تقرير أئمة المالكية لتوحيد العبودية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
أما بعد:
فإنه لا يخفى على عاقل فضل التوحيد وأهميته في حياة المسلم، إذ هو الحكمة البالغة من خلق الجن والإنس كما قال تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون ﴾ [ سورة الذاريات - الآية 56]
وهو أساس دعوة الرسل لأقوامهم فما من نبي إلا بدأ قومه بالتوحيد وأرشدهم إليه ونهاهم عن الشرك وحذرهم منه قال تعالى : ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾[ سورة النحل : - الآية 36]
ومن فضله كذلك أن مدار الأعمال صحة وقبولا متوقف عليه تحقيقا وانتفاء والدليل
قوله تعالى : ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[ سورة الأنعام - الآية 88].
وأنه أول اختبار وامتحان يواجهه الانسان في أول منزل من منازل الآخرة ألا وهو سؤال الملكين للعبد في قبره : "من ربك وما دينك ومن نبيك" [ سنن ابي داود \رقم 4753].
وعلى ذلك فإن المتتبع لسير أعلام الأئمة من المالكية وعلى رأسهم إمام دار الهجرة فَقِيه المدينة ناصر السنة مالك ابن أنس رحمه الله تعالى ، يجد اهتماما عظيماً منهم في إقرار التوحيد وتقريره وحماية جنابه مما يشوبه أو يشينه كيف لا وهم رحمهم الله ممن يعظم السنة ويعمل بعمل أهل المدينة ويسد الذريعة المفضية إلى نقص الدين أو تبديله
قال الذهبي رحمه الله: "ولم يكن بالمدينة عالم بعد التابعين يشبه مالكاً في العلم والفقه والجلالة والحفظ".1
وقال ابن المبارك رحمه الله: "لو قيل لي: اختر للأمة إماماً اخترت لها مالكً"
وقال يحي بن معين"كان مالك من حجج الله في خلقه ".2
وإن المتأمل لأقوال الإمام مالك رحمه الله يجد منه عناية كبيرة بمسائل العقيدة، فقد كان رحمه الله يُبين أن أصل التوحيد هو إفراد الله تعالى بالعبادة كما سيأتي بيان ذلك موثقاً بالآثار النقية و أقوال المحققين من أئمة المالكية.
وَمِمَّا دفعني لكتابة ، هذا الموضوع المهم بيان الحق الذي يسعى في لبسه بالباطل كثير ممن انتسب في بلادنا المباركة إلى هذا المذهب المبارك بهتاناً وزوراً فيجيزون لأنفسهم كثيرا من البدع والشركيات، تحت راية المذهبية وطرق الصوفية وعقائد الأشعرية.
وعمدتهم في ذلك قول الشاعر :
في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك
ووالله ما كان إمام دار الهجرة إلا موحداً على عقيدة السلف أهل الحديث معظماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مقتفيا لآثارهم لو كانوا يعلمون .
ويتبين ذلك فيما نقله الأئمة من بعده ممن سار على دربه ونهجه رحمه الله.
قال المُزَنِي رحمه الله: سمعت الشافعي يقول: "سئل مالك عن الكلام والتوحيد فقال محال أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علّم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد، والتوحيد ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولو :لا اله الا الله فما عصم به المال والدم حقيقة التوحيد"3
فبين رحمه الله أن حقيقة التوحيد هي إفراد الله بالعبادة، وأنه لا معبود بحق إلا الله وهو معنى كلمة التوحيد فمن حقق معناها فهو معصوم المال والدم.
ومن ذلك ما ذكره ابن العربي رحمه الله في كتابه القبس أن مالكا رحمه الله فسر الإله بالمعبود وذلك عند قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [سورة الجاثية: - الآية 23].
قال المخزومي رحمه الله:سمعت مالكا يقول: "لا يرى شيئا إلا عبده".4
و قال رحمه الله في كتابه قانون التأويل عند تفسير
قوله تعالى : ﴿وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [البقرة - الآية 163].
أن هذه الآية أصل في التوحيد ويتعلق بها مسائل منها : بيان معنى الإله ثم بين رحمه الله بأن الإله بمعنى المعبود وقال: وهي الفائدة التي خلق لاجلها الإنس والجن.5
وقال ابن عبد البر رحمه الله في معرض رده على الجهمية عند قوله تعالى : ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾[الزخرف - الآية 84].
فوجب حمل الآيات على المعنى الصحيح المجتمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض وكذلك قال أهل العلم بالتفسير .6
وقال ابن عطية رحمه الله في تفسيره المحرر الوجيز عند قوله تعالى : ﴿فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ﴾[يونس - الآية 32].
أي المستوجب للعبادة والألوهية ، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق.7
وذكر رحمه الله عند قوله تعالى : ﴿وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ﴾[الذاريات - الآية 51].
قال : في الأية نهي عن عبادة الأصنام والشياطين، وكل مدعو من دون الله تعالى8
وقال الطرطوشي رحمه الله تعالى في كتابه الدعاء المأثور وآدابه: "اعلموا ارشدكم الله تعالى أن لا اله إلا الله هي العروة الوتقى، ومركب النجاة، وسفينة نوح، من عدل عنها هلك ومن ركبها خلص، ونجى، وهي قطب الإسلام وقاعدة الأديان، وما خلق الجن و الإنس إلا ليعبدوه بها "9
فبين رحمه الله أن الحكمة العظيمة من خلق الجن والإنس هي أفراد الله عزوجل بالعبادة وترك عبادة ما سواه وأن التوحيد قاعدة الأديان التي يبنى عليها سائر الأعمال، إذ من شروط قبول العمل الإخلاص لله تعالى.
وقال رحمه الله :" فإذا قلت لاإله إلا الله، نفيت ما لا يجوز في صفته من شريك في عبادته ، مع الإقرار بأنه الإله الواحد"
وذكر ابن بطال وهو من أئمة المالكية عند شرحه لحديث سيد الاستغفار : "وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت " رواه البخاري (6306)
قال: "يريد العهد الذي أخده الله على عباده حيث أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكمْ. فأقروا له بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية ، وبالوعد ما قال على لسان نبيه ، أن من مات لا يشرك بالله شيئاً وأدى ما فرض عليه أن يدخله الجنة".10
فإن المتأمل في كلامه رحمه الله يجد انه لم يقتصرعلى ذكر الإقرار بالربوبية والذي لا يكفي في إثبات الحكم بالإسلام للمرء ولا يُعصم به المال والدم بل ذكر الإذعان بالوحدانية الذي فيه معنى الإنقياد والإستسلام لله عز وجل مع كمال الذل والخضوع له سبحانه فدلّ ذلك على ان مراده توحيد العبودية الذي هو محل الخلاف بين الرسل وأقوامهم وكانت الخصومة فيه.
اذ لا يستقيم ان يقر العبد بأن الله هو الخالق المالك المدبر المتصرف في الأمور كلها ثم لا ينقاد له بالعبادة والطاعة، بل ويعبد غيره معه ولا يكون ذلك إلا من مشرك مجانف وضع العبادة في غير موضعها وصرفها لمن لا يستحقها فكان بذلك سفيهاً كما قال تعالى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [سورة البقرة- الآية 130].
وملة ابراهيم هي الحنيفية السمحة، كما قال سبحانه: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[ آل عمران - الآية 67].
قال ابو محمد ابن عبد البصري رحمه الله في معرض كلامه عن إقرار الخلق بالربوبية و إشراكهم في الالوهية : وأقروا له بمعرفة ربوبيته، وإنما جحدوا معرفة التوحيد الذي تعبدهم به على ألسنة السفراء.11
وذكر ابن العربي رحمه الله في كتابه القبس تحت شرحه لحديث لو يعلم الناس ما في النداء قال رحمه الله "أما فضل النداء فمعلوم وأصوله أربعة أحدها : مافيه من توحيد الله تعالى وتعظيمه، والشهادة لرسوله، والدعاء لعبادته".12
فتأمل بارك الله فيك في فقه هذا الحبر الجليل وتقديمه لفضيلة التوحيد على سائر الفضائل وأنه بين معنى التوحيد الحق من الفاظ الآذان وحده فما بالك بمن يتلوا آيات الله آناء الليل وأطراف النهار، ثم يصرف حق الله عزوجل للأموات مشابها بذلك عُبَّاد العزى واللات.
وذكر العلامة ابن باديس في كتابه النفيس مجالس التذكير عند تفسير قوله تعالي: ﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً﴾ [الإسراء - الآية 22 ]. قال: هذا هو أساس الدين كله وهو الأصل الذي لا تكون النجاة، ولا تقبل الأعمال إلا به، وما أرسل الله رسولاً إلا داعيا إليه ومُذكّرا بحججه، وقد كانت أفضل كلمة قالها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي كلمة لا إله الا الله.
فقرر رحمه الله أن دعوة الرسل واحدة، وهي إخراج الناس من عبادة غير الله إلى عبادة الله وحده لا شريك له ومصداق ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء - الآية 25].
فبالله عليك أيها المبارك أيرضى أمثال هؤلاء الأعلام ان يصرف حق الله إلى أهل القبور والأضرحة وأرباب الطرق والملعقة ممن يغطون شمس التوحيد بغربال الشرك تحت إسم الصالحين وأولياء الله المزعومين ، والله متم نوره ولو رغمت أنوف المشركين.
فهذه دعوة لك أيها المالكي المنصف أن تحرص على ماكان عليه أسلافك الموحدون الصالحون ولا تركن إلى الذين ظلموا فتمسك النار .
وفي الأخير أقول أنا على يقين جازم بأني لست بدعا ممن كتب في هذا الموضوع العظيم من أئمتنا وعلمائنا الناصحين وبالخصوص لما يتعلق الأمر بحق رب العالمين فهم أغير على الدين وأنصح الناس للمسلمين وليس هذا منا الإ تشبها بهم وسيرا على دربهم جعلنا الله من اتباعهم امين.
نقلا عن منتديات التصفية و التربية.
1. السير (8/51)
2. السير (8/94)
3. السير (10/26)
4. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس لإبن عربي (1/1081)
5. قانون التاويل لإبن العربي (300)
6. فتح البر في الترتيب الفقهي لتمهيد إبن عبد الله (2/88)
7. المحرر الوجيز (3\118)
8. المحرر الوجيز (5\182)
9. الدعاء المأثور وآدابه (185 )
10. شرح صحيح البخاري (10/76)
11. درء تعارض العقل والنقل (8/509)
12. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (1/191)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
أما بعد:
فإنه لا يخفى على عاقل فضل التوحيد وأهميته في حياة المسلم، إذ هو الحكمة البالغة من خلق الجن والإنس كما قال تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون ﴾ [ سورة الذاريات - الآية 56]
وهو أساس دعوة الرسل لأقوامهم فما من نبي إلا بدأ قومه بالتوحيد وأرشدهم إليه ونهاهم عن الشرك وحذرهم منه قال تعالى : ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾[ سورة النحل : - الآية 36]
ومن فضله كذلك أن مدار الأعمال صحة وقبولا متوقف عليه تحقيقا وانتفاء والدليل
قوله تعالى : ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[ سورة الأنعام - الآية 88].
وأنه أول اختبار وامتحان يواجهه الانسان في أول منزل من منازل الآخرة ألا وهو سؤال الملكين للعبد في قبره : "من ربك وما دينك ومن نبيك" [ سنن ابي داود \رقم 4753].
وعلى ذلك فإن المتتبع لسير أعلام الأئمة من المالكية وعلى رأسهم إمام دار الهجرة فَقِيه المدينة ناصر السنة مالك ابن أنس رحمه الله تعالى ، يجد اهتماما عظيماً منهم في إقرار التوحيد وتقريره وحماية جنابه مما يشوبه أو يشينه كيف لا وهم رحمهم الله ممن يعظم السنة ويعمل بعمل أهل المدينة ويسد الذريعة المفضية إلى نقص الدين أو تبديله
قال الذهبي رحمه الله: "ولم يكن بالمدينة عالم بعد التابعين يشبه مالكاً في العلم والفقه والجلالة والحفظ".1
وقال ابن المبارك رحمه الله: "لو قيل لي: اختر للأمة إماماً اخترت لها مالكً"
وقال يحي بن معين"كان مالك من حجج الله في خلقه ".2
وإن المتأمل لأقوال الإمام مالك رحمه الله يجد منه عناية كبيرة بمسائل العقيدة، فقد كان رحمه الله يُبين أن أصل التوحيد هو إفراد الله تعالى بالعبادة كما سيأتي بيان ذلك موثقاً بالآثار النقية و أقوال المحققين من أئمة المالكية.
وَمِمَّا دفعني لكتابة ، هذا الموضوع المهم بيان الحق الذي يسعى في لبسه بالباطل كثير ممن انتسب في بلادنا المباركة إلى هذا المذهب المبارك بهتاناً وزوراً فيجيزون لأنفسهم كثيرا من البدع والشركيات، تحت راية المذهبية وطرق الصوفية وعقائد الأشعرية.
وعمدتهم في ذلك قول الشاعر :
في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك
ووالله ما كان إمام دار الهجرة إلا موحداً على عقيدة السلف أهل الحديث معظماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مقتفيا لآثارهم لو كانوا يعلمون .
ويتبين ذلك فيما نقله الأئمة من بعده ممن سار على دربه ونهجه رحمه الله.
قال المُزَنِي رحمه الله: سمعت الشافعي يقول: "سئل مالك عن الكلام والتوحيد فقال محال أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علّم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد، والتوحيد ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولو :لا اله الا الله فما عصم به المال والدم حقيقة التوحيد"3
فبين رحمه الله أن حقيقة التوحيد هي إفراد الله بالعبادة، وأنه لا معبود بحق إلا الله وهو معنى كلمة التوحيد فمن حقق معناها فهو معصوم المال والدم.
ومن ذلك ما ذكره ابن العربي رحمه الله في كتابه القبس أن مالكا رحمه الله فسر الإله بالمعبود وذلك عند قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [سورة الجاثية: - الآية 23].
قال المخزومي رحمه الله:سمعت مالكا يقول: "لا يرى شيئا إلا عبده".4
و قال رحمه الله في كتابه قانون التأويل عند تفسير
قوله تعالى : ﴿وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [البقرة - الآية 163].
أن هذه الآية أصل في التوحيد ويتعلق بها مسائل منها : بيان معنى الإله ثم بين رحمه الله بأن الإله بمعنى المعبود وقال: وهي الفائدة التي خلق لاجلها الإنس والجن.5
وقال ابن عبد البر رحمه الله في معرض رده على الجهمية عند قوله تعالى : ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾[الزخرف - الآية 84].
فوجب حمل الآيات على المعنى الصحيح المجتمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض وكذلك قال أهل العلم بالتفسير .6
وقال ابن عطية رحمه الله في تفسيره المحرر الوجيز عند قوله تعالى : ﴿فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ﴾[يونس - الآية 32].
أي المستوجب للعبادة والألوهية ، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق.7
وذكر رحمه الله عند قوله تعالى : ﴿وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ﴾[الذاريات - الآية 51].
قال : في الأية نهي عن عبادة الأصنام والشياطين، وكل مدعو من دون الله تعالى8
وقال الطرطوشي رحمه الله تعالى في كتابه الدعاء المأثور وآدابه: "اعلموا ارشدكم الله تعالى أن لا اله إلا الله هي العروة الوتقى، ومركب النجاة، وسفينة نوح، من عدل عنها هلك ومن ركبها خلص، ونجى، وهي قطب الإسلام وقاعدة الأديان، وما خلق الجن و الإنس إلا ليعبدوه بها "9
فبين رحمه الله أن الحكمة العظيمة من خلق الجن والإنس هي أفراد الله عزوجل بالعبادة وترك عبادة ما سواه وأن التوحيد قاعدة الأديان التي يبنى عليها سائر الأعمال، إذ من شروط قبول العمل الإخلاص لله تعالى.
وقال رحمه الله :" فإذا قلت لاإله إلا الله، نفيت ما لا يجوز في صفته من شريك في عبادته ، مع الإقرار بأنه الإله الواحد"
وذكر ابن بطال وهو من أئمة المالكية عند شرحه لحديث سيد الاستغفار : "وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت " رواه البخاري (6306)
قال: "يريد العهد الذي أخده الله على عباده حيث أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكمْ. فأقروا له بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية ، وبالوعد ما قال على لسان نبيه ، أن من مات لا يشرك بالله شيئاً وأدى ما فرض عليه أن يدخله الجنة".10
فإن المتأمل في كلامه رحمه الله يجد انه لم يقتصرعلى ذكر الإقرار بالربوبية والذي لا يكفي في إثبات الحكم بالإسلام للمرء ولا يُعصم به المال والدم بل ذكر الإذعان بالوحدانية الذي فيه معنى الإنقياد والإستسلام لله عز وجل مع كمال الذل والخضوع له سبحانه فدلّ ذلك على ان مراده توحيد العبودية الذي هو محل الخلاف بين الرسل وأقوامهم وكانت الخصومة فيه.
اذ لا يستقيم ان يقر العبد بأن الله هو الخالق المالك المدبر المتصرف في الأمور كلها ثم لا ينقاد له بالعبادة والطاعة، بل ويعبد غيره معه ولا يكون ذلك إلا من مشرك مجانف وضع العبادة في غير موضعها وصرفها لمن لا يستحقها فكان بذلك سفيهاً كما قال تعالى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [سورة البقرة- الآية 130].
وملة ابراهيم هي الحنيفية السمحة، كما قال سبحانه: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[ آل عمران - الآية 67].
قال ابو محمد ابن عبد البصري رحمه الله في معرض كلامه عن إقرار الخلق بالربوبية و إشراكهم في الالوهية : وأقروا له بمعرفة ربوبيته، وإنما جحدوا معرفة التوحيد الذي تعبدهم به على ألسنة السفراء.11
وذكر ابن العربي رحمه الله في كتابه القبس تحت شرحه لحديث لو يعلم الناس ما في النداء قال رحمه الله "أما فضل النداء فمعلوم وأصوله أربعة أحدها : مافيه من توحيد الله تعالى وتعظيمه، والشهادة لرسوله، والدعاء لعبادته".12
فتأمل بارك الله فيك في فقه هذا الحبر الجليل وتقديمه لفضيلة التوحيد على سائر الفضائل وأنه بين معنى التوحيد الحق من الفاظ الآذان وحده فما بالك بمن يتلوا آيات الله آناء الليل وأطراف النهار، ثم يصرف حق الله عزوجل للأموات مشابها بذلك عُبَّاد العزى واللات.
وذكر العلامة ابن باديس في كتابه النفيس مجالس التذكير عند تفسير قوله تعالي: ﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً﴾ [الإسراء - الآية 22 ]. قال: هذا هو أساس الدين كله وهو الأصل الذي لا تكون النجاة، ولا تقبل الأعمال إلا به، وما أرسل الله رسولاً إلا داعيا إليه ومُذكّرا بحججه، وقد كانت أفضل كلمة قالها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي كلمة لا إله الا الله.
فقرر رحمه الله أن دعوة الرسل واحدة، وهي إخراج الناس من عبادة غير الله إلى عبادة الله وحده لا شريك له ومصداق ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء - الآية 25].
فبالله عليك أيها المبارك أيرضى أمثال هؤلاء الأعلام ان يصرف حق الله إلى أهل القبور والأضرحة وأرباب الطرق والملعقة ممن يغطون شمس التوحيد بغربال الشرك تحت إسم الصالحين وأولياء الله المزعومين ، والله متم نوره ولو رغمت أنوف المشركين.
فهذه دعوة لك أيها المالكي المنصف أن تحرص على ماكان عليه أسلافك الموحدون الصالحون ولا تركن إلى الذين ظلموا فتمسك النار .
وفي الأخير أقول أنا على يقين جازم بأني لست بدعا ممن كتب في هذا الموضوع العظيم من أئمتنا وعلمائنا الناصحين وبالخصوص لما يتعلق الأمر بحق رب العالمين فهم أغير على الدين وأنصح الناس للمسلمين وليس هذا منا الإ تشبها بهم وسيرا على دربهم جعلنا الله من اتباعهم امين.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لِلَّه رب العالمين
يتبع...نقلا عن منتديات التصفية و التربية.
1. السير (8/51)
2. السير (8/94)
3. السير (10/26)
4. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس لإبن عربي (1/1081)
5. قانون التاويل لإبن العربي (300)
6. فتح البر في الترتيب الفقهي لتمهيد إبن عبد الله (2/88)
7. المحرر الوجيز (3\118)
8. المحرر الوجيز (5\182)
9. الدعاء المأثور وآدابه (185 )
10. شرح صحيح البخاري (10/76)
11. درء تعارض العقل والنقل (8/509)
12. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (1/191)