[تفريغ] الفرق بين صحيح البخاري و صحيح مسلم
للشيخ الدكتور: محمد سعيد رسلان -حفظه الله تعالى -
( من تعليقه على شرح المنظومة البيقونية )
----------------------------------------------------------------------------------------------
قال حفظه الله تعالى :
(... أول من صنّف في الصحيح المجرّد هو "البخاري"، فأول مصَنَّف في الصحيح المجرّد "صحيح البخاري"، ثم صحيح مسلم، هما أصح الكتب بعد القرآن المجيد، وقد أجمعت الأمّة على تلقي كتابيْهما بالقَبول.
قد تجد في كلام الشافعي -رحمه الله تعالى- ما يُشكِل، فإن الشافعي -رحمه الله تعالى- قال: (مَا أعْلَمُ فِي الأَرضِ كِتَابًا أَكْثَرَ صَوَابًا مِنْ كِتَابِ مَالِكٍ)، وهذا لا إشكال فيه، لأن الشافعي إنما قال ذلك قبل أن يصنّف البخاري و مسلم صحيحيهما، فأخبر -رحمه الله- عن الوضع في أيّامه، فقال: (أصح كتابا على ظهر الأرض، وما أعلم في الأرض كتابا أكثر صوابا منه) يعني "الموطّأ" لمالك -رحمه الله-، فهذا مستقيم على حاله لأنه كان قبل البخاري و مسلم.
أيهما أصح: البخاري أم مسلم ؟
البخاري أصح الكتابين وأكثرهما فوائد، وذلك لأن أحاديث البخاري أشد اتصالا و أوثق رجالا، ولأن فيه من الاستنباطات الفقهية و النكت الحُكْمِيّة ما ليس في صحيح مسلم.
هذا، وكون صحيح البخاري أصح من صحيح مسلم إنما هو "باعتبار المجموع"، و إلا فقد يوجد في بعض الأحاديث في مسلم ما هو أقوى من بعض الأحاديث في البخاري، وقد قيل -وعندما تسمع "قيل" ممن يعنيها، فمعنى ذلك أنه لا يذهب إلى هذا الذي سأحكيه، وإنما هو على سبيل الحكاية مع التمريض، فهي صيغة تمريض و تضعيف، فيقول: وقيل- إن صحيح مسلم أصح، والصواب هو القول الأول.
ما الذي قدّم البخاري على مسلم ؟
قال العلماء -كما سيأتي في كلام الشارح رحمه الله - : هنا ردّان إجمالي و تفصيلي.
فأما الإجمالي فهو:
أن البخاري أعلم و أرسخ في هذا الفن من مسلم، فذا ردّ إجمالي، ولكنّه لا يُعتمد وحده في تقديم صحيح البخاري على صحيح مسلم، غير أنه مع ما يتلوه من التفصيل مؤدٍّ إلى الحكم بتقديم البخاري على مسلم لا محالة.
إذا، أصح الصحيحين: البخاري، المقدَّم من الكتابين: صحيح البخاري، هو مقدَّم على صحيح مسلم، السبب: إجمالي وتفصيلي.
فأما الإجمالي: وهو أن البخاري -وهو الذي صنّف الصحيح- أعلم و أرسخ قدما في هذا الفن من مسلم -رحمه الله تعالى- وهو الذي صنّف صحيح مسلم، إذا هذا رد إجمالي.
وأما الرد التفصيلي فهو:
1- انفرد البخاري بخمسة وثلاثين وأربعمئة رجلا (435)، الذين تُكُلِّم فيهم بالضعف من هؤلاء ثمانون (80).
وانفرد مسلم بعشرين و ستمئة (620)، تُكُلِّم في ستين ومئة منهم (160).
فالذين انفرد بهم مسلم -رحمه الله تعالى- أكثر ممن انفرد بهم البخاري، ومع ذلك الذين تُكُلِّم فيهم ممن انفرد بهم مسلم "ضِعْفَيْ" الذين تُكُلِّم فيهم ممن انفرد بهم البخاري، فانفرد البخاري بخمسة وثلاثين وأربعمئة، تُكُلِّم في ثمانين، وانفرد مسلم بعشرين وستمئة تُكُلِّم في ستين ومئة، فهذا يُقدّم صحيح البخاري على صحيح مسلم.
2- مع وجه آخر من الأوجه التفصيلية:
هو أن الذين انفرد بهم البخاري لم يُكثر الرواية عنهم، مع قلّة عددهم بالنسبة لمن انفرد بهم مسلم -رحمه الله- في الرواية، وهم على النصف من أولئك الذين انفرد بهم مسلم، ومع ذلك فالذين انفرد بهم البخاري لم يُكثر من الرواية عنهم.
الذين انفرد بهم البخاري "أكثرهم من شيوخه"، وهو بهم أعرف، ومعظم ما خرّجه عنهم في "الاستشهاد"، بخلاف مسلم، فهذا وجه ثالث.
3- أن الذين انفرد بهم البخاري عن مسلم أكثرهم من شيوخ البخاري، وهو أعرف بهم، الرجل أعرف بشيخه، ومعظم ما خرّجه عنهم في "الاستشهاد" لا في "الأصول"، بخلاف مسلم -رحمهما الله رحمة واسعة-.
4- وجه رابع:
هو أن البخاري يشترط "اللقاء مع المعاصرة"، ومسلم يرى أن المعنعَن له حكم المتصل ولو لم يثبت اللقاء.
وهذه المسألة ذكرها مسلم -رحمه الله تعالى- في آخر مقدمة الصحيح، وانتصر لها، وتكلّم بكلام شديد.
وقال بعض أهل العلم إنه لم يعن البخاري، لأن حَمْله -رحمة الله عليه- إنما كان على من اشترط مع المعاصرة اللقاء، وعليه فإنه لا يعتدّ بالعنعنة، و لو كان من عنعن معاصرا لمن عنعن عنه طالما أنه لم يثبت اللقاء، هذا شرط البخاري، فأراد بعضهم أن ينأى بمسلم عن هذا الكلام موجها إلى البخاري -رحمه الله-، فقالوا يعني "علي بن المديني"، فهذا شرطه أيضا، والعجيب أن يُقال مثل ذلك، لأنه هو شرط البخاري أيضا، فلماذا نذهب بعيدا ؟.
ومع ذلك تكلّم مسلم -رحمه الله- بكلام شديد في آخر مقدمة الصحيح انتصارا لهذا الذي ذهب إليه في شرطه، وهو أنه لا يُشترط اللقاء مع المعاصرة، فيكفي أن يكون الراوي معاصرا لمن يروي عنه طالما أنه ليس بمدلّس، وقال إن المعنعَن له حكم المتصل ولو لم يثبت اللقاء، وأما البخاري فلا يرى ذلك، يشترط مع المعاصرة اللقاء، وأن يكون الراوي قد ثبُت لقاؤه بمن يروي عنه.
5- المنتَقَد على البخاري و مسلم عشرة و مئتان من الأحاديث (210 حديث).
اختص البخاري "بأقل من ثمانين" و الباقي لمسلم، هذا أيضا وجه من الوجوه التي تُقدّم البخاري على مسلم.
6- الوجه السادس: وجه تطبيقي
هو أن أصحاب الزهري على خمس طبقات:
- البخاري يروي عن الأولى "استيعابا" و عن الثانية يروي "ما يعتمده"، والثانية يروي عمن يعتمده "تعليقا"، وقليلا ما يروي تعليقا عن الثالثة، فهذا تحرُّز شديد كما ترى وتثَبُّت دقيق كما يبدو.
(أصحاب الزهري على خمس طبقات) منهم من كان ملازما له في الحضَر و السفر لا يفارقه، فهؤلاء يروي البخاري عنهم -وهم الطبقة الأولى من أصحاب الزهري-، استيعابا".
(الثانية من طبقات من أصحاب الزهري) يروي عنهم ما يعتمده "تعليقا"، وقليلا ما يروي تعليقا عن الثالثة من طبقات أصحاب الزهري.
- مسلم يروي عن الأولى و الثانية استيعابا، ويروي عن الثالثة كالثانية عند البخاري.
وأما الرابعة و الخامسة فلا يُعرّجان معا عليها.
لا شك -كما ترى- أن هذا التفصيل يؤدي إلى الحكم مع النظر في الوجه الإجمالي بأن صحيح البخاري مقدّم على صحيح مسلم.
بعض أهل العلم فضّل وقدّم صحيح مسلم على صحيح البخاري، وهو الحافظ أبو علي النيسابوي، هو أستاذ الحاكم أبي عبد الله الحافظ.
قال أبو علي: "ما تحت أديم السماء كتاب أصحُّ من كتاب مسلم بن الحجاج"، وكذلك قال بعض شيوخ المغرب، فقدّموا كتاب مسلم على كتاب البخاري، وهذا لا يُسلَّم، ولكنَّ له وجها، فكل ذلك إن كان لأن مسلما :
- يسرد الصحيح سردا غير ممزوج بغيره.
- و فيه قلة في التعليق.
- و ليس فيه تقطيع.
إن كانوا يريدون ذلك فكذلك، و إلٍا فلا، لأن لمسلم مزيّة ليست عند البخاري.
كان البخاري -رحمه الله- يعلّق كثيرا، فعنده معلَّقات، والحديث المعلَّق: ما حُذف من مبدإ إسناده راوٍ أو أكثر.
فإذا قال البخاري مثلا: قال أبو هريرة، هو لم يلقه، قال سعيد بن المسيب، هو لم يلقه، ثم يروي المتن الذي قاله من ذَكَرَه، هذا حديث معلَّق.
المعلَّق من قسم الأحاديث الضعيفة، هذا في الأصل، لأن هاهنا سَقَطٌ في الرواة، بين الرواي الذي علّق ومن علّق عنه.
يعني، عندما يقول البخاري -رحمه الله- قال ابن عباس و يأتي بحديث، وبينه و بين ابن عباس -رضي الله عنهما- مفاوز، فمن أين؟ والذين بينه وبين ابن عباس، من هم؟ قد يكون فيهم ضعيف، بل قد يكون فيهم متّهَم، من هم؟ فهذا الذي يؤدي إلى الحكم بضَعف الحديث، هذا الحكم العام.
ولكن العلماء بالنسبة للمعلّقَات في الصحيحين وصلوا بالاستقراء إلى حكم آخر.
فقالوا: ما رواه البخاري معلَّقا فكأنما جزم بصحته، ثم بحثوا في مبحث فوق هذا أو وراءه، وهو لماذا علّق؟
فقالوا: ربما لأنه لا يريد أن يُثقل بذكر الأسانيد، أو لأن ذلك كان مشهورا، أو لأنه ربما كان متوقفا فيه مع جزمه بأن له وجها، إلى غير ذلك من أسباب التعليق.
فقول ما جزم به البخاري ماهو معلّق، مجزوم به، يعني قال: حدّث، ذكر، هذه كلها "صيغ جزم".
و أما: قيل أو رُوي فهذه كلها من "صيغ التمريض".
فقالوا: ما جزم به البخاري فهو كالصحيح، وأما ما لم يجزم به البخاري عند التعليق، فهذا نحتاج فيه إلى العودة إلى النظر في الحديث المعلَّق.
على كل حال، بالنسبة للبخاري عنده معلقات كثيرة، ومعلّقات البخاري هذه تتبعها الحافظ ابن حجر "بالتغليق للتعليق"، فكتب كتابا فحْلا سمّاه "بتغليق التعليق"، و هو أنه يأتي بالمحذوف من أسانيد البخاري التي علّقها في كتابه -أي في الصحيح-.
فبالبحث والاستقراء تبيّن أن الضعيف في ذلك قليل جدا، و لذلك عندما نقول : "كل ما في البخاري صحيح"، لا نعني المعلَّقات، و إنما تعني الموصول المتصل مما ذَكر، وأما المعلّقات فهذا حكمها :
- ما كان مجزوما به من قِبَله، فهذا كأنه جزْمٌ بصحته.
- و ما لا يجزم به البخاري عند روايته من معلّقاته، فنحتاج إلى العودة إلى "تغليق تعليقه" والبحث فيه، قد يكون صحيحا وقد يكون دون ذلك.
- البخاري -رحمه الله- معلّقَاته كثيرة، وأما مسلم فمعلّقاته قليلة، بضعة عشر تعليقا، وهذه بُحثت وقتلت بحثا، ومنها ما هو مذكور قبل، فكأنما ذكره على سبيل الإحالة، فمعلقات البخاري أكثر بكثير من معلّقَات مسلم، مع هذا الأمر الدقيق الذي ذكرتُ لك، وهو أن من معلقات مسلم ما ذُكر قبل، فكأنما يحيل عليه، إلى غير ذلك من تلك الأمور وقد تأتي في حينها-إن شاء جلّ وعلا-.
شــيء أخر:
لو نظرنا إلى تقديم من قدّم مسلما على البخاري، سوى ما عند البخاري من كثرة التعليق وقلة ذلك عند مسلم، وهو أن البخاري -رحمه الله تعالى- كان "يقطّع الحديث"، ولم يكن يفعل ذلك مسلم -رحمه الله-، إنما كان يأتي بالحديث تامّا كاملا في موضعه ولا يُقطّعه، وأما البخاري فربما قطّع الأحاديث في أماكن كثيرة، وهذا ما يُعرف "بالأطراف"، فتجد بعد ذلك عند النظر في أي نسخة من نسخ الصحيح قد حُقّقت و رُقّمت يقول: و طرَفه في كذا و كذا و كذا، ربما يزيد عن عشرة مواضع، فيذكره كلما احتاج إليه على حسب "الصَنعة الفقهية لا الحديثية"، فهذا يفعله البخاري بكثرة [لم أفهم الكلمة]، ولم يكن يفعله مسلم.
شـــــيء آخر:
أن مسلما -رحمه الله- كان يجمع الأحاديث التي في الموضع الواحد في الباب الواحد ولا يُفرّقها، فكان البخاري يُكثر من التعليق، ويُقطّع الأحاديث، ويُفرّق الأحاديث التي تكون في موضع واحد، ولا يعيبه، ولكن الناظر في صحيح مسلم سيجد يُسرا في البحث من حيث هذه المسألةُ، عما يجده في النظر و البحث في صحيح البخاري.
فمن قال: أقدّم صحيح مسلم على صحيح البخاري بهذا الاعتبار، لا نراجعه، وأما من قال: إنه أصح بإطلاق، فهذا "محجوج" بهذه الوجوه التي مرّ ذكرها.
- البخاري و مسلم هما أول من صنّف في الصحيح المجرد، لأن مالكا -رحمة الله عليه- لم يَعْمِد إلى الصحيح مجرّدا، وإنما ذكر ما يسمى "بالبلاغات"، وربما ذكر بعض الأحكام الفقهيةّ، فضمّن ذلك في الموطأ.
والبلاغات: جمع بلاغ، هو أن يقول مالك -أو أن يقول المصنِّف- "بلغني"، فهذه بلاغات، وقد تتبّعها "ابن عبد البر" في "التمهيد" فوصلها كلها، فلا يوجد فيها ضعيف، قالوا: إلا أربعة مواضع فيها نظر و مراجعة ، والأغلب أنها ثابتة، فحينئذ لا تثريب عليه.
فأول من صنّف في الصحيح المجرّد "البخاري" ثم "مسلم" -رحمهما الله تعالى رحمة واسعة- ، ولم يستوعبا الصحيح ولا التزما ذلك، يعني لم يستوعب البخاري ومسلم الصحيح -أي الحديث الصحيح- في صحيحيْهما، بحيث يُقال: إنه مادام الحديث غير مُثبت في صحيح البخاري ولا في صحيح مسلم، فلا نقول إنه صحيح، لا، لأن البخاري ومسلما لم يلتزما أن يستوعبا الأحاديث الصحيحة في صحيحيْهما.
قال البخاري: "ما أدخلتُ في كتاب الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح لحال الطول".
قال: لا أريد أن أطيل بذكر الأحاديث المختلفة، ولا أريد أن أُثقل الكتاب، فكان -رحمة الله عليه- يترك كثيرا من الصحاح لحال الطول.
وقال مسلم: " ليس كل شيء عندي صحيح وضعتُه هاهنا، إنما وضعتُ ما أجمعوا عليه".
وهو لا يريد ما أجمعوا عليه بجملتهم، لأنه روجع في بعض الأحاديث، كما روجع البخاري في بعض الأحاديث، كما صنع الأئمة كالدارقطني في "الالزامات والتتبع" و كما صنع غيره أيضا، فربما أُخِذ عليه الحرف، و روجع في بعض الأحاديث.
فقوله: (إنما وضعتُ ما أجمعوا عليه) يعني على حسب علمه بالصنعة الحديثية، لا على سبيل الاستقراء، وإلا فقد روجع.
فهل فاتهما لعدم التزامهما باستيعاب الصحيح في صحيحيْهما، هل فاتهما كثير أو قليل من الصحيح؟
قال الحافظ ابن الأخرم: " لم يفتهُما إلا القليل"
وقد أُنكر عليه هذا الكلام إنكارا شديدا، والصحيح أنه فاتهما من الأحاديث الصحيحة شيء كثير، سواء تركوا ذلك بـمَلْكِهم واختيارهم كما قرّرا، أو لم يصل إليهم، كما ستجد في كلام "الحاكم" في "المستدرك"، فهو يستدرك على الشيخين فيما أخرجاه أو فيما تركاه.
فيقول قد أخرجتما من الأحاديث على هذه الشروط، وعندنا أحاديث كثيرة جدا -وهي التي جمعها في المستدرَك على الصحيحين- وهذه الأحاديث على شرط البخاري، أو على شرط مسلم، أو على شرطهما معا، فكان يأتي بهذه الأحاديث ويقول: "لم يخرجها البخاري ولا مسلم" وهي على شرط أحدهما أو على شرطهما، كان يستدرك عليهما بهذا الذكر فجمع المستدرَك.
عُوجل بالمنيّة -رحمه الله- قبل أن يُحرّره ويُنقّحه، وما استدرك على البخاري و مسلم، "ثلثه" صحيح مقبول، و"ثلثه" دون ذلك، و"ثلثه" ضعيف، بل فيه بعض الموضوع، في المستدرَك الذي يستدرك به على الشيخين.
فإذا، قول ابن الأخرم: "لم يفتهما إلا القليل"، هذا كلام محجوج، والصحيح أنهما فاتهما شيء كثير, فقد نُقل عن البخاري أنه قال: " وما تركت من الصحاح أكثر"، وقال: " أحفظ مئة ألف حديث صحيح، ومئتي ألف حديث غير صحيح",
وقد مر تفسير هذا الكلام، لأن الذي عندنا من الأحاديث لا يبلغ هذا العدد، ولم يَضِع على الأمة من حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم قليل ولا كثير، فالقول بأن بعض الحديث لم يبلغ الأمّة وضاع، هذا كلام مردود، لأن الله -تبارك وتعالى- أكمل الدين، فكيف يضيع من أحاديث النبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم شيء !؟، وحديثه كله من الدين صلى الله عليه وآله وسلم.
فكيف إذا نفهم و نوجّه هذا الكلام؟
قال: " أحفظ مئة ألف حديث" مع أن الصحيح بالمكرر "سبعة آلاف ونيّف" -كما سيأتي في ذكر العدد-، فأين هذا من مئة ألف حديث صحيح؟
يقول: "ومئتي ألف حديث غير صحيح"، والعلماء كما جمعوا الصحيح، جمعوا الضعيف بل والموضوع، فعندنا كثير من الكتب عنواناتها " الموضوعات"، "الموضوع"، فجمعوا الموضوع حتى لا يأتي أحد ليعبث بالأسانيد تغييرا، ثم يأتي بالحديث الموضوع ليَرُوج على الأُمة، فكانوا يكتبون الضعيف كما يكتبون الصحيح، يكتبون الموضوع المكذوب، كما يكتبون الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكل ذلك من أجل حياطة السُنة، ومن أجل نفي الدخيل عنها ،فرحمة الله عليهم.
فكيف نوجّه هذا الكلام؟
معلوم أن الحديث عندما يُطلق، قد يدخل فيه -كما هو معلوم عند بعض أهل العلم من أهل الحديث- ما كان "خَبَرا"، ما كان "من قول الصحابي"، و كذلك ما كان "من قول التابعي"، "وما قاله العلماء في التفسير مثلا"، كما ضربنا المثَل من كلام ابن الجوزي في أن العلماء لهم عشَرة أقوال -كلها ثابت عن سلفنا الصالحين- في تفسير "النعيم" من قوله -جلّ وعلا- ﴿ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾، ففسّروا النعيم "بعشرة أقوال"، كل منهم قال قولا.
فالعلماء على حسَب اصطلاحهم العام، يقولون: هذه عشَرة أحاديث، ويحفظون هذا، إلى غير ذلك من المُقطّعات والأجزاء والأقوال وغير ذلك [مما كانوا يأتون به] -رحمة الله عليهم-، فكان البخاري يحفظ هذا كله.
فهذا توجيه قوله: " أحفظ مئة ألف حديث صحيح، ومئتي ألف حديث غير صحيح".
ولكن: ما هي عِدّة الأحاديث في كل من البخاري و مسلم ؟
البخاري جملة ما فيه: سبعة آلاف ومئتان وخمسة وسبعون حديثا بالمكرر (7275)، لأنه كان يكرّر الأحاديث -رحمه الله تعالى-، إذا حذفنا المكرَّر بقي لنا " أربعة آلاف حديث" ، هي عدّة صحيح البخاري.
وأما مسلم فجملة ما فيه: اثنا عشر ألفا بالمكرر، وبحذف المكرر هي نحو أربعة آلاف حديث أيضا.
ما دام الأمر كذلك، أربعة آلاف وأربعة آلاف، فأين نجد بقيّة الأحاديث الصحيحة التي فاتت البخاري ومسلما؟
في الكتب المعتمدة المشهورة، "كصحيح ابن خزيمة" و "صحيح ابن حبّان" و "مستدرك الحاكم" و "السنن الأربعة"، "سنن أبي داود" و "سنن النسَائي" و "سنن الترمذي" و "سنن ابن ماجه" و "سنن الدارقطني" أيضا، وكذلك تجدها في "سنن البيهقي" و في "المسانيد"، "كمسند الإمام أحمد" و "مسند ابن أبي شيبة" و "مسند ابن أبي يعلى" .
نجد الأحاديث الصحيحة في هذه الكتب الحديثية، ولا يكفي وجود الحديث في هذه الكتب حتى نحكُم عليه بالثبوت والصحة، فقد يكون ضعيفا بل قد يكون موضوعا، فلم يشترط من صنّفوا تلك الكتب ما اشترطه البخاري و مسلم، من التزام إيراد الصحيح فقط، على حسب شرطيهما، لأن للشيخين شروطا، وقد التزما بتلك الشروط، وهي شروط دقيقة جدّا -كما مر- في شرطٍ تفرّد به البخاري عن مسلم، وأنه لا يشترط المعاصرة فقط، يعني لا يكفي أن تكون معاصرا للراوي فتقول عن فلان كذا، لكي نقبل منك الحديث، عند البخاري.
عند مسلم، إذا لم تكن مدلسا حتى ولو عنعنت مع ثبوت المعاصرة، وأنك كنت معاصرا لمن تروي عنه، هذا يكفي عند مسلم-رحمة الله عليه-، وأما عند البخاري فلا يكفي هذا، لا بُد من ثبوت اللقاء.
فهذه شروط للشيخين غاية في الدقة، وغاية في القسوة، لذلك أجمعت الأُمة على تقديم هذين الكتابين العظيمين، وهما أصح الكتب بعد كتاب الله رب العالمين.
فــــرّغه:
أبو زكرياء إسماعيل الجزائري
السبت 8 شعبان 1437 ه - 15 ماي 2016
سطــيف -حرسها الله بالتوحيد و السنة -
لتحميل المقطع الصوتي:
[من هنا]
للشيخ الدكتور: محمد سعيد رسلان -حفظه الله تعالى -
( من تعليقه على شرح المنظومة البيقونية )
----------------------------------------------------------------------------------------------
قال حفظه الله تعالى :
(... أول من صنّف في الصحيح المجرّد هو "البخاري"، فأول مصَنَّف في الصحيح المجرّد "صحيح البخاري"، ثم صحيح مسلم، هما أصح الكتب بعد القرآن المجيد، وقد أجمعت الأمّة على تلقي كتابيْهما بالقَبول.
قد تجد في كلام الشافعي -رحمه الله تعالى- ما يُشكِل، فإن الشافعي -رحمه الله تعالى- قال: (مَا أعْلَمُ فِي الأَرضِ كِتَابًا أَكْثَرَ صَوَابًا مِنْ كِتَابِ مَالِكٍ)، وهذا لا إشكال فيه، لأن الشافعي إنما قال ذلك قبل أن يصنّف البخاري و مسلم صحيحيهما، فأخبر -رحمه الله- عن الوضع في أيّامه، فقال: (أصح كتابا على ظهر الأرض، وما أعلم في الأرض كتابا أكثر صوابا منه) يعني "الموطّأ" لمالك -رحمه الله-، فهذا مستقيم على حاله لأنه كان قبل البخاري و مسلم.
أيهما أصح: البخاري أم مسلم ؟
البخاري أصح الكتابين وأكثرهما فوائد، وذلك لأن أحاديث البخاري أشد اتصالا و أوثق رجالا، ولأن فيه من الاستنباطات الفقهية و النكت الحُكْمِيّة ما ليس في صحيح مسلم.
هذا، وكون صحيح البخاري أصح من صحيح مسلم إنما هو "باعتبار المجموع"، و إلا فقد يوجد في بعض الأحاديث في مسلم ما هو أقوى من بعض الأحاديث في البخاري، وقد قيل -وعندما تسمع "قيل" ممن يعنيها، فمعنى ذلك أنه لا يذهب إلى هذا الذي سأحكيه، وإنما هو على سبيل الحكاية مع التمريض، فهي صيغة تمريض و تضعيف، فيقول: وقيل- إن صحيح مسلم أصح، والصواب هو القول الأول.
ما الذي قدّم البخاري على مسلم ؟
قال العلماء -كما سيأتي في كلام الشارح رحمه الله - : هنا ردّان إجمالي و تفصيلي.
فأما الإجمالي فهو:
أن البخاري أعلم و أرسخ في هذا الفن من مسلم، فذا ردّ إجمالي، ولكنّه لا يُعتمد وحده في تقديم صحيح البخاري على صحيح مسلم، غير أنه مع ما يتلوه من التفصيل مؤدٍّ إلى الحكم بتقديم البخاري على مسلم لا محالة.
إذا، أصح الصحيحين: البخاري، المقدَّم من الكتابين: صحيح البخاري، هو مقدَّم على صحيح مسلم، السبب: إجمالي وتفصيلي.
فأما الإجمالي: وهو أن البخاري -وهو الذي صنّف الصحيح- أعلم و أرسخ قدما في هذا الفن من مسلم -رحمه الله تعالى- وهو الذي صنّف صحيح مسلم، إذا هذا رد إجمالي.
وأما الرد التفصيلي فهو:
1- انفرد البخاري بخمسة وثلاثين وأربعمئة رجلا (435)، الذين تُكُلِّم فيهم بالضعف من هؤلاء ثمانون (80).
وانفرد مسلم بعشرين و ستمئة (620)، تُكُلِّم في ستين ومئة منهم (160).
فالذين انفرد بهم مسلم -رحمه الله تعالى- أكثر ممن انفرد بهم البخاري، ومع ذلك الذين تُكُلِّم فيهم ممن انفرد بهم مسلم "ضِعْفَيْ" الذين تُكُلِّم فيهم ممن انفرد بهم البخاري، فانفرد البخاري بخمسة وثلاثين وأربعمئة، تُكُلِّم في ثمانين، وانفرد مسلم بعشرين وستمئة تُكُلِّم في ستين ومئة، فهذا يُقدّم صحيح البخاري على صحيح مسلم.
2- مع وجه آخر من الأوجه التفصيلية:
هو أن الذين انفرد بهم البخاري لم يُكثر الرواية عنهم، مع قلّة عددهم بالنسبة لمن انفرد بهم مسلم -رحمه الله- في الرواية، وهم على النصف من أولئك الذين انفرد بهم مسلم، ومع ذلك فالذين انفرد بهم البخاري لم يُكثر من الرواية عنهم.
الذين انفرد بهم البخاري "أكثرهم من شيوخه"، وهو بهم أعرف، ومعظم ما خرّجه عنهم في "الاستشهاد"، بخلاف مسلم، فهذا وجه ثالث.
3- أن الذين انفرد بهم البخاري عن مسلم أكثرهم من شيوخ البخاري، وهو أعرف بهم، الرجل أعرف بشيخه، ومعظم ما خرّجه عنهم في "الاستشهاد" لا في "الأصول"، بخلاف مسلم -رحمهما الله رحمة واسعة-.
4- وجه رابع:
هو أن البخاري يشترط "اللقاء مع المعاصرة"، ومسلم يرى أن المعنعَن له حكم المتصل ولو لم يثبت اللقاء.
وهذه المسألة ذكرها مسلم -رحمه الله تعالى- في آخر مقدمة الصحيح، وانتصر لها، وتكلّم بكلام شديد.
وقال بعض أهل العلم إنه لم يعن البخاري، لأن حَمْله -رحمة الله عليه- إنما كان على من اشترط مع المعاصرة اللقاء، وعليه فإنه لا يعتدّ بالعنعنة، و لو كان من عنعن معاصرا لمن عنعن عنه طالما أنه لم يثبت اللقاء، هذا شرط البخاري، فأراد بعضهم أن ينأى بمسلم عن هذا الكلام موجها إلى البخاري -رحمه الله-، فقالوا يعني "علي بن المديني"، فهذا شرطه أيضا، والعجيب أن يُقال مثل ذلك، لأنه هو شرط البخاري أيضا، فلماذا نذهب بعيدا ؟.
ومع ذلك تكلّم مسلم -رحمه الله- بكلام شديد في آخر مقدمة الصحيح انتصارا لهذا الذي ذهب إليه في شرطه، وهو أنه لا يُشترط اللقاء مع المعاصرة، فيكفي أن يكون الراوي معاصرا لمن يروي عنه طالما أنه ليس بمدلّس، وقال إن المعنعَن له حكم المتصل ولو لم يثبت اللقاء، وأما البخاري فلا يرى ذلك، يشترط مع المعاصرة اللقاء، وأن يكون الراوي قد ثبُت لقاؤه بمن يروي عنه.
5- المنتَقَد على البخاري و مسلم عشرة و مئتان من الأحاديث (210 حديث).
اختص البخاري "بأقل من ثمانين" و الباقي لمسلم، هذا أيضا وجه من الوجوه التي تُقدّم البخاري على مسلم.
6- الوجه السادس: وجه تطبيقي
هو أن أصحاب الزهري على خمس طبقات:
- البخاري يروي عن الأولى "استيعابا" و عن الثانية يروي "ما يعتمده"، والثانية يروي عمن يعتمده "تعليقا"، وقليلا ما يروي تعليقا عن الثالثة، فهذا تحرُّز شديد كما ترى وتثَبُّت دقيق كما يبدو.
(أصحاب الزهري على خمس طبقات) منهم من كان ملازما له في الحضَر و السفر لا يفارقه، فهؤلاء يروي البخاري عنهم -وهم الطبقة الأولى من أصحاب الزهري-، استيعابا".
(الثانية من طبقات من أصحاب الزهري) يروي عنهم ما يعتمده "تعليقا"، وقليلا ما يروي تعليقا عن الثالثة من طبقات أصحاب الزهري.
- مسلم يروي عن الأولى و الثانية استيعابا، ويروي عن الثالثة كالثانية عند البخاري.
وأما الرابعة و الخامسة فلا يُعرّجان معا عليها.
لا شك -كما ترى- أن هذا التفصيل يؤدي إلى الحكم مع النظر في الوجه الإجمالي بأن صحيح البخاري مقدّم على صحيح مسلم.
بعض أهل العلم فضّل وقدّم صحيح مسلم على صحيح البخاري، وهو الحافظ أبو علي النيسابوي، هو أستاذ الحاكم أبي عبد الله الحافظ.
قال أبو علي: "ما تحت أديم السماء كتاب أصحُّ من كتاب مسلم بن الحجاج"، وكذلك قال بعض شيوخ المغرب، فقدّموا كتاب مسلم على كتاب البخاري، وهذا لا يُسلَّم، ولكنَّ له وجها، فكل ذلك إن كان لأن مسلما :
- يسرد الصحيح سردا غير ممزوج بغيره.
- و فيه قلة في التعليق.
- و ليس فيه تقطيع.
إن كانوا يريدون ذلك فكذلك، و إلٍا فلا، لأن لمسلم مزيّة ليست عند البخاري.
كان البخاري -رحمه الله- يعلّق كثيرا، فعنده معلَّقات، والحديث المعلَّق: ما حُذف من مبدإ إسناده راوٍ أو أكثر.
فإذا قال البخاري مثلا: قال أبو هريرة، هو لم يلقه، قال سعيد بن المسيب، هو لم يلقه، ثم يروي المتن الذي قاله من ذَكَرَه، هذا حديث معلَّق.
المعلَّق من قسم الأحاديث الضعيفة، هذا في الأصل، لأن هاهنا سَقَطٌ في الرواة، بين الرواي الذي علّق ومن علّق عنه.
يعني، عندما يقول البخاري -رحمه الله- قال ابن عباس و يأتي بحديث، وبينه و بين ابن عباس -رضي الله عنهما- مفاوز، فمن أين؟ والذين بينه وبين ابن عباس، من هم؟ قد يكون فيهم ضعيف، بل قد يكون فيهم متّهَم، من هم؟ فهذا الذي يؤدي إلى الحكم بضَعف الحديث، هذا الحكم العام.
ولكن العلماء بالنسبة للمعلّقَات في الصحيحين وصلوا بالاستقراء إلى حكم آخر.
فقالوا: ما رواه البخاري معلَّقا فكأنما جزم بصحته، ثم بحثوا في مبحث فوق هذا أو وراءه، وهو لماذا علّق؟
فقالوا: ربما لأنه لا يريد أن يُثقل بذكر الأسانيد، أو لأن ذلك كان مشهورا، أو لأنه ربما كان متوقفا فيه مع جزمه بأن له وجها، إلى غير ذلك من أسباب التعليق.
فقول ما جزم به البخاري ماهو معلّق، مجزوم به، يعني قال: حدّث، ذكر، هذه كلها "صيغ جزم".
و أما: قيل أو رُوي فهذه كلها من "صيغ التمريض".
فقالوا: ما جزم به البخاري فهو كالصحيح، وأما ما لم يجزم به البخاري عند التعليق، فهذا نحتاج فيه إلى العودة إلى النظر في الحديث المعلَّق.
على كل حال، بالنسبة للبخاري عنده معلقات كثيرة، ومعلّقات البخاري هذه تتبعها الحافظ ابن حجر "بالتغليق للتعليق"، فكتب كتابا فحْلا سمّاه "بتغليق التعليق"، و هو أنه يأتي بالمحذوف من أسانيد البخاري التي علّقها في كتابه -أي في الصحيح-.
فبالبحث والاستقراء تبيّن أن الضعيف في ذلك قليل جدا، و لذلك عندما نقول : "كل ما في البخاري صحيح"، لا نعني المعلَّقات، و إنما تعني الموصول المتصل مما ذَكر، وأما المعلّقات فهذا حكمها :
- ما كان مجزوما به من قِبَله، فهذا كأنه جزْمٌ بصحته.
- و ما لا يجزم به البخاري عند روايته من معلّقاته، فنحتاج إلى العودة إلى "تغليق تعليقه" والبحث فيه، قد يكون صحيحا وقد يكون دون ذلك.
- البخاري -رحمه الله- معلّقَاته كثيرة، وأما مسلم فمعلّقاته قليلة، بضعة عشر تعليقا، وهذه بُحثت وقتلت بحثا، ومنها ما هو مذكور قبل، فكأنما ذكره على سبيل الإحالة، فمعلقات البخاري أكثر بكثير من معلّقَات مسلم، مع هذا الأمر الدقيق الذي ذكرتُ لك، وهو أن من معلقات مسلم ما ذُكر قبل، فكأنما يحيل عليه، إلى غير ذلك من تلك الأمور وقد تأتي في حينها-إن شاء جلّ وعلا-.
شــيء أخر:
لو نظرنا إلى تقديم من قدّم مسلما على البخاري، سوى ما عند البخاري من كثرة التعليق وقلة ذلك عند مسلم، وهو أن البخاري -رحمه الله تعالى- كان "يقطّع الحديث"، ولم يكن يفعل ذلك مسلم -رحمه الله-، إنما كان يأتي بالحديث تامّا كاملا في موضعه ولا يُقطّعه، وأما البخاري فربما قطّع الأحاديث في أماكن كثيرة، وهذا ما يُعرف "بالأطراف"، فتجد بعد ذلك عند النظر في أي نسخة من نسخ الصحيح قد حُقّقت و رُقّمت يقول: و طرَفه في كذا و كذا و كذا، ربما يزيد عن عشرة مواضع، فيذكره كلما احتاج إليه على حسب "الصَنعة الفقهية لا الحديثية"، فهذا يفعله البخاري بكثرة [لم أفهم الكلمة]، ولم يكن يفعله مسلم.
شـــــيء آخر:
أن مسلما -رحمه الله- كان يجمع الأحاديث التي في الموضع الواحد في الباب الواحد ولا يُفرّقها، فكان البخاري يُكثر من التعليق، ويُقطّع الأحاديث، ويُفرّق الأحاديث التي تكون في موضع واحد، ولا يعيبه، ولكن الناظر في صحيح مسلم سيجد يُسرا في البحث من حيث هذه المسألةُ، عما يجده في النظر و البحث في صحيح البخاري.
فمن قال: أقدّم صحيح مسلم على صحيح البخاري بهذا الاعتبار، لا نراجعه، وأما من قال: إنه أصح بإطلاق، فهذا "محجوج" بهذه الوجوه التي مرّ ذكرها.
- البخاري و مسلم هما أول من صنّف في الصحيح المجرد، لأن مالكا -رحمة الله عليه- لم يَعْمِد إلى الصحيح مجرّدا، وإنما ذكر ما يسمى "بالبلاغات"، وربما ذكر بعض الأحكام الفقهيةّ، فضمّن ذلك في الموطأ.
والبلاغات: جمع بلاغ، هو أن يقول مالك -أو أن يقول المصنِّف- "بلغني"، فهذه بلاغات، وقد تتبّعها "ابن عبد البر" في "التمهيد" فوصلها كلها، فلا يوجد فيها ضعيف، قالوا: إلا أربعة مواضع فيها نظر و مراجعة ، والأغلب أنها ثابتة، فحينئذ لا تثريب عليه.
فأول من صنّف في الصحيح المجرّد "البخاري" ثم "مسلم" -رحمهما الله تعالى رحمة واسعة- ، ولم يستوعبا الصحيح ولا التزما ذلك، يعني لم يستوعب البخاري ومسلم الصحيح -أي الحديث الصحيح- في صحيحيْهما، بحيث يُقال: إنه مادام الحديث غير مُثبت في صحيح البخاري ولا في صحيح مسلم، فلا نقول إنه صحيح، لا، لأن البخاري ومسلما لم يلتزما أن يستوعبا الأحاديث الصحيحة في صحيحيْهما.
قال البخاري: "ما أدخلتُ في كتاب الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح لحال الطول".
قال: لا أريد أن أطيل بذكر الأحاديث المختلفة، ولا أريد أن أُثقل الكتاب، فكان -رحمة الله عليه- يترك كثيرا من الصحاح لحال الطول.
وقال مسلم: " ليس كل شيء عندي صحيح وضعتُه هاهنا، إنما وضعتُ ما أجمعوا عليه".
وهو لا يريد ما أجمعوا عليه بجملتهم، لأنه روجع في بعض الأحاديث، كما روجع البخاري في بعض الأحاديث، كما صنع الأئمة كالدارقطني في "الالزامات والتتبع" و كما صنع غيره أيضا، فربما أُخِذ عليه الحرف، و روجع في بعض الأحاديث.
فقوله: (إنما وضعتُ ما أجمعوا عليه) يعني على حسب علمه بالصنعة الحديثية، لا على سبيل الاستقراء، وإلا فقد روجع.
فهل فاتهما لعدم التزامهما باستيعاب الصحيح في صحيحيْهما، هل فاتهما كثير أو قليل من الصحيح؟
قال الحافظ ابن الأخرم: " لم يفتهُما إلا القليل"
وقد أُنكر عليه هذا الكلام إنكارا شديدا، والصحيح أنه فاتهما من الأحاديث الصحيحة شيء كثير، سواء تركوا ذلك بـمَلْكِهم واختيارهم كما قرّرا، أو لم يصل إليهم، كما ستجد في كلام "الحاكم" في "المستدرك"، فهو يستدرك على الشيخين فيما أخرجاه أو فيما تركاه.
فيقول قد أخرجتما من الأحاديث على هذه الشروط، وعندنا أحاديث كثيرة جدا -وهي التي جمعها في المستدرَك على الصحيحين- وهذه الأحاديث على شرط البخاري، أو على شرط مسلم، أو على شرطهما معا، فكان يأتي بهذه الأحاديث ويقول: "لم يخرجها البخاري ولا مسلم" وهي على شرط أحدهما أو على شرطهما، كان يستدرك عليهما بهذا الذكر فجمع المستدرَك.
عُوجل بالمنيّة -رحمه الله- قبل أن يُحرّره ويُنقّحه، وما استدرك على البخاري و مسلم، "ثلثه" صحيح مقبول، و"ثلثه" دون ذلك، و"ثلثه" ضعيف، بل فيه بعض الموضوع، في المستدرَك الذي يستدرك به على الشيخين.
فإذا، قول ابن الأخرم: "لم يفتهما إلا القليل"، هذا كلام محجوج، والصحيح أنهما فاتهما شيء كثير, فقد نُقل عن البخاري أنه قال: " وما تركت من الصحاح أكثر"، وقال: " أحفظ مئة ألف حديث صحيح، ومئتي ألف حديث غير صحيح",
وقد مر تفسير هذا الكلام، لأن الذي عندنا من الأحاديث لا يبلغ هذا العدد، ولم يَضِع على الأمة من حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم قليل ولا كثير، فالقول بأن بعض الحديث لم يبلغ الأمّة وضاع، هذا كلام مردود، لأن الله -تبارك وتعالى- أكمل الدين، فكيف يضيع من أحاديث النبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم شيء !؟، وحديثه كله من الدين صلى الله عليه وآله وسلم.
فكيف إذا نفهم و نوجّه هذا الكلام؟
قال: " أحفظ مئة ألف حديث" مع أن الصحيح بالمكرر "سبعة آلاف ونيّف" -كما سيأتي في ذكر العدد-، فأين هذا من مئة ألف حديث صحيح؟
يقول: "ومئتي ألف حديث غير صحيح"، والعلماء كما جمعوا الصحيح، جمعوا الضعيف بل والموضوع، فعندنا كثير من الكتب عنواناتها " الموضوعات"، "الموضوع"، فجمعوا الموضوع حتى لا يأتي أحد ليعبث بالأسانيد تغييرا، ثم يأتي بالحديث الموضوع ليَرُوج على الأُمة، فكانوا يكتبون الضعيف كما يكتبون الصحيح، يكتبون الموضوع المكذوب، كما يكتبون الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكل ذلك من أجل حياطة السُنة، ومن أجل نفي الدخيل عنها ،فرحمة الله عليهم.
فكيف نوجّه هذا الكلام؟
معلوم أن الحديث عندما يُطلق، قد يدخل فيه -كما هو معلوم عند بعض أهل العلم من أهل الحديث- ما كان "خَبَرا"، ما كان "من قول الصحابي"، و كذلك ما كان "من قول التابعي"، "وما قاله العلماء في التفسير مثلا"، كما ضربنا المثَل من كلام ابن الجوزي في أن العلماء لهم عشَرة أقوال -كلها ثابت عن سلفنا الصالحين- في تفسير "النعيم" من قوله -جلّ وعلا- ﴿ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾، ففسّروا النعيم "بعشرة أقوال"، كل منهم قال قولا.
فالعلماء على حسَب اصطلاحهم العام، يقولون: هذه عشَرة أحاديث، ويحفظون هذا، إلى غير ذلك من المُقطّعات والأجزاء والأقوال وغير ذلك [مما كانوا يأتون به] -رحمة الله عليهم-، فكان البخاري يحفظ هذا كله.
فهذا توجيه قوله: " أحفظ مئة ألف حديث صحيح، ومئتي ألف حديث غير صحيح".
ولكن: ما هي عِدّة الأحاديث في كل من البخاري و مسلم ؟
البخاري جملة ما فيه: سبعة آلاف ومئتان وخمسة وسبعون حديثا بالمكرر (7275)، لأنه كان يكرّر الأحاديث -رحمه الله تعالى-، إذا حذفنا المكرَّر بقي لنا " أربعة آلاف حديث" ، هي عدّة صحيح البخاري.
وأما مسلم فجملة ما فيه: اثنا عشر ألفا بالمكرر، وبحذف المكرر هي نحو أربعة آلاف حديث أيضا.
ما دام الأمر كذلك، أربعة آلاف وأربعة آلاف، فأين نجد بقيّة الأحاديث الصحيحة التي فاتت البخاري ومسلما؟
في الكتب المعتمدة المشهورة، "كصحيح ابن خزيمة" و "صحيح ابن حبّان" و "مستدرك الحاكم" و "السنن الأربعة"، "سنن أبي داود" و "سنن النسَائي" و "سنن الترمذي" و "سنن ابن ماجه" و "سنن الدارقطني" أيضا، وكذلك تجدها في "سنن البيهقي" و في "المسانيد"، "كمسند الإمام أحمد" و "مسند ابن أبي شيبة" و "مسند ابن أبي يعلى" .
نجد الأحاديث الصحيحة في هذه الكتب الحديثية، ولا يكفي وجود الحديث في هذه الكتب حتى نحكُم عليه بالثبوت والصحة، فقد يكون ضعيفا بل قد يكون موضوعا، فلم يشترط من صنّفوا تلك الكتب ما اشترطه البخاري و مسلم، من التزام إيراد الصحيح فقط، على حسب شرطيهما، لأن للشيخين شروطا، وقد التزما بتلك الشروط، وهي شروط دقيقة جدّا -كما مر- في شرطٍ تفرّد به البخاري عن مسلم، وأنه لا يشترط المعاصرة فقط، يعني لا يكفي أن تكون معاصرا للراوي فتقول عن فلان كذا، لكي نقبل منك الحديث، عند البخاري.
عند مسلم، إذا لم تكن مدلسا حتى ولو عنعنت مع ثبوت المعاصرة، وأنك كنت معاصرا لمن تروي عنه، هذا يكفي عند مسلم-رحمة الله عليه-، وأما عند البخاري فلا يكفي هذا، لا بُد من ثبوت اللقاء.
فهذه شروط للشيخين غاية في الدقة، وغاية في القسوة، لذلك أجمعت الأُمة على تقديم هذين الكتابين العظيمين، وهما أصح الكتب بعد كتاب الله رب العالمين.
فــــرّغه:
أبو زكرياء إسماعيل الجزائري
السبت 8 شعبان 1437 ه - 15 ماي 2016
سطــيف -حرسها الله بالتوحيد و السنة -
لتحميل المقطع الصوتي:
[من هنا]