- د. رضا بوشامة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه الطاهرين الميامين، ومَن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:فقد قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُون إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين﴾.
فأخبر سبحانه الخلائق المكلفين من إنس وجان، أنَّه ما خلقهم إلا لعبادته بالتوحيد والإحسان، وأنَّ رزقهم مضمونٌ وعيشهم مصون، إن هم أدَّوا الأمانة وقبلوا الرسالة وأنَّه «﴿الرزاق﴾ أي: كثير الرزق، الذي ما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، ﴿ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ أي: الذي له القوة والقدرة كلها، الذي أوجد بها الأجرام العظيمة، السفلية والعلوية، وبها تَصرَّف في الظواهر والبواطن، ونفذت مشيئته في جميع البريات، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يعجزه هارب، ولا يخرج عن سلطانه أحد، ومن قوته أنه أوصل رزقه إلى جميع العالم ...» [تفسير السعدي].
وقال تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ روح القدس نفث في روعي: إن نفسا لا تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإن الله لا يُدرك ما عنده إلا بطاعته» [الصحيحة ].
فإذا كان الرزق مضمونا وكان في السماء وبيد صاحب العرش المجيد ولا ينزله إلا بقدر معلوم كما قال تعالى : ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُوم﴾، فما لنا نرى الناس يجروون جري الوحوش، ويُلقون في الليل كالجيف الميتة النفوس، ومع ذلك فلا يستطيعون تحصيل قطمير أكثر مما في الكتاب المسطور.
فهل تُرانا ملَكنَا مفاتيح تلك الخزائن والأبواب لنستنزل خيراتها وننعم بثرواتها، وهل ترانا أطعنا مالكنا وسيِّدنا واسترضيناه لننعم ب****اه، أم أنَّ خيرَه إلينا نازل، وشرَّنا إليه صاعد، ومع ذلك لا شكران ولا حمد، بل هجران وصد، وكبر وبَطَر، فلتعلم ـ رحمني الله وإياك ـ أنَّ للرزق مفاتح أُرشِد إليها المؤمن الطائع التائب، وضَلَّ عنها العاصي المتباعد:
أولها: تقوى الله عز وجل، قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾.
والتقوى كما عرفها طلق بن حبيب رحمه الله: «أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله».
وهنا تنبيه على الإخلاص في عمل الطاعات وترك المنهيات وأنه لا مجال للرياء والسمعة فيهما لأنها محبطة لكليهما، وإذا فُقد الأصل مات الفرع، فهل تُراك تأتي الطاعات وأنت مستحضر بقلبك وجود الإله ومشاهدته لك حينها، وهل تُراك تبتعد عن المعاصي وأنت تستشعر مراقبة المولى لك، فلم تؤدِّ العبادة ليحمدك الناس، ولم تذر المعصية لأنهم سيذمُّوك، ولم تنفق ليقال كريم، ولم تمسك عن الشرِّ حتى لا يُذاع بأنك لئيم، بل أنت في كل حالاتك تبتغي مرضاة ربك.
ثانيهما: الاستغفار، فكلُّنا أصحاب ذنوب وخطايا، وآثام وبلايا، ورغم ذلك فباب التوبة مفتوح وجسر الاستغفار ممنوح، كما قال تعالى: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾.
فهل يغفر الذنوب والزلات ويمحو الخطأ والآفات فقط؟ بل ﴿يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا﴾ «أي: مطرا متتابعا، يروي الشعاب والوهاد، ويحيي البلاد والعباد، ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ أي: يكثر أموالكم التي تدركون بها ما تطلبون من الدنيا وأولادكم، ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ وهذا من أبلغ ما يكون من لذات الدنيا ومطالبها» [تفسير السعدي].
فوعد سبحانه عباده المستغفرين بالرزق كلِّه من مال للتجارة والتكسب وفك ضيق العيش، وأولاد وبنين فهم من أفضل الرزق إذا صلحوا واستقاموا، وجنات من زروع وبساتين وأنهار غائرة وأشجار مثمرة، تَسرُّ العين والقلب معا، فبالله عليك متى كان آخر استغفار استغفرته وقلبك حاضر؟! وكما قال الحسن البصري رحمه الله: «استغفارنا يحتاج إلى استغفار»، فتجد أحدَنا يذكر ربَّه ويستغفره، وقلبُه منصرف إلى سواه، وبالُه مشغول بما عداه.
الثالث: الصلاة، وإن كانت تدخل في المفتاح الأول حيث إنَّها العمل بطاعة الله، إلا أننا خصَّصناها لتخصيص المولى عز وجل لها، كما قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾.
وأنا وأنت نصلي والحمد لله، ولكن هل أدَّيناها بأركانها وشروطها ومستحباتها، ووفَّيناها حقَّها؟ أم أننا نستعجل فيها لأنَّ موعدَ العمل قد أزِف، ولأن الأرباح قد تُنتسَف إن نحن أطلنا الركعة، أو جئنا بالذِّكر أكثر من مرة، وهذا ما يفعله معظمُنا، لا يأتي بالصلاة كاملة كما يجب، لأن عمله قد وجب، ولأن الزبائن لو جاؤوا بعده ووجدوا الدكان مغلقا سيذهبون إلى غيره، وتضيع عليه بعضُ الدريهمات، ولم يعلم المغبونُ بأنَّه بأدائه لصلاته قد صُرف له الدُّرُّ المكنون مِن رضى الرب إن تُقبِّل العمل، وزيادة الربح وكثرة النماء في المدخول، وعلى هذا فقس.
والكثير الكثير يأتي بالطاعات ناقصة مخافة فوات الرزق، وهذا في الحقيقة يأخذنا إلى المفتاح الرابع:
التوكل، قال صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم كنتم توكَّلون على الله حقَّ توكله لرُزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا».
فإذا كانت هذه المخلوقات التي لا تعقل تتوكل على الملك الجبار، وتقوم بما يجب عليها فعله ألا وهو الغدوُّ، فكيف بك أيها العاقل الراشد، فلو أنَّك أدَّيتَ عباداتك والمطلوبَ منك، وأنت متوكل على السيد المتعال لكُفيت همك، ولقُضي دينُك، وفُرِّج كربُك، لكن تشعَّبَت بك الهمومُ في كلِّ واد، ولم تجعل رضا ربك نَصب عينيك، فلم يبال بك في أيِّ واد هلكتَ، فالتوكل عبادةٌ قلبية عظيمة، لا يعرف معناها ولا يعقل مؤداها إلا كلُّ مؤمن محتسب عاداتِه قبل عباداته في رضى ربِّه ومولاه، ولو تأمَّلنا قولَه عليه السلام: «تغدو خماصا» لوجدناه يُرشدنا إلى مفتاح آخر من مفاتيح الرزق وهو:
التبكير: فالغدو هو الذهاب بكرة وصباحا، وهكذا السعي وراء العيش إنما يكون في الصباح، وقد بورك لأمَّتنا المحمدية في بكورها، كما صح بذلك الحديث: «بورك لأمَّتي في بكورها».
وأنت لا تستيقظ إلا حين تَلفَحُ الشمس وجهَك، أو تزيح عنك الغطاءَ أمُّك أو زوجُك، وتريد أن تُرزق الرزق الرغيد، وتتمتع بالعيش السعيد، فأنَّى لك ذلك، كذلك لو تأمَّلنا حالَ بعض الطيور، لوجدناها تطير في السماء وتسعى في الأرض تلتقط الحبَّ وتسبِّح الرَّب، أي أنها تطلب الرزق في مظانه وأماكنه التي تجده بها، فلم تذهب إلى الصحاري والقفار، أو البحار والأنهار لأنَّ رزقَها غير موجود بها، فكل ميَسَّر لما خلق له، وأنت تجلس في بيتك وتقضي نهارَك مشتغلا بما لا ينفعك، ولم تسع إلى أماكن الرزق والطلب خوفا من التعب والنَّصَب، وقد أرشدنا النبيُّ الرؤوف إلى طلب الرزق في مظانه.
فهذا مفتاح آخر فقال عليه الصلاة والسلام: «وَاللَّهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلًا فَيَنْطَلِقَ إِلَى هَذَا الْجَبَلِ فَيَحْتَطِبَ مِنْ الْحَطَبِ وَيَبِيعَهُ وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ حَرَمُوهُ»، فأماكن التكسب معلومة وطرق الرزق غير مجهولة، ومن أكثر أماكن طلب الرزق الأسواق حيث يكثر الصفق والاشتغال بالتجارة والبيع والشراء.
وهذا في الحقيقة مفتاح آخر من مفاتيح الرزق لمن عقله وفهمه وتدَبَّر أحكامَه، فليس يصلح للتجارة إلا مَن عرف أحكامَها وعمل بحلالها واجتنب حرامها، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: «من لم يتعلم أحكام البيع أكل الربا شاء أم أبى»، وقد بيَّن عليه الصلاة والسلام أن الصدق في البيع والشراء سبب من أسباب البركة في الرزق وزيادته لقوله عليه السلام: «إذا صدَقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإذا كذبا وكتما مُحقت بركة بيعهما»، وقال أيضا: «التجار هم إلا من اتقى وبَرَّ وصدق».
فالصادق مالُه نام زائد، والكاذب ديناره ممحوق مسحوق ولو كان ألف ألف دينار، قال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيم﴾.
ومن مفاتيح الرزق أيضا الزكاة: وما سميت بذلك إلا للنماء والزيادة، فإن أنت أدَّيت حقَّ الله في مالك بُورك لك فيه، وزيد لك في رزقك، وقرَّت عينك، واطمأنَّ صدرك بما عندك، وابتهج قلبك بما زاد فيه، فإذا كانت الصدقة النافلة غير الواجبة تزيد في أصل المال وتنميه، فمِن باب أولى الصدقة المفروضة المحبوبة لله تعالى، كما في الحديث: «ما تقرَّب إلي عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه ...».
ومن مفاتح الرزق التي يغفل عنها الكثير من الناس صلة الرحم كما جاء في كلام النبي المصطفى والرسول المجتبى: «من سرَّه أن يُبسط له في رزقه أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه»، وأيُّنا لا يحب أن يطول عمره ويكثر رزقه فليسأل كل واحد منا نفسه: متى كانت آخر مرة زُرتَ فيها رحمك، ووصلت أهلك واطمأننت على قرابتك، ولِمَ فعلتَ ذلك؟ ألحاجة لك تقضيها أو لعبادة توفيها؟ والجواب لا شك عندكم معلوم.
فها أنت قد اتقيت المولى عز وجل، وقمت بعبادته، وتوكَّلت عليه، وبكَّرت في طلب رزقك في مظانه، واستغفرتَ ربَّك من الزلل والتقصير، وأدَّيت حقَّه تعالى فيما أنعم عليك، وصدَقتَ المتعاملَ معك، وجب عليك الآن شكرُ هذه النعم: التوفيق للمفاتيح واستخدامها في الطاعة ونزول الخيرات وحلول البركات عليك، وشكر المنعم إنما يكون بلسانك وقلبك وجوارحك، وألا تَستخدم ما استُخلفتَ فيه إلا ابتغاء مرضاته جل وعلا، وهذا من أهم مفاتح جلب الرزق واستكثاره، قال تعالى ﴿وَلَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾.
وهذا يقودنا إلى المفتاح العظيم وهو الدعاء، كما جاء في الحديث: «الدعاء هو العبادة»، فادع ربَّك وسيِّدَك أن يفتح عليك أبواب السماء والأرض وأن يستعملك في طاعته ويزيدك من فضله، وألا يقطع عنك إحسانه، وأن يتولاك في الدنيا والآخرة، بأن تظهر فاقتك إليه وحاجتك له دائما، وألا تملَّ من دعائه بل أن تلحَّ عليه فيه، فمَن لم يسأل الله غضب كما في الحديث، والباري عز وجل يحب من عباده أن يتوجهوا إليه بالدعاء، ويظهروا له الذلَّ والافتقار، قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين﴾، والحذر الحذر من أن تقنط من الاستجابة وتيأسَ من الرحمة، فتُحرم التوفيق وتُسدَّ عليك باب الخير، وفي الحديث: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي».
هذه بعض الأشياء التي تزيد في الرزق وتسهل حصوله وتنميه بعد وقوعه، فإذا أردتم سعة العيش ورَفَه الحياة فما عليكم إلا استخدام المفاتيح لحل الخزائن وجلب الكمائن، وإن صعُب عليكم الأمر فلا تتعَنَّوا؛ لأنَّ الرزق الهنيء والعمر المديد والعيش السعيد لا يكون للبطَّال الكسول الأكول المتواكل الذي ينتظر أن تمطر السماء عليه فضَّة وذهباً، الحمد لله رب العالمين.
المصدر ...موقع راية الاصلاح