العلاقة التاريخية بين الزواوة و تلمسان
هناك علاقة تاريخية بارزة بين مدينتي بجاية، حاضرة بلاد الزواوة، ومدينة تلمسان التي ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية عبر العصور، خاصة أيام الزيانيين الذين جعلوها عاصمة لملكهم.
ورغم اشتداد الصراع السياسي بين حكام المنطقتين، فإن الثقافة قد ظلت رابطة متينة، وثقت العلاقات بينهما لقرون عديدة.
نبذة عن تاريخ بجاية
بنى السلطان الحمادي الناصر بن علناس مدينة بجاية (الناصرية)، بعد انتقاله من قلعة بني حماد بالمسيلة، إلى بلاد الزواوة (القبائل)، وكان ذلك في القرن الحادي عشر الميلادي. وحوّلها إلى منارة علمية،
قصدها العلماء من كل حدب وصوب، خاصة من الأندلس، وشمال إفريقيا، وأوروبا. نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر العلامة عبد الرحمن بن خلدون، و محيي الدين بن عربي، و سيدي بومدين شعيب،
و ابن تومرت، و عبد المؤمن بن علي (مؤسسا الدولة الموحدية)، و الشاعر بن حمديس الصقلي، والكثير من الرحالة، كالإدريسي و ابن بطوطة، والعالم الرياضي الايطالي
ليوناردو فيبوناتشي Leonardo Fibonacci، والفيلسوف الاسباني ريمو لول Rymond Lulle. كما اشتهرت بقصورها الرائعة كقصر اللؤلؤة، وقصر الكوكب، و قصر أميمون،
وبمدارسها العديدة، أشهرها مدرسة جامع قصبة المدينة التي أنشأها الموحدون،
درّس بها العلامة ابن خلدون. هذا وقد تغنى الشاعر الحسن بن الفكون القسنطيني (ق 13 م)، بجمال مدينة بجاية قائلا:
- دع العـراق وبغداد وشـــــــــامهما / فالناصرية مــــــا إن مثلــــــها بلد
- بـر وبحر وموج للعيــــــــــون بـه / ســــارح بــــــان عنها الهم والنكد
- حيث الهوى والهواء الطلق مجتمع / حيث الغنى والمنى والعيشة الرغد
- يـــا طالبا وصفها إن كنت ذا نصف / قــل جنة الخلد فيــها الأهل الولـد
واحتفظت مدينة بجاية برونقها ومكانتها العلمية في العهدين الموحدي والحفصي. ولعب فيها النازحون من مسلمي الأندلس دورا كبيرا في إنعاشها وترقيتها، إلى أن وقعت في قبضة القوات
الاسبانية سنة 1510م، وكان ذلك بمثابة نكبة ألمت بالمدينة أدت إلى خروج الكثير من سكانها، واستقرارهم في الجبال، فتوقف دورها الريادي في المغرب الإسلامي، وصارت مدينة من الدرجة
الثانية كغيرها من المدن العادية.
تلمسان العريقة
أما مدينة تلمسان فهي عريقة أيضا، استقطب موقعها الجغرافي وأراضيها الخصبة، العنصر البشري منذ زمن بعيد، والدليل على ذلك أن معنى كلمة تلمسان الأمازيغية(تـَلمَسْثْ، وجمعها تِلمِسَانْ)،
تعني الأرض المعشاب ذات المياه الوافرة، والأشجار الباسقة. هذا ولم يستبعد الكاتب محمد طمار في كتابه الموسوم " تلمسان عبر العصور"، أن تكون التسمية الرومانية "پوماريا" ترجمة
للاسم الأمازيغي القديم. ويعود الفضل في تأسيس حاضرة تلمسان -حسب رواية ابن خلدون- إلى قبيلة بني يفرن الأمازيغية، واشتهرت آنذاك باسم أڤادير. اشتد الصراع بين الأمويين بالأندلس والفاطميين
من أجل السيطرة عليها. هذا وقد ارتفع شأن هذه المدينة في عهد المرابطين، وعرفت آنذاك باسم ثاڤرارث. ثم ازدادت أهمتها في عهد الموحدين الذين وسّعوا عمرانها ليشمل ثاڤراراث، وأڤادير،
فأنشأوا فيها القصور والفنادق ودارا لصك النقود. وصارت بفضل مرسى هُنين، هي المدينة الأولى من حيث الأهمية الاقتصادية في المغرب الأوسط. وتحولت مدينة تلمسان إلى عاصمة
سياسية للدولة الزيانية التي أسسها يغمراسن سنة 1235م.
نبذة عن تاريخ بجاية
لا شك أن العلاقات بين المدينتين أكبر من أن تحصر في الجانب الثقافي فقط، ولكن نظرا لتشعبها ، فإنني ارتأيت اختيار العلاقة الثقافية كنموذج بين المدينتين اللتين كتب لهما أن تصيرا
عاصمتين للدولة الحمادية (بجاية)، والدولة الزيانية (تلمسان). والجدير بالذكر أنهما احتفظتا بمكانتهما العلمية المرموقة، حتى بعد انتهاء دورهما السياسي.
لقاء عبد المؤمن بن علي مع ابن تومرت في بجاية
ولد عبد المؤمن بن علي (1094 - 1162م) بقرية تاجرا المنتمية إلى قبيلة كومية بناحية ندرومة، ولاية تلمسان. وبعد أن أكمل دراسته بمسجد تلمسان، شد الرحال إلى مدينة بجاية،
وقد اختلف المؤرخون حول الغاية من هذا السفر، فمنهم من ذكر أن عبد المؤمن بن علي كان ينوي السفر إلى المشرق العربي عبر ميناء بجاية، لطلب العلم. ومنهم من ذكر أنه تنقل إلى بجاية،
لإقناع ابن تومرت الذي كان يقيم بقرية ملالة، بالقدوم إلى تلمسان للتدريس بمسجدها بعد وفاة العلامة عبد السلام التونسي. وعقدت جلسة مطولة بين الرجلين، اكتشف الأستاذ خلالها حدة ذكاء التلميذ
وقوة شخصيته، لذا قال فيه قولته المشهورة: "لا يقوم الأمر الذي فيه حياة الدين إلا بعبد المؤمن بن علي سراج الموحدين"، ومن مظاهر تبجيله أيضا أنه فضله على نفسه في ركوب دابته
أثناء سيره إلى تلمسان، معللا ذلك بقول: "اركبوه الحمار يركبكم يوما ما الخيل المسومة".
ومهما كان الأمر فإن التقاء الرجلين:عبد المؤمن بن علي الكومي، و ابن تومرت السوسي بمدينة بجاية، يعد حدثا تاريخيا هاما، أسفر عن اتفاقهما على محاربة الدولة
المرابطية المتهمة بالبدعة، وعلى تأسيس كيان سياسي جديد على أنقاضها، يوحّد المغرب الإسلامي، ومن ثَم شرع الرجلان في الدعوة إلى التوحيد، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ببلاد المغرب الإسلامي.
سيدي بومدين نزيل بجاية و دفين تلمسان
يعد سيدي بومدين شعيب من السادة الصوفية الكبار، الذين عاشوا في القرن 12 الميلادي، وهو أندلسي الأصل، درس بمدينة فاس، ومن أشهر شيوخه هناك أبو الحسن بن حرزم.
ثم ارتحل إلى المشرق للاستزادة من المعرفة الصوفية، والتقى هناك بأحد أقطاب الصوفية سيدي عبد القادر الجيلاني. وبعد عودته استقر بمدينة بجاية مدة خمس عشرة سنة، اشتغل
أثناءها بالتدريس وتلقين التربية الروحية الصوفية المؤسسة على القرآن والسنة، وعرف بالورع والزهد ومكارم الأخلاق، لذا حظي بالتبجيل والتقدير في المجتمع.
ونظرا لمكانته المرموقة في أوساط الجماهير، فقد وشّى به البعض عند السلطان الموحّدي يعقوب المنصور، وأوغروا صدره عليه، بحجة أنه يشكل خطرا على الدولة الموحدية،
لِمَا كان يتميز به من صفات التقوى والورع تؤهله -في نظرهم- لمهمة المهدي المنتظر. وعلى إثر ذلك أرسل السلطان الموحدي وفدا إلى بجاية لاستقدامه قصد اختباره ومحاورته.
ولما خاف عليه أتباعه، طمأنهم بأنه لن يرى السلطان ولن يراه هذا الأخير!
ولما وصل إلى مدينة تلمسان أبدى إعجابه بموقع العباد، قائلا: ما أحلاه للرقاد! ثم لم يلبث أن أصيب بمرض كتب الله أن يكون سببا لوفاته، فدفن في موقع العباد، وكان ذلك سنة 1198م،
واعتبارا لسمو منزلته العلمية والصوفية، فقد شيّد له مسجد يليق بمقامه السامق عرف باسم مسجد سيدي بومدين، لا يزال إلى يومنا هذا منارة للعلم ومقاما للتعبد.
العلامة عبد الرحمن بن خلدون
يعتبر العلامة عبد الرحمن بن خلدون (1332 - 1406م) من بين القواسم المشتركة التاريخية بين بلاد الزواوة و تلمسان، إذ عاش شطرا من حياته في المدينتين، خلال المرحلة التي كان
يطمح فيها للحصول على مناصب سياسية لدى الحكام والأمراء والسلاطين المغاربة. وفي هذا السياق ارتبط دخوله إلى مدينة بجاية، بخدمة الدولة المرينية، التي لم تخف طموحها لتوحيد
المغرب الإسلامي تحت سيادتها، وتحقق لها ذلك في عهد السلطان أبي الحسن المريني، الذي أخضع لسلطته بجاية وتونس سنة 748هـ/ 1347م. والجدير بالذكر أن هذا السلطان قد اصطحب
معه في حملته هذه، عددا كبيرا من العلماء، عملوا على نشر المعرفة حيثما مر، وكان ابن خلدون آنذاك ضمن علماء مدينة تونس، حيث كان يشتغل في حجابة السلطان الحفصي أبي إسحاق،
التي كان يشرف عليها أبو محمد بن تافراكين.
وبعد أفول نجم الحفصيين، وسطوع نجم المرينيين، قرر عبد الرحمن بن خلدون السفر إلى فاس بحثا عن حظوة لدى سلطانها، ولما وصل إلى مدينة البطحاء (قرب غليزان) التقى بحاجب الدولة
المرينية ابن أبي عمرو، وهو في طريقه إلى بجاية لدعم نفوذ الدولة المرينية، وقد خصه الحاجب بالترحاب والتكريم، لذا لم يرد أن يفوّت على نفسه هذه الفرصة، فعاد معه إلى بجاية، وكان ذلك
سنة 754هـ/ 1353م.
أما الإقامة الثانية لابن خلدون في مدينة بجاية، فقد ارتبطت بالأمير أبي عبد الله الحفصي الذي أسند أمر الحجابة له، بعد عودة هذا الأمير من فاس، حيث كان رهينة لدى الدولة المرينية.
قدم إليه ابن خلدون من الأندلس سنة 766هـ/ 1354م، إثر تمكنه من استرجاع ملكه ببجاية. وبالإضافة إلى مسؤولية الحجابة، فقد كلف أيضا بالخطابة والتدريس بمسجد القصبة.
وبعد هلاك الأمير أبي عبد الله، وتمكن خصمه أبي العباس أمير قسنطينة من احتلال بجاية، خرج منها ابن خلدون، واختار الإقامة لدى القبيلة العربية الدواودة في الجنوب لبعض الوقت.
ثم قصد تلمسان حاضرة بني عبد الوادي، ولم يكن سلطانها يجهل العلاقة الطيبة التي تربطه بالدواودة، لذا كلفه السلطان أبو حمو موسى الزياني بمهمة سياسية لدى هذه القبيلة (الدواودة)،
لإقناعها بدعم ونصرة عرش بني عبد الوادي بتلمسان، وكان ذلك سنة 1374م. وهناك بتلمسان قرر ابن خلدون التخلي عن طموحه السياسي، والتحول إلى الكتابة ودراسة المجتمعات البشرية،
فاختار الاستقرار لدى قبيلة السويد العربية بالغرب الجزائري، ثم شرع في الكتابة بقلعة بني سلامة، مستفيدا من معرفته العميقة للقبائل البدوية، التي كان لها دور حاسم في تقرير مصير
الصراعات السياسية بين السلاطين المتناحرين من أجل سدة الحكم.
علاقة علماء الزواوة بتلمسان
يعتبر التواصل الثقافي حلقة متينة في العلاقات بين الزواوة وتلمسان، فقد دأب علماء هذه الأخيرة على زيارة مدينة بجاية في سياق رحلاتهم العلمية نحو المشرق العربي، ومن جهة أخرى قصد بعض
علماء الزواوة مدينة تلمسان للدراسة والتدريس. ولعل أشهر الأسماء التي أقامت جسورا علمية وثقافية بين المدينتين، علماء قبيلة مشذالة الشهيرة (ولاية البويرة حاليا)، نذكر منهم على
سبيل المثال لا الحصر، ناصر الدين المشذالي (1233 - 1330م)، الذي يعد ضمن قائمة العلماء الكبار الذين أنجبتهم بلاد الزواوة. فبعد أن أتم دراسته ببجاية، رحل إلى المشرق العربي لإكمال دراسته،
ومكث هناك أكثر من عشرين سنة، زار خلالها بلدانا عديدة، وأشهر شيوخه العز بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء، الذي لازمه مدة طويلة. ثم عاد إلى بجاية عالما جليلا، حاملا
معه كتاب "مختصر ابن الحاجب" في الفقه المالكي فاختص بتدريسه.
وذكر ابن خلدون أن هذا العالم قد أحدث ثورة في إصلاح طرائق التدريس، معتمدا على الحوار والمناقشة والتعمق في البحث، عن طريق تغليب مبدأ المناظرة العقلية، والاهتمام بالدراية قبل الرواية،
الأمر الذي ساعد على إعادة الاشراقة إلى مجال الاجتهاد، وانتشر طلبته في ربوع الجزائر خاصة في مدينة تلمسان بوصفها منارة للعلم والمعرفة وعاصمة الدولة الزيانية.
وهناك أيضا العلامة عمران المشذالي (1271 - 1344م)، وهو تلميذ ناصر الدين المشذالي، الذي رحل إلى تلمسان، فأحسن سلطانها ابن تاشفين الزياني وفادته، ثم عيّنه مدرسا بالمدرسة التاشفينية،
درّس العلوم الشرعية واللغوية والمنطق، ولعل أشهر تلامذته في تلمسان المقري الجد، وهو من العلماء الكبار في زمانه، ومكث عمران المشذالي في مدينة تلمسان إلى أن أدركته المنية.
وهناك أيضا أبو الفضل المشذالي (1418 - 1460م)، الذي ارتحل إلى تلمسان طلبا للعلم سنة 1436م، ومكث بها مدة أربع سنوات، أخذ خلالها العلوم الشرعية والأدب والمنطق والفلسفة على يد
العلامة ابن مرزق الحفيد، ودرس أصول الفقه ومختصر ابن الحاجب، على يد العلامة أبي العباس أحمد بن زاغو، وأخذ شتى فروع العلوم والمعارف التي كانت رائجة في زمانه على علماء كثيرين.
وبموازاة إقباله على طلب العلم، كان بدوره يقوم بمهمة التعليم، ولعل أشهر تلامذته في تلمسان أحمد بن زكري.
دور الزواوة في حماية تلمسان من أطماع السعديين
ساهم سكان الزواوة في إطار جهود الأتراك العثمانيين الرامية إلى تأمين حدود الجزائر الغربية (ق 16م)، في حماية تلمسان من أطماع العديد من القوى الخرجية .
والجدير بالذكر أن بلاد الزواوة كانت خلال هذه الفترة تتقاسمها إمارتا العباسيين في آث عباس (الزواوة الشرقية)، وآث القاضي (الزواوة الغربية). ولم يمنع توتر العلاقات بين الزواوة
والأتراك العثمانيين، من القيام بهذا الدور الايجابي خلال فترتي الحاكمين التركيين: صالح رايس (1552 - 1556م)، و حسن بن خير الدين في ولايته الثالثة (1857 - 1861م).
هناك علاقة تاريخية بارزة بين مدينتي بجاية، حاضرة بلاد الزواوة، ومدينة تلمسان التي ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية عبر العصور، خاصة أيام الزيانيين الذين جعلوها عاصمة لملكهم.
ورغم اشتداد الصراع السياسي بين حكام المنطقتين، فإن الثقافة قد ظلت رابطة متينة، وثقت العلاقات بينهما لقرون عديدة.
نبذة عن تاريخ بجاية
بنى السلطان الحمادي الناصر بن علناس مدينة بجاية (الناصرية)، بعد انتقاله من قلعة بني حماد بالمسيلة، إلى بلاد الزواوة (القبائل)، وكان ذلك في القرن الحادي عشر الميلادي. وحوّلها إلى منارة علمية،
قصدها العلماء من كل حدب وصوب، خاصة من الأندلس، وشمال إفريقيا، وأوروبا. نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر العلامة عبد الرحمن بن خلدون، و محيي الدين بن عربي، و سيدي بومدين شعيب،
و ابن تومرت، و عبد المؤمن بن علي (مؤسسا الدولة الموحدية)، و الشاعر بن حمديس الصقلي، والكثير من الرحالة، كالإدريسي و ابن بطوطة، والعالم الرياضي الايطالي
ليوناردو فيبوناتشي Leonardo Fibonacci، والفيلسوف الاسباني ريمو لول Rymond Lulle. كما اشتهرت بقصورها الرائعة كقصر اللؤلؤة، وقصر الكوكب، و قصر أميمون،
وبمدارسها العديدة، أشهرها مدرسة جامع قصبة المدينة التي أنشأها الموحدون،
درّس بها العلامة ابن خلدون. هذا وقد تغنى الشاعر الحسن بن الفكون القسنطيني (ق 13 م)، بجمال مدينة بجاية قائلا:
- دع العـراق وبغداد وشـــــــــامهما / فالناصرية مــــــا إن مثلــــــها بلد
- بـر وبحر وموج للعيــــــــــون بـه / ســــارح بــــــان عنها الهم والنكد
- حيث الهوى والهواء الطلق مجتمع / حيث الغنى والمنى والعيشة الرغد
- يـــا طالبا وصفها إن كنت ذا نصف / قــل جنة الخلد فيــها الأهل الولـد
واحتفظت مدينة بجاية برونقها ومكانتها العلمية في العهدين الموحدي والحفصي. ولعب فيها النازحون من مسلمي الأندلس دورا كبيرا في إنعاشها وترقيتها، إلى أن وقعت في قبضة القوات
الاسبانية سنة 1510م، وكان ذلك بمثابة نكبة ألمت بالمدينة أدت إلى خروج الكثير من سكانها، واستقرارهم في الجبال، فتوقف دورها الريادي في المغرب الإسلامي، وصارت مدينة من الدرجة
الثانية كغيرها من المدن العادية.
تلمسان العريقة
أما مدينة تلمسان فهي عريقة أيضا، استقطب موقعها الجغرافي وأراضيها الخصبة، العنصر البشري منذ زمن بعيد، والدليل على ذلك أن معنى كلمة تلمسان الأمازيغية(تـَلمَسْثْ، وجمعها تِلمِسَانْ)،
تعني الأرض المعشاب ذات المياه الوافرة، والأشجار الباسقة. هذا ولم يستبعد الكاتب محمد طمار في كتابه الموسوم " تلمسان عبر العصور"، أن تكون التسمية الرومانية "پوماريا" ترجمة
للاسم الأمازيغي القديم. ويعود الفضل في تأسيس حاضرة تلمسان -حسب رواية ابن خلدون- إلى قبيلة بني يفرن الأمازيغية، واشتهرت آنذاك باسم أڤادير. اشتد الصراع بين الأمويين بالأندلس والفاطميين
من أجل السيطرة عليها. هذا وقد ارتفع شأن هذه المدينة في عهد المرابطين، وعرفت آنذاك باسم ثاڤرارث. ثم ازدادت أهمتها في عهد الموحدين الذين وسّعوا عمرانها ليشمل ثاڤراراث، وأڤادير،
فأنشأوا فيها القصور والفنادق ودارا لصك النقود. وصارت بفضل مرسى هُنين، هي المدينة الأولى من حيث الأهمية الاقتصادية في المغرب الأوسط. وتحولت مدينة تلمسان إلى عاصمة
سياسية للدولة الزيانية التي أسسها يغمراسن سنة 1235م.
نبذة عن تاريخ بجاية
لا شك أن العلاقات بين المدينتين أكبر من أن تحصر في الجانب الثقافي فقط، ولكن نظرا لتشعبها ، فإنني ارتأيت اختيار العلاقة الثقافية كنموذج بين المدينتين اللتين كتب لهما أن تصيرا
عاصمتين للدولة الحمادية (بجاية)، والدولة الزيانية (تلمسان). والجدير بالذكر أنهما احتفظتا بمكانتهما العلمية المرموقة، حتى بعد انتهاء دورهما السياسي.
لقاء عبد المؤمن بن علي مع ابن تومرت في بجاية
ولد عبد المؤمن بن علي (1094 - 1162م) بقرية تاجرا المنتمية إلى قبيلة كومية بناحية ندرومة، ولاية تلمسان. وبعد أن أكمل دراسته بمسجد تلمسان، شد الرحال إلى مدينة بجاية،
وقد اختلف المؤرخون حول الغاية من هذا السفر، فمنهم من ذكر أن عبد المؤمن بن علي كان ينوي السفر إلى المشرق العربي عبر ميناء بجاية، لطلب العلم. ومنهم من ذكر أنه تنقل إلى بجاية،
لإقناع ابن تومرت الذي كان يقيم بقرية ملالة، بالقدوم إلى تلمسان للتدريس بمسجدها بعد وفاة العلامة عبد السلام التونسي. وعقدت جلسة مطولة بين الرجلين، اكتشف الأستاذ خلالها حدة ذكاء التلميذ
وقوة شخصيته، لذا قال فيه قولته المشهورة: "لا يقوم الأمر الذي فيه حياة الدين إلا بعبد المؤمن بن علي سراج الموحدين"، ومن مظاهر تبجيله أيضا أنه فضله على نفسه في ركوب دابته
أثناء سيره إلى تلمسان، معللا ذلك بقول: "اركبوه الحمار يركبكم يوما ما الخيل المسومة".
ومهما كان الأمر فإن التقاء الرجلين:عبد المؤمن بن علي الكومي، و ابن تومرت السوسي بمدينة بجاية، يعد حدثا تاريخيا هاما، أسفر عن اتفاقهما على محاربة الدولة
المرابطية المتهمة بالبدعة، وعلى تأسيس كيان سياسي جديد على أنقاضها، يوحّد المغرب الإسلامي، ومن ثَم شرع الرجلان في الدعوة إلى التوحيد، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ببلاد المغرب الإسلامي.
سيدي بومدين نزيل بجاية و دفين تلمسان
يعد سيدي بومدين شعيب من السادة الصوفية الكبار، الذين عاشوا في القرن 12 الميلادي، وهو أندلسي الأصل، درس بمدينة فاس، ومن أشهر شيوخه هناك أبو الحسن بن حرزم.
ثم ارتحل إلى المشرق للاستزادة من المعرفة الصوفية، والتقى هناك بأحد أقطاب الصوفية سيدي عبد القادر الجيلاني. وبعد عودته استقر بمدينة بجاية مدة خمس عشرة سنة، اشتغل
أثناءها بالتدريس وتلقين التربية الروحية الصوفية المؤسسة على القرآن والسنة، وعرف بالورع والزهد ومكارم الأخلاق، لذا حظي بالتبجيل والتقدير في المجتمع.
ونظرا لمكانته المرموقة في أوساط الجماهير، فقد وشّى به البعض عند السلطان الموحّدي يعقوب المنصور، وأوغروا صدره عليه، بحجة أنه يشكل خطرا على الدولة الموحدية،
لِمَا كان يتميز به من صفات التقوى والورع تؤهله -في نظرهم- لمهمة المهدي المنتظر. وعلى إثر ذلك أرسل السلطان الموحدي وفدا إلى بجاية لاستقدامه قصد اختباره ومحاورته.
ولما خاف عليه أتباعه، طمأنهم بأنه لن يرى السلطان ولن يراه هذا الأخير!
ولما وصل إلى مدينة تلمسان أبدى إعجابه بموقع العباد، قائلا: ما أحلاه للرقاد! ثم لم يلبث أن أصيب بمرض كتب الله أن يكون سببا لوفاته، فدفن في موقع العباد، وكان ذلك سنة 1198م،
واعتبارا لسمو منزلته العلمية والصوفية، فقد شيّد له مسجد يليق بمقامه السامق عرف باسم مسجد سيدي بومدين، لا يزال إلى يومنا هذا منارة للعلم ومقاما للتعبد.
العلامة عبد الرحمن بن خلدون
يعتبر العلامة عبد الرحمن بن خلدون (1332 - 1406م) من بين القواسم المشتركة التاريخية بين بلاد الزواوة و تلمسان، إذ عاش شطرا من حياته في المدينتين، خلال المرحلة التي كان
يطمح فيها للحصول على مناصب سياسية لدى الحكام والأمراء والسلاطين المغاربة. وفي هذا السياق ارتبط دخوله إلى مدينة بجاية، بخدمة الدولة المرينية، التي لم تخف طموحها لتوحيد
المغرب الإسلامي تحت سيادتها، وتحقق لها ذلك في عهد السلطان أبي الحسن المريني، الذي أخضع لسلطته بجاية وتونس سنة 748هـ/ 1347م. والجدير بالذكر أن هذا السلطان قد اصطحب
معه في حملته هذه، عددا كبيرا من العلماء، عملوا على نشر المعرفة حيثما مر، وكان ابن خلدون آنذاك ضمن علماء مدينة تونس، حيث كان يشتغل في حجابة السلطان الحفصي أبي إسحاق،
التي كان يشرف عليها أبو محمد بن تافراكين.
وبعد أفول نجم الحفصيين، وسطوع نجم المرينيين، قرر عبد الرحمن بن خلدون السفر إلى فاس بحثا عن حظوة لدى سلطانها، ولما وصل إلى مدينة البطحاء (قرب غليزان) التقى بحاجب الدولة
المرينية ابن أبي عمرو، وهو في طريقه إلى بجاية لدعم نفوذ الدولة المرينية، وقد خصه الحاجب بالترحاب والتكريم، لذا لم يرد أن يفوّت على نفسه هذه الفرصة، فعاد معه إلى بجاية، وكان ذلك
سنة 754هـ/ 1353م.
أما الإقامة الثانية لابن خلدون في مدينة بجاية، فقد ارتبطت بالأمير أبي عبد الله الحفصي الذي أسند أمر الحجابة له، بعد عودة هذا الأمير من فاس، حيث كان رهينة لدى الدولة المرينية.
قدم إليه ابن خلدون من الأندلس سنة 766هـ/ 1354م، إثر تمكنه من استرجاع ملكه ببجاية. وبالإضافة إلى مسؤولية الحجابة، فقد كلف أيضا بالخطابة والتدريس بمسجد القصبة.
وبعد هلاك الأمير أبي عبد الله، وتمكن خصمه أبي العباس أمير قسنطينة من احتلال بجاية، خرج منها ابن خلدون، واختار الإقامة لدى القبيلة العربية الدواودة في الجنوب لبعض الوقت.
ثم قصد تلمسان حاضرة بني عبد الوادي، ولم يكن سلطانها يجهل العلاقة الطيبة التي تربطه بالدواودة، لذا كلفه السلطان أبو حمو موسى الزياني بمهمة سياسية لدى هذه القبيلة (الدواودة)،
لإقناعها بدعم ونصرة عرش بني عبد الوادي بتلمسان، وكان ذلك سنة 1374م. وهناك بتلمسان قرر ابن خلدون التخلي عن طموحه السياسي، والتحول إلى الكتابة ودراسة المجتمعات البشرية،
فاختار الاستقرار لدى قبيلة السويد العربية بالغرب الجزائري، ثم شرع في الكتابة بقلعة بني سلامة، مستفيدا من معرفته العميقة للقبائل البدوية، التي كان لها دور حاسم في تقرير مصير
الصراعات السياسية بين السلاطين المتناحرين من أجل سدة الحكم.
علاقة علماء الزواوة بتلمسان
يعتبر التواصل الثقافي حلقة متينة في العلاقات بين الزواوة وتلمسان، فقد دأب علماء هذه الأخيرة على زيارة مدينة بجاية في سياق رحلاتهم العلمية نحو المشرق العربي، ومن جهة أخرى قصد بعض
علماء الزواوة مدينة تلمسان للدراسة والتدريس. ولعل أشهر الأسماء التي أقامت جسورا علمية وثقافية بين المدينتين، علماء قبيلة مشذالة الشهيرة (ولاية البويرة حاليا)، نذكر منهم على
سبيل المثال لا الحصر، ناصر الدين المشذالي (1233 - 1330م)، الذي يعد ضمن قائمة العلماء الكبار الذين أنجبتهم بلاد الزواوة. فبعد أن أتم دراسته ببجاية، رحل إلى المشرق العربي لإكمال دراسته،
ومكث هناك أكثر من عشرين سنة، زار خلالها بلدانا عديدة، وأشهر شيوخه العز بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء، الذي لازمه مدة طويلة. ثم عاد إلى بجاية عالما جليلا، حاملا
معه كتاب "مختصر ابن الحاجب" في الفقه المالكي فاختص بتدريسه.
وذكر ابن خلدون أن هذا العالم قد أحدث ثورة في إصلاح طرائق التدريس، معتمدا على الحوار والمناقشة والتعمق في البحث، عن طريق تغليب مبدأ المناظرة العقلية، والاهتمام بالدراية قبل الرواية،
الأمر الذي ساعد على إعادة الاشراقة إلى مجال الاجتهاد، وانتشر طلبته في ربوع الجزائر خاصة في مدينة تلمسان بوصفها منارة للعلم والمعرفة وعاصمة الدولة الزيانية.
وهناك أيضا العلامة عمران المشذالي (1271 - 1344م)، وهو تلميذ ناصر الدين المشذالي، الذي رحل إلى تلمسان، فأحسن سلطانها ابن تاشفين الزياني وفادته، ثم عيّنه مدرسا بالمدرسة التاشفينية،
درّس العلوم الشرعية واللغوية والمنطق، ولعل أشهر تلامذته في تلمسان المقري الجد، وهو من العلماء الكبار في زمانه، ومكث عمران المشذالي في مدينة تلمسان إلى أن أدركته المنية.
وهناك أيضا أبو الفضل المشذالي (1418 - 1460م)، الذي ارتحل إلى تلمسان طلبا للعلم سنة 1436م، ومكث بها مدة أربع سنوات، أخذ خلالها العلوم الشرعية والأدب والمنطق والفلسفة على يد
العلامة ابن مرزق الحفيد، ودرس أصول الفقه ومختصر ابن الحاجب، على يد العلامة أبي العباس أحمد بن زاغو، وأخذ شتى فروع العلوم والمعارف التي كانت رائجة في زمانه على علماء كثيرين.
وبموازاة إقباله على طلب العلم، كان بدوره يقوم بمهمة التعليم، ولعل أشهر تلامذته في تلمسان أحمد بن زكري.
دور الزواوة في حماية تلمسان من أطماع السعديين
ساهم سكان الزواوة في إطار جهود الأتراك العثمانيين الرامية إلى تأمين حدود الجزائر الغربية (ق 16م)، في حماية تلمسان من أطماع العديد من القوى الخرجية .
والجدير بالذكر أن بلاد الزواوة كانت خلال هذه الفترة تتقاسمها إمارتا العباسيين في آث عباس (الزواوة الشرقية)، وآث القاضي (الزواوة الغربية). ولم يمنع توتر العلاقات بين الزواوة
والأتراك العثمانيين، من القيام بهذا الدور الايجابي خلال فترتي الحاكمين التركيين: صالح رايس (1552 - 1556م)، و حسن بن خير الدين في ولايته الثالثة (1857 - 1861م).