الله أَن يكون كذلك اهـ
(وجوب طاعة السلطان للعريني 49.) .
وفي الختام: أورد كلمة مهمة للشيخ صالح آل الشيخ حول خطأ يقع فيه كثير من الشباب عند ما تطرأ أي مشكلة جهلاً منهم بمنهج السلف الصالح: لا تطبق أيها المسلم أحاديث
الفتن على الواقع الذي تعيش فيه فإنه يحلو للناس عند ظهور الفتن مراجعة أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفتن ويكثر في مجالسهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -
كذا؛ هذا وقتها هذه هي الفتنة! ونحو ذلك.
والسلف علمونا أن أحاديث الفتن لا تنزل على واقع حاضر وإنما يظهر صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أخبر به من حدوث الفتن بعد حدوثها وانقضائها
مع الحذر من الفتن جميعاً.
وهذا التطبيق لأحاديث الفتن على الواقع وبث ذلك في المسلمين ليس من منهج أهل السنة والجماعة وإنما أهل السنة والجماعة يذكرون الفتن وأحاديث الفتن محذرين منها
مباعدين للمسلمين عن غشيانها أو عن القرب منها لأجل أن لا يحصل بالمسلمين فتنة ولأجل أن يعتقدوا صحة ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - اهـ
(الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن 52.) .
أقوال السلف الصالح في النصيحة للولاة والإسرار بها
قال سليمان التيمي-رحمه الله-:ما أغضبت رجلاً فقبل منك, فكيف بالسلطان
(الأمر بالمعروف للخلال ص36)
و قال الإمام أحمد-رحمه الله-يأمر بالرفق والخضوع, ثم قال: إن أسمعوه ما يكره لا يغضب! فيكون يريد ينتصر لنفسه(الأمر بالمعروف للخلال ص39.)
وقال النووي-رحمه الله-وتنبيهم وتذكيرهم برفق ولطف(شرح صحيح مسلم2/227)
وقال ابن القيم-رحمه الله- : مخاطبة الرؤساء بالقول اللين أمر مطلوب شرعاً وعقلاً وعرفاً ، ولذلك تجد الناس كالمفطورين عليه(بدائع الفوائد3/1061)
وقال العلامة ابن مفلح: مبينا طريقة الإنكار على السلاطين "فَصْل ( فِي الْإِنْكَار عَلَى السُّلْطَان وَالْفَرْق بَيْنَ الْبُغَاة وَالْإِمَام
وَلَا يُنْكِر أَحَد عَلَى سُلْطَان إلَّا وَعْظًا لَهُ وَتَخْوِيفًا أَوْ تَحْذِيرًا مِنْ الْعَاقِبَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَإِنَّهُ يَجِب وَيَحْرُم بِغَيْرِ ذَلِكَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْره وَالْمُرَاد وَلَمْ يَخَفْ مِنْهُ بِالتَّخْوِيفِ
وَالتَّحْذِير وَإِلَّا سَقَطَ وَكَانَ حُكْم ذَلِكَ كَغَيْرِهِ .
قَالَ حَنْبَلٌ : اجْتَمَعَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ فِي وِلَايَةِ الْوَاثِقِ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَقَالُوا لَهُ : إنَّ الْأَمْرَ قَدْ تَفَاقَمَ وَفَشَا يَعْنُونَ إظْهَار الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَغَيْر ذَلِكَ وَلَا نَرْضَى بِإِمْرَتِهِ وَلَا سُلْطَانه
فَنَاظَرَهُمْ فِي ذَلِكَ وَقَالَ عَلَيْكُمْ بِالْإِنْكَارِ بِقُلُوبِكُمْ وَلَا تَخْلَعُوا يَدًا مِنْ طَاعَة وَلَا تَشُقُّوا عَصَا الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تَسْفِكُوا دِمَاءَكُمْ وَدِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ مَعَكُمْ ، وَانْظُرُوا فِي عَاقِبَةِ أَمْرِكُمْ
وَاصْبِرُوا حَتَّى يَسْتَرِيح بَرٌّ أَوْ يُسْتَرَاح مِنْ فَاجِر وَقَالَ لَيْسَ هَذَا صَوَاب ، هَذَا خِلَاف الْآثَار .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَأْمُر بِكَفِّ الدِّمَاء وَيُنْكِر الْخُرُوج إنْكَارًا شَدِيدًا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الْكَفُّ ؛ لِأَنَّا نَجِدُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَلَّوْا فَلَا
خِلَافًا لِلْمُتَكَلِّمِينَ فِي جَوَاز قِتَالِهِمْ كَالْبُغَاةِ قَالَ الْقَاضِي : وَالْفَرْق بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَة الظَّاهِر وَالْمَعْنَى ، أَمَّا الظَّاهِر فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِ الْبُغَاة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ طَائِفَتَانِ
وَفِي مَسْأَلَتِنَا أَمْرٌ بِالْكَفِّ عَنْ الْأَئِمَّة بِالْأَخْبَارِ الْمَذْكُورَة ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّ الْخَوَارِج يُقَاتَلُونَ بِالْإِمَامِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا يَحْصُل قِتَالهمْ بِغَيْرِ إمَام فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَمْ يَجُزْ الْجِهَاد بِغَيْرِ
إمَام انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ إنَّ الْجَمَاعَةَ حَبْلُ اللَّهِ فَاعْتَصِمُوا مِنْهُ بِعُرْوَتِهِ الْوُثْقَى لِمَنْ دَانَا كَمْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِالسُّلْطَانِ مُعْضِلَةً فِي دِينِنَا رَحْمَةً مِنْهُ وَدُنْيَانَا لَوْلَا الْخِلَافَةُ لَمْ تُؤْمَنْ لَنَا سُبُلٌ
وَكَانَ أَضْعَفُنَا نَهْبًا لِأَقْوَانَا وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِابْنِهِ يَا بُنَيّ احْفَظْ عَنِّي مَا أُوصِيكَ بِهِ : إمَامٌ عَدْلٌ خَيْرٌ مِنْ مَطَرٍ وَبْلٍ وَأَسَدٌ حَطُومٌ خَيْرٌ مِنْ إمَامٍ ظَلُومٍ ، وَإِمَامٌ ظَلُومٌ غَشُومٌ
خَيْرٌ مِنْ فِتْنَةٍ تَدُومُ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر مَعَ السَّلَاطِينِ التَّعْرِيف وَالْوَعْظ ، فَأَمَّا تَخْشِينُ الْقَوْلِ نَحْو يَا ظَالِم يَا مَنْ لَا يَخَاف اللَّهَ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُحَرِّك فِتْنَة يَتَعَدَّى
شَرُّهَا إلَى الْغَيْر لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِز عِنْد جُمْهُور الْعُلَمَاء قَالَ : وَاَلَّذِي أَرَادَ الْمَنْع مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُود إزَالَة الْمُنْكَر وَحَمْلُ السُّلْطَان بِالِانْبِسَاطِ عَلَيْهِ
عَلَى فِعْلِ الْمُنْكَر أَكْثَر مِنْ فِعْلِ الْمُنْكَر الَّذِي قُصِدَ إزَالَته قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا يُتَعَرَّض لِلسُّلْطَانِ فَإِنَّ سَيْفَهُ مَسْلُول وَعَصَاهُ .
فَأَمَّا مَا جَرَى لِلسَّلَفِ مِنْ التَّعَرُّض لِأُمَرَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَهَابُونَ الْعُلَمَاء فَإِذَا انْبَسَطُوا عَلَيْهِمْ احْتَمَلُوهُمْ فِي الْأَغْلَب ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيث عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ : إذَا اسْتَشَاطَ السُّلْطَانُ
تَسَلَّطَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ اهـ .( الآداب الشرعية1/222)
وقال ابن النحاس
ويختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام معه على رأس الأشهاد بل يود لو كلمة سراً ونصه خفية من غير ثالث لها
(تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين، وتحذير السالكين من أفعال الهالكين ص64)
يتبع بإذن الله
و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
النصيحة لولاة الأمور كيفيتها وصورها وأقوال السلف فيها
فاعلم أخي المسلم أن هذه هي الطريق الشرعي والطريقة الأثرية من هدي سلفنا الصالح في الإنكار على ولاة الأمر, فأسأل الله أن يوفق ولاة أمر المسلمين لما فيه نصرة
الإسلام وعز المسلمين, وأسأله أن يحفظ جميع بلاد المسلمين أمنها وإيمانها ويكفيها شرأعدائها الغالين في الدين والجافين عنه من أهل الأهواء والبدع أجمعين
المناصحة بتقديم النصح له سرا:
والسلف الصالح هم المصلحون الأولون , وهم الأئمة المهتدون , , هم ورثة الأنبياء , ونورٌ لمن يمشي في الظلماء فالسَّيرُ على طريقهم أمرٌ حميد ورأيٌ سديد , لأنه طريق
الأنبياء الذي يرضاه الله عز وجل فطريقة السلف أعلم وأسلم وأحكم .
وإن من مقتضيات البيعة النصح لولاة الأمر
قال الله تعالى: أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (الأعراف 68).
وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلنَا: لِمَنْ؟ قال: وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ(رواه مسلم.)
فمن الدين: النصيحة لولاة الأمر
قال ابن عبدالبر -رحمه الله-:مناصحة ولاة الأمر فلم يختلف العلماء في وجوبها إذا كان السلطان يسمعها ويقبلها(الاستذكار8/579)
وقال النووي-رحمه الله-:أما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق, وطاعتهم فيه, وأمرهم به, وتنبيهم وتذكيرهم برفق ولطف, وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من
حقوق المسلمين, وترك الخروج عليهم, وتألف قلوب الناس لطاعتهم, قال الخطابي -رحمه الله-: ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم, والجهاد معهم, وأداء الصدقات اليهم, وترك
الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة, وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم, وأن يدعى لهم بالصلاح(شرح صحيح مسلم(2/227.)
قال أبونعيم الأصبهاني:" من نصح الولاة والأمراء اهتدى ومن غشهم غوى واعتدى " (فضيلة العادلين 140.) .
وعن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس
بفقيه ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمر ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من وراءهم ومن كانت الدنيا نيته فرق الله عليه أمره
وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن كانت الآخرة نيته جمع الله أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة
رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي بتقديم وتأخير وروى صدره إلى قوله ليس بفقيه
رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه بزيادة عليهما
(( صحيح ) صحيح الترغيب والترهيب )
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم: أن تعبدوه و لا تشركوا به
شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ويكره لكم: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال(رواه مسلم)
كيفية النصيحة للولاة
فعن عياض بن غنم رضي الله عنه قال : قال رسول الله: من أراد أن ينصح لذي سلطان في أمر فلا يبده علانية ، وليأخذ بيده, فإن قبل منه فذاك, وإلا كان قد أدى الذي عليه
(أخرج الإمام أحمد ورواه ابن أبي عاصم في السنة وصححه الشيخ الألباني)
و عن أسامة بن زيد-رضي الله عنهما- قال : قيل له ألا تدخل على عثمان فتكلمه ؟ فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟! والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمراً
لا أحب أن أكون أول من فتحه).رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم)
قال النووي رحمه الله موضحا قصد أسامة قوله “أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من افتتحه” يعنى المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ
وَقَالَ عِيَاض : مُرَاد أُسَامَة أَنَّهُ لَا يَفْتَح بَاب الْمُجَاهَرَة بِالنَّكِيرِ عَلَى الْإِمَام لِمَا يَخْشَى مِنْ عَاقِبَة ذَلِكَ ، بَلْ يَتَلَطَّف بِهِ وَيَنْصَحهُ سِرًّا فَذَلِكَ أَجْدَر بِالْقَبُولِ(فتح الباري)
وقال الإمام الألباني
يعني المجاهرة بالانكار على الاْمراء في الملأ لأن في الانكار جهارأ ما يخشى عاقبته، كا اتفق في الانكار عل عثمان جهارأ إذ نشأ عنه قتله.
( مختصر صحيح مسلم تحقيق الألباني)
عن سعيد بن جبير-رحمه الله- قال: قال رجل لابن عباس-رضي الله عنهما-: آمر أميري بالمعروف؟ قال: إن خفت أن يقتلك, فلا تؤنب الإمام, فإن كنت لا بد فاعلا فيما
بينك وبينه.( رواه ابن أبي شيبة)
وعن سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ قَالَ: أَتَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى وَهُوَ مَحْجُوبُ الْبَصَرِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، قَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ وَالِدُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَتَلَتْهُ
الْأَزَارِقَةُ، قَالَ: لَعَنَ اللهُ الْأَزَارِقَةَ، لَعَنَ اللهُ الْأَزَارِقَةَ، حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُمْ كِلَابُ النَّارِ "، قَالَ: قُلْتُ: الْأَزَارِقَةُ وَحْدَهُمْ أَمِ الْخَوَارِجُ كُلُّهَا؟ قَالَ: " بَلِ الْخَوَارِجُ كُلُّهَا
". قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَظْلِمُ النَّاسَ، وَيَفْعَلُ بِهِمْ، قَالَ: فَتَنَاوَلَ يَدِي فَغَمَزَهَا بِيَدِهِ غَمْزَةً شَدِيدَةً ، ثُمَّ قَالَ: " وَيْحَكَ يَا ابْنَ جُمْهَانَ عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ إِنْ
كَانَ السُّلْطَانُ يَسْمَعُ مِنْكَ، فَأْتِهِ فِي بَيْتِهِ، فَأَخْبِرْهُ بِمَا تَعْلَمُ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْكَ، وَإِلَّا فَدَعْهُ، فَإِنَّكَ لَسْتَ بِأَعْلَمَ مِنْهُ "(مسند الإمام أحمد بن حنبل )
قال شيخنا أحمد بازمول حفظه الله في كتابه القيم "السنة في ما يتعلق بولي الأمة
صور النصيحة لولي الأمر :
النصيحة لولي الأمر لها أربع صور:
الأولى: نصيحة ولي الأمر فيما بينه وبين الناصح سراً.
والثانية: نصيحة ولي الأمر أمام الناس علانية بحضرته مع إمكان نصحه سراً.
والثالثة: نصيحة ولي الأمر فيما بينه وبين الناصح سراً ثم يخرج من عنده وينشرها بين الناس.
والرابعة: الإنكار على السلطان في غيبته من خلال المجالس والمواعظ والخطب والدروس ونحوها.
هذه أربع صور سنأتي إن شاء الله تعالى على صورة صورة:
الصورة الأولى: النصيحة لولي الأمر فيما بينه وبين الناصح سراً.
النصيحة لولي الأمر سراً أصل من أصول المنهج السلفي الذي خالفه أهل الأهواء
والبدع كالخوارج:
إذ الأصل في النصح لولي الأمر الإسرار بالنصيحة وعدم العلن بها ويدل عليه ما أخرجه أحمد في المسند عن عِيَاض قال قال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" مَنْ أَرَادَ أَنْ
يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ ".
فقوله (من أراد أن ينصح لسلطان بأمر)) فيه العموم في الناصح والعموم في المنصوح به
وقوله: ((فلا يبد له علانية)) فيه النهي عن النصيحة علانية والنهي يقتضي التحريم
وعليه الواجب الإسرار.
قوله: ((ولكن ليأخذ بيده فيخلو به)) فيه بيان الطريقة الشرعية لنصيحة الولاة وهي الإسرار دون العلانية ((فيخلو به)) أي منفرداً كقول أسامة - - رضي الله عنه -: " أترون أني لا
أكلمه إلا أسمعكم؟ والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ".
وذلك فيما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قِيلَ لَهُ أَلَا تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ فَقَالَ أَتَرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِي
وَبَيْنَهُ دُونَ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ ".
ففي هذا الأثر أن النصيحة علانية أمر منكر تنتج عنه الفتنة وأن الإسرار هو الأصل الذي تتم فيه النصيحة دون فتنة أو تهييج للرعية على الراعي لقوله - رضي الله عنه -: "
والله لقد كلمته فيما بيني وبينه " وقوله - رضي الله عنه - " دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أوّل من فتحه... ".
قال النووي: " يعني المجاهرة بالإنكار على الأُمراء في الملأ كما جرى لقتلة عثمان - رضي الله عنه - وفيه الأدب مع الأمراء واللطف بهم، ووعظهم سراً وتبليغهم ما يقول
الناس فيهم لينكفوا عنه وهذا كله إذا أمكن ذلك، فإن لم يمكن الوعظ سراً والإنكار فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق " (شرح مسلم (18/ 160)) .
قوله: " وهذا كله إذا أمكن ذلك " أي أمكن الناصح السرية في النصيحة للسلطان فهو الواجب عليه لا غيره.
وقوله: " فإن لم يمكن الوعظ سراً والإنكار فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق " أي أنه لا ينكر علناً إلا عند الضرورة الشديدة (وعليه يحمل فعل السلف كقصة أبي سعيد الخدري
مع مروان أمير المدينة لمّا قدّم الخطبة على الصلاة. انظر صحيح البخاري (2/ 449 رقم956 فتح) ك العيدين ب الخروج إلى المصلى بغير منبر)
ولذلك أنكر عياض -رضي الله عنه- على هشام - - رضي الله عنه - إنكاره عليه علانية بدون ضرورة فما كان من هشام - - رضي الله عنه - إلا التسليم والله أعلم.
وقال الشيخ ابن باز معلقاً على أثر أسامة - رضي الله عنه -:" لما فتحوا الشر في زمن عثمان - رضي الله عنه - وأنكروا على عثمان - رضي الله عنه - جهرة تمت الفتنة
والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية وقتل عثمان وعلى بأسباب ذلك وقتل جم كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب
الإنكار العلني وذكر العيوب علناً حتى أبغض الناس ولي أمرهم وحتى قتلوه نسأل الله العافية " (المعلوم23 والمعاملة 44) .
وأخرج أحمد في المسند عن سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ أنه قَالَ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى فقُلْتُ له: إِنَّ السُّلْطَانَ يَظْلِمُ النَّاسَ وَيَفْعَلُ بِهِمْ قَالَ فَتَنَاوَلَ يَدِي فَغَمَزَهَا بِيَدِهِ غَمْزَةً شَدِيدَةً ثُمَّ قَالَ
وَيْحَكَ يَا ابْنَ جُمْهَانَ عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ إِنْ كَانَ السُّلْطَانُ يَسْمَعُ مِنْكَ فَأْتِهِ فِي بَيْتِهِ فَأَخْبِرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فَإِنْ قَبِلَ مِنْكَ وَإِلَّا فَدَعْهُ فَإِنَّكَ لَسْتَ بِأَعْلَمَ مِنْهُ ".
فتأملوا كيف أن الصحابي الجليل ابن أبي أوفى - رضي الله عنه - منعه من الكلام في السلطان وأمره بنصيحته سراً دون العلانية.
قال ابن النحاس رحمه الله: " يختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام معه على رؤوس الأشهاد " (تنبيه الغافلين 64) .
وقال الشوكاني:" ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه ولايظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به
ويبذل له النصيحة ولا يذل سلطان الله " (السيل (4/ 556)) .
وقال أئمة الدعوة:" ما يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق واتباع
ما عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس " (نصيحة مهمة 30) .
وقال العلامة السعدي رحمه الله:" على من رأى منهم ما لا يحل أن ينبههم سراً لا علناً بلطف وعبارة تليق بالمقام " (الرياض الناضرة 50.) .
وقال الشيخ ابن باز:" الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان والكتابة إليه أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير.
وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل فينكر الزنى وينكر الخمر وينكر الربا من دون ذكر من فعله ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير ذكر أن فلاناً يفعلها
لا حاكم ولا غير حاكم " (المعلوم 22.) .
الصورة الثانية: نصيحة السلطان أمام الناس علانية بحضرته مع إمكان نصحه سراً.
وهذه الصورة محرمة لا تجوز للأمور التالية:
1- مخالفتها لحديث عياض بن غَنْم - رضي الله عنه - الذي فيه الأمر بالإسرار.
2- مخالفتها لآثار السلف ومنهجهم كأسامة بن زيد وعبدالله بن أبي أوفى وغيرهما.
3- لقوله صلى الله عليه وسلم: " من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله " أخرجه الترمذي.
قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن عثيمين ـ رحمه الله -:" إذا كان الكلام في الملك بغيبة أو نصحه جهراً والتشهير به من إهانته التي توعد الله فاعلها بإهانته، فلا شك أنه يجب
مراعاة ما ذكرناه ـ يريد الإسرار بالنصيحة ـ لمن استطاع نصيحتهم من العلماء الذين يَغْشَوْنَهم " (مقاصد الإسلام ص393) .
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:" إذا صدر المنكر من أمير أو غيره ينصح برفق خُفْية ما يستشرف ـ أي ما يطلع ـ عليه أحد فإن وافق وإلا استلحق عليه رجلاً
يقبل منه بخفية فإن لم يفعل؛ فيمكن الإنكار ظاهراً إلا إن كان على أمير ونصحه ولا وافق واستلحق عليه ولا وافق فيرفع الأمر إلينا خُفْية" (نصيحة مهمة 33.) .
والصورة الثالثة: نصيحة السلطان فيما بينه وبين الناصح سراً ثم ينشرها بين الناس:
وهذه الصورة محرمة لما يلي:
1- مخالفتها لحديث عياض بن غَنْم - - رضي الله عنه - إذ الغرض والمقصود عدم إطلاع الناس عليها لما يترتب عليها من مفاسد.
2- مخالفتها لهدي السلف مع ولي الأمر.
3- لما فيها من الرياء وعلامة ضعف الإخلاص.
4- لما فيه من الفتنة والبلبلة والتفرقة للجماعة.
5- لما فيها من إهانة السلطان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله) .
قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن عثيمين ـ رحمه الله-: " إذا كان الكلام في الملك بغيبة أو نصحه جهراً أو التشهير به من إهانته التي توعد الله فاعلها بإهانته فلا شك أنه يجب
مراعاة ما ذكرناه " (مقاصد الإسلام 393) ـ يريد الإسرار بالنصح ونحوه ـ.
قال الشيخ السعدي ـ رحمه الله-: "أحذر أيها الناصح لهم على هذا الوجه المحمود ـ أي: سراً بلطف ولين ـ أن تفسد نصيحتك بالتمدح عند الناس فتقول لهم: إني نصحتهم
وقلت وقلت؛ فإن هذا عنوان الرياء وعلامة ضعف الإخلاص وفيه أضرار أخرى معروفة " (الرياض الناضرة ص50) .
الصورة الرابعة: نصيحة ولي الأمر في غيبته من خلال المجالس والمواعظ والخطب ونحوها:
وهذه الصورة محرمة لما يلي:
لأنها غيبة وبهتان على ولي الأمر قال تعالى {وَلاََ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} وأخرج مسلم في الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ قَالُوا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ؟ قَالَ ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ" فنهى الله عز وجل ورسوله
- صلى الله عليه وسلم - عن الغيبة ولا شك أن الكلام في ولي الأمر من الغيبة في غيبته إن كان حقاً فإن كان كذباً فهو بهتان.
ولأن هذه الصورة تدخل في القالة بين الناس مما يترتب عليها من الفتنة والبلبلة كما أخرج مسلم في الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
" أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ: الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ ".
ولأنها تخالف حديث عياض بن غَنْم - رضي الله عنه - في وجوب النصيحة سراً.
ولأنها تخالف هدي السلف الصالح في كيفية النصيحة لولي الأمر
ولأنها من باب إهانة السلطان وهي محرمة
ولأنها تؤدي إلى سفك الدماء وإلى القتل كما أخرج ابن سعد في الطبقات عن عبدا لله بن عكيم الجهني أنه قال: لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان!!
فقيل له: يا أًبا معبدٍ أًوَ أًعنت على دمِهِ؟ فيقول إِني أًعد ذكر مساويه عوناً على دمِهِ! ".فتأملوا هذا الأثر جيداً حيث اعتبر أن ذكر مساوي الحاكم مما يعين على سفك
الدماء (وهذا يفيد أن الخروج يكون بالسيف ويكون باللسان، بخلاف من يقول: إن الخروج لا يكون إلا بالسيف. فتأمل هذا واحفظه جيداً.)
قال أئمة الدعوة:" ما يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق واتباع ما
عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد وهذا غلط فاحش وجهل ظاهر لا يعلم صاحبه
ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا كما يعرف ذلك من نور الله قلبه وعرف طريقة السلف الصالح وأئمة الدين "
(نصيحة مهمة 30.) .
وقال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله-: " بعض الناس ديدنه في كل مجلس يجلسه الكلام في ولاة الأمور والوقوع في أعراضهم ونشر مساوئهم وأخطائهم معرضاً بذلك عمّا لهم
من محاسن أو صواب، ولا ريب أن سلوك هذا الطريق والوقوع في أعراض الولاة لا يزيد في الأمر إلا شدة فإنه لا يحل مشكلاً ولا يرفع مظلمة إنما يزيد البلاء بلاءاً ويوجب
بغض الولاة وكراهيتهم وعدم تنفيذ أوامرهم التي يجب طاعتهم فيها " (وجوب طاعة السلطان للعريني ص23-24) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى:" ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر لأن ذلك يفضي إلى الانقلابات وعدم السمع والطاعة في
المعروف ويفضي إلى الخروج الذي يضر ولا ينفع " (المعلوم 22 والمعاملة 43.) .
وقال الشيخ ابن عثيمين:" الله الله في فهم منهج السلف الصالح في التعامل مع السلطان وأن لا يتخذ من أخطاء السلطان سبيلاً لإثارة الناس وإلى تنفير القلوب عن ولاة الأمور
فهذا عين المفسدة وأحد الأسس التي تحصل بها الفتنة بين الناس كما أن ملء القلوب على ولاة الأمر يحدث الشر والفتنة والفوضى وكذا ملء القلوب على العلماء يحدث التقليل
من شأن العلماء وبالتالي التقليل من الشريعة التي يحملونها فإذا حاول أحد يقلل من هيبة العلماء وهيبة ولاة الأمر ضاع الشرع والأمن لأن الناس إن تكلم العلماء لم يثقوا
بكلامهم وإن تكلم الأمراء تمردوا على كلامهم وحصل الشر والفساد.
فالواجب أن ننظر ماذا سلك السلف تجاه ذوي السلطان وأن يضبط الإنسان نفسه وأن يعرف العواقب.
وليعلم أن من يثور إنما يخدم أعداء الإسلام فليست العبرة بالثورة ولا بالانفعال بل العبرة بالحكمة.
ولست أريد بالحكمة السكوت عن الخطأ بل معالجة الخطأ لنصلح الأوضاع لا لنغير الأوضاع فالناصح هو الذي يتكلم ليصلح الأوضاع لا ليغيرها " (المعاملة 32) .
شبهة من يتكلم في ولي الأمر غيبة وردها:
بعض الناس يتكلم في ولي الأمر غيبة وإذا قلت له هذا لا يجوز يستدل بما أخرجه الترمذي في السنن عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ
كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ".
ويقول هذه كلمة حق ولاشك أن هذا خطأ شنيع لأمور:
أولاً: الحديث إنما قال عند أي أمام ولي الأمر وحضوره لا من خلفه
ثانياً: أن هذا الحديث لا يدل على أن المراد أن تنكر علناً أو تنكر غيبة بل يجب أن يفهم هذا الحديث مع حديث عياض الذي أفاد وجوب الإسرار فنقول تنصحه على الانفراد
لا علناً ولا غيبة.
ثالثاً: أنه قال عند سلطان جائر ونحن بحمد الله ـ في المملكة العربية السعودية ـ في ظل سلطان عادل عامل بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح داع للتوحيد ومحارب
للبدع والخرافات.
قال الشيخ ابن عثيمين:" أشهد الله تعالى على ما أقول وأُشهدكم أيضاً أَنني لا أَعلم أَن في الأرض اليومَ من يطبق شريعة الله ما يطبقه هذا الوطن ـ أعني: المملكة العربية السعودية ـ
وهذا بلا شك من نعمة الله علينا فلنكن محافظين على ما نحن عليه اليوم بل ولنكن مستزيدين من شريعة الله عز وجل أكثر مما نحن عليه اليوم لأنني لا أدعي الكمال وأننا
في القمة بالنسبة لتطبيق شريعة الله لا شك أَننا نخل بكثير منها ولكننا خير والحمد لله من ما نعلمه من البلاد الأخرى...إننا في هذه البلاد نعيش نعمة بعد فقر وأَمناً بعد خوف وعلماً
بعد جهل وعزاً بعد ذل بفضل التمسك بهذا الدين مما أوغر صدور الحاقدين وأقلق مضاجعهم يتمنون زوال ما نحن فيه ويجدون من بيننا وللأسف من يستعملونه لهدم
الكيان الشامخ بنشر أباطيلهم وتحسين شرهم للناس {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} (الحشر: من الآية2) .
ولقد عجبت لما ذُكر من أن أحد الجهلة هداه الله ورده إلى صوابه يصور النشرات التي ترد من خارج البلاد التي لا تخلو من الكيد والكذب ويطلب توزيعها من بعض الشباب
ويشحذ هممهم بأن يحتسبوا الأجر على الله. سبحان الله هل انقلبت المفاهيم؟ هل يطلب رضى الله في معصيته؟ هل التقرب إلى الله يحصل بنشر الفتن وزرع الفرقة بين
المسلمين وولاة أمورهم؟ معاذ الله أَن يكون كذلك اهـ
(وجوب طاعة السلطان للعريني 49.) .
وفي الختام: أورد كلمة مهمة للشيخ صالح آل الشيخ حول خطأ يقع فيه كثير من الشباب عند ما تطرأ أي مشكلة جهلاً منهم بمنهج السلف الصالح: لا تطبق أيها المسلم أحاديث
الفتن على الواقع الذي تعيش فيه فإنه يحلو للناس عند ظهور الفتن مراجعة أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفتن ويكثر في مجالسهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -
كذا؛ هذا وقتها هذه هي الفتنة! ونحو ذلك.
والسلف علمونا أن أحاديث الفتن لا تنزل على واقع حاضر وإنما يظهر صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أخبر به من حدوث الفتن بعد حدوثها وانقضائها
مع الحذر من الفتن جميعاً.
وهذا التطبيق لأحاديث الفتن على الواقع وبث ذلك في المسلمين ليس من منهج أهل السنة والجماعة وإنما أهل السنة والجماعة يذكرون الفتن وأحاديث الفتن محذرين منها
مباعدين للمسلمين عن غشيانها أو عن القرب منها لأجل أن لا يحصل بالمسلمين فتنة ولأجل أن يعتقدوا صحة ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - اهـ
(الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن 52.) .
أقوال السلف الصالح في النصيحة للولاة والإسرار بها
قال سليمان التيمي-رحمه الله-:ما أغضبت رجلاً فقبل منك, فكيف بالسلطان
(الأمر بالمعروف للخلال ص36)
و قال الإمام أحمد-رحمه الله-يأمر بالرفق والخضوع, ثم قال: إن أسمعوه ما يكره لا يغضب! فيكون يريد ينتصر لنفسه(الأمر بالمعروف للخلال ص39.)
وقال النووي-رحمه الله-وتنبيهم وتذكيرهم برفق ولطف(شرح صحيح مسلم2/227)
وقال ابن القيم-رحمه الله- : مخاطبة الرؤساء بالقول اللين أمر مطلوب شرعاً وعقلاً وعرفاً ، ولذلك تجد الناس كالمفطورين عليه(بدائع الفوائد3/1061)
وقال العلامة ابن مفلح: مبينا طريقة الإنكار على السلاطين "فَصْل ( فِي الْإِنْكَار عَلَى السُّلْطَان وَالْفَرْق بَيْنَ الْبُغَاة وَالْإِمَام
وَلَا يُنْكِر أَحَد عَلَى سُلْطَان إلَّا وَعْظًا لَهُ وَتَخْوِيفًا أَوْ تَحْذِيرًا مِنْ الْعَاقِبَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَإِنَّهُ يَجِب وَيَحْرُم بِغَيْرِ ذَلِكَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْره وَالْمُرَاد وَلَمْ يَخَفْ مِنْهُ بِالتَّخْوِيفِ
وَالتَّحْذِير وَإِلَّا سَقَطَ وَكَانَ حُكْم ذَلِكَ كَغَيْرِهِ .
قَالَ حَنْبَلٌ : اجْتَمَعَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ فِي وِلَايَةِ الْوَاثِقِ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَقَالُوا لَهُ : إنَّ الْأَمْرَ قَدْ تَفَاقَمَ وَفَشَا يَعْنُونَ إظْهَار الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَغَيْر ذَلِكَ وَلَا نَرْضَى بِإِمْرَتِهِ وَلَا سُلْطَانه
فَنَاظَرَهُمْ فِي ذَلِكَ وَقَالَ عَلَيْكُمْ بِالْإِنْكَارِ بِقُلُوبِكُمْ وَلَا تَخْلَعُوا يَدًا مِنْ طَاعَة وَلَا تَشُقُّوا عَصَا الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تَسْفِكُوا دِمَاءَكُمْ وَدِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ مَعَكُمْ ، وَانْظُرُوا فِي عَاقِبَةِ أَمْرِكُمْ
وَاصْبِرُوا حَتَّى يَسْتَرِيح بَرٌّ أَوْ يُسْتَرَاح مِنْ فَاجِر وَقَالَ لَيْسَ هَذَا صَوَاب ، هَذَا خِلَاف الْآثَار .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَأْمُر بِكَفِّ الدِّمَاء وَيُنْكِر الْخُرُوج إنْكَارًا شَدِيدًا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الْكَفُّ ؛ لِأَنَّا نَجِدُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَلَّوْا فَلَا
خِلَافًا لِلْمُتَكَلِّمِينَ فِي جَوَاز قِتَالِهِمْ كَالْبُغَاةِ قَالَ الْقَاضِي : وَالْفَرْق بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَة الظَّاهِر وَالْمَعْنَى ، أَمَّا الظَّاهِر فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِ الْبُغَاة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ طَائِفَتَانِ
وَفِي مَسْأَلَتِنَا أَمْرٌ بِالْكَفِّ عَنْ الْأَئِمَّة بِالْأَخْبَارِ الْمَذْكُورَة ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّ الْخَوَارِج يُقَاتَلُونَ بِالْإِمَامِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا يَحْصُل قِتَالهمْ بِغَيْرِ إمَام فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَمْ يَجُزْ الْجِهَاد بِغَيْرِ
إمَام انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ إنَّ الْجَمَاعَةَ حَبْلُ اللَّهِ فَاعْتَصِمُوا مِنْهُ بِعُرْوَتِهِ الْوُثْقَى لِمَنْ دَانَا كَمْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِالسُّلْطَانِ مُعْضِلَةً فِي دِينِنَا رَحْمَةً مِنْهُ وَدُنْيَانَا لَوْلَا الْخِلَافَةُ لَمْ تُؤْمَنْ لَنَا سُبُلٌ
وَكَانَ أَضْعَفُنَا نَهْبًا لِأَقْوَانَا وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِابْنِهِ يَا بُنَيّ احْفَظْ عَنِّي مَا أُوصِيكَ بِهِ : إمَامٌ عَدْلٌ خَيْرٌ مِنْ مَطَرٍ وَبْلٍ وَأَسَدٌ حَطُومٌ خَيْرٌ مِنْ إمَامٍ ظَلُومٍ ، وَإِمَامٌ ظَلُومٌ غَشُومٌ
خَيْرٌ مِنْ فِتْنَةٍ تَدُومُ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر مَعَ السَّلَاطِينِ التَّعْرِيف وَالْوَعْظ ، فَأَمَّا تَخْشِينُ الْقَوْلِ نَحْو يَا ظَالِم يَا مَنْ لَا يَخَاف اللَّهَ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُحَرِّك فِتْنَة يَتَعَدَّى
شَرُّهَا إلَى الْغَيْر لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِز عِنْد جُمْهُور الْعُلَمَاء قَالَ : وَاَلَّذِي أَرَادَ الْمَنْع مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُود إزَالَة الْمُنْكَر وَحَمْلُ السُّلْطَان بِالِانْبِسَاطِ عَلَيْهِ
عَلَى فِعْلِ الْمُنْكَر أَكْثَر مِنْ فِعْلِ الْمُنْكَر الَّذِي قُصِدَ إزَالَته قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا يُتَعَرَّض لِلسُّلْطَانِ فَإِنَّ سَيْفَهُ مَسْلُول وَعَصَاهُ .
فَأَمَّا مَا جَرَى لِلسَّلَفِ مِنْ التَّعَرُّض لِأُمَرَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَهَابُونَ الْعُلَمَاء فَإِذَا انْبَسَطُوا عَلَيْهِمْ احْتَمَلُوهُمْ فِي الْأَغْلَب ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيث عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ : إذَا اسْتَشَاطَ السُّلْطَانُ
تَسَلَّطَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ اهـ .( الآداب الشرعية1/222)
وقال ابن النحاس
ويختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام معه على رأس الأشهاد بل يود لو كلمة سراً ونصه خفية من غير ثالث لها
(تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين، وتحذير السالكين من أفعال الهالكين ص64)
يتبع بإذن الله