الفصل الأول
في حد الإيمان وتفسيره
حدود الأشياء وتفسيرها الذي يوضحها ، تتقدم أحكامها ؛ فإن الحكم على الأشياء فرع عن تصورها ، فمن حكم على أمر من الأمور- قبل أن يحيط علمه بتفسيره ، ويتصوره تصوراً يميزه عن غيره- أخطأ خطاً فاحشاً .
أما حد الإيمان وتفسيره ، فهو : التصديق الجازم ، والاعتراف التام بجميع ما أمر الله ورسوله بالإيمان به ؛ والانقياد ظاهراً وباطناً . فهو تصديق القلب واعتقاده المتضمن لأعمال القلوب وأعمال البدن . وذلك شامل للقيام بالدين كله .
ولهذا كان الأئمة والسلف يقولون : الإيمان قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح .
وهو : قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية . فهو يشمل عقائد الإيمان ، وأخلاقه ، وأعماله .
فالإقرار والإعتراف بما لله تعالى : من الأسماء الحسنى ، والصفات الكاملة العليا ، والأفعال الناشئة عن أسمائه وصفاته . هو من أعظم أصول الإيمان .
وكذلك الاعتراف بما لله من الحقوق الخاصة –هو : التأله والتعبد لله ظاهراً وباطناً- من أصول الإيمان .
والاعتراف بما أخبر الله به عن ملائكته وجنوده ، والموجودات السابقة واللاحقة ؛ والإخبار باليوم الآخر ، كل هذا من أصول الإيمان .
وكذلك الإيمان بجميع الرسل –صلوات الله وسلامه عليهم- وما وصفوا به في الكتاب والسنة من الأوصاف الحميدة ، كل هذا من أصول الإيمان .
كما أن أعظم أصول الإيمان : الاعتراف بانفراد الله بالوحدانية والألوهية ، وعبادة الله وحده لا شريك له ، وإخلاص الدين لله ، والقيام بشرائع الإسلام الظاهرة ، وحقائقه الباطنة .
كل هذا من أصول الإيمان .
ولهذا رتب الله على الإيمان دخول الجنة والنجاة من النار ، ورتب عليه رضوانه والفلاح والسعادة . ولا يكون ذلك إلا بما ذكرنا : من شموله للعقائد وأعمال القلوب ، وأعمال الجوارح . لأنه متى فات شيء من ذلك : حصل من النقص وفوات الثواب ، وحصول العقاب –بحسبه .
بل أخبر الله تعالى : أن الإيمان المطلق تنال به أرفع المقامات في الدنيا ، وأعلى المنازل في الآخرة ؛ فقال تعالى : ( وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ)( 57/19) والصِّديقون هم أعلى الخلق درجة بعد درجة الأنبياء : في الدنيا ، وفي منازل الآخرة . وأخبر في هذه الآية : أن من حقق الإيمان به وبرسله ، نال هذه الدرجة .
ويفسر ذلك ويوضحه ما ثبت في الصحيحين عنه (صلى الله عليه و سلم) قال : ( إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف في الجنة( [1])، كما تراءون الكوكب الشرقي أو الغربي في الأفق ؛ لتفاضل ما بينهم ؛ فقالوا : يا رسول الله : تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؛ قال : بلى- والذي نفسي بيده- رجال آمنوا بالله ، وصدقوا المرسلين) .
وإيمانهم بالله وتصديقهم للمرسلين : في ظاهرهم وباطنهم ، في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم ، وفي كمال طاعتهم لله ولرسله . فقيامهم بهذه الأمور ، به يتحقق إيمانهم بالله وتصديقهم للمرسلين .
وقد أمر الله في كتابه بهذا الإيمان العام الشامل ، وما يتبعه : من الانقياد والاستسلام ؛ وأثنى على من قام به ؛ فقال في أعظم آيات الإيمان : (قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( 136) )( 2/136) .
فأمر الله عباده بالإيمان بجميع هذه الأصول العظيمة ؛ والإيمان الشامل بكل كتاب أنزله الله ، وبكل رسول أرسله الله ؛ وبالإخلاص والإستسلام والانقياد له وحده – بقوله : ( وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) .
كما أثنى على المؤمنين – في آخر السورة - بالقيام بذلك ؛ فقـال : ( آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)
( 2/285) .
فأخبر : أن الرسول ومن معه من المؤمنين ، آمنوا بهذه الأصول ولم يفرقوا بين أحد من الأنبياء ؛ بل آمنوا بهم جميعاً ، وبما أتوه من عند الله ؛ وأنهم التزموا طاعة الله ، فقالوا : سمعنا وأطعنا ؛ وطلبوا من ربهم : أن يحقق لهم ذلك وأن يعفو عن تقصيرهم ببعض حقوق الإيمان ؛ وأن مرجع الخلائق كلهم ومصيرهم إلى الله : يجازيهم بما قاموا به من حقوق الإيمان ، وما ضيعوه منها . كما قال تعالى عن أتباع الأنبياء –عيسى وغيره- أنهم قالوا : ( رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) ( 3/53) .
فآمنوا بقلوبهم ، والتزموا بقلوبهم ، وانقادوا بجوارحهم ؛ وسألوا الله أن يحقق لهم القيام به : قولاً ، وعملاً ، واعتقاداً .
وقال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( 2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ )
( 8/2-4) .
..................................................................
( [1]) قوله : ( في الجنة) لفظ مسلم من طريق سهل بن سعد . واللفظ المتفق عليه–من طريق أبي سعيد- هو : ( من فوقهم) وقد أخرجه أحمد من هذا الطريق ، والترمذي من طريق أبي هريرة . وفي سائر اللفظ الوارد هنا اختلاف واختصار ، كما في سائر الروايات فراجع : صحيح البخاري ( 4/119 أو الفتح : 9/206)، ومسلم ( 8/144-145 أو الشرح : 17/168-169) ، وهداية الباري ( 1/172-173 : ط. ثانية) . والجامع الصغير ( 1/88 : ميمنية) ، والفتح الكبير ( 1/380-381) ، ومصابيح السنة ( 2/159: بولاق) .
آخر تعديل: