وفي صحيح مسلم( [8])–من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه- قال : قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم) : ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبياً) .
والرضا بذلك يقتضي الفرح بذلك ، والسرور بربوبية الله له ، وحسن تدبيره وأقضيته عليه ، و[أن( [1])] يرضى بالإسلام ديناً ، ويفرح به ، ويحمد الله على هذه النعمة التي هي أكبر المنن : حيث رضي الله له( [2]) الإسلام ووفقه له ، واصطفاه له : ويرضى بمحمد- (صلى الله عليه و سلم)- نبياً : إذ هو أكمل الخلق ، وأعلاهم في كل صفة كمال ، وأمته وأتباعه أكمل الأمم وأعلاهم ، وأرفعهم درجة في الدنيا والآخرة .
فالرضا بنبوة الرسول ورسالته ، وإتباعه –: من أعظم ما يثمر الإيمان ، ويذوق به العبد حلاوته ، قال تعالى : ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)( [3]) ( 3/164) .
( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ( 9/128) .
فكيف لا يرضى المؤمن بهذا الرسول الكريم ، الرءوف الرحيم ؛ الذي أقسم الله( [4]) أنه لعلى خلق عظيم ؛ وأشرف مقام للعبد انتسابه لعبودية الله ، واقتداؤه برسوله ، ومحبته واتباعه ؛ وهذا علامة محبة الله وباتباعه تتحقق المحبة والإيمان ؟!
قال تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي( [5])يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ( 3/31) .
وفي صحيح مسلم( [6])–من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي –قال: قلت : يا رسول الله ؛ قل لي في الإسلام قولاً ، لا أسأل عنه أحداً بعدك . قال : ( قل آمنت بالله ثم استقم) .
فبين (صلى الله عليه و سلم) -بهذه الوصية الجامعة -: أن العبد إذا اعترف بالإيمان ظاهراً وباطناً ، ثم استقام عليه –قولاً وعملاً ، فعلاً وتركاً-: فقد كمل أمره ، واستقام على الصراط المستقيم ، ورجى له أن يدخل مع من قال الله عنهم : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( 30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ( 31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) ( 41/30-32) .
وفي حديث ابن عباس –المتفق عليه- في وفد عبد القيس ، حين وفدوا على النبي (صلى الله عليه و سلم) ، حيث قالوا : ( مرنا بأمر فصل : نخبر به من وراءَنا وندخل به الجنة ) ؛ وسألوه عن الأشربة . فأمرهم بأربع ، ونهاهم عن أربع : أمرهم : بالإيمان بالله وحده ؛ [و] قال : ( أتدرون : ما الإيمان بالله وحده؟) قالوا ؛ ( الله و رسوله أعلم) ؛ قال : ( شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ؛ وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وأن تعطوا من المغنم الخمس ) ونهاهم عن أربع : ( عن الحنتم ، والدُبَّاء ، والنَّقير ، والمزفت)( [7]) وقال :
( احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم) .
فهذا -أيضاً – صريح في إدخاله الشرائع الظاهرة بالإيمان ؛ مثل الصلاة والزكاة والصيام ، وإعطاء الخمس من المغنم . وكل هذا يفسر الإيمان تفسيراً تدخل فيه الأعمال البدنية فكل ما يقرب إلى الله –من قول وعمل واعتقاد- فإنه من الإيمان .
وفي سنن أبي داود( [8]) ، عن أبي أمامة ، قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم) : ( من أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله : فقد استكمل الإيمان).
فالحب والبغض : في القلب والباطن ؛ والعطاء والمنع : في الظاهر . واشترط فيها كلها : الإخلاص الذي هو روح الإيمان ولبه وسره .
فالحب في الله فهو أن يحب الله ، ويحب ما يحبه : من الأعمال والأوقات والأزمان والأحوال ؛ ويحب من يحبه : من أنبيائه وأتباعهم.
والبغض في الله : أن يبغض كل ما أبغضه [الله] : من كفر وفسوق وعصيان ويبغض من يتصف بها ، أو يدعو إليها .
والعطاء يشمل عطاء العبد من نفسه كل ما أمر به ؛ مثل قوله تعالى : ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ( 5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ( 6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) ( 92/5-7) وهذا يشمل جميع ما أمر به العبد : لا يختص بالعطاء المالي ؛ بل هو جزء من العطاء . وكذلك مقابلة المنع .
وبهذه الأمور الأربعة ، يتم للعبد إيمانه ودينه .
وكذلك ما رواه الترمذي والنسائي –من حديث أبي هريرة مرفوعاً( [9]) ( المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم) يدل : على أن الإيمان الصحيح يحمل صاحبه على رعاية الأمانة ، وينهاه عن الخيانة؛ حتى يطمئن إليه الناس ، ويأمنوه على أنفس الأشياء عندهم ، وهي : الدماء ، والأموال .
وهذه النصوص كلها تبين معنى الإيمان وحقيقته ، وأنه –كما قال الحسن( [10]) وغيره : ( ليس الإيمان بالتمني والتحلي ولكنه : ما وقر في القلوب ، وصدقته الأعمال) .
فالأعمال الظاهرة ، والباطنة تصدق الإيمان ، وبها يتحقق كما قال تعالى : ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) ( 64/11) .
فالعبد إذا أصابته المصيبة ، فآمن أنها من عند الله وأن الله حكيم رحيم في تقديرها ،" وأنه أعلم بمصالح عبده-: هدى الله قلبه هداية خاصة للرضا والصبر والتسليم والطمأنينة . كما قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)( 10/9) . فحذف المتعلق : ليشمل هدايتهم لكل خير ، وهدايتهم لترك كل شر؛ وذلك بسبب إيمانهم . فالأعمال من الإيمان من جهة ، ومن ثمرات الإيمان ولوازمه من جهة أخرى . والله الموفق .
وقال تعالى : ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) ( 2/143) .
وقال تعالى : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ).
كثير من المفسرين فسروا الإيمان هنا ، بالصلاة إلى القبلة التي كانوا عليها (و هي تجاه) بيت المقدس قبل أن تنقل القبلة إلى الكعبة ، فحصل عند بعضهم اشتباه في شأنهم ، فأنزل الله هذه الآية( [11]) . وذلك : أن صلاتهم إلى بيت المقدس في ذلك الوقت ، التزام منهم لطاعة الله ورسوله : وذلك هو الإيمان .
وهذه الآية فيها بشارة كبرى [وهي] ( [12]) : أن الله لا يضيع إيمان المؤمنين : قَلَ ذلك الإيمان ، أو كثر . كما ورد في الصحيح : ( أن الله يخرج من النار من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان) ( [13]) .
وبشارة لكل من عمل عملاً قصده طاعة الله ورسوله ، وهو متأول أو مخطئ ، أو نسخ ذلك العمل . فإنه إنما عمل ذلك العمل : إيماناً بالله ، وقصداً لطاعته ، ولكنه تأول تأويلاً أخطأ فيه ، أو أخطأ بلا تأويل ؛ فخطؤه معفو عنه ، وأجر القصد والتوجه إلى الله وإلى طاعته ، لا يضيعه الله .
ولهذا قال الله عن المؤمنين : ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) ( 2/286) ، قال الله على لسان نبيه : ( قد فعلت) .
وفي الحديث الصحيح : ( إذا اجتهد الحاكم فحكم( [14]) فأصاب : فله أجران : وإذا اجتهد فأخطأ : فله أجر واحد ، وخطؤه مغفور له).
وكذلك : من نوى عملاً صالحاً ، وحرص على فعله ، ومنعه مانع : من مرض ، أو سفر ، أو عجز أو غيرها . كتب له ما نواه من ذلك العمل ، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم –من حديث أبي موسى مرفوعاً- : "من مرض أو سافر كتب له ما كان يعمل : صحيحاً مقيماً" ( [15])ويدخل في ذلك من أقعده الكِبَرُ عن عمله المعتاد .
* * * *
............................................................................
( [1]) هذه الزيادة منه .
( [2]) عبارة الأصل : ( ... لك الإسلام ووفقك له واصطفاك له واصطفاه لك) . والظاهر أن أصلها ما أثبتنا ، وهو الملائم للسابق واللاحق.
( [3]) في الأصل : "رسولاً منهم" ؛ وهو اشتباه بآية الجمعة ( 62/2) .
( [4]) في سورة القلم : ( 68/4) .
( [5]) بالأصل : "فاتبعون" ، وهو خطأ وتحريف .
( [6]) 1/47، والمصابيح ، ( 1/4) ؛ ومسند أحمد ، وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه كما في الجامع الصغير : ( 2/86) ، والفتح الكبير : ( 2/300) . وفي بعض الروايات بلفظ : ( أحداً غيرك) .
( [7]) بالأصل : "والمؤفت" ؛ وهو خطأ وتصحيف . وهذا الحديث أخرجه الشيخان باختلاف كبير- من طرق مختلفة عن ابن عباس وأخرجه عنه الترمذي والنسائي، كما في هداية الباري : ( 1/7) كما أخرجه عنه مختصراً أبو داود في السنن : ( 4/219) ، والبغوي في المصابيح : ( 1/4) وأخرجه مسلم وأحمد عن أبي سعيد الخدري فانظر : صحيح البخاري ( 1/16 و8/41 و9/90 و160) ومسلم ( 1/35) – ( 37) والفتح الكبير ( 1/12-13) .
( [8]) 4/220 والمصابيح ( 1/5) والأحاديث المختارة للضياء المقدسي، كما في الجامع الصغير : ( 2/160) والفتح الكبير 3/149) . وأخرج أحمد والترمذي –عن معاذ بن أنس مثله . وهو ضعيف كما قال المناوي في فيض القدير .
قلت صححه السيوطي في الجامع وحسنه الأرنؤط في تعليقه على جامع الأصول 1/239) ( الناشر) .
( [9]) بلفظ : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمؤمن) إلخ.. وقد أخرجه أيضاً عنه أحمد والحاكم وابن حبان ، وعن وائلة الطبراني الكبير. وأخرجه باختلاف وزيادة في آخره عنه أيضاً . فانظر : الجامع الصغير ( 2/183، 185) والفتح الكبير ( 3/251، 257) وفيض القدير ( 6/252-253و270) .
( [10]) كما هو ثابت عنه بسند جيد ، وروى بمعناه –من طريق أنس مرفوعاً -: في تاريخ بغداد لابن النجار ، ومسند الفردوس للديلمي وهو منكر أو ضعيف . انظر : الجامع الصغير ( 2/132) ، والفتح الكبير ( 3/57)، وفيض القدير ( 5/355-356) .
( [11]) كما في صحيح البخاري : ( 1/12-13) ، وسنن أبي داود ( 4/220).
( [12]) في الأصل : "وإن" بكسر الهمزة وهو خطأ . ولعل الزيادة سقطت من الناسخ ، أو لعل الواو زيادة منه . وما في الأصل يصح مع فتح الهمزة . ولكن الأولى ما أثبتناه .
( [13]) انظر : حديث أبي سعيد الخدري ، المذكور في صحيح البخاري ( 1/9 و8/115) مسلم ( 1/117-118) ، والفتح الكبير ( 3/321-422). وحديث أنس المذكور في صحيح مسلم ( 1/125-127) .
( [14]) الرواية : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد) . فما في الأصل روعي فيه المعنى المراد . وهذا الحديث أخرجه أحمد مع الستة عن أبي هريرة ، ومعهم- ماعدا الترمذي- عن عمرو بن العاص وأخرجه البخاري عن أبي سلمة. انظر : صحيح البخاري ( 9/108) ومسلم ( 5/135) ، وسنن أبي داود ( 3/299) ، والجامع الصغير ( 1/23) ، والفتح الكبير ( 1/102-103) وهداية الباري ( 1/9) .
( [15]) هذا الحديث أخرجه البخاري وأحمد ، بلفظ : ( إذا مرض العبد أو سافر) مع اختلاف في سائره ، وأخرجه أبو داود بمعناه . ولا ذكر له في صحيح مسلم ، ولم يشر أحد إلى روايته له . فانظر : صحيح البخاري ( 3/221) ، والجامع الصغير ( 1/34) ، والفتح الكبير ( 1/155) وهداية الباري : ( 1/68) وفيض القدير ( 1/444) .
والرضا بذلك يقتضي الفرح بذلك ، والسرور بربوبية الله له ، وحسن تدبيره وأقضيته عليه ، و[أن( [1])] يرضى بالإسلام ديناً ، ويفرح به ، ويحمد الله على هذه النعمة التي هي أكبر المنن : حيث رضي الله له( [2]) الإسلام ووفقه له ، واصطفاه له : ويرضى بمحمد- (صلى الله عليه و سلم)- نبياً : إذ هو أكمل الخلق ، وأعلاهم في كل صفة كمال ، وأمته وأتباعه أكمل الأمم وأعلاهم ، وأرفعهم درجة في الدنيا والآخرة .
فالرضا بنبوة الرسول ورسالته ، وإتباعه –: من أعظم ما يثمر الإيمان ، ويذوق به العبد حلاوته ، قال تعالى : ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)( [3]) ( 3/164) .
( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ( 9/128) .
فكيف لا يرضى المؤمن بهذا الرسول الكريم ، الرءوف الرحيم ؛ الذي أقسم الله( [4]) أنه لعلى خلق عظيم ؛ وأشرف مقام للعبد انتسابه لعبودية الله ، واقتداؤه برسوله ، ومحبته واتباعه ؛ وهذا علامة محبة الله وباتباعه تتحقق المحبة والإيمان ؟!
قال تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي( [5])يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ( 3/31) .
وفي صحيح مسلم( [6])–من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي –قال: قلت : يا رسول الله ؛ قل لي في الإسلام قولاً ، لا أسأل عنه أحداً بعدك . قال : ( قل آمنت بالله ثم استقم) .
فبين (صلى الله عليه و سلم) -بهذه الوصية الجامعة -: أن العبد إذا اعترف بالإيمان ظاهراً وباطناً ، ثم استقام عليه –قولاً وعملاً ، فعلاً وتركاً-: فقد كمل أمره ، واستقام على الصراط المستقيم ، ورجى له أن يدخل مع من قال الله عنهم : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( 30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ( 31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) ( 41/30-32) .
وفي حديث ابن عباس –المتفق عليه- في وفد عبد القيس ، حين وفدوا على النبي (صلى الله عليه و سلم) ، حيث قالوا : ( مرنا بأمر فصل : نخبر به من وراءَنا وندخل به الجنة ) ؛ وسألوه عن الأشربة . فأمرهم بأربع ، ونهاهم عن أربع : أمرهم : بالإيمان بالله وحده ؛ [و] قال : ( أتدرون : ما الإيمان بالله وحده؟) قالوا ؛ ( الله و رسوله أعلم) ؛ قال : ( شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ؛ وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وأن تعطوا من المغنم الخمس ) ونهاهم عن أربع : ( عن الحنتم ، والدُبَّاء ، والنَّقير ، والمزفت)( [7]) وقال :
( احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم) .
فهذا -أيضاً – صريح في إدخاله الشرائع الظاهرة بالإيمان ؛ مثل الصلاة والزكاة والصيام ، وإعطاء الخمس من المغنم . وكل هذا يفسر الإيمان تفسيراً تدخل فيه الأعمال البدنية فكل ما يقرب إلى الله –من قول وعمل واعتقاد- فإنه من الإيمان .
وفي سنن أبي داود( [8]) ، عن أبي أمامة ، قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم) : ( من أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله : فقد استكمل الإيمان).
فالحب والبغض : في القلب والباطن ؛ والعطاء والمنع : في الظاهر . واشترط فيها كلها : الإخلاص الذي هو روح الإيمان ولبه وسره .
فالحب في الله فهو أن يحب الله ، ويحب ما يحبه : من الأعمال والأوقات والأزمان والأحوال ؛ ويحب من يحبه : من أنبيائه وأتباعهم.
والبغض في الله : أن يبغض كل ما أبغضه [الله] : من كفر وفسوق وعصيان ويبغض من يتصف بها ، أو يدعو إليها .
والعطاء يشمل عطاء العبد من نفسه كل ما أمر به ؛ مثل قوله تعالى : ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ( 5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ( 6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) ( 92/5-7) وهذا يشمل جميع ما أمر به العبد : لا يختص بالعطاء المالي ؛ بل هو جزء من العطاء . وكذلك مقابلة المنع .
وبهذه الأمور الأربعة ، يتم للعبد إيمانه ودينه .
وكذلك ما رواه الترمذي والنسائي –من حديث أبي هريرة مرفوعاً( [9]) ( المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم) يدل : على أن الإيمان الصحيح يحمل صاحبه على رعاية الأمانة ، وينهاه عن الخيانة؛ حتى يطمئن إليه الناس ، ويأمنوه على أنفس الأشياء عندهم ، وهي : الدماء ، والأموال .
وهذه النصوص كلها تبين معنى الإيمان وحقيقته ، وأنه –كما قال الحسن( [10]) وغيره : ( ليس الإيمان بالتمني والتحلي ولكنه : ما وقر في القلوب ، وصدقته الأعمال) .
فالأعمال الظاهرة ، والباطنة تصدق الإيمان ، وبها يتحقق كما قال تعالى : ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) ( 64/11) .
فالعبد إذا أصابته المصيبة ، فآمن أنها من عند الله وأن الله حكيم رحيم في تقديرها ،" وأنه أعلم بمصالح عبده-: هدى الله قلبه هداية خاصة للرضا والصبر والتسليم والطمأنينة . كما قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)( 10/9) . فحذف المتعلق : ليشمل هدايتهم لكل خير ، وهدايتهم لترك كل شر؛ وذلك بسبب إيمانهم . فالأعمال من الإيمان من جهة ، ومن ثمرات الإيمان ولوازمه من جهة أخرى . والله الموفق .
وقال تعالى : ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) ( 2/143) .
وقال تعالى : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ).
كثير من المفسرين فسروا الإيمان هنا ، بالصلاة إلى القبلة التي كانوا عليها (و هي تجاه) بيت المقدس قبل أن تنقل القبلة إلى الكعبة ، فحصل عند بعضهم اشتباه في شأنهم ، فأنزل الله هذه الآية( [11]) . وذلك : أن صلاتهم إلى بيت المقدس في ذلك الوقت ، التزام منهم لطاعة الله ورسوله : وذلك هو الإيمان .
وهذه الآية فيها بشارة كبرى [وهي] ( [12]) : أن الله لا يضيع إيمان المؤمنين : قَلَ ذلك الإيمان ، أو كثر . كما ورد في الصحيح : ( أن الله يخرج من النار من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان) ( [13]) .
وبشارة لكل من عمل عملاً قصده طاعة الله ورسوله ، وهو متأول أو مخطئ ، أو نسخ ذلك العمل . فإنه إنما عمل ذلك العمل : إيماناً بالله ، وقصداً لطاعته ، ولكنه تأول تأويلاً أخطأ فيه ، أو أخطأ بلا تأويل ؛ فخطؤه معفو عنه ، وأجر القصد والتوجه إلى الله وإلى طاعته ، لا يضيعه الله .
ولهذا قال الله عن المؤمنين : ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) ( 2/286) ، قال الله على لسان نبيه : ( قد فعلت) .
وفي الحديث الصحيح : ( إذا اجتهد الحاكم فحكم( [14]) فأصاب : فله أجران : وإذا اجتهد فأخطأ : فله أجر واحد ، وخطؤه مغفور له).
وكذلك : من نوى عملاً صالحاً ، وحرص على فعله ، ومنعه مانع : من مرض ، أو سفر ، أو عجز أو غيرها . كتب له ما نواه من ذلك العمل ، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم –من حديث أبي موسى مرفوعاً- : "من مرض أو سافر كتب له ما كان يعمل : صحيحاً مقيماً" ( [15])ويدخل في ذلك من أقعده الكِبَرُ عن عمله المعتاد .
* * * *
............................................................................
( [1]) هذه الزيادة منه .
( [2]) عبارة الأصل : ( ... لك الإسلام ووفقك له واصطفاك له واصطفاه لك) . والظاهر أن أصلها ما أثبتنا ، وهو الملائم للسابق واللاحق.
( [3]) في الأصل : "رسولاً منهم" ؛ وهو اشتباه بآية الجمعة ( 62/2) .
( [4]) في سورة القلم : ( 68/4) .
( [5]) بالأصل : "فاتبعون" ، وهو خطأ وتحريف .
( [6]) 1/47، والمصابيح ، ( 1/4) ؛ ومسند أحمد ، وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه كما في الجامع الصغير : ( 2/86) ، والفتح الكبير : ( 2/300) . وفي بعض الروايات بلفظ : ( أحداً غيرك) .
( [7]) بالأصل : "والمؤفت" ؛ وهو خطأ وتصحيف . وهذا الحديث أخرجه الشيخان باختلاف كبير- من طرق مختلفة عن ابن عباس وأخرجه عنه الترمذي والنسائي، كما في هداية الباري : ( 1/7) كما أخرجه عنه مختصراً أبو داود في السنن : ( 4/219) ، والبغوي في المصابيح : ( 1/4) وأخرجه مسلم وأحمد عن أبي سعيد الخدري فانظر : صحيح البخاري ( 1/16 و8/41 و9/90 و160) ومسلم ( 1/35) – ( 37) والفتح الكبير ( 1/12-13) .
( [8]) 4/220 والمصابيح ( 1/5) والأحاديث المختارة للضياء المقدسي، كما في الجامع الصغير : ( 2/160) والفتح الكبير 3/149) . وأخرج أحمد والترمذي –عن معاذ بن أنس مثله . وهو ضعيف كما قال المناوي في فيض القدير .
قلت صححه السيوطي في الجامع وحسنه الأرنؤط في تعليقه على جامع الأصول 1/239) ( الناشر) .
( [9]) بلفظ : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمؤمن) إلخ.. وقد أخرجه أيضاً عنه أحمد والحاكم وابن حبان ، وعن وائلة الطبراني الكبير. وأخرجه باختلاف وزيادة في آخره عنه أيضاً . فانظر : الجامع الصغير ( 2/183، 185) والفتح الكبير ( 3/251، 257) وفيض القدير ( 6/252-253و270) .
( [10]) كما هو ثابت عنه بسند جيد ، وروى بمعناه –من طريق أنس مرفوعاً -: في تاريخ بغداد لابن النجار ، ومسند الفردوس للديلمي وهو منكر أو ضعيف . انظر : الجامع الصغير ( 2/132) ، والفتح الكبير ( 3/57)، وفيض القدير ( 5/355-356) .
( [11]) كما في صحيح البخاري : ( 1/12-13) ، وسنن أبي داود ( 4/220).
( [12]) في الأصل : "وإن" بكسر الهمزة وهو خطأ . ولعل الزيادة سقطت من الناسخ ، أو لعل الواو زيادة منه . وما في الأصل يصح مع فتح الهمزة . ولكن الأولى ما أثبتناه .
( [13]) انظر : حديث أبي سعيد الخدري ، المذكور في صحيح البخاري ( 1/9 و8/115) مسلم ( 1/117-118) ، والفتح الكبير ( 3/321-422). وحديث أنس المذكور في صحيح مسلم ( 1/125-127) .
( [14]) الرواية : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد) . فما في الأصل روعي فيه المعنى المراد . وهذا الحديث أخرجه أحمد مع الستة عن أبي هريرة ، ومعهم- ماعدا الترمذي- عن عمرو بن العاص وأخرجه البخاري عن أبي سلمة. انظر : صحيح البخاري ( 9/108) ومسلم ( 5/135) ، وسنن أبي داود ( 3/299) ، والجامع الصغير ( 1/23) ، والفتح الكبير ( 1/102-103) وهداية الباري ( 1/9) .
( [15]) هذا الحديث أخرجه البخاري وأحمد ، بلفظ : ( إذا مرض العبد أو سافر) مع اختلاف في سائره ، وأخرجه أبو داود بمعناه . ولا ذكر له في صحيح مسلم ، ولم يشر أحد إلى روايته له . فانظر : صحيح البخاري ( 3/221) ، والجامع الصغير ( 1/34) ، والفتح الكبير ( 1/155) وهداية الباري : ( 1/68) وفيض القدير ( 1/444) .
آخر تعديل: