- مصطفى بلحاج
إنَّ الشَّيخ مبارك الميلي رحمه الله قد اعتنى في كتابه «رسالة الشِّرك ومظاهره» ببيان التَّوحيد الَّذي هو إفراد الله بالعبادة، وبيَّن الشِّرك الأكبر المنافي لأصل التَّوحيد، والشِّرك الأصغر المنافي لكماله، وبيَّن أيضًا الذَّرائع والوسائل المقرِّبة إلى الشِّرك أو الموصلة إليه، والبدع القادحة في التَّوحيد، والمعاصي المنقصة لثوابه.
وقد أجمع مجلس إدارة جمعيَّة علماء الجزائر ـ رحمهم الله ـ في عصرهم على محتوى هذا الكتاب.
وقامت الجامعة الإسلامية بالمدينة النَّبويَّة بطبعه لما رأت فيه من فائدة، وهذه الطَّبعة خالية من بيان درجة الأحاديث، وبيان ما يُشكل، ونحوه.
ثمَّ قام الشَّيخ الفاضل أبو عبد الرَّحمن محمود بتحقيق الكتاب تحقيقًا علميًّا بذل فيه جهدًا مشكورًا فجزاه الله خيرًا، غير أنَّ العمل البشري لا يسلم من الخَلَلِ، إلاَّ من عصمه الله، وقد وقع في الكتاب بعض الأخطاء من مؤلِّفه، وفات الشَّيخ محمودًا ـ حفظه الله ـ التَّنبيهُ عليها، فأحببت أن أنبِّه على بعض ما تيسَّر لي الآن باختصار يقتضيه المقام؛ نصحًا لإخواني.
ولا يخفى ما يترتَّب على هذه النَّصيحة من مصلحة شرعيَّة تعود على الشَّيخ الميلي نفسه؛ حيث لا يُتابع على هذه الأخطاء؛ وتعود أيضًا على غيره من طلبة العلم ليتجنَّبوا هذه الأخطاء، وخاصَّة أنَّ الكتاب قد انتشر بين النَّاس، بل هناك من يُدَرِّسه في بعض الحلقات.
والله أسأل أن يعصمنا من الزَّلل، وأن يوفِّقنا للتَّمسُّك بالكتاب والسُّنَّة على فهم سلف الأمَّة.
وإليك المواطن المراد بيانها:
* الموطن الأوَّل:
قال الشَّيخ الميلي رحمه الله في (ص 262): «معنى المحبَّة في القرآن: وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[المائدة:54]، فمحبَّة الله تعالى للعبد إنعامه عليه، ومحبَّة العبد له طلب الزُّلفى لديه.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين}[البقرة:222] أي يثيبهم وينعم عليهم... هذا كلام الرَّاغب، وقد وضعنا نقطًا للدّلالة على أنَّا حذفنا من أثنائه ما لم نر نقله» انتهى.
أقول وبالله التَّوفيق: قول الشَّيخ الميلي رحمه الله: «محبَّة الله تعالى للعبد إنعامه عليه»، وقوله في الموطن الثَّاني:«يثيبهم وينعم عليهم»، فيه تأويل لصفة المحبَّّّّّّّة،والصَّواب أنَّ المحبَّة على ظاهرها، وهو مذهب أهل السُّنَّة؛ فإنَّهم يثبتون لله تعالى محبَّةً حقيقيَّةً تليق به، وهي من الصِّفات الفعليَّة الاختياريَّة المتعلّقة بمشيئته سبحانه وتعالى، وكذا القول في جميع ما ورد في الكتاب والسُّنَّة من الصِّفات، فنثبتها لله تعالى ولا نؤوِّلها تأويلات الأشاعرة وغيرهم، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في «مجموع الفتاوى» (5 /195): «ومذهب سلف الأمَّة وأئمَّتها أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله ﷺ ، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، فلا يجوز نفي صفات الله تعالى الَّتي وصف بها نفسه، ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين، بل هو سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير}[الشورى:11] ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله» انتهى.
وقال في كتاب «التَّدمريَّة»: (ص 31 ـ 32) في مناقشته لمن يثبت سبع صفات فقط وهم الأشاعرة: فإن كان المخاطب ممَّن يقول: بأنَّ الله حيٌّ بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلِّم بكلام، مُريد بإرادة، ويجعل ذلك كلّه حقيقة، وينازع في محبَّته ورضاه وغضبه وكراهيَّته، فيجعل ذلك مجازًا، ويفسِّره إمَّا بالإرادة، وإمَّا ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات.
قيل له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر.
فإن قلت: إنَّ إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبَّته ورضاه وغضبه، وهذا هو التَّمثيل، وإن قلت: إنَّ له إرادة تليق به، كما أنَّ للمخلوق إرادة تليق به، قيل لك: وكذلك له محبَّة تليق به وللمخلوق محبَّة تليق به، وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به...» انتهى.
وقد نَقَل الشَّيخ الميلي رحمه الله كلام الرَّاغب في معنى المحبَّة مقرًّا له، كما هو واضح من السِّياق، وحذَف من كلامه ما لم يرَ نقله، فقال: «وقد وضعنا نقطًا للدّلالة على أنَّا حذفنا من أثنائه ما لم نر نقله» انتهى، فدلَّ ذلك على أنَّه ارتضى كلام الرَّاغب، والله أعلم.
* الموطن الثَّاني:
قال الشَّيخ الميلي رحمه الله في (ص 314):
«التَّوسُّل بالجاه شرك أو ذريعة إليه:
والَّذي نقوله: إنَّ هذا الضَّرب من التَّوسُّل، إن لم يكن شركًا فهو ذريعة إليه، وإنَّ الحكم فيه ينبغي أن يُفَصَّل على وجه آخر، وهو أن يسلم هذا التَّوسُّل للعالم بالتَّوحيد وما ينافيه، حتَّى لا يخشى عليه من الشِّرك، وأن يحذر منه الجاهل المتعرِّض لمزالق الشِّرك الخفيف إلى دواعي الوثنيَّة؛ خشيةَ أن يعتقد أنَّ لأحد حقًّا على الله في جلب النَّفع ودفع الضَّرِّ، وأنَّ الصَّالحين مع الله تعالى كالوزراء مع الملوك، يحملونهم على فعل ما لم يكونوا مريدين لفعله، ومن اعتقد هذا فقد وقع في صريح الشِّرك، وجعل إرادة الله حادثة تتأثَّر بإرادة غيره وعلمه حادثًا يتغيَّر لعلم المخلوق.
التّفرقة بين الجاهل والعالم في مقام الاحتياط:
...وسند هذه التَّفرقة ما رواه مسلم وأبو داود والنَّسائي، أنَّ النَّبيَّ ﷺ سمع خطيبًا يقول: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال له ﷺ: «بِئْسَ خَطِيبُ القَوْمِ أَنْتَ، قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ»، فأنكر ﷺ على الخطيب الجمع بين الله ورسوله في ضمير واحد، وثبت عنه ﷺ الجمع بينهما في عدَّة أحاديث، منها: ما أخرجه أبو داود من قوله ﷺ: «مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ إِلاَّ نَفْسَهُ» انتهى.
وقال في (ص 396): «وفي تفصيل القرطبي(1) واستحسان الحافظ له شهادة أخرى لتفرقتنا في التَّوسُّل (بالذَّات والجاه) بين العالم والجاهل» انتهى.
أقول وبالله التَّوفيق:
أجاز الشَّيخ الميلي رحمه الله التَّوسُّل بجاه النَّبيِّ ﷺ وذاته للعالم بالتَّوحيد! لأنَّه لا يُخشى عليه كما يُخشى على الجاهل من التَّعرُّض لمزالق الشِّرك.
وفيه نظر من وجوه:
الوجه الأوَّل: الصَّحيح أنَّه لا فرق بين العالم والجاهل في الأحكام الشَّرعيَّة.
الوجه الثَّاني: الحديث الثَّاني الَّذي استدلَّ به الشَّيخ الميلي ـ وفيه الجمع بين الله ورسوله ﷺ في لفظ واحد ـ منكرٌ لا يثبت به حكمٌ شرعيٌّ، فقد أخرجه أبو داود في «السُّنن» (1097)، والطَّبراني في «الكبير» (10499) وفي «الأوسط» (2530)، والبيهقي في «السُّنن الكبرى» (13608) من طريق عمران، عن قتادة، عن عبد ربِّه، عن أبي عياض، عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا.
وهذا الحديث فيه علَّة وهي تفرُّد عمران بن داور القطَّان عن قتادة، وقد أشار الطَّبراني إلى ذلك بقوله: «لم يروِ هذا الحديث عن قتادة إلاَّ عمران» انتهى.
وبهذا أعلَّه المنذري، وابن القيِّم، وابن الملقِّن وزاد أمرًا آخر وهو جهالة عبد ربِّه(2).
وعلى فرض ثبوت الحديث فليس فيه حجَّة على التَّفرقة بين العالم والجاهل؛ لأنَّ في ذلك وصفًا للصحابيِّ بالجهل، ولا يخفى بطلانه؛ بل الصَّحابيُّ لا يتصدَّى للخطابة إلاَّ وهو أهلٌ لذلك، وكونه أخطأ في مسألة لا يخرج بذلك عن دائرة أهل العلم.
الوجه الثَّالث: الصَّحابة رضي الله عنهم هم أعلم النَّاس برسول الله ﷺ ولم يثبت عن أحد منهم أنَّه توسَّل بجاهه ﷺ ولا بذاته، بل كانوا يطلبون منه الدُّعاء في حياته فيدعو لهم، فلمَّا توفي النَّبيُّ ﷺ لم يتوسَّلوا بذاته ولا بجاهه، بل توسَّلوا بدعاء العبَّاس رضي الله عنه، كما في «صحيح البخاري» (964) عن أنس رضي الله عنه: «أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه كان إذا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بن عبد الْمُطَّلِبِ فقال: اللهم إِنَّا كنا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا، قال: فَيُسْقَوْنَ»، فلو كان التَّوسُّل بجاه النَّبيِّ ﷺ وذاته جائزًا لما عدلوا عنه إلى من هو دونه في الفضل.
قال ابن تيمية رحمه الله في «قاعدة جليلة في التَّوسُّل والوسيلة» (ص279): «عَلِم الصَّحابة أنَّ التَّوسُّل به ﷺ إنَّما هو التَّوسُّل بالإيمان به وطاعته ومحبَّته وموالاته، أو التَّوسُّل بدعائه وشفاعته، فلهذا لم يكونوا يتوسَّلون بذاته مجرَّدة عن هذا وهذا، فلمَّا لم يفعل الصَّحابة ـ رضوان الله عليهم ـ شيئًَا من ذلك، ولا دعوا بمثل هذه الأدعية، وهم أعلم منَّا، وأعلم بما يجب لله ورسوله، وأعلم بما أمر الله به ورسوله من الأدعية، وما هو أقرب إلى الإجابة منَّا، بل توسَّلوا بالعبَّاس رضي الله عنه وغيره ممَّن ليس مثل النَّبيِّ ﷺ، دَلَّ عدولهم عن التَّوسُّل بالأفضل إلى التَّوسُّل بالمفضول أنَّ التَّوسل المشروع بالأفضل لم يكن ممكنًا» انتهى.
الوجه الرَّابع: أنَّ التَّوسُّل عبادة، والعبادات توقيفيَّة، فلا تكون بالرَّأي والقياس، كما ذكره الشَّيخ الميلي نفسه.
الوجه الخامس: أنَّ العالم بالتَّوحيد هو أشدُّ النَّاس احتياطًا لأمر دينه؛ لأنَّ علمه بالله يورثه الخشية منه سبحانه وتعالى، وكلَّما كان المرء بالله أعلم كان أكثر له خشية، وخشيةُ الله تعالى تُوجب له الابتعاد عن وسائل الشِّرك وذرائعه، بل توجب له البعد عن منقصات ثواب التَّوحيد، قال الله تعالى:: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}[فاطر:28]، والرَّاسخون في العلم يخافون أن تزيغ قلوبهم عن الحقَِّ، قال الله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّاب}[آل عمران:8]؛ وذلك لأنَّهم علموا أنَّهم معرَّضون للابتلاء، قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[هود:7]، ولم يأمنوا مكر الله، قال عزَّ وجلَّ: {َلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون}[الأعراف:99]، فلو بلغ المرء من العلم ما بلغ، فليس هو على يقين من السَّلامة، والخلاصة أنَّ هذه التَّفرقة بين العالم والجاهل في مسألة التَّوسُّل بجاه النَّبيِّ ﷺوذاته(3) لا وجه لها في الشَّرع، والله أعلم.
* الموطن الثَّالث:
قال الشَّيخ المِيلي رحمه الله في (ص361): «زيارة التَّبرُّك: السَّابع: التَّبرُّك، وهذا لا ينبغي إطلاق القول فيه بأنَّه مشروع أو مبتدع حتَّى يُعلم مراد الزَّائر من التَّبرُّك؛ فإن أراد به الانتفاع في قبول الدُّعاء، أو زيادة ثواب الطَّاعة ولم يرتكب في زيارته مخالفة للشَّرع كان غرضه مشروعًا معقولاً، كما بيَّنَّاه في الفصل الحادي عشر، وهذا القبر الشَّريف لا يُقصد من زيارته أكثر من ذلك؛ ففي «الشِّفاء» لعياض: قال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلّم على النَّبيّ ﷺ ودعا يقف ووجهه إلى القبر الشَّريف لا إلى القبلة، ويدنو ويسلِّم، ولا يمسّ القبر بيده، وقال في «المبسوط»: «لا أرى أن يقف عند قبر النَّبيِّ ﷺ يدعو، ولكن يسلم ويمضي»، وقال ابن عاشر:
وسِرْ لقَبْرِ المـصـطـفى بِأدَبِ ونـِيَّـةٍ تُـجَـبْ لِـكُـلِّ مَطْلَـبِ سَلِّـمْ عَلَـيْـهِ ثُـمَّ زِد للصــــدّيــق ثـُمَّ إلى عُمَر نِـلْـتَ التَّـوْفِـيـق واعْلَمْ بِأنَّ ذا المَقَام يُسْتَجَاب فيه الدُّعَاء فَلاَ تَمَلَّ مِن طِلاب وإن أراد به الانتفاع بالمزور أو المزار في قضاء الحاجات من غير أسبابها المعتادة وطرقها الظَّاهرة فهو مِن نسبة التَّصرُّف في الكون للمخلوق، وذلك شرك بواح، قال في «زاد المعاد»: «وكان هديه ﷺ أن يقول ويفعل عند زيارتها من جنس ما يقوله عند الصَّلاة عليه من الدُّعاء والتَّرحُّم والاستغفار، فأبى المشركون إلاَّ دعاء الميِّت، والإشراك به، والإقسام على الله به، وسؤاله الحوائج، والاستعانة به، والتَّوجُّه إليه، بعكس هديه ﷺ؛ فإنَّه هدي توحيد وإحسان إلى الميت، وهدي هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم وإلى الميِّت» (1 /146)، انتهى ما ذكره الشَّيخ المِيلي.
أقول وبالله التَّوفيق:
في كلام الشَّيخ الميلي نظرٌ من وجوه:
الوجه الأوَّل:
فات الشَّيخ الميلي رحمه الله الإشارة إلى تتمَّة كلام ابن القيِّم، كما صنع في نقله لكلام الرَّاغب السَّابق في موضوع المحبَّة حيث وضع نقاطًا تدلُّ على كلام محذوف لم يرَ نقله.
وإليك بقيَّة كلام ابن القيِّم؛ فإنَّ فيه زيادة بيان، قال رحمه الله: «وهم ثلاثة أقسام: إمَّا أن يدعوا الميِّت، أو يدعوا به، أو عنده، ويرون الدُّعاء عنده أوجب وأولى من الدُّعاء في المساجد، ومن تأمَّل هدي رسول الله ﷺ وأصحابه تبيَّن له الفرق بين الأمرين، وبالله التَّوفيق» انتهى.
فقول ابن القيِّم رحمه الله: «أو عنده» يشمل الصُّورة الَّتي أجازها الشَّيخ الميلي رحمه الله وهي دعاء الزَّائر لنفسه عند القبر.
والحاصل أنَّ الشَّيخ المِيلي رحمه الله نقل من كلام ابن القيِّم ما ينطبق على من قصد الانتفاع بالمزور أو المزار في قضاء الحاجات فقط، ولم ينقل الصُّورة السَّابقة؛ لأنَّه يخالف ابن القيِّم فيما ذهب إليه رحمه الله، والصَّواب ما ذكره ابن القيِّم، كما سيأتي بيانه.
الوجه الثَّاني:
قول الشَّيخ الميلي رحمه الله: «فإنْ أراد به الانتفاع في قبول الدُّعاء، أو زيادة ثواب الطَّاعة ولم يرتكب في زيارته مخالفة للشَّرع كان غرضه مشروعًا معقولاً، كما بيَّنَّاه في الفصل الحادي عشر، وهذا القبر الشَّريف لا يُقصد من زيارته أكثر من ذلك» انتهى.
وهذا الكلام غير صحيح؛ لأنَّه لم يَرِد في الكتاب ولا في السُّنَّة ولا مِن فعل الصَّحابة أنَّ قبر النَّبيِّ ﷺ ـ فضلاً عن غيره ـ يُستجاب عنده الدُّعاء، أو يُزاد في ثواب الطَّاعة، قال ابن تيمية رحمه الله في كتاب «قاعدة جليلة في التَّوسُّل والوسيلة» (ص34): «وأمَّا الزِّيارة البدعيَّة فهي الَّتي يقصد بها أن يطلب من الميِّت الحوائج، أو يطلب منه الدُّعاء والشَّفاعة، أو يقصد الدُّعاء عند قبره لظنِّ القاصد أنَّ ذلك أجْوَب للدُّعاء؛ فالزِّيارة على هذه الوجوه كلِّها مبتدعة لم يشرعها النَّبيُّ ﷺ، ولا فعلها الصَّحابة، لا عند قبر النَّبيِّ ﷺ، ولا عند غيره، وهي من جنس الشِّرك وأسباب الشِّرك»انتهى.
وقال أيضًا مبيِّنًا حكم الدُّعاء عند قبر النَّبيِّ ﷺ كما في «مجموع الفتاوى» (26 /147): «ولا يقف عند القبر للدُّعاء لنفسه؛ فإنَّ هذا بدعة، ولم يكن أحد من الصَّحابة يقف عند القبر يدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة، ويدعون في مسجده ﷺ» انتهى.
والحاصل أنَّ من قصد قبر النَّبيِّ ﷺ أو غيره ظانًّا أنَّه يُستجاب عندها الدُّعاء، أو يزاد في أجر طاعته فقد ابتدع في الدِّين ما ليس منه، وهو يحوم حول حمى الشِّرك، يوشك أن يقع فيه، والعياذ بالله.
الوجه الثَّالث:
قول الشَّيخ الميلي رحمه الله: «ففي «الشِّفاء» لعياض: قال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلَّم على النَّبيِّ ﷺ ودعا يقف ووجهه إلى القبر الشَّريف لا إلى القبلة، ويدنو ويسلِّم، ولا يمسّ القبر بيده».
والظَّاهر أنَّ الشَّيخ الميلي رحمه الله ذكر كلام مالك هنا ليستدلَّ به على جواز دعاء الزَّائر لنفسه عند قبر النَّبيِّ ﷺ، ويدلُّ على هذا ذِِكْرُه بعد ذلك أبيات ابن عاشر، كما في البيت الأوَّل والأخير، حيث قال:
وسِرْ لقَبْرِ المـصـطـفى بِأَدَب ونـِيَّـةٍ تُـجَـبْ لِـكُـلِّ مَطْلَـب واعْلَمْ بِأنَّ ذاَ المَقَام يُسْتَجَاب فيه الدُّعَاء فَلاَ تَمَل مِن طِلاب وفي هذه الأبيات جواز الدُّعاء عند قبر النَّبيِّ ﷺ؛ وهو مقام يُستجاب فيه الدُّعاء.
وقد أزال ابن تيمية رحمه الله اللَّبس الواقع في كلام مالك في «مجموع الفتاوى» (1 /231) بقوله: «قال أبو الوليد الباجي: «وعندي أن يدعو للنَّبيِّ بلفظ الصَّلاة، ولأبي بكر وعمر بلفظ السَّلام؛ لما في حديث ابن عمر رضي الله عنه من الخلاف»، قال ابن تيميَّة: وهذا الدُّعاء يفسّر الدُّعاء المذكور في رواية ابن وهب، قال مالك في رواية ابن وهب: «إذا سلّم على النَّبيِّ ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو ويسلِّم، ولا يمسّ القبر»، فهذا هو السَّلام عليه والدُّعاء له بالصَّلاة عليه كما تقدَّم تفسيره» انتهى.
وقد نقل عياض في «الشِّفا» (2 /88): عن «المبسوط» للقاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي رواية أخرى عن مالك، قال: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج، أن يقف على قبر النَّبيِّ ﷺ فيصلّي عليه، (ويدعو لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما) انتهى.
فظهر أنَّ مالكًا قصد بقوله السَّابق «ودعا» أي الدُّعاء للنَّبيِّ ﷺ ولصاحبيه رضي الله عنهما لا دعاء الزَّائر لنفسه، وليت الشَّيخ المِيلي رحمه الله ذكر هذه الرِّواية هنا كما نقل الرِّوايتين السَّابقتين من «الشِّفا» من الموطن نفسه، مع ما في هذه الرِّواية من بيان المراد بالدُّعاء المجمل في رواية ابن وهب.
وأمَّا قول مالك الَّذي في «المبسوط»: «لا أرى أن يقف عند قبر النَّبيِّ ﷺ يدعو، ولكن يسلّم ويمضي فقد عزَا ابن عبد الهادي في «الصارم المنكي» (ص 179) هذا النَّصَّ إلى «المبسوط» بلفظ أتمّ عن مالك، قال: «لا أرى أن يقف الرَّجل عند قبر النَّبيِّ ﷺ يدعو ولكن يسلِّم على النَّبيِّ ﷺ وعلى أبي بكر وعمر، ثمَّ يمضي، وقال مالك ذلك؛ لأنَّ هذا هو المنقول عن ابن عمر أنَّه كان يقول: «السَّلام عليك يا رسول الله، السَّلام عليك يا أبا بكر، السَّلام عليك يا أبت أو يا أبتاه، ثمَّ ينصرف ولا يقف يدعو»، فرأى مالك ذلك من البدع. انتهى
وقصد مالك بقوله: «ولا يقف يدعو» منع الزَّائر من الدُّعاء لنفسه عند قبر النَّبيِّ ﷺ وهذا أقرَّ به بعض القبوريِّين ممَّن يجيز الدُّعاء عند قبر النَّبيِّ ﷺ بل يجيز الاستغاثة به، وهو أبو بكر الحصني الدِّمشقي حيث قال في كتاب «دفع شبه من شبَّه وتمرَّد ونسب ذلك إلى السَّيِّد الجليل الإمام أحمد» (ص115)(4): «وأمَّا الدُّعاء عند القبر فقد ذكره خلق ومنهم الإمام مالك وقد نصَّ على أنَّه يقف عند القبر ويقف كما يقف الحاج عند البيت للوداع ويدعو... وقال مالك في رواية ابن وهب: «إذا سلَّم على النَّبيِّ ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدعو ويسلِّم ولا يمسّ القبر بيده»، نَعم في «المبسوطة»: «لا أرى أنَّه يقف عنده ويدعو ولكن يسلِّم ويمضي»، وإنَّما ذكرتُ كلام «المبسوطة»؛ لأنَّ مِن حقِّ العالم الَّذي يؤخذ بكلامه أن يذكر ما له وما عليه؛ لأنَّ ذلك من الدِّين» انتهى كلام الحصني.
فزعم أنَّ رواية ابن وهب له، ورواية «المبسوط» عليه، والحقُّ أنَّ كلا الرِّوايتين عليه.
الوجه الرَّابع:
قول الشَّيخ الميلي: «كما بيَّنَّاه في الفصل الحادي عشر»، يعني به قوله في (ص153): ثمَّ التَّبرُّك حيث أُثبت في روايات الإثبات؛ فإنَّما المقصود منه طلب الزِّيادة في ثواب الطَّاعة، قال الباجي: في «المنتقى» موجِّهًا إعلامه ﷺ لأمَّته بقصَّة وادي السّرر: «وإنَّما أعلم بذلك ﷺ فيما يظهر إليَّ ـ والله أعلم ـ لفضل الذِّكر عندها(5) لمن مرَّ بها، ورجاء إجابة الدُّعاء، وتنزل الرَّحمة عندها».
علَّق عليه الشَّيخ الميلي بقوله: «والتَّبرُّك على هذا الوجه عندي معقول؛ لأنَّ ذكرى الأنبياء والصَّالحين ورؤية آثارهم ممَّا يزيد الموحِّدين خشوعًا وتعريفًا بتقصيرهم في طاعة خالقهم، فتخلص بذلك عبوديَّتهم لله تعالى، وحينئذ تكون الإثابة على عبادتهم أسمى، وقبول دعائهم أرجى وطمعهم في تنزُّل الرَّحمة أقوى، وروايات نفي التَّبرُّك غير معارضة لروايات إثباته بهذا المعنى؛ لأنَّ النَّافين إنَّما يقصدون الاحتياط على عقائد العامَّة أن تزيغ كما سبق في توجيه مخاطبة عمر رضي الله عنه للحجر الأسود، وأنَّه قطع الشَّجرة خوف الفتنة، وأنَّه حذَّرهم أن يهلكوا بتتبُّع الآثار هلاك أهل الكتاب...
والَّذي تفيده النُّقول السَّابقة في مجموعها إثباتًا ونفيًا وتوجيهًا: أنَّ التَّبرُّك مشروع، ولكنَّه مقيَّد بقيود:
أحدها: أن يكون التَّبرُّك بفعل طاعة مشروعة(6)، كصلاة، ودعاء، ورجاء القبول، وزيادة الأجر؛ لا بحمل تراب أو بخور وغيرهما من أجزاء المكان المتبرَّك به، أو الأشياء الموضوعة فيه...
ثانيها: أن لا يحمل المتبرِّك غيره على التَّبرُّك، ولا أن يدعوه إليه، فلا يُنصب شيء للعموم يتبرَّكون به(7).
ثالثها: أن يتَّفق له المرور بمكان التَّبرُّك، لا أن يقصد إليه من بعيد ويقتحم السَّفر من أجله.
رابعها: أن يكون من المعرفة بدينه(8) بحيث لا تضلُّه خطرات النَّفس، ولا نزغات الشَّيطان، لا أن يكون ضعيف الإيمان قليل المعرفة».
ـ وقال أيضًا في (ص358): «وقد تقدَّم في الفصل الحادي عشر حديث السرحة الَّتي سُرَّ تحتها سبعون نبيًّا، وزيارة النَّبيِّ ﷺ لقباء راكبًا وماشيًا يصلِّي فيه ركعتين، وذلك يدلُّ لمشروعيَّة زيارة الأمكنة الفاضلة من غير سفر».
أقول وبالله التَّوفيق:
ذهب الشَّيخ الميلي فيما سبق إلى جواز التَّبرُّك بقبر النَّبيِّ ﷺ وتوسَّع هنا فجوَّز التَّبرُّك بآثار الأنبياء والصَّالحين.
وفي كلامه نظرٌ من وجوه:
الوجه الأوَّل: الصَّواب عدم جواز التَّبرُّك بآثار الأنبياء والصَّالحين؛ لما تقدَّم ذكره في مسألة التَّبرُّك بقبر النَّبيِّ ﷺ، وأضيفُ هنا ما قاله ابن تيمية رحمه الله في «اقتضاء الصِّراط المستقيم» (2/649): «من قصد بقعة يرجو الخير بقصدها، ولم تستحب الشَّريعة ذلك، فهو من المنكرات، وبعضه أشدّ من بعض، سواء كانت البقعة شجرة أو غيرها، أو قناة جارية، أو جبلاً، أو مغارة، وسواء قصدها ليصلِّي عندها، أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله سبحانه عندها، أو لينسك عندها، بحيث يخصُّ تلك البقعة بنوع من العبادة الَّتي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به لا عينًا ولا نوعًا» انتهى.
وقال أيضًا في «مجموع الفتاوى» (27 /503 ـ 504): «لم يشرع الله تعالى للمسلمين مكانًا يُقصد للصَّلاة إلاَّ المسجد، ولا مكانًا يُقصد للعبادة إلاَّ المشاعر، فمشاعر الحجِّ، كعرفة ومزدلفة ومنى تُقصد بالذِّكر والدُّعاء والتَّكبير لا الصَّلاة، بخلاف المساجد، فإنَّها هي الَّتي تُقصد للصَّلاة، وما ثَمَّ مكان يُقصد بعينه إلاَّ المساجد والمشاعر، وفيها الصَّلاة والنُّسك... وما سوى ذلك من البقاع فإنَّه لا يستحبُّ قصد بقعة بعينها للصَّلاة ولا الدُّعاء ولا الذِّكر، إذ لم يأت في شرع الله ورسوله قصدها لذلك، وإن كان مسكنًا لنبيٍّ أو منزلاً أو مَمَرًّا؛ فإنَّ الدِّين أصله متابعة النَّبيِّ ﷺ وموافقته بفعل ما أمرنا به وشرعه لنا وسنَّه لنا، ونقتدي به في أفعاله الَّتي شُرع لنا الاقتداء به فيها، بخلاف ما كان من خصائصه، فأمَّا الفعل الَّذي لم يشرعه هو لنا، ولا أمرنا به، ولا فعله فعلاً سنَّ لنا أن نتأسَّى به فيه، فهذا ليس من العبادات والقرب، فاتِّخاذ هذا قربةً مخالفةٌ له، وما فعله من المباحات على غير وجه التَّعبُّد يجوز لنا أن نفعله مباحًا كما فعله مباحًا، ولكن هل يشرع لنا أن نجعله عبادة وقربة؟ فيه قولان كما تقدَّم، وأكثر السَّلف والعلماء على أنَّا لا نجعله عبادة وقربة، بل نتبعه فيه، فإن فعله مباحًا فعلناه مباحًا، وإن فعله قربة فعلناه قربة» انتهى.
الوجه الثَّاني: لم يَتَحَرَّ الخلفاء الرَّاشدون ولا غيرهم من الصَّحابة رضي الله عنهم الصَّلاة أو الدُّعاء أو الذِّكر في الأماكن الَّتي صلَّى فيها النَّبيُّ ﷺ فضلاً عن الأماكن الَّتي نزل فيها للرَّاحة ونحوها، وهم أعلم النَّاس بسنَّة النَّبيِّ ﷺ وأسبقهم للخير، فدلَّ ذلك على عدم جواز التَّبرُّك بآثاره ﷺ ولا بآثار غيره من باب أولى.
الوجه الثَّالث: ما ورد عن عمر رضي الله عنه من النَّهي عن ذلك، فعن المعرور بن سويد قال: «خرجنا مع عمر ابن الخطَّاب، فعرض لنا في بعض الطَّريق مسجد، فابتدره النَّاس يصلُّون فيه، فقال عمر: ما شأنهم؟ فقالوا: هذا مسجد صلَّى فيه رسول الله ﷺ، فقال عمر: أيُّها النَّاس، إنَّما هلك من كان قبلكم باتِّباعهم مثل هذا، حتَّى أحدثوها بيعًا، فمن عرضت له فيه صلاة فليصلِّ، ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض»(9)، علَّق عليه ابن تيمية بقوله: «لمَّا كان النَّبيُّ ﷺ لم يقصد تخصيصه بالصَّلاة فيه، بل صلَّى فيه؛ لأنَّه موضع نزوله، رأى عمر أنَّ مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة، بل تخصيص ذلك المكان بالصَّلاة من بدع أهل الكتاب الَّتي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التَّشبُّه بهم في ذلك، ففاعل ذلك متشبِّه بالنَّبيِّ ﷺ في الصُّورة، ومتشبِّه باليهود والنَّصارى في القصد، الَّذي هو عمل القلب، وهذا هو الأصل، فإنَّ المتابعة في السُّنَّة أبلغ من المتابعة في صورة العمل»(10).
وجاء عن عمر رضي الله عنه أيضًا أنَّه بلغه أن ناسًا يأتون الشَّجرة الَّتي بويع تحتها النَّبيُّ ﷺ فأمر بها فقطعت(11).
وقد كره مالك وغيره من علماء المدينة اتِّباع آثار النَّبيِّ ﷺ، قال ابن وضَّاح القرطبي في «كتاب البدع» (ص91): «وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنَّبيِّ ﷺ ما عدا قباء وأحدًا».
الوجه الرَّابع: التَّبرُّك عبادة والعبادات توقيفيَّة، ولم يرد دليل صحيح صريح في التَّبرُّك بآثار الأنبياء عليهم السلام، ولا غيرهم، فيجب الاتِّباع وعدم الابتداع.
الوجه الخامس: أنَّ التَّبرُّك بآثار الأنبياء والصَّالحين ذريعة للشِّرك والفتنة، فَسَدُّ هذا الباب أمر مطلوب شرعًا، ولهذا قطع عمر رضي الله عنه الشَّجرة الَّتي كانت تحتها البيعة، ونهى عن تعمُّد الصَّلاة في الأمكنة الَّتي كان رسول الله ﷺ ينزل بها في سفره(12).
والخلاصة أنَّه لا يجوز التَّبرُّك بآثار النَّبيِّ ﷺ ولا غيره من الأنبياء والصَّالحين، والله أعلم(13).
* الموطن الرَّابع:
قال الشَّيخ الميلي رحمه الله في (ص108): وقسَّم أبو البقاء الحنفي في «كلِّيَّاته» الشِّرك إلى ستَّة أقسام؛ فقال: «والشِّرك أنواع: شرك الاستقلال: وهو إثبات شريكين مستقلَّين؛ كشرك المجوس، وشرك التَّبعيض: وهو تركيب الإله من آلهة؛ كشرك النَّصارى، وشرك التَّقريب: وهو عبادة غير الله ليقرّب إلى الله زلفى؛ كشرك متقدِّمي الجاهليَّة، وشرك التَّقليد: وهو عبادة غير الله تبعًا للغير؛ كشرك متأخِّري الجاهليَّة، وشرك الأسباب: وهو إسناد التَّأثير للأسباب العاديَّة؛ كشرك الفلاسفة والطَّبائعيِّين ومن تبعهم على ذلك. وشرك الأغراض؛ وهو العمل لغير الله، فحكم الأربعة الأول الكفر بإجماع، وحكم السَّادس المعصية من غير كفر بإجماع، وحكم الخامس التَّفصيل، فمن قال في الأسباب العاديَّة: إنَّها تؤثِّر بطبعها؛ فقد حكي الإجماع على كفره، ومن قال: إنَّها تؤثِّر بقوَّة أودعها الله فيها؛ فهو فاسق» انتهى كلام أبي البقاء.
علّق عليه الشَّيخ الميلي بقوله: «وهذه الأقسام متفاوتة قوَّةً وضعفًا، ولكنَّها متَّحدة في الحكم عليها بالكفر، إذا استثنينا أحد وجهي النَّوع الخامس، أمَّا السَّادس، فقد أخرجه أيضًا أبو البقاء، وحقُّه التَّفصيل كالَّذي قبله، فإنَّ العمل لغير الله: إمَّا نفاق، أو رياء، والأوَّل كفر اتِّفاقًا، والثَّاني معصية من غير كفر إجماعًا، ولكن ما خرج من هذه الوجوه عن حكم الكفر فإنَّه ذريعة إليه، ولهذا تناوله لفظ الشِّرك كبقيَّة الأقسام» انتهى.
أقول وبالله التَّوفيق:
انتقد الشَّيخ محمود ـ جزاه الله خيرًا ـ أبا البقاء الحنفي الأشعري في نفيه تأثير الأسباب في مسبِّباتها فقال: «أبو البقاء أشعريٌّ متكلِّم، وكون الأسباب تؤثِّر بقوَّة أودعها الله فيها هو مذهب السَّلف؛ فلا يُغترَّ بأشعريَّة أبي البقاء...»، ثمَّ نقل كلام ابن تيميَّة رحمه الله، وفيه الرَّدُّ على الأشاعرة الَّذين أنكروا أن يكون للأسباب أيَّ تأثير على المسبّبات.
ولكن فات الشَّيخ محمودًا التَّنبيه(14) على موافقة الشَّيخ الميلي لأبي البقاء في المسألة المذكورة، حيث نقل كلامه مقرًّا له؛ إلاَّ في النَّوع السَّادس من الشِّرك فإنَّه رأى فيه التَّفصيل، فقال: «أمَّا السَّادس فقد أخرجه أيضًا أبو البقاء وحقُّه التَّفصيل...».
فالشَّيخ الميلي فصَّل فيما رأى أنَّه يحتاج إلى تفصيل ـ في نظره ـ وأقرَّ باقي كلام أبي البقاء ولم ينتقده في شيء منه، بل ارتضاه كما هو واضح من سياق الكلام، وعادته في هذا الكتاب نقد ما لا يراه صوابًا(15).
وهناك موطن آخر في (ص232) أقرَّ الشَّيخ الميلي القرطبيَّ على مسألة الأسباب، حينما ذكر ما يفعله السَّاحر من طيران في الهواء والمشي على الماء وغير ذلك، ثمَّ قال القرطبي: «ومع ذلك فلا يكون السِّحر موجبًا لذلك، ولا علَّة لوقوعه، ولا سببًا مولدًا(16)، ولا يكون السَّاحر مستقلاً به، وإنَّما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السِّحر، كما يخلق الشِّبع عند الأكل، والرَّي عند شرب الماء».
فالقرطبيُّ ينفي أن يكون السِّحر والأكل والشُّرب أسبابًا لها تأثير في مسبّباتها، وإنَّما يخلق الله ويحدث تلك المسبّبات عند وجود أسبابها، لا بها، فلا ارتباط عنده بين السَّبب والمسبَّب، وإنَّما علاقتهما علاقة اقتران(17) فقط.
وهذا قول الجهميَّة ومن تبعهم كالأشاعرة، والصَّواب ما عليه أهل السُّنَّة أنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ جعل في الأسباب قوَّة تؤثِّر في مسبّباتها بإذنه سبحانه وتعالى، فالسِّحر جعل الله فيه قوَّة تؤثِّر بإذنه تعالى، وجعل في الأكل قوَّة التَّغذية، وفي الماء قوَّة الرَّيِّ، ونحو ذلك.
قال ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى» (8 /485 ـ 486): «ومذهب الفقهاء أنَّ السَّبب له تأثير في مسبّبه، ليس علامة محضة، وإنَّما يقول إنَّه علامة محضة طائفة من أهل الكلام الَّذين بنوا على قول جهم... ومملوء ـ أي القرآن ـ بأنَّه يخلق الأشياء بالأسباب، لا كما يقوله أتباع جهم: أنَّه يفعل عندها لا بها، كقوله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}[النحل:65]، وقوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيد * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيد * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا}[ق:9-11]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون}[الأعراف:57]...انتهى.
وقال ابن القيِّم رحمه الله في «مدارج السَّالكين» (3 /496): «وعندهم ـ يعني الجهميَّة ـ أنَّ الله لم يخلق شيئًا بسبب، ولا جعل في الأسباب قوى وطبائع تؤثِّر، فليس في النَّار قوَّة الإحراق، ولا في السّمِّ قوَّة الإهلاك، ولا في الماء والخبز قوَّة الرَّيِّ والتَّغذِّي به، ولا في العين قوَّة الإبصار، ولا في الأُذن والأنف قوَّة السَّمع والشَّمِّ، بل الله سبحانه يحدث هذه الآثار عند ملاقاة هذه الأجسام، لا بها، فليس الشِّبع بالأكل، ولا الرَّيّ بالشُّرب، ولا العلم بالاستدلال، ولا الانكسار بالكسر، ولا الإزهاق بالذَّبح...».
هذا ما تيسَّر لي التَّنبيه عليه الآن، وهناك مسائل أخرىتحتاج إلى بيان، عسى الله أن ييسِّر ذلك في وقت لاحق ـ إن شاء الله تعالى ـ واللهَ أسأل أن يرينا الحقَّ حقًّا ويرزقنا اتِّباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد.
(1) أي تفصيله في حكم النَّذر حيث قال: «الَّذي يظهر لي أنَّه على التَّحريم في حقِّ من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد، فيكون إقدامه على ذلك محرَّمًا، والكراهة في حقِّ من لم يعتقد ذلك» قال ابن حجر: وهو تفصيل حسن. انتهى.
(2) انظر: «مختصر سنن أبي داود» للمنذري، وبهامشه «تهذيب السُّنن» لابن القيِّم (3 /55)، و«البدر المنير» (7 /533).
(3) وقد فصّل القول في مسألة التوسل ابن تيمية رحمه الله في كتابه « قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة».
(4) وفي هذا الكتاب من الجهل والظُّلم ما الله به عليم.
(5) أي الشَّجرة الَّتي وردت في حديث ابن عمر أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: «إِذَا كُنْتَ بَيْنَ الأَخْشَبَيْنِ مِنْ مِنًى فَإِنَّ هُنَاكَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ السّرر بِهِ (شَجَرَةٌ) سُرّ تَحْتَهَا سَبْعِينَ نَبِيًّا» أورده الشَّيخ الميلي في (ص150) وذكر أنَّ الزّرقاني استدلَّ به على التَّبرُّك بمواضع النَّبيِّين، وقد بيَّن محقِّق الكتاب الشَّيخ محمود ـ جزاه الله خيرًا ـ ضعْفَ هذا الحديث.
(6) وهذا لا يكفي؛ لأن الطاعة قد تكون مشروعة في مكان دون مكان، وزمان دون زمان، والأصل في ذلك هو اتِّباع الرَّسول ﷺ.
(7) كيف يكون التَّبرُّك مشروعًا ثمَّ لا يدعو غيره إليه!!
(8) من كانت له معرفة بدينه كان أشد احتياطًا في تجنُّب وسائل الشِّرك، كما سبق بيانه في الوجه الرَّابع في مسألة التَّوسُّل بالنَّبيِّ ﷺ.
(9) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنَّف» (7550)، وإسناده صحيح، كما قاله ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (1 /281).
(10) «مجموع الفتاوى» (1 /281).
(11) أخرجه ابن سعد في «الطَّبقات» (2 /100) وابن أبي شيبة في «المصنَّف» (7545) وقال ابن حجر: في «الفتح» (7 /448): «إسناده صحيح».
(12) انظر: «إغاثة اللَّهفان» (1 /368).
(13) انظر: «اقتضاء الصِّراط المستقيم» (2 /750 ـ 757) فإنَّ فيه تفصيل القول في هذه المسألة.
(14) كما نبَّه ـ جزاه الله خيرًا ـ في (ص52) على خطأ الشَّيخ الميلي حينما نقل طعن السُّبكي في ابن تيمية رحمه الله مقرًّا له.
(15) انظر مثلاً نقده لكلام ابن حجر الهيتمي في (ص200)، والرَّازي في (ص202 ـ 204)، وابن خلدون في (ص204)، والشَّوكاني في (ص312)، وابن تيمية في (ص304) وغيرهم.
(16) المقصود بالتولّد: وجود مسبَّب تولَّد من سبب مباشر من العبد، كتولّد الشِّبع عن الأكل، والرَّي عن الشُّرب، ونحوها، فجعل الأشاعرة هذه الأمور من فعل الله سبحانه لا كسب فيها للمكلّف ولا قدرة له عليها.
(17) أي يقع المسبّب مقترنًا بالسَّبب.
* منقول من مجلة الإصلاح «العدد 8»
المصدر...موقع راية الاصلاح