يعتمِدُ ابنُ تيميَّة - رحمه الله - في دراساتِه النفسية على أسسٍ قويمة ومتينة من العقل والنقل، يمكننا إيجازها فيما يأتي: أولاً: القرآن الكريم: وهو أقوى الأدلَّة العلمية لدى العلماء بعامة، وابن تيمية بخاصة، وكيف لا يكون كذلك وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإذا وجد الدليل القرآني، تبقى الأدلة الأخرى التي يُورِدها تعزيزًا له لا أصلاً؛ وذلك لأن منهج القرآن في الاستدلال لإثبات الحقائق الغيبية وإبداءِ مقاصد الشريعة أبلغُ من كل منهج، وأشد تأثيرًا في النفس من أي استدلال آخر. يقول بعد أن ذكر الدلائل العقلية عند أئمة أهل الكلام والفلسفة على المطالب الإلهية: "فقد جاء القرآن بما فيها من الحق، وما هو أبلغ وأكمل منها على أحسن وجه، ومع تنَزُّهه عن الأغاليط الكبيرة الموجودة عند هؤلاء". ويؤكِّد ابن تيمية أن مَن يُدْعَوْن بفلاسفةِ الإسلام؛ من أمثال الفارابي، وابن سينا، والكندي، وغيرهم ممَّن تأثر بهم، وألبسوا الفلسفة اليونانية ثوبَ الإسلام، هؤلاءِ ابتعَدوا عن القرآن الكريم، وعن منهجه العرفي، ودلالاته النفسية والعقلية؛ لذلك هم ابتعَدوا عن منهج الله في عقائدهم وآرائهم، وجاؤوا بآراء بعيدةٍ كلَّ البعد عن الحقيقة القرآنية. مع أن الحقيقة القرآنية ميسَّرة وسهل الحصول عليها وفهمها، وهذا هو ما قام به ابن تيمية، فإنا نراه يأتي بالدليل القرآني بيسر وسهولة، بحيث لا يخطر على بال القارئ أو المستمع أن هذه الآية يمكن أن تكون دليلاً لفكرةٍ يُورِدها المؤلف، ولكن نجد ابن تيمية يستنبِطُ منها أمورًا لم تخطُرْ على بال مَن سبقه من العلماء. لننظر إليه وهو يتكلَّم عن العقل ورده على الفلاسفة في مفهومهم للعقل، يقول: "إن العقل في كتاب الله وسنة رسوله وكلام الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين أمرٌ يقوم بالعاقل، سواء سمِّي عَرَضًا أو صفة ليس عينًا قائمة بنفسها... فهو مصدر عقَل يعقِل، كما قال -تعالى-: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾، ﴿ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ﴾ [الحج: 46]". فهو يدلِّل بالقرآن على أن العقلَ عَرَضٌ يقوم بالعاقل لا جوهر، بأسلوب ميسر وبمنطق سليم، بعيدًا عن تعقيدات الفلاسفة، وهو يردُّ على الفلاسفة اليونانيين وتلامذتهم من المسلمين، فيقول: "والعقل في لغة فلاسفة اليونانيين جوهرٌ قائم بنفسه، فأين هذا من هذا؟". وهكذا، فهو يرفض حدوس الفلاسفة اليونانيين وتلامذتهم وظنونَهم بمنطق القرآن، ويؤكِّد أن وجود ما يسمُّونه العقول والنفوس المتعدِّدة هو في الأذهان لا في الأعيان. والحقيقة القرآنية فهمُها ميسَّر لدى الإمام ابن تيمية، ولا يكون الفهم إلا بتفسير القرآن، وأصح طرق التفسير عنده خمسة، أوجزها لك من كتابه (مقدمة في أصول التفسير)؛ وهي: 1- "أن يفسَّر القرآن بالقرآن، فما أُجمِل في مكان فإنه قد فُسِّر في موضع آخر، وما اختُصِر في مكان، فقد بُسط في موضع آخر". 2- "فإن أعياك ذلك، فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضِّحة له". 3- فـ: "إذا لم نجد التفسير في القرآن، ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة؛ فإنهم أدرى بذلك لِمَا شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها، ولِمَا لهم من الفهم التام والعلم الصحيح". 4- فـ: "إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين". 5- فـ: "إن اختلفوا - أي التابعون - فلا يكون قولُ بعضِهم حجَّة على بعض، ولا على مَن بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك". 6- "فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام". 7- "فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا، فلا حرج عليه". هذا هو منهج ابن تيمية في معرفة الحقيقة القرآنية. والقرآن الكريم يدفَعُ الإنسان إلى التفكير بما يسوقه من أدلَّة عقلية منطقية، حتى يصلَ إلى الإقناع والتصديق... لا مجرد إيراد خبر مُلزِم لهذا الإنسان يتقبَّله دون تفكير ولا إرادة؛ لهذا يقول هنري لاووست: "ويشتمل القرآن على جملة المعارف الدينية في نصها وروحها، وهو لا يستمد قوته الإلزامية من سلطة الوحي وحدها، وإنما يسوق إلى العقل مجموعةً من البراهين المنطقية مصحوبة بقوَّة إقناع لا نجدها في غيرها من البراهين، وعندما تعرَّض ابن تيمية في هذه النقطة بأسلوب جديد لحجة الاجتماع العام التي استخدمها لإثبات وجود الله، استطاع أن يؤكد أن القرآن يتضمن آيات من الوضوح، وعلى درجة من البساطة والعمومية؛ بحيث إن الناس جميعًا محمولون منطقيًّا على التصديق بها". ثانيًا: السنة النبوية: وهي المصدر الثاني للمعرفة من حيث الترتيب بعد القرآن الكريم عند الإمام ابن تيمية. ومن خلال التدليل على المفاهيم النفسية التي يأتي بها، يتبيَّن للقارئ فهمُه العميق للحديث النبوي، وما يمكن أن يستنبط منه من أفكار وآراء وَفْق التصور الإسلامي؛ لذلك نجدُه - رحمه الله - يكرِّر دائمًا في بحثه عن العقل عبارات؛ مثل: "العقل في لغة الرسول وأصحابه..."، "العقل في كتاب الله وسنة رسوله..."، ثم يورد الأحاديث النبوية التي تتعلق بالنقطة التي يدرسها، مدلِّلاً عليها، مستنبطًا منها المفاهيم التي تدعم فكرته ورأيه حول الموضوع. فهو - رحمه الله - يدلل مثلاً على الاستعداد الفطري للمعرفة بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((كل مولود يولد على الفطرة...)) الحديث. ويدلل على أن الإنسان حسَّاس متحرِّك بالإرادة بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((أصدق الأسماء حارث وهمام))، يقول: "فالحارث: الكاسب الفاعل، والهمَّام: فعَّال من الهمِّ، والهمُّ أول الإرادة؛ فالإنسان له إرادة دائمًا، وكل إرادة فلا بد لها من مرادٍ تنتهي إليه". ويدلِّل على الإلهام، وهو أحد مصادر المعرفة لديه، ويعرفه بقوله: "إشراق المعرفة وانبثاقها دفعة واحدة"، والذي هو نوع من الهداية الربانية للعبد، يدلل عليه بأحاديث متعددة بسطت في مكانها من هذا البحث. ثالثًا: أقوال السلف المشهود لهم بالعلم والفضل: وهذه تأتي في المرتبة الثالثة بعد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من حيث الاستدلال بها. والاستشهاد بأقوال السلف من الصحابة والتابعين حجَّةٌ لدى الإمام ابن تيمية لقربِهم من عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعصر نزول القرآن وفهمه، فضلاً عن أنهم "درجوا في ظل النبوة من معرفة وعلوم متكاملة بدون أن تشوبَهم شائبةٌ من التكلف...". ويعدُّ صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأوائل في هذا المضمار، يقول - رحمه الله -: "وأصحاب النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا - مع أنهم أكبر الناس علمًا وعملاً صالحًا - أقلَّ الناس تكلفًا، يصدر عن أحدهم الكلمة والكلمتان من الحكمة أو من المعارف ما يهدي به الله أمة، وهذا من فضل الله -تعالى- على هذه الأمة، ونجد غيرهم يحشون الأوراق من التكليفات والشطحات ما هو من أعظم الفضول المبتدع والآراء المخترعة". رابعًا: التوفيق بين العقل والنقل: وهو من الخصائص المهمة لمنهج ابن تيمية في الوصول إلى معرفة الحق في نظرياته النفسية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية. ولابن تيمية كتابٌ كبير في هذا المجال عنوانه: (درء تعارض العقل والنقل)، أو (بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول). أثبت فيه بشكل مفصَّل أن لا تعارض بين المعقول الصريح والمنقول الصحيح، ومما ورد في كتابه هذا: "إن الأدلة العقلية الصحيحة البيِّنة التي لا ريب فيها - بل العلوم الفطرية الضرورية - تُوافِق ما أخبرَتْ به الرسل لا تخالفه، وإن الأدلة العقلية الصحيحة جميعَها موافقة للسمع، لا تخالف شيئًا من السمع، وهذا ولله الحمد قد اعتبرته فيما ذكرته عامة الطوائف". ويثبت ابن تيمية أن كل المعقولات التي تعارض النقل ما هي إلا أوهامٌ اخترعها العقل، لا تستند إلى أساس من العلم، ويقول: "إن ما يدَّعونه من العقليات المخالفة للنصوص لا حقيقة لها عند الاعتبار الصحيح، وإنما هي من باب القعقعة بالشنان لمن يفزعه ذلك من الصبيان، وإذا أعطي النظر في المعقولات حقه من التمام وجدها براهين ناطقة بصدق ما أخبر به الرسول، وأن لوازم ما أخبر به لازم صحيح، وأن مَن نفى نفاه لجهله بحقيقة الأمر، وفزعًا باطنًا وظاهرًا كالذي يفزع من الآلهة المعبودة دون الله أن تضره، ويفزع من عدو الإسلام لما عنده من ضعف الإيمان". خامسًا: استعمال التحليل اللُّغَوي: إن مَن يطالع كتب ابنِ تيمية يجِده متبحِّرًا في اللغة العربية ومطَّلِعًا على دقائقها وأسرارها؛ لذلك هو يُسخِّرها للتدليل على آرائه ونظرياته العقدية والنفسية بخاصة، بل يستفيد منها في منهج المعرفة بعامة؛ لذلك هو يرجع إلى اللغة العربية لفهم النص القرآني إذا لم يَرِدْ له تفسير في آيٍ أُخَرَ من القرآن أو من السنة أو من أقوال الصحابة والتابعين، ويأخذ بظاهر المعنى اللغوي، ولا يصرفه إلى المجاز إلا بقرينة، أو يكون هناك دليل يوجب صرفه عن حقيقته إلى مجازه. ونضرب أمثلة لتحليلِه اللُّغَوي للوصول إلى الحقيقة مما يتعلق بموضوع الدراسات النفسية: يقول - رحمه الله - في كتابه الرد على المنطقيين: "فالعقل في لغة الرسول وأصحابه وأمَّته عَرَضٌ من الأعراض، يكون مصدر عَقَل يَعقِلُ". وفي تعريفه للقلب يقول: "وقد يُرادُ بالقلب باطن الإنسان مطلقًا، فإن قلب الشيء باطنُه؛ كقلب اللوزة والجوزة، ونحو ذلك، وقد سمِّي القَلِيب قليبًا؛ لأنه أخرج قلبه؛ أي: باطنه". ويقول في انقسام أمم الأرض - في عهده - باعتبارِ القوى الفطرية الثلاث في الإنسان؛ وهي: القوة العقلية، والقوة الغضبية، والقوة الشهوية: "وباعتبار القوى الثلاث انقسمَتِ الأممُ التي هي أفضلُ الجنس الإنساني؛ وهم: العرب، والروم، والفرس، فإن هذه الأمم هي التي ظهرت فيها الفضائل الإنسانية: فغلب على العرب القوة العقلية المنطقية، واشتق اسمها من وصفها فقيل لهم: عرب من الإعراب، وهو البيان والإظهار، وذلك خاصة القوة المنطقية. وغلب على الروم القوة الشهوية من الطعام والنكاح ونحوهما، واشتق اسمها من ذلك، فقيل لهم: الروم، فإنه يقال: رُمْتُ هذا أرومُه، إذا طلبتُه واشتهيتُه. وغلب على الفرس القوة الغضبية من الدفع والمنع والاستعلاء والرياسة، واشتق اسمها من ذلك، فقيل: فرس، كما يقال: فَرَسَه يفرسه، إذا قهره وغلبه" وفي معرِض ردِّه على الصوفية ووسائلها للوصول إلى المعرفة، ومن هذه الوسائل عندهم الذِّكر باللفظ المفرد، يؤكِّد ابن تيمية أن الذكر لا يكون إلا بالجملة التامة، وأن الذكر بالاسم المفرد - كما هو عند الصوفية عندما يذكرون بلفظ (الله) أو (هو) - ليس من السنة، يقول - رحمه الله - في كتابه العبودية: "فجميعُ ما شرعه الله من الذكر إنما هو كلام تام لا اسم مفرد، لا مُظهَر ولا مُضمَر، وهذا هو الذي يسمى في اللغة (كلمة)؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((كلمتانِ خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))[23]، وقوله: ((أفضل كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطل))... ومنه قوله -تعالى-: ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ [الكهف: 5]، وقوله: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]. وأمثال ذلك ممَّا استُعمِل فيه لفظ (الكلمة) من الكتاب والسنة، بل وسائر كلام العرب، فإنما يراد به الجملة التامة، كما كانوا يستعملون الحرف في الاسم، فيقولون: "هذا حرف غريب"؛ أي: لفظ غريب. وقسَّم سيبويه الكلام إلى: اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، وكل من هذه الأقسام يسمى حرفًا، لكن خصَّ الثالث: أنه حرفٌ جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، وسمَّى حروف الهجاء باسم الحرف، وهي أسماء"، وقد سأل الخليل بن أحمد أصحابه عن النطق بحرف الزاي من زيد؟ فقالوا: "زاي" قال: جئتم بالاسم، وإنما الحرف (ز)".