اجتهدوا كل الأواخر العشر عساكم تنالوا فضل و أجر ليلة القدر .
الحمدُ لله رب العالمين ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلَّى اللهُ وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علما ، وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين . أما بعد :
نستقبل هذه الليلة المباركة خير الليالي وأشرفها وأعظمها على الإطلاق ؛ العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك التي لها شأنها العظيم ومكانتها العلية الرفيعة في دين الله سبحانه وتعالى ، والله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار ، ويصطفي ما شاء جل وعلا من الأزمنة والبقاع والأشخاص ، ولهذا شرَّف الله سبحانه وتعالى شهر رمضان بأن جعله خير الشهور ، وشرَّف العشر الأواخر من ليالي رمضان بأن جعلها خير الليالي ، وشرَّف سبحانه وتعالى ليلة القدر بأن جعلها خير الليالي ، بل فخَّم الله سبحانه وتعالى أمرها وأعلى شأنها بقوله {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ }[القدر:2-3] ؛ انظر هذه الفخامة والعظمة التي أكرم الله عز وجل أو شرَّف الله سبحانه وتعالى فيها هذه الليلة الواحدة من ليالي السنة ، ليلة واحدة جعل الله سبحانه وتعالى شأنها وقدرها بهذه المكانة خير من ألف شهر ، وألف شهر إذا حُسبت بحساب السنوات أكثر من ثمانين سنة ، أكثر من عمر رجل معمَّر ، فالعمل فيها خير من العمل بألف شهر ليس فيها ليلة القدر ؛ انظر هذا الشرف لليلة واحدة ، ولو قيل لتجار الدنيا وأرباب المطامع الدنيوية والأرباح الدنيوية لو قيل له في الشهر الفلاني يوم واحد الذي يباع بعشر ريالات يباع في ذلك اليوم بآلاف أو ملايين الريالات ، تجده طول الشهر منضبط بدقة في البيع والمرابحة حتى يظفر بهذا اليوم الواحد ، حتى لا يفوته ربح هذا اليوم الواحد ، وأرباب التجارة الأخروية أولى بالاهتمام وأجدر بالعناية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الصف:10] ، {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}[فاطر:29] .
وهذه الليالي المباركة التي نستقبلها اعتبارًا من هذه الليلة المقبلة هي أشرف الليالي ، ومن أشرف مواسم الطاعة والتنافس في العبادة والجد والاجتهاد في الإقبال على الله سبحانه وتعالى حتى يغنم العبد من خيرات هذه العشر وبركاتها العظيمة ؛ ولهذا أولًا يحمد العبد ربه سبحانه وتعالى أن شرَّفه بإدراك العشر وهو بصحة وعافية وأمن وإيمان وقدرة على الطاعة، كم من أناس كانت نفوسهم تتوق إلى إدراك رمضان وإدراك هذه العشر وحالت بينهم وبين إدراكها المنية ، حال بينهم وبينها الموت ، من الشباب والصغار والكبار والذكور والإناث ، وكم من أناس صاموا معنا رمضان الماضي ورمضانات قبله حال بينهم الموت أن يدركوا هذا الشهر أو أن يدركوا هذه العشر المباركة ؛ ولهذا يستشعر العبد المنة ، منة الله عليه بإدراكها وهو بصحة وعافية وأمن وإيمان وقدرة على الطاعة . ثم يجاهد نفسه على أن يري ربه من نفسه خيرا في هذه العشر مقتديا بنبيه وأسوته وقدوته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال الله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21] .
وقد جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» ؛ وهذا يدل على خصوصية لهذه العشر في باب الاجتهاد في العبادة والطاعة والذكر وقيام الليل وقراءة القرآن وذكر الله سبحانه وتعالى ، فكان نبينا وقدوتنا عليه الصلاة والسلام يجتهد في هذه العشر المباركات ما لا يجتهد في غيرها . ولهذا ينبغي على المؤمن أن يأتسي بالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام وأن يجتهد في هذه العشر ، وأن يكون لهذه العشر تميز واضح في اجتهاده بالعبادة عن غيرها من سائر الليالي حتى عن غيرها من ليالي رمضان ؛ يجتهد فيها اجتهادًا يراه من نفسه متميزًا عن غيرها من الليالي ، يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها كما كان نبينا عليه الصلاة والسلام .
وجاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» ؛ انتبه لهذه الثلاث عدَّها واحدةً واحدة واجتهد في ضبطها حتى تتأسى بنبيك عليه الصلاة والسلام في هذه العشر المباركات ، اعرف ما هي واعرف ماذا كان يصنع قدوتك عليه الصلاة والسلام في هذه العشر ثم جاهد نفسك على الاقتداء به صلوات الله وسلامه عليه ، عدَّتها ثلاث رضي الله عنها قالت : «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» هذه ثلاث عدَّتها أم المؤمنين رضي الله عنها من فعل نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه العشر الليالي المباركات .
أما الأول : فهو شد المأزر ؛ قيل المراد بشد المأزر: الجد في العبادة والاجتهاد فيها ، لكن جاء لفظ الحديث في بعض رواياته في صحيح مسلم قالت «فَإِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ جَدَّ وشَدَّ الْمِئْزَرَ» فعرف أن شد المأزر أمر آخر ، ولهذا الصحيح أن المراد بشد المأزر اعتزال النساء تفرغًا للعبادة في الليالي العشر المباركات ، فشد مأزره : يعني اعتزل نساءه وجانَب الفراش والمباشرة وما إلى ذلك تفرغًا للعبادة واجتهادًا في ملأ ليالي العشر بأنواع القرب إلى الله سبحانه وتعالى .
أما الثاني: فهو إحياء الليل قالت «وَأَحْيَا لَيْلَهُ» ، والمراد بإحياء الليل أي بالصلاة والذكر وقراءة القرآن والدعاء ومناجاة الله سبحانه وتعالى ، والمراد بإحياء الليل في العشر أي غالب الليل ، لكن يتخللها شيء من الراحة أو شيء من التناول للطعام أو نحو ذلك ، ولهذا جاء أيضا في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ» يعني لابد أن يكون فيها شيء من الراحة قليل من الراحة أو مثلا تناول الطعام أو نحو ذلك ، فإحياء الليل يعني عمارة الليل في غالبه الأعم بالذكر والقيام والقرآن وذكر الله سبحانه وتعالى ونحو ذلك .
الأمر الثالث: قالت «وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» وهذا فيه أهمية العناية بالأهل والولد في العشر الأواخر حثًا وترغيبا وبيانا لهم لاغتنام هذه العشر المباركات ، لا ينقطع هو للعبادة ويترك أهله وشأنهم يصنعون ما أرادوا ، لا ، هو مسؤول عنهم يتابعهم يستحثهم يرغبهم يبين لهم يوقظهم يذكِّرهم ، حتى يكون العمل مشتركا وتحصيل الخير مشتركا ويكون معينا لهم على الخير ، يشد من أزرهم في أعمال الخير ويشجعهم ينمي فيهم أعمال الخير . فهذا هديه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه .
ومن أعظم ما ينبغي أن يُغتنم في هذه العشر المباركات ليلة القدر ، وأنصح نفسي وإخواني أن يكون التحري لليلة القدر في العشر كلها ((تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ)) ، نعم هناك أيام أحرى لكن تحرها أنت في العشر كلها في الشفع والوتر من العشر ، تحرها في العشر كلها .
وما يأتي في أثناء العشر في كل سنة من ذكر لبعض الرؤى التي يُذكر فيها أنها رؤى مثلا صادقة تدل على أنها ليلة واحد وعشرين ثلاث وعشرين خمس وعشرين لا تقف عندها لأن مثل هذه قد تعطل بعض الناس عن التحري في الليالي المقبلة وقد تكون فيها ليلة القدر ، فلا يثنيك عن العمل مثل هذه الأشياء ولا توقفك عن العمل .
ولهذا ينبغي على المسلم أن يتحرى ليلة القدر من أول ليلة ، نعم قد تكون هذه الليلة التي الآن نستقبلها قد تكون هي ليلة القدر ، وفي سنة من السنوات كانت ليلة القدر ليلة واحد وعشرين في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ، فقد تكون هذه الليلة التي نستقبلها هي ليلة القدر ، فانظر لو أن شخصا ابتدأ العشر بارتخاء وقال "ربما أن ليلة القدر تكون سبع وعشرين إن شاء الله أنشط فيما بعد" ثم قُدِّر أن كان ليلة القدر ليلة واحد وعشرين كم حرم نفسه وفوَّت على نفسه من الخير ، ولهذا قد تكون ليلة القدر هذه الليلة التي نستقبلها ليلة واحدة وعشرين قد تكون الليلة التي بعدها ، قد تكون التي بعدها ، قد تكون التي بعدها، الله أعلم ، ونتحراها في الكل ، وأنت عندما تتحراها في الكل أنت لا تتحرى شيء هين ، أنت تتحرى أمر عظيم جدا ، ليلة واحدة خير من ألف شهر ، هذا أمر ليس بالهين ، انظر شخص عابد عمِّر أكثر من ثمانين سنة حتى تدرك فضل هذه الليلة وشرفها { خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ }[القدر:3] العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، انظر هذا الثواب وانظر هذا الفضل العظيم الذي جعله الله سبحانه وتعالى في هذه الليلة ، ولهذا جاء في الحديث: ((وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ)) والعياذ بالله .
ولهذا ينبغي على العبد أن يُري نفسه من أول دخول العشر ، والعشر تدخل من أذان المغرب ، إذا أذَّن المغرب وبدأت بالإفطار بدأت معك الليالي المباركة ، وقد تكون كما قلت لك الليلة القادمة هي ليلة القدر ما يدريك ، قد تكون الليلة التي بعدها أو التي بعدها الله أعلم ، فأنت اجتهد من أول ما تبدأ هذه الليالي اجتهد فيها كلها متحريا لليلة القدر ، واطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعينك على نفسك بالذكر والشكر وحسن العبادة «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» ، سل الله المعونة ، والله نفسك تخذلك حتى وإن سمعت وعظ الواعظين وتذكير المذكرين ونصح الناصحين النفس تخذل الإنسان ، تجده مثلا في مجلس الموعظة يتفاعل ويتشجع ثم إذا بدأ العمل فترت النفس والعياذ بالله ، اطلب من الله المعونة اطلب من الله أن لا يكلك لا إلى علمك ولا إلى فهمك ولا إلى قدرتك ولا إلى ذكائك ولا إلى شيء من ذلك ، اللهم لا تكلني إلا إليك ، سل الله سبحانه وتعالى أن يعينك وأن يغنِّمك خيرات هذه العشر وبركاتها العظيمة وأري ربك من نفسك خيرا ، من حين ما تدخل وأنت في اجتهاد مع الله سبحانه وتعالى بالعبادة .
وإن مما يعين على تحري ليلة القدر الاعتكاف ، لكن إذا أتي به على وجهه الصحيح ، وكثير من الناس يعتكفون ولكن اعتكافهم ليس على وجه صحيح ولا على هدي قويم ، ولهذا يكون اعتكافهم ضعيف الأثر إن لم يكن عديم الأثر ، وليس كل جالس في المسجد العشر كلها معتكف أي الاعتكاف المشروع المأمور به المؤتسى فيه برسول الله صلى الله عليسه وسلم . ولهذا ينبغي على من أراد الاعتكاف ليتحرى هذه العشر المباركات أن يعتكف اعتكافا صحيحا على أصوله الشرعية وآدابه المرعية ويكون متأسيا فيه بالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ، وأن يتجنب الأخطاء الكثيرة التي يقع فيها كثير من المعتكفين تُخل باعتكافهم وتضر باعتكافهم وتجلب لهم المأثم والمغرم ، بعض الناس يصنع أمورا في اعتكافه تجلب له مأثما ومغرما ! مأثما بينه وبين الله ومغرما بينه وبين العباد في اعتكافه يكسب مأثما ومغرما وهو معتكف . ولهذا ينبغي على العبد إذا وفقه الله سبحانه وتعالى ونوى الاعتكاف أن يعتكف اعتكافا صحيحا متأسيا بالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام .
والاعتكاف خلوة بينك وبين الله تجمع قلبك على ذكر الله وطاعاته والتفرغ من الشواغل والملهيات والصوارف وأمور الدنيا وشواغلها ، أي اعتكاف هذا عندما يكون المعتكف في كثير من أوقاته في اعتكافه مشغولا بالجهاز الذي في يده في أخبار الدنيا وفي المرح ، حتى بعضهم في الألعاب التي في الجوال !! أي اعتكاف هذا ! وهو غافل ولاهٍ ، وأي اعتكاف هذا عندما تتحول مجالس الاعتكاف إلى مجالس سمر ومزح وضحك ولعب وأشياء من هذا القبيل ، حتى إن بعض المصلين ليتأذى من بعض المعتكفين ، يريد أن يقرأ القرآن يريد أن يذكر الله سبحانه وتعالى يريد أن يسبح يريد أن يهلل يريد أن يصلي فلا يتمكن من الصوت الذي بجنبه ، سواء كان صواتًا بحديث جماعي بين أشخاص متقابلين أو صوتا ممن يتحدث بالجوال . وإذا نظرت إلى من يتحدث بالجوال وأنت تقرأ القرآن تطلب منه أن يخفض شد عينه فيك وكأن الحق له ، الحق لك أنت في بيت الله تتلو القرآن أو تصلي أو تذكر الله سبحانه وتعالى ، لكن عندما نضيِّع مثل هذه المعاني العظيمة تأتي التجاوزات والتعديات وتأتي الإساءات ويأتي الظلم ويأتي أشياء كثيرة مؤلمة .
أحد الأشخاص يذكر أنه يصلي من أيام في هذا المسجد ويذكر أنه ما استطاع أن يؤدي نافلته كما ينبغي لأن الذي بجنبه كان يتكلم مع أهله بالهاتف في المصالح الدنيوية ، ولما قضى صلاته التفت إليه قال يا أخي اشغلتني في صلاتي ما تمكنت أن أصليها تامة ، فماذا قال له ؟ بدل أن يعتذر منه قال له "قم صل مرة ثانية" صل ركعتين أخريين ، وإن كان يقولها بعض الناس مداعبة لكنه نبقى بهذه الطريقة في ضعف شديد من إدراك مكانة هذا المكان وهذه العبادة وهذا التقرب وهذه الطاعة لله سبحانه وتعالى .
فيجب على من أراد الاعتكاف أن يراعي حرمة المسجد ، وأن يراعي حرمة المصلين ، وأن يراعي شرف المكان وشرف الزمان ، وأن يتقي الله سبحانه وتعالى في إخوانه المصلين ، وكثير من المعتكفين حقيقة تظهر عليهم مخالفات تؤثر عليهم في اعتكافهم ، وأهل العلم لا يزالوا يبينون وينصحون ، ولهذا ينبغي على المعتكف أن يتقي الله عز وجل وأن يحرص على اغتنام الاعتكاف ، والاعتكاف في الحقيقة مدرسة تربوية إيمانية تصقل القلوب تملأها بالإيمان والطاعة ولكن لمن وفقه الله سبحانه وتعالى لحسن الاعتكاف وحسن الأداء لهذه الطاعة والبعد عن الشواغل ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم تضرب له القبة في المسجد والقبة تصرفه عن النظر في الآتي والرايح والذاهب والجاي فلا أقل أن يكون المعتكف بصره على مصحفه أو على موضع سجوده وفي مناجاة وفي ذكر لله سبحانه وتعالى وفي دعاء وإقبال على الله ويقلل من الأحاديث الجانبية قدر استطاعته ، لها وقت آخر ولها مجال آخر ، لكن هذه فرصتي أن أقرأ القرآن أن أذكر الله سبحانه وتعالى أن أدعو وأناجي أن أصلي ، وهو وقت قصير ويمضي سريعا يمر سريعا لكن الموفق من موفقه الله سبحانه وتعالى لاغتنامه .
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يغنِّما أجمعين خيرات هذه العشر وبركاتها ، وأن يغنمنا أجمعين خيرات ليلة القدر ، وأن يعيننا أجمعين على ذكره وشكره وحسن عباده ، وأن يبارك لنا في هذه العشر بركة عظيمة وأن يجري لنا فيها الخير العظيم طاعةً وذكرًا وشكرا وقراءةً للقرآن وقياما لليل ومناجاةً ودعاء إلى غير ذلك . ولنحرص على هذه الدعوة العظيمة التي علَّمها النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة حينما قالت : «يَا رَسُولَ اللهِ أرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟» قَالَ: ((قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي)) ؛ هذه دعوة ينبغي أن تكون على ألسنتنا كثيرا في هذه العشر المباركات .
نسأل الله عز وجل التوفيق والسداد والمعونة على كل خير ، والهداية إلى صراط الله المستقيم ، وأن يصلح لنا شأننا كله إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه .
الحمدُ لله رب العالمين ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلَّى اللهُ وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علما ، وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين . أما بعد :
نستقبل هذه الليلة المباركة خير الليالي وأشرفها وأعظمها على الإطلاق ؛ العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك التي لها شأنها العظيم ومكانتها العلية الرفيعة في دين الله سبحانه وتعالى ، والله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار ، ويصطفي ما شاء جل وعلا من الأزمنة والبقاع والأشخاص ، ولهذا شرَّف الله سبحانه وتعالى شهر رمضان بأن جعله خير الشهور ، وشرَّف العشر الأواخر من ليالي رمضان بأن جعلها خير الليالي ، وشرَّف سبحانه وتعالى ليلة القدر بأن جعلها خير الليالي ، بل فخَّم الله سبحانه وتعالى أمرها وأعلى شأنها بقوله {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ }[القدر:2-3] ؛ انظر هذه الفخامة والعظمة التي أكرم الله عز وجل أو شرَّف الله سبحانه وتعالى فيها هذه الليلة الواحدة من ليالي السنة ، ليلة واحدة جعل الله سبحانه وتعالى شأنها وقدرها بهذه المكانة خير من ألف شهر ، وألف شهر إذا حُسبت بحساب السنوات أكثر من ثمانين سنة ، أكثر من عمر رجل معمَّر ، فالعمل فيها خير من العمل بألف شهر ليس فيها ليلة القدر ؛ انظر هذا الشرف لليلة واحدة ، ولو قيل لتجار الدنيا وأرباب المطامع الدنيوية والأرباح الدنيوية لو قيل له في الشهر الفلاني يوم واحد الذي يباع بعشر ريالات يباع في ذلك اليوم بآلاف أو ملايين الريالات ، تجده طول الشهر منضبط بدقة في البيع والمرابحة حتى يظفر بهذا اليوم الواحد ، حتى لا يفوته ربح هذا اليوم الواحد ، وأرباب التجارة الأخروية أولى بالاهتمام وأجدر بالعناية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الصف:10] ، {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}[فاطر:29] .
وهذه الليالي المباركة التي نستقبلها اعتبارًا من هذه الليلة المقبلة هي أشرف الليالي ، ومن أشرف مواسم الطاعة والتنافس في العبادة والجد والاجتهاد في الإقبال على الله سبحانه وتعالى حتى يغنم العبد من خيرات هذه العشر وبركاتها العظيمة ؛ ولهذا أولًا يحمد العبد ربه سبحانه وتعالى أن شرَّفه بإدراك العشر وهو بصحة وعافية وأمن وإيمان وقدرة على الطاعة، كم من أناس كانت نفوسهم تتوق إلى إدراك رمضان وإدراك هذه العشر وحالت بينهم وبين إدراكها المنية ، حال بينهم وبينها الموت ، من الشباب والصغار والكبار والذكور والإناث ، وكم من أناس صاموا معنا رمضان الماضي ورمضانات قبله حال بينهم الموت أن يدركوا هذا الشهر أو أن يدركوا هذه العشر المباركة ؛ ولهذا يستشعر العبد المنة ، منة الله عليه بإدراكها وهو بصحة وعافية وأمن وإيمان وقدرة على الطاعة . ثم يجاهد نفسه على أن يري ربه من نفسه خيرا في هذه العشر مقتديا بنبيه وأسوته وقدوته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال الله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21] .
وقد جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» ؛ وهذا يدل على خصوصية لهذه العشر في باب الاجتهاد في العبادة والطاعة والذكر وقيام الليل وقراءة القرآن وذكر الله سبحانه وتعالى ، فكان نبينا وقدوتنا عليه الصلاة والسلام يجتهد في هذه العشر المباركات ما لا يجتهد في غيرها . ولهذا ينبغي على المؤمن أن يأتسي بالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام وأن يجتهد في هذه العشر ، وأن يكون لهذه العشر تميز واضح في اجتهاده بالعبادة عن غيرها من سائر الليالي حتى عن غيرها من ليالي رمضان ؛ يجتهد فيها اجتهادًا يراه من نفسه متميزًا عن غيرها من الليالي ، يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها كما كان نبينا عليه الصلاة والسلام .
وجاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» ؛ انتبه لهذه الثلاث عدَّها واحدةً واحدة واجتهد في ضبطها حتى تتأسى بنبيك عليه الصلاة والسلام في هذه العشر المباركات ، اعرف ما هي واعرف ماذا كان يصنع قدوتك عليه الصلاة والسلام في هذه العشر ثم جاهد نفسك على الاقتداء به صلوات الله وسلامه عليه ، عدَّتها ثلاث رضي الله عنها قالت : «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» هذه ثلاث عدَّتها أم المؤمنين رضي الله عنها من فعل نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه العشر الليالي المباركات .
أما الأول : فهو شد المأزر ؛ قيل المراد بشد المأزر: الجد في العبادة والاجتهاد فيها ، لكن جاء لفظ الحديث في بعض رواياته في صحيح مسلم قالت «فَإِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ جَدَّ وشَدَّ الْمِئْزَرَ» فعرف أن شد المأزر أمر آخر ، ولهذا الصحيح أن المراد بشد المأزر اعتزال النساء تفرغًا للعبادة في الليالي العشر المباركات ، فشد مأزره : يعني اعتزل نساءه وجانَب الفراش والمباشرة وما إلى ذلك تفرغًا للعبادة واجتهادًا في ملأ ليالي العشر بأنواع القرب إلى الله سبحانه وتعالى .
أما الثاني: فهو إحياء الليل قالت «وَأَحْيَا لَيْلَهُ» ، والمراد بإحياء الليل أي بالصلاة والذكر وقراءة القرآن والدعاء ومناجاة الله سبحانه وتعالى ، والمراد بإحياء الليل في العشر أي غالب الليل ، لكن يتخللها شيء من الراحة أو شيء من التناول للطعام أو نحو ذلك ، ولهذا جاء أيضا في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ» يعني لابد أن يكون فيها شيء من الراحة قليل من الراحة أو مثلا تناول الطعام أو نحو ذلك ، فإحياء الليل يعني عمارة الليل في غالبه الأعم بالذكر والقيام والقرآن وذكر الله سبحانه وتعالى ونحو ذلك .
الأمر الثالث: قالت «وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» وهذا فيه أهمية العناية بالأهل والولد في العشر الأواخر حثًا وترغيبا وبيانا لهم لاغتنام هذه العشر المباركات ، لا ينقطع هو للعبادة ويترك أهله وشأنهم يصنعون ما أرادوا ، لا ، هو مسؤول عنهم يتابعهم يستحثهم يرغبهم يبين لهم يوقظهم يذكِّرهم ، حتى يكون العمل مشتركا وتحصيل الخير مشتركا ويكون معينا لهم على الخير ، يشد من أزرهم في أعمال الخير ويشجعهم ينمي فيهم أعمال الخير . فهذا هديه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه .
ومن أعظم ما ينبغي أن يُغتنم في هذه العشر المباركات ليلة القدر ، وأنصح نفسي وإخواني أن يكون التحري لليلة القدر في العشر كلها ((تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ)) ، نعم هناك أيام أحرى لكن تحرها أنت في العشر كلها في الشفع والوتر من العشر ، تحرها في العشر كلها .
وما يأتي في أثناء العشر في كل سنة من ذكر لبعض الرؤى التي يُذكر فيها أنها رؤى مثلا صادقة تدل على أنها ليلة واحد وعشرين ثلاث وعشرين خمس وعشرين لا تقف عندها لأن مثل هذه قد تعطل بعض الناس عن التحري في الليالي المقبلة وقد تكون فيها ليلة القدر ، فلا يثنيك عن العمل مثل هذه الأشياء ولا توقفك عن العمل .
ولهذا ينبغي على المسلم أن يتحرى ليلة القدر من أول ليلة ، نعم قد تكون هذه الليلة التي الآن نستقبلها قد تكون هي ليلة القدر ، وفي سنة من السنوات كانت ليلة القدر ليلة واحد وعشرين في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ، فقد تكون هذه الليلة التي نستقبلها هي ليلة القدر ، فانظر لو أن شخصا ابتدأ العشر بارتخاء وقال "ربما أن ليلة القدر تكون سبع وعشرين إن شاء الله أنشط فيما بعد" ثم قُدِّر أن كان ليلة القدر ليلة واحد وعشرين كم حرم نفسه وفوَّت على نفسه من الخير ، ولهذا قد تكون ليلة القدر هذه الليلة التي نستقبلها ليلة واحدة وعشرين قد تكون الليلة التي بعدها ، قد تكون التي بعدها ، قد تكون التي بعدها، الله أعلم ، ونتحراها في الكل ، وأنت عندما تتحراها في الكل أنت لا تتحرى شيء هين ، أنت تتحرى أمر عظيم جدا ، ليلة واحدة خير من ألف شهر ، هذا أمر ليس بالهين ، انظر شخص عابد عمِّر أكثر من ثمانين سنة حتى تدرك فضل هذه الليلة وشرفها { خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ }[القدر:3] العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، انظر هذا الثواب وانظر هذا الفضل العظيم الذي جعله الله سبحانه وتعالى في هذه الليلة ، ولهذا جاء في الحديث: ((وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ)) والعياذ بالله .
ولهذا ينبغي على العبد أن يُري نفسه من أول دخول العشر ، والعشر تدخل من أذان المغرب ، إذا أذَّن المغرب وبدأت بالإفطار بدأت معك الليالي المباركة ، وقد تكون كما قلت لك الليلة القادمة هي ليلة القدر ما يدريك ، قد تكون الليلة التي بعدها أو التي بعدها الله أعلم ، فأنت اجتهد من أول ما تبدأ هذه الليالي اجتهد فيها كلها متحريا لليلة القدر ، واطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعينك على نفسك بالذكر والشكر وحسن العبادة «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» ، سل الله المعونة ، والله نفسك تخذلك حتى وإن سمعت وعظ الواعظين وتذكير المذكرين ونصح الناصحين النفس تخذل الإنسان ، تجده مثلا في مجلس الموعظة يتفاعل ويتشجع ثم إذا بدأ العمل فترت النفس والعياذ بالله ، اطلب من الله المعونة اطلب من الله أن لا يكلك لا إلى علمك ولا إلى فهمك ولا إلى قدرتك ولا إلى ذكائك ولا إلى شيء من ذلك ، اللهم لا تكلني إلا إليك ، سل الله سبحانه وتعالى أن يعينك وأن يغنِّمك خيرات هذه العشر وبركاتها العظيمة وأري ربك من نفسك خيرا ، من حين ما تدخل وأنت في اجتهاد مع الله سبحانه وتعالى بالعبادة .
وإن مما يعين على تحري ليلة القدر الاعتكاف ، لكن إذا أتي به على وجهه الصحيح ، وكثير من الناس يعتكفون ولكن اعتكافهم ليس على وجه صحيح ولا على هدي قويم ، ولهذا يكون اعتكافهم ضعيف الأثر إن لم يكن عديم الأثر ، وليس كل جالس في المسجد العشر كلها معتكف أي الاعتكاف المشروع المأمور به المؤتسى فيه برسول الله صلى الله عليسه وسلم . ولهذا ينبغي على من أراد الاعتكاف ليتحرى هذه العشر المباركات أن يعتكف اعتكافا صحيحا على أصوله الشرعية وآدابه المرعية ويكون متأسيا فيه بالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ، وأن يتجنب الأخطاء الكثيرة التي يقع فيها كثير من المعتكفين تُخل باعتكافهم وتضر باعتكافهم وتجلب لهم المأثم والمغرم ، بعض الناس يصنع أمورا في اعتكافه تجلب له مأثما ومغرما ! مأثما بينه وبين الله ومغرما بينه وبين العباد في اعتكافه يكسب مأثما ومغرما وهو معتكف . ولهذا ينبغي على العبد إذا وفقه الله سبحانه وتعالى ونوى الاعتكاف أن يعتكف اعتكافا صحيحا متأسيا بالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام .
والاعتكاف خلوة بينك وبين الله تجمع قلبك على ذكر الله وطاعاته والتفرغ من الشواغل والملهيات والصوارف وأمور الدنيا وشواغلها ، أي اعتكاف هذا عندما يكون المعتكف في كثير من أوقاته في اعتكافه مشغولا بالجهاز الذي في يده في أخبار الدنيا وفي المرح ، حتى بعضهم في الألعاب التي في الجوال !! أي اعتكاف هذا ! وهو غافل ولاهٍ ، وأي اعتكاف هذا عندما تتحول مجالس الاعتكاف إلى مجالس سمر ومزح وضحك ولعب وأشياء من هذا القبيل ، حتى إن بعض المصلين ليتأذى من بعض المعتكفين ، يريد أن يقرأ القرآن يريد أن يذكر الله سبحانه وتعالى يريد أن يسبح يريد أن يهلل يريد أن يصلي فلا يتمكن من الصوت الذي بجنبه ، سواء كان صواتًا بحديث جماعي بين أشخاص متقابلين أو صوتا ممن يتحدث بالجوال . وإذا نظرت إلى من يتحدث بالجوال وأنت تقرأ القرآن تطلب منه أن يخفض شد عينه فيك وكأن الحق له ، الحق لك أنت في بيت الله تتلو القرآن أو تصلي أو تذكر الله سبحانه وتعالى ، لكن عندما نضيِّع مثل هذه المعاني العظيمة تأتي التجاوزات والتعديات وتأتي الإساءات ويأتي الظلم ويأتي أشياء كثيرة مؤلمة .
أحد الأشخاص يذكر أنه يصلي من أيام في هذا المسجد ويذكر أنه ما استطاع أن يؤدي نافلته كما ينبغي لأن الذي بجنبه كان يتكلم مع أهله بالهاتف في المصالح الدنيوية ، ولما قضى صلاته التفت إليه قال يا أخي اشغلتني في صلاتي ما تمكنت أن أصليها تامة ، فماذا قال له ؟ بدل أن يعتذر منه قال له "قم صل مرة ثانية" صل ركعتين أخريين ، وإن كان يقولها بعض الناس مداعبة لكنه نبقى بهذه الطريقة في ضعف شديد من إدراك مكانة هذا المكان وهذه العبادة وهذا التقرب وهذه الطاعة لله سبحانه وتعالى .
فيجب على من أراد الاعتكاف أن يراعي حرمة المسجد ، وأن يراعي حرمة المصلين ، وأن يراعي شرف المكان وشرف الزمان ، وأن يتقي الله سبحانه وتعالى في إخوانه المصلين ، وكثير من المعتكفين حقيقة تظهر عليهم مخالفات تؤثر عليهم في اعتكافهم ، وأهل العلم لا يزالوا يبينون وينصحون ، ولهذا ينبغي على المعتكف أن يتقي الله عز وجل وأن يحرص على اغتنام الاعتكاف ، والاعتكاف في الحقيقة مدرسة تربوية إيمانية تصقل القلوب تملأها بالإيمان والطاعة ولكن لمن وفقه الله سبحانه وتعالى لحسن الاعتكاف وحسن الأداء لهذه الطاعة والبعد عن الشواغل ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم تضرب له القبة في المسجد والقبة تصرفه عن النظر في الآتي والرايح والذاهب والجاي فلا أقل أن يكون المعتكف بصره على مصحفه أو على موضع سجوده وفي مناجاة وفي ذكر لله سبحانه وتعالى وفي دعاء وإقبال على الله ويقلل من الأحاديث الجانبية قدر استطاعته ، لها وقت آخر ولها مجال آخر ، لكن هذه فرصتي أن أقرأ القرآن أن أذكر الله سبحانه وتعالى أن أدعو وأناجي أن أصلي ، وهو وقت قصير ويمضي سريعا يمر سريعا لكن الموفق من موفقه الله سبحانه وتعالى لاغتنامه .
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يغنِّما أجمعين خيرات هذه العشر وبركاتها ، وأن يغنمنا أجمعين خيرات ليلة القدر ، وأن يعيننا أجمعين على ذكره وشكره وحسن عباده ، وأن يبارك لنا في هذه العشر بركة عظيمة وأن يجري لنا فيها الخير العظيم طاعةً وذكرًا وشكرا وقراءةً للقرآن وقياما لليل ومناجاةً ودعاء إلى غير ذلك . ولنحرص على هذه الدعوة العظيمة التي علَّمها النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة حينما قالت : «يَا رَسُولَ اللهِ أرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟» قَالَ: ((قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي)) ؛ هذه دعوة ينبغي أن تكون على ألسنتنا كثيرا في هذه العشر المباركات .
نسأل الله عز وجل التوفيق والسداد والمعونة على كل خير ، والهداية إلى صراط الله المستقيم ، وأن يصلح لنا شأننا كله إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه .