عُرِف لقمان الحكيم بوصاياه ، إذ كان بعيد النظر ، عميق الفكر ، ذو حِكَمِِ جليلة ، و نصائح جميلة ، و مواعظ فريدة ، فأَنْعِم به من أبِِ واعظ ، و مربِِ نبيه ، و مرشد حكيم .
فهيَّا بنا نستعرض وصاياه الغالية ، علَّها تكون لأبنائنا سراجا يهتدون به في ظلمة الفتن و مغريات العصر .
الوصية الأولى
- قال الله تعالى : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) } (سورة لقمان 13)
تأمل معي أحسن الله إليك ، كيف بدأ لقمان الحكيم بإرشاد ابنه ، و انظر إلى أول وصية أوصاه بها " يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ" .
لقد حذره من الشرك ، و أوصاه ضمنيا بالتوحيد الخالص لربِّ العزة جلَّ في علاه .
إنه يعلمه عبادة الله وحده دون ما سواه ، يعلمه التوكل عليه سبحانه و حسن الظن به ، يعلمه الإلتجاء إليه و إخلاص النية و الإنقياد له وحده .
يعلمه أن الله تعالى هو الخالق و هو الرازق ، هو المنعم و هو المتفضل على خلقه ، هو المدبر لشؤونهم و المتصرف في أمورهم ، بيده مقاليد كل شيء ، و إليه يرجع الأمر كله ، لا رادَّ لفضله و لا ممسك لرحمته ، هو المعز و هو المذل ، هو الرافع و هو الخافض ، هو الهادي و هو المضل .
و ما بدأ لقمان الحكيم جملة وصاياه بهكذا وصية ، إلا لعلمه بأن ابنه و إن حقق التوحيد الخالص لربه جل و علا ، فإنه سيتوكل عليه في جميع حالاته ، و يستعين به ، و يدعوه رغبا و رهبا ، فيصون نفسه عن التذلل لمن لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا ، و لا موتا و لا حياة و لا نشورا .
و عندها سيعيش عزيزا كريما ، ذاكرا لربه ، خاشعا ، قانتا ، لاجئا إليه ، محتميا به ، إذا أصابته نائبة ، أو نزلت به نازلة ، فَزِعَ إلى الدعاء و التضرع لرب الأرض و السماء .
فكيف يُعقل أن يُتَّخَذَ نِدٌّ لله ، و كيف يُعْبَدُ غيره ، و الأرض أرضه ، و السماء سماؤه ، و الخلق خلقه ، و كل شيء بيده ، ليس كمثله شيء و هو السميع البصير ، أوَّل بلا ابتداء ، و آخر بلا انتهاء ، لا شيء قبله و لا شيء بعده ، لا شيء فوقه و لا شيء دونه ، خالق كل شيء ، و ربُّ كل شيء ، و القادر على كل شيء ، لا يعجزه شيء و لا يخفى عليه شيء ، يدرك الأبصار و لا تدركه الأبصار، و هو الله الواحد القهار ، المتكبر الجبار ، لاتحويه الأقطار ، و لا يؤثر فيه تعاقب الليل و النهار .
فمن أشرك به شيئا ، فقد حكم على نفسه بالخلود الأبدي في النار ، و بئس القرار .
فكل الذنوب التي تعقبها توبة صادقة في الدنيا ، يغفرها الله تعالى ، لقوله : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) } (سورة الزمر 53) .
و المقصود بالآية السابقة ، الذنوب المُتاب منها لأنه أردفها تعالى بدعوة عباده إلى التوبة بقوله : { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) } (سورة الزمر 54).
و اما الذنوب التي لم تعقبها توبة صادقة في الدنيا فهي معَلَّقة على المشيئة ، فإن شاء الله غفرها ، و إن لم يشأ لم يغفرها ، إلا الشرك فإنه لا يغفره إلا بتوبة صادقة منه ، ما لم تطلع الشمس من مغربها و ما لم يغرغر صاحب الشرك ( أي : لم يبلغ ساعة الإحتضار التي لا أمل في الحياة بعدها ) ، لقوله تعالى : { إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) } (سورة النساء 48) .
و ما تعلق بحقوق العباد فإن الله تعالى لا يغفره أيضا لأنه يستوجب القصاص ، و العملة حينها حسنات و سيئات ، فيا حسرة المفلسين يومها ، و يا سوء عاقبة المشركين عندها .
حقيقة الشرك :
قال الذهبي رحمه الله في الكبائر :" فأكبر الكبائر الشرك بالله تعالى ، و هو نوعان :
أحدهما : أن يجعل لله نِدّاً و يعبد غيره ، من حجر أو شجر أو شمس أو قمر أو نبي أو شيخ أو نجم أو ملك أو غير ذلك ، و هذا هو الشرك الأكبر الذي ذكره الله عز و جلَّ ، قال الله تعالى : { إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (سورة النساء 48)" .
ثم يقول رحمه الله :
"فمن أشرك بالله ثم مات مشركا فهو من أصحاب النار قطعا ، كما أن من آمن و مات مؤمنا فهو من أصحاب الجنة و إن عُذِّب بالنار"
و النوع الثاني -الذي ذكره الذهبي- : الرياء بالأعمال ، كما قال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) } (سورة الكهف 110)
أي لا يرائي بأعماله أحدا " . - إنتهى كلامه رحمه الله -
قال الفضيل بن عياض : " ترك العمل لأجل الناس رياء ، و العمل لأجل الناس الشرك ، و الإخلاص أن يعافيك الله منهما " .
اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك شيئا و نحن نعلم و نستغفرك لما لا نعلم .
أنظر هنا رعاك الله ، كيف قرن الله تعالى مجددا في كتابه العزيز بين أساس الدين ( وهو التوحيد – في الآية السابقة - ) و بين بِرِّ الوالدين و الإحسان إليهما و تجنب عقوقهما .
و الأمر ببِرِّ الوالدين ورد ذكره عقب الأمر بتوحيد الله تعالى في العبادة في مواطن عديدة أخرى كما جاء في سورة الإسراء : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) } (سورة الإسراء 23) ، وسورة الأنعام و غير ذلك من المواطن .
و قد اختلفت الأقوال في هاتين الآيتين على قولين ..
1- إما أن يكون لقمان الحكيم أوصى إبنه بهذه الوصية ، و نسبها الله إلى نفسه في الآية .
2- و إما أن لقمان الحكيم لم يوصِ بها ابنه ، و هذه الوصية مباشرة من رب العالمين إلى الإنسان و أوردها عقب وصية لقمان لابنه بعدم الشرك تأكيدا من الله تعالى على خطر العقوق . قال القرطبي : " و الصحيح أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، و عليه جماعة المفسرين" ، و بناءا على قول القرطبي .. فإن الوصية بالإحسان للوالدين هي وصية رب العالمين لكل البشر .
قال النبي صلى الله عليه و سلم : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر – ثلاثا - ، قالواْ : بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله ، و عقوق الوالدين ، و كان متكئا ، فجلس فقال : ألا و قول الزور ، ألا و شهادة الزور .. فما زال يكررها ، حتى قلنا ليته سكت " – متفق عليه –
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ثلاث آيات مقرونة بثلاث ، لا تقبل واحدة بغير قرينتها .
الأولى : قوله تعالى : ( و أطيعواْ الله و أطيعواْ الرسول ) - سورة المائدة / الآية 92- ، فمن أطاع الله و لم يطع الرسول لم يقبل منه .
الثانية : قول الله تعالى : ( و أقيمواْ الصلاة و آتواْ الزكاة ) – سورة المجادلة / آية 13- ، فمن صلى و لم يزكِّ لم يقبل منه .
الثالثة : قول الله تعالى : ( أن اشكر لي و لوالديك ) – سورة لقمان / آية 14- ، فمن شكر لله و لم يشكر لوالديه لم يقبل منه .
لطيفة في الآيتين :
الآية (14) التي أوجب الله فيها بر الوالدين ، ختمها الله تعالى بقوله ( إليَّ المصير ) ، و في هذا إشارة لطيفة إلى أن مصير الإنسان يجب أن يكون مع والديه حتى يرعاهما .
و كلمة المصير تدل على بلوغ الأمر نهايته ، فلا حركة بعده ..
و منه قولنا في أذكار المساء " اللهم بك أمسينا و بك أصبحنا و بك نحيا و بك نموت و إليك المصير " ، لأن الليل وقت السكون و التزام البيوت .
و في الآية التي تليها و التي أشار فيها رب العزة إلى أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق جل و علا ، ختمها بقوله ( ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) ، و في هذا إشارة وجوب الهجرة و الفرار بالدين لمن أوذي في دينه .
كيف ذلك ؟
الجواب ..
في الآية حديث عن الرجوع إلى الله تعالى ، بمعنى .. النشور ، و منه قولنا في أذكار الصباح " اللهم بك أصبحنا و بك أمسينا و بك نحيا و بك نموت و إليك النشور " .
و كلمة النشور فيها دلالة على الحركة و النهار هو بلا ريب وقت الحركة و السعي .
موعظة :
يقول الذهبي في كتابه – الكبائر –
أيها المضيع لآكد الحقوق ، المعتاض من بر الوالدين العقوق ، الناسي لما يجب عليه ، الغافل عما بين يديه ، بر الوالدين عليك دين ، و أنت تتعاطاه باتباع الشين ، تطلب الجنة بزعمك ، و هي تحت أقدام أمك . حملتك في بطنها تسعة أشهر كأنها تسع حجج ، و كابدت عند الوضع ما يذيب المهج ، و أرضعتك من ثديها لبنا ، و أطارت لأجلك وسنا ، و غسلت بيمينها عنك الأذى ، و آثرتك على نفسها بالغذاء ، و صيرت حجرها لك مهدا ، و أنالتك إحسانا و رفدا ، فإن أصابك مرض أو شكاية ، أظهرت من الأسف فوق النهاية ، و أطالت الحزن و النحيب ، و بذلت مالها للطبيب ، و لو خيرت بين حياتك و موتها ، لطلبت حياتك بأعلى صوتها ، هذا و كم عاملتها بسوء الخلق مرارا ، فدعت لك بالتوفيق سرا و جهارا . فلما احتاجت عند الكبر إليك ، جعلتها من أهون الأشياء عليك ، فشبعت و هي جائعة ، و رويت و هي قانعة . و قدمت عليها أهلك و اولادك عليها بالإحسان ، و قابلت أياديها بالنسيان ، و صعب لديك أمرها و هو يسير ، و طال عليك عمرها و هو قصير ، هجرتها و ما لها سواك نصير ، هذا و مولاك قد نهاك عن التأفف ، و عاتبك في حقها بعتاب لطيف ، ستعاقب في د**** بعقوق البنين ، و في أخراك بالبعد من رب العالمين ، يناديك بلسان التوبيخ و التهديد ( ذلك بما قدمت يداك و أن الله ليس بظلام للعبيد ) .. لأمك حق لو علمت كثير *** كثيرك يا هذا لديه يسير فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي *** لها من جواها أنة و زفير و في الوضع لو تدري عليها مشقة *** فمن غصص منها الفؤاد يطير و كم غسلت عنك الأذى بيمينها *** و ما حجرها إلا لديك سرير و تفديك مما تشتكيه بنفسها *** و من ثديها شرب لديك نمير و كم مرة جاعت و أعطتك قوتها *** حنانا و إشفاقا و أنت صغير فآهًا لذي عقل و يتبع الهوى *** و آهًا لأعمى القلب و هو بصير فدونك فارغب في عميم دعائها *** فأنت لما تدعوه إليه فقير