أحكامٌ منتقاةٌ
من حديث النهي عن بيع المصرَّاة
أوَّلا: نصُّ الحديث:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ»، متَّفقٌ عليه واللفظ للبخاري(١)، وفي لفظٍ لمسلمٍ: «فَهُوَ بِالخِيَارِ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ»(٢).
ثانيًا: ترجمة راوي الحديث:
هو الصحابي الجليل الحافظ المكثر أبو هريرة رضي الله عنه، المعروف بكنيته، اختُلف في اسمه على نحو ثلاثين قولاً، وأشهرها: عبد الرحمن بن صخرٍ الدوسي، من دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران، من اليمن، أسلم عامَ خيبر سنةَ سبعٍ من الهجرة، وقدم المدينةَ مهاجرًا وسكن الصُّفَّة، وكان قد شهد خيبر مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ لزمه وواظب عليه رغبةً في العلم، ويقول أبو هريرة رضي الله عنه محدِّثًا عن نفسه: «لقد رأيتُني أُصْرَع بين منبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وحُجْرة عائشة، فيقال: مجنونٌ وما بي جُنونٌ، وما بي إلاَّ الجوع».
وقد كان رضي الله عنه أكثرَ الصحابة روايةً وأوَّلهم على الإطلاق، وله في كتب الحديث ٥٣٧٤ حديثًا(٣)، وله فضائلُ ومناقب.
وقد استعمله عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه على البحرين ثمَّ عزله، ثمَّ أراده على العمل فامتنع، وسكن المدينةَ ووَلِيَ إمرتَها وناب عن مروان في إمرتها، وبها كانت وفاته سنةَ سبعٍ وخمسين من الهجرة (٥٧ﻫ)، وقيل: مات بالعقيق وحُمِلَ إلى المدينة، وصلَّى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان أميرًا على المدينة لعمِّه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما(٤).
ثالثًا: غريب الحديث:
- «لاَ تُصَرُّوا»: بضمِّ المثنَّاة الفوقية وفتح الصاد المهملة، من «صرَّى، يصرِّي» على الأصحِّ، وأصل التصرية حبسُ الماء، يقال: صرَّيتُ الماء إذا حبستُه، وقال الشافعي: هي ربطُ أخلاف الناقة والشاة وتركُ حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر، فيظنُّها المشتري كثيرةَ اللبن فيزيد في ثمنها، فإذا حلبها مرَّتين أو ثلاثًا وقف على التصرية والغرر. وتُسمَّى المصرَّاة محفَّلةً لحفول اللبن واجتماعه في ضرعها، والحفل الجمع الكثير(٥).
- «بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ»: بخير الرأيين.
- «وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ»: عطفٌ على ضمير المفعول في «ردَّها» على تقدير: ويعطي.
رابعًا: المعنى الإجمالي للحديث:
من أنواع التدليس والتغرير والخداع، الذي نهى الشارع عنه وحذَّر منه، هو هذه الظاهرة السيِّئة التي اعتادها بعض تجَّار المواشي -تركًا للطاعة أو جهلاً بالدين- المتمثِّلة في حبس اللبن في ضرع بهيمة الأنعام، يجتمع عند بيعها عن طريق ربط أخلافها (أي أثدائها)، فيظنُّ المشتري أنَّ هذا عادةٌ لها، فيشتريها زائدًا في ثمنها، وبعد حلبها يطَّلع على عيبها، فيكون قد اشتراها بأكثر ممَّا تستحقُّه، وبذلك يكون البائع قد غرَّر بالمشتري وظَلَمَهُ، فنهى الشرع عنه لأنه خداعٌ وغشٌّ.
ولمَّا كانت الشريعة الإسلامية قائمةً بالقسط والعدل، فقَدْ جعل الشارع لمن ابتاع المصرَّاة مدَّةً يتدارك فيها مظلمته، وحدَّدها بثلاثة أيَّامٍ -وهي فترةٌ غالبًا ما تسمح للمشتري بمعرفة عادتها-، فإن علم بالتصرية فله أن يختار أحد الرأيين العائدَ عليه بالخير والنفع وهما:
- الرأي الأوَّل: أن يمسك المصرَّاة ويرضى بها، ويصير العقد بالتالي نافذًا ولازمًا.
- الرأي الثاني: أن يردَّها على البائع، مبطلاً للبيع، ويعطيَ بدلاً عن اللبن المحلوب من ضرعها صاعًا من تمرٍ، ويستردُّ مالَه المدفوع مقابل المصرَّاة.
خامسًا: الفوائد والأحكام المستنبطة من الحديث:
يُؤخذ من الحديث السابق الفوائدُ والأحكام التالية:
١- يستفاد تحريم الغشِّ والتدليس والخديعة في البيع من قوله: «لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ...»، لأنَّ «النَّهْيَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ»، وقد ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم التصريحُ بالنهي عن الغشِّ والغرر في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»(٦)، وعنه أيضًا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الغَرَرِ»(٧).
فالغشُّ والتدليس والغرر مجمعٌ على تحريمها شرعًا، ومذمومٌ فاعل ذلك عقلاً.
٢- استدلَّ بعض الشافعية بظاهر الحديث على تحريم التصرية مطلقًا، سواءً كانت للبيع أو لنفع المالك، وعلَّلوا النهيَ بما فيه من إيذاء الحيوان مع أنَّ الشريعة حثَّت على الرفق بالحيوان، والذي عليه الجمهور أنَّ النهي في الحديث مطلقٌ ورد تقييده بالبيع بما ثبت عند النسائي بلفظ: «لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ لِلْبَيْعِ»(٨)، وله من طريقٍ آخَرَ: «إِذَا بَاعَ أَحَدُكُمْ الشَّاةَ أَوِ اللِّقْحَةَ(٩) فَلاَ يُحَفِّلْهَا(١٠)»(١١)، ولأنَّ ما بعد النهي عن التصرية في حديث الباب يدلُّ على أنَّ المنع للبيع، فقَدْ جاء في لفظ الحديث: «... فَمَنِ ابْتَاعَهَا ...»، فضلاً عن أنَّ العلَّة في النهي عن التصرية هي الغرر والتدليس، وهي غير موجودةٍ في حالة التصرية لنفع المالك، قال الحافظ: «وقُيِّد النهي بالبائع إشارةً إلى أنَّ المالك لو حفَّل، فجمع اللبنَ للولد أو لعياله أو لضيفه لم يحرم، وهذا هو الراجح»(١٢).
أمَّا تعليله بالإيذاء فإنه ضررٌ يسيرٌ لا يستمرُّ، فيُغتفر -عادةً- لتحصيل المنفعة.
٣- وذكرُ الإبل والغنم ليس للتقييد(١٣)، بل يتعدَّى الحكم إلى البقر، وأمَّا تركُ ذكر البقر في الحديث فلِقلَّتها في بلاد العرب العدنانيين، لأنَّ غالب مواشيهم كانت من الإبل والغنم، ولأنَّ العلَّة في ذلك هي التدليس والغرر وهي موجودةٌ في تصرية البقر أيضًا، وقد ترجم البخاري لحديث المصرَّاة بما يدلُّ على العموم فقال: «باب النهي للبائع أن لا يحفِّل الإبلَ والبقر والغنم وكلَّ محفَّلة»(١٤)، ولا يخفى أنَّ ذكر الإبل والغنم في الحديث خرج مخرج الغالب الأعمِّ، وهو مانعٌ من العمل بمفهوم المخالفة عند الجمهور، وعليه فيدخل فيه كلُّ ما يمكن حبسُ حليبه.
٤- ظاهر الحديث أنه لا يثبت الخيار إلاَّ بعد الحلب لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «...فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا ...»، وعند الجمهور أنه إذا علم بالتصرية ثبت له الخيار ولو لم يحلب، فالجمهور قيَّدوه بالعلم، والحديث قيَّده بالحلب، لأنَّ الحلب طريقٌ للعلم، فإذا حصل بطريقٍ أخرى كاعتراف البائع وإقراره، أو شهادة عدولٍ ثبت له الخيار بغير حلب، ولأنَّ التصرية لا تُعرف إلاَّ بعد الحلب غالبًا، من أجل ذلك ذُكر قيدًا في ثبوت الخيار(١٥)، أي: أنَّ الحلب خرج مخرجَ الغالب فلا مفهوم له.
٥- الغرر والتدليس لا يُفسدان أصل البيع، فيبقى البيع موقوفًا على رأي المشتري في التخيير بين الإمساك والردِّ؛ لِما خُتم به الحديث من قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «...فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ»، فثبوتُ الخيار قاضٍ بصحَّة بيع المصرَّاة. قال النووي: «اعلم أنَّ التصرية حرامٌ. سواءٌ تصريةُ الناقة والبقرة والشاة، والجارية، والفرس، والأتان وغيرها، لأنه غشٌّ وخداعٌ، وبيعُها صحيحٌ مع أنه حرامٌ»(١٦).
٦- استُدلَّ بالحديث على أنَّ النهي في المعاملات لا يقتضي فسادَ المنهيِّ عنه، وهو معنى قول بعض الأصوليين: «أنَّ النهي عن الشيء إن كان لحقِّ الله تعالى فإنه يُفسد المنهيَّ عنه، وإن كان لحقِّ العبد فلا يُفسد المنهيَّ عنه»(١٧).
٧- الظاهر من سياق الحديث أنه متى علم بالتصرية ودخلت في ضمانه وأراد ردَّها فعليه أن يردَّها على الفور، لأنَّ الفاء في قوله: «فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ» رابطةٌ لجواب الشرط دالَّةٌ على الجزاء، والأصلُ فيه عدمُ التراخي، وإليه ذهب بعض الشافعية، ويؤيِّد ظاهرَ الحديث اشتراطُ الفور في سائر العيوب فيُلحق به قياسًا، وحملوا الزيادةَ في مسلمٍ: «فَهُوَ بِالخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ» على ما إذا لم يعلم بالتصرية إلاَّ في اليوم الثالث، لأنَّ الغالب أنها لا تُعلم في أقلَّ من ذلك لجواز النقصان باختلاف العلف ونحوه، وتمسَّك الجمهور بالرواية التي فيها أنه «بِالخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ» وأنها مقدَّمةٌ على هذا الإطلاق، ولأنه -وإن علم بالتصرية في أوَّل يومٍ- فإنه يحتاج إلى ظرفٍ زمنيٍّ ليعرف مقدارَ لبنها، وقد يرضى المشتري بذلك المقدار، لهذا أجاز الشارع التأخيرَ إلى هذه المدَّة.
فرُدَّ استدلال الشافعية بوجهين:
أحدهما: فساد اعتبار القياس لمقابلته لحديث: «فَهُوَ بِالخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ».
والآخر: لأنَّ التحديد بالثلاث الواردَ في منطوق الحديث نصٌّ فيه غيرُ مُحتمَلٍ، وهو أَوْلى بالعمل، ولا منافاةَ بينه وبين سائر العيوب في قياس الأصول، لأنَّ التحديد بالثلاث ثبت بالحديث فتُستثنى هذه الحالة من عموم قياس الأصول بالنصِّ. قال ابن دقيق العيد: «والصواب اتِّباع النصِّ لوجهين: أحدهما تقديم النصِّ على القياس، والثاني: أنه خولف القياس في أصل الحكم لأجل النصِّ، فيطَّرد ذلك ويُتَّبع في جميع موارده»(١٨)، ويؤكِّد ذلك -كما ذكر ابن حجرٍ- ما ورد في بعض روايات أحمد والطحاوي: «فَهُوَ بِأَحَدِ النَّظَرَيْنِ بِالخِيَارِ إِلَى أَنْ يَحُوزَهَا أَوْ يَرُدَّهَا»(١٩).
٨- يفيد الحديث من قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ» أنَّ المشتريَ إذا علم بالتصرية، واختار الردَّ بعد الحلب، فإنه يردُّ معها صاعًا من تمرٍ عوضًا عن اللبن المحلوب، سواءً كان اللبن كثيرًا أو قليلاً، وسواءً كان التمر قوتًا لأهل البلد أو لم يكن كذلك، وسواءً كانت المصرَّاة من الإبل أو الغنم أو من البقر أو من غيرها من بهيمة الأنعام، وهي مسألةٌ مختلفٌ فيها -ستأتي قريبًا-.
٩- صاعُ التمر المدفوعُ هو في مقابل اللبن الذي اشترى وهو في ضرعها، أمَّا الحادث بعد ذلك، فليس للمشتري أن يردَّ له شيئًا، لأنه في مقابل ضمانه وتعليفه فكان الحادث للمشتري عملاً بحديث: «الخَرَاجُ بِالضَّمَانِ»(٢٠)، وبناءً على قاعدة: «الغُنْمُ بِالغُرْمِ».
١٠- الحديث دليلٌ على أنَّ مدَّة الخيار ثلاثةُ أيَّامٍ، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَهُوَ بِالخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ»، لكن اختُلف في ابتداء الثلاثة الأيَّام: فقال الحنابلة: إنَّ ابتداء هذه المدَّة من وقت بيان التصرية، وعند الشافعية: من عند العقد، وقال آخَرون: من عند التفرُّق، وأظهرُ هذه الأقوال القولُ الأخير، لأنها تدخل في ضمانه بمجرَّد القبض عند التفرُّق، فإن لم يتحقَّق من أوصافها ويتعرَّف على مقدار لبنها -خلال هذه المدَّة المحدَّدة- فهو من تفريطه.
سادسًا: مواقف العلماء من الحديث:
نصَّ الحديث على النهي عن التصرية للبيع، و«النَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ»، فلو علم المشتري بالتصرية فما الحكم ؟
أ- مذاهب العلماء وأدلَّتهم:
اختلف العلماء في ذلك على عدَّة مذاهبَ نقتصر على أهمِّها:
- المذهب الأوَّل:
مذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين وهو قول الشافعي وأبي عبيدٍ وأبي ثورٍ والليث وإسحاق(٢١): أنَّ البيع صحيحٌ ويثبت الخيار للمشتري، وله أن يردَّ المصرَّاة ويردَّ معها صاعًا من تمرٍ مكانَ ما حلب من اللبن، سواءً كان اللبن كثيرًا أو قليلاً، أو التمر قوتًا لأهل البلد أو لم يكن، أخذًا بظاهر الحديث وعملاً به، لعدم ورود ما يُقيَّد به الحديث.
- المذهب الثاني:
ذهب بعض الشافعية وروايةٌ عن الإمام مالكٍ إلى أنَّ الواجب ردُّ صاعٍ من قوت البلد، لما رواه أحمد عن رجلٍ من الصحابة نحو حديث الباب وفيه: «...إِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مَنْ تَمْرٍ»، قال ابن حجرٍ -رحمه الله-: «إسناده صحيحٌ»(٢٢)، فظاهرُ هذا الحديث يقتضي التخييرَ بين التمر والطعام، وأنَّ الطعام غيرُ التمر.
ولِما أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر وكذا ابن ماجه بلفظ: «...فَإِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا مِثْلَ أَوْ مِثْلَيْ لَبَنِهَا قَمْحًا»(٢٣)، فتعيَّن عندهم الردُّ بقوت البلد للأحاديث المذكورة أعلاه من جهةٍ، ولعلَّهم يُلحقون المسألةَ بالقياس على زكاة الفطر من جهةٍ ثانيةٍ، ولا اختصاص في الردِّ أن يكون صاعًا من تمرٍ، لأنه خرج مخرجَ الغالب الأعمِّ، حيث إنَّ التمر كان غالبَ قوت البلد في المدينة.
- المذهب الثالث:
ما ذهبت إليه طائفةٌ من أهل العلم، حيث ترى أن تُرَدَّ المصرَّاةُ بعيب التصرية، لكن يُرَدُّ اللبن بعينه إن كان باقيًا، أو مثله إن كان تالفًا، أو قيمته يوم الردِّ حيث لم يوجد المثل.
ووجه ذلك: أنَّ المعهود شرعًا في ضمان المتلفات -حَسَبَ الذي تقرَّر- أنه بالمثل إن كان مثليًا، أو بالقيمة إن كان قيميًا، وعلى هذا الأساس يُضمن اللبنُ المحلوب بهذه الكيفية لا بالتمر أو الطعام.
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الضمان يختلف مقدارُه باختلاف مقدار المُتْلَف، ولا يمكن تقدير اللبن المحلوب بصاعٍ قلَّ أو كثر(٢٤).
- المذهب الرابع:
وهو ما ذهب إليه الحنفية التي خالفت أصل المسألة(٢٥)، فقالوا: لا يُرَدُّ البيع بعيب التصرية ولا يجب ردُّ صاعٍ من تمرٍ أو غيره، بل يجب الأرش، وهو أن يدفع البائع للمشتري عوضًا عن نقصان ثمن الشاة إذا تبيَّن أنها مصرَّاةٌ.
وحجَّة الحنفية فيما ذهبوا إليه قولُه تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦]، وبقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤]، وبقوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠]، وبقوله تعالى: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ [البقرة: ١٩٤]، وغيرها من الآيات الدالَّة على المثلية في ضمان المتلفات.
قالوا: لا يلزم العمل بالحديث لأنه مخالفٌ لقياس الأصول المعلومة من جهةٍ، ولأنَّ الأصول المعلومة ثابتةٌ بالأدلَّة القطعية من جهةٍ ثانيةٍ.
ونتناول الجهتين -باختصارٍ- فيما يلي:
الجهة الأولى: أنَّ الحديث مخالفٌ لقياس الأصول المعلومة من وجوهٍ:
١- أنَّ المعلوم من الأصول في ضمان المتلفات أنه بالمِثْل إن كان مثليًا، وبالقيمة إن كان قيميًا، أي: يُقَوَّم بأحد النقدين، غيرَ أنَّ اللبن في الحديث -ما دام مثليًّا- كان ينبغي ضمانُه بمثله لبنًا، وإن كان متقوَّمًا ضُمن بمثله من النقدين، لكنَّ اللبن وقع مضمونًا بالتمر فهو خارجٌ عن الأصلين جميعًا.
٢- إثبات الخيار ثلاثًا من غير شرطٍ مخالفٌ للأصول، فإنَّ خيار العيب وخيار الرؤية وخيار المجلس لا يُقَدَّر شيءٌ منها بالثلاث، وهذه الخيارات ثابتةٌ بأصل الشرع.
٣- أنَّ القواعد الكلِّية في الضمان تقتضي أن يختلف الضمانُ باختلاف التالف، وفي الحديث قُدِّر بالصاع مقدارًا واحدًا، فخرج من القياس الكلِّيِّ في اختلاف ضمان المتلفات.
٤- الأصل أنَّ الأعيان لا تُضمن بالبدل إلاَّ مع فواتها، والحديثُ مخالفٌ لهذا الأصل إذ يلزم منه ضمان الأعيان مع بقائها، حيث كان اللبن موجودًا.
٥- أنَّ اللبن التالف إن كان موجودًا عند العقد فقَدْ نقص جزءٌ من المبيع بحلبه وذلك مانعٌ من الردِّ، كما لو ذهب بعضُ أعضاء المبيع ثمَّ ظهر عليه عيبٌ فيمتنع الردُّ، وإن كان حادثًا عند الشراء، فقَدْ حدث على مِلْك المشتري فلا يضمنه، لأنَّ الخراج بالضمان، وإن كان مختلطًا فما كان موجودًا فيه عند العقد يمتنع الردُّ فيه وما كان حادثًا فلا يضمنه.
٦- لو كان نقصان اللبن عيبًا لثبت به الردُّ من دون تصريةٍ ولا اشتراطٍ، وههنا لم يُشترط الردُّ إذا تبيَّن نقصانه، ولا يثبت الردُّ في الشرع إلاَّ بعيبٍ أو بشرطٍ(٢٦).
٧- أنه مخالفٌ لقاعدة الربا فيما إذا اشترى شاةً بصاعٍ فإذا استردَّ معها صاعًا فقد استرجع الصاعَ الذي هو الثمن فيكون قد باع شاةً وصاعًا بصاعٍ.
هذه هي أهمُّ الوجوه التي خالف فيها الحديث قياسَ الأصول المعلومة.
الجهة الثانية: الأصول المعلومة ثابتةٌ بالأدلَّة القطعية:
يرى الأحناف أنَّ نصوص القرآن الكريم كثيرةٌ في وجوب التماثل في ضمان المتلفات وقد تقدَّم بعضها، وعلى هذا تكون من العامِّ القطعيةِ دلالتُه، وحديثُ أبي هريرة رضي الله عنه خبرُ واحدٍ مظنونٌ، والمظنونُ لا يعارض المعلومَ.
ومع ذلك فقَدِ اعتذروا عن الأخذ بحديث المصرَّاة بأعذارٍ متعدِّدةٍ نذكر من أهمِّها:
١- القدح في أبي هريرة رضي الله عنه راوي الحديث، ووجهُ القدح فيه أنه لم يكن فقيهًا كابن مسعودٍ وابن عبَّاسٍ وابن عمر من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وعلى ذلك فلا يُؤخذ بما يرويه إذا كان مخالفًا للقياس الجليِّ.
٢- وبأنه حديثٌ مضطربٌ، وسبب اضطرابه ورودُ التمر في بعض الروايات، والقمح في أخرى، واعتبار الصاع تارةً، والمِثل تارةً وبالإناء أخرى.
٣- وبأنه حديثٌ منسوخٌ، ثمَّ اختلفوا في تعيين الناسخ، ويرى بعضهم أنَّ الناسخ حديث: «الخَرَاجُ بِالضَّمَانِ»(٢٧)، وذلك لأنَّ اللبن فضلةٌ من فضلات الشاة ولو تلفت لكانت من ضمان المشتري فتكون فضلاتها له، ويرى آخَرون أنَّ ناسخه حديث ابن عمر في «النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ»(٢٨)، وذلك لأنَّ لبن المصرَّاة قد صار دينًا في ذمَّة المشتري، فإذا أُلزم بصاعٍ من تمرٍ صار دينًا بدينٍ(٢٩)، وقال بعضهم: ناسخه حديث: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا»(٣٠)، وذلك لأنَّ الفُرقة قاطعةٌ للخيار من غير فرقٍ بين المصرَّاة وغيرها.
٤- ويرى بعضهم أنَّ الحديث صحيحٌ لا اضطراب فيه ولا علَّة ولا نسْخَ، وإنما هو محمولٌ على صورةٍ مخصوصةٍ، وهو ما إذا اشترى شاةً بشرط أنها تحلب خمسةَ أرطالٍ وشَرَطَ فيها الخيارَ فالشرط فاسدٌ، فإن اتَّفقا على إسقاطه في مدَّة الخيار صحَّ العقد، وإن لم يتَّفقا بَطَل العقدُ ووجب ردُّ الصاع من التمر لأنه كان قيمةَ اللبن يومئذٍ.
ب- مناقشة الأدلَّة وتفنيدها:
يمكن مناقشة أدلَّة المذاهب السابقة بالترتيب التالي:
أوَّلاً: بخصوص دليل القائلين بأنَّ الواجب ردُّ صاعٍ من قوت البلد -وهو المذهب الثاني- استدلالاً ﺑ: «أو» في الحديث عند قوله: «... رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ مِنْ تَمْرٍ» على أنها للتخيير.
فالجواب عن ذلك أنَّ (أو) كما يُحتمل أنها للتخيير، يُحتمل كذلك أن تكون شكًّا من الراوي، وإذا طرأ على الدليل احتمالٌ فإنه يَبطل به الاستدلالُ، وحينئذ وجب المصير إلى الروايات الراجحة التي لم يُختلف فيها، كما أشار الإمام البخاري إليه بقوله: «والتمر أكثر»(٣١).
أمَّا حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: «إِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا مِثْلَ أَوْ مِثْلَيْ لَبَنِهَا قَمْحًا»، فلا يصحُّ الاحتجاج به، ولا يثبت به حكمٌ، لأنَّ في إسناده ضعفًا -كما قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-(٣٢)، وقال ابن قدامة -رحمه الله-: «وحديث ابن عمر مُطَّرَحُ الظاهرِ بالاتِّفاق؛ إذ لا قائل بإيجاب مثل لبنها أو مثلَيْ لبنها قمحًا، ثمَّ قد شكَّ فيه الراوي، وخالفته الأحاديث الصحاح، فلا يُعَوَّل عليه»(٣٣)، وعلَّةُ الحديث جميع بن عميرٍ التيمي، قال ابن حبَّان: «كان رافضيًّا يضع الحديث»(٣٤)، ولو صحَّ فلا يقاوم ما عارضه من الروايات الصحيحة.
أمَّا قولهم: إنَّ الروايات التي فيها «صَاعًا مِنْ تَمْرٍ»، خرجت مخرجَ الغالب الأعمِّ، فهو مدفوعٌ برواية مسلمٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه: «... رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ لاَ سَمْرَاءَ»(٣٥)، والسمراء هي الحنطة(٣٦)، وفيه دليلٌ على أنه لا يعطي غيرَ التمر، قال ابن دقيق العيد: «وذلك ردٌّ على من عدَّاه إلى سائر الأقوات، وإن كانت السمراء غالب قوت البلد -أعني: المدينة- فهو ردٌّ على قائله أيضًا»(٣٧)، على أنه يمكن حملُ الروايات التي نُصَّ فيها على غير التمر من الطعام ونحوه على ما إذا تعذَّر الحصول على التمر، وذلك جمعًا بين الأدلة.
- أمَّا القياس على زكاة الفطر فهو فاسد الاعتبار لمقابلته لنصِّ الحديث.
ثانيًا: والجواب على دليل المذهب الثالث، القائلين بردِّ اللبن بعَينه إن كان باقيًا، أو مثله إن كان تالفًا أو قيمته يومَ الردِّ إذا لم يوجد المثل، ويتمثَّل دليلهم -كما سبق- في شقَّين: وجوب التماثل في ضمان المتلفات، كما هو مقرَّرٌ في الأصل -من جهةٍ-، وأنَّ القواعد الكلِّية تقتضي أن يختلف الضمان باختلاف التالف لا بمقدار الصاع قدرًا مطَّردًا -من جهةٍ ثانيةٍ-.
- والردُّ على الشقِّ الأوَّل بأنه تضمَّن العمومَ في سائر المتلفات، وحديثُ أبي هريرة رضي الله عنه خاصٌّ ورد به النصُّ، والخاصُّ يقيِّد العامَّ، وهو مقدَّمٌ عليه، كما هو مقرَّرٌ في علم الأصول.
- وأمَّا الردُّ على الشقِّ الثاني فإنَّ تقدير الصاع، قدَّره الشارع دفعًا لِما يحدث من تشاجرٍ ومنازعةٍ لعدم الوقوف على حقيقة قدر اللبن؛ لجواز اختلاطه بحادثٍ بعد البيع، فقطع الشارع النزاعَ وقدَّره بحدٍّ لا يَبْعُد رفعًا للخصومة ودفعًا للنزاع، ثمَّ إنَّ التقدير كان بالتمر فهو أقرب شيءٍ إلى اللبن، فإنهما كانا قوتًا في ذلك الزمان؛ ولهذا الحكم نظائرُ في الشريعة الإسلامية، كدِيَة النفس: فإنها مائةٌ من الإبل مع اختلاف أحوال النفوس من حيث القوَّة والضعف، والصغر والكبر، والجمال والقبح، والجنينُ مقدَّرٌ أرشُه ولا يختلف بالذكورة والأنوثة واختلاف الصفات، والحكمةُ التي قصدها الشارع الحكيم من وراء ذلك قطعُ النزاع بتقديره بشيءٍ معيَّنٍ، وتُقدَّم هذه المصلحة في مثل هذا الموضع على تلك القاعدة.
٣- أمَّا اعتراضات الحنفية في عدم العمل بالحديث السابق، لكونه مخالفًا لقياس الأصول المعلومة -من جهةٍ-، ولأنَّ الأصول المعلومة ثابتةٌ بالأدلَّة القطعية -من جهةٍ ثانيةٍ-، فالجواب عنها من الجهتين السابقتين:
- الجهة الأولى:
- بخصوص الاعتراض الأوَّل والثالث: فقَدْ تقدَّم الجواب عنهما عند مناقشة أدلَّة المذهب الثالث.
- والجواب عن الاعتراض الثاني: بأنَّ تقدير هذه المدَّة، تتوقَّف معرفةُ التصرية عليها، بخلاف العيوب الأخرى فليست بحاجةٍ لمثل هذه المدَّة.
- والجواب عن الاعتراض الرابع: بأنَّ اللبن الذي كان في الضرع حالَ العقد يتعذَّر ردُّه، لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد بسبب امتزاجه -بعضِه ببعضٍ-: جزءٌ منه للبائع والآخَر للمشتري، وتعذُّرُ الردِّ لا يمنع الضمانَ مع بقاء العين.
- والجواب عن الاعتراض الخامس: أن يقال: إنَّ النقص إنما يمنع الردَّ إذا لم يكن لاستعلام العيب، وهذا النقص لاستعلام العيب فلا يمتنع الردُّ.
- والجواب على الاعتراض السادس: بأنَّ المشتري لمَّا رأى ضرعًا مملوءًا لبنًا ظنَّ أنه عادةٌ لها، فكأنَّ البائع شرط له ذلك، فظهر الأمرُ بخلافه، فثبت له الردُّ لفقدان الشرط المعنوي، ثمَّ إنَّ المشتري إنما بذل مالَه من أجل صفةٍ أظهرها له البائع، والبائع يُظهر صفةَ المبيع تارةً بقوله، وتارةً بفعله، فإذا أظهر للمشتري مبيعه على صفةٍ فبان الأمر بخلافها كان قد دلَّس عليه فشُرع له الخيار، ومَثَلُ ذلك كمثل الركبان إذا تُلُقُّوا وَاشْتُري منهم قبل نزولهم للسوق لمعرفة السعر، فإنَّ الشارع قد أثبت لهم الخيارَ، مع أنه ليس في هذا الأمر عيبٌ ولا شرطٌ، ولكن لما فيه من الغشِّ والتدليس، فالخيارُ إذن يُثبته التدليس(٣٨).
- والجواب عن الاعتراض السابع: أنَّ الربا في العقود لا في الفسوخ، بدليل أنهما لو تبايعا ذهبًا بفضَّةٍ لم يَجُزْ أن يتفرَّقا قبل القبض، ولو تقايلا في هذا العقد بعينه جاز التفرُّق قبل القبض.
هذه الجهة الأولى مُفَنَّدةٌ باعتبار الاعتراضات الجزئية التي تحتويها، وأمَّا باعتبار الاعتراض الكلِّي للجهة الأولى، والمتمثِّل في مخالفة الحديث لقياس الأصول المعلومة فقَدْ أجاب عنها ابن القيِّم -رحمه الله- بقوله: «زعمُهم أنَّ هذا حديثٌ يخالف الأصول فلا يُقبَل، فيقال: الأصول كتاب الله وسنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وإجماع أمَّته والقياس الصحيح الموافق للكتاب والسنَّة، فالحديث الصحيح أصلٌ بنفسه، فكيف يقال: الأصل يخالف نفسه ؟ هذا من أبطل الباطل، والأصول في الحقيقة اثنان لا ثالث لهما: كلام الله وكلام رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وما عداهما فمردودٌ إليهما: فالسنَّة أصلٌ قائمٌ بنفسه، والقياس فرعٌ، فكيف يُرَدُّ الأصل بالفرع ؟ قال الإمام أحمد: إنما القياس أن تقيس على أصلٍ، فأمَّا أن تجيء إلى الأصل فتهدمه ثمَّ تقيس فعلى أيِّ شيءٍ تقيس ؟»(٣٩).
قال ابن السمعاني -رحمه الله-: «متى ثبت الخبر صار أصلاً من الأصول، ولا يُحتاج إلى عرضه على أصلٍ آخَرَ، لأنه إن وافقه فذاك وإن خالفه فلا يجوز ردُّ أحدهما لأنه ردٌّ للخبر بالقياس، وهو مردودٌ باتِّفاقٍ»(٤٠).
- الجهة الثانية:
تتمثَّل هذه الجهة في: أنَّ الأصول تفيد القطعَ وخبر الواحد يفيد الظنَّ، والمقطوعُ مقدَّمٌ على المظنون ولا يعارضه.
فالجواب عنها: بأنَّ صرْفَ العامِّ القطعيِّ عن عمومه وقصْرَه على بعض أفراده قائمٌ، لما هو ملاحَظٌ في غالب عمومات الكتاب والسنَّة، بمعنى أنَّ العامَّ لا يخلو من قصره على بعض ما يتناوله من الأفراد إلاَّ بقرينةٍ تصرف عنه احتمالَ التخصيص(٤١)، إذ لو كانت دلالة العموم قطعيةً لَما جاز رفعُ الثابت قطعًا بما هو مظنونٌ كخبر الواحد والقياس، وإذا ثبت الاحتمال انتفى القطع واليقين، لأنَّ القطع واليقين لا يثبتان مع الاحتمال، فلا نقول دلالة العامِّ قطعيةٌ وهو محتملٌ للتخصيص(٤٢).
فلجواز أن يكون خبرُ الواحد غيرَ مقطوعٍ به مستثنًى أو مخصَّصًا من محلِّ الأصل المقطوع الذي تناوله، فيكون شاملاً لهذا الفرد المظنون، والدليلُ على تخصيص هذا الفرد بحكمه يفيد الظنَّ، وليس أحد الظنَّين أَوْلى من الآخَر.
ومن جهةٍ أخرى، لا تناقُضَ بين خبرين اختلف زمنُهما، لجواز صدق كلٍّ منهما في وقته، وإيضاحُ تلك الأصول -وإن كانت قطعيةً في وقتها- لكنَّ استمرار حكمها إلى الأبد غير قطعيٍّ، فنسخُها أو تخصيصها بالآحاد إنما هو نفي استمرار حكمها الذي لا قطعيةَ في دلالته على قيام حكمه، وكلٌّ منهما حقٌّ في وقته.
هذا، ويظهر بطلان كلِّ الاعتذارات التي تقدَّم بها الحنفية لردِّ حديث المصرَّاة على الوجه التالي:
١- بخصوص القدح في الصحابي أبي هريرة رضي الله عنه الراوي للحديث بأنَّ حديثه مردودٌ لأنه لم يكن فقيهًا كابن مسعودٍ رضي الله عنه، لأنَّ الفقه من الشروط المعتبرة في الراوي لقبول خبره عندهم، ففسادُ هذا القول من وجهين:
- الوجه الأوَّل: المنع.
- لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ»(٤٣).
وجه دلالة الحديث: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم دعا له وأقرَّه على الرواية مع عدم فقهه وعلمه، ولو لم يكن مقبولَ القول لما كان كذلك، فالحديث نصٌّ في المسألة.
- ولأنَّ الصحابة كانوا يقبلون خبر الأعرابي الذي لم يَرْوِ إلاَّ حديثًا واحدًا.
- ولأنَّ الظاهر من الراوي إذا كان عدلاً متديِّنًا أنّه لا يروي إلاَّ ما يتحقَّقه على الوجه الذي سمعه(٤٤).
- ولأنَّ العلم لا يُشترط في الشهادة وهي آكَدُ من الرواية(٤٥).
الوجه الثاني: التسليم.
- ومع التسليم بأنَّ من شروط الراوي المقبول أن يكون فقيهًا، وأبو هريرة رضي الله عنه لم يكن كذلك، فإنَّ الحديث لم ينفرد به أبو هريرة رضي الله عنه، قال ابن حجرٍ -رحمه الله-: «... فقَدْ أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر، وأخرجه الطبراني من وجهٍ آخَرَ عنه، وأبو يعلى من حديث أنس، وأخرجه البيهقي في الخلافيات من حديث عمرو بن عوفٍ المزني، وأخرجه أحمد من رواية رجلٍ من الصحابة لم يُسَمَّ، وقال ابن عبد البرِّ: هذا الحديث مُجْمَعٌ على صحَّته وثبوته»(٤٦).
- ثمَّ إنَّ كثيرًا من أحكام الشريعة نُقِلت من غير طريق المشهورين من الصحابة، وكذا غير المعروفين بالفقه، فطرحُ أحاديثهم يلزم منه طرحُ شطرٍ واسعٍ من الدين، و«اللاَّزِمُ بَاطِلٌ فَالمَلْزُومُ مِثْلُهُ».
٢- أمَّا الاعتذار باختلاف الرواة في ألفاظه ممَّا يتعذَّر معه الاحتجاجُ به نظرًا لاضطرابه فغَيْرُ مُسلَّمٍ، لأنَّ الطرق الصحيحة كثيرةٌ وقويَّةٌ ولا اختلافَ فيها، فوجب المصير إليها وتركُ ما عداها، لأنَّ الضعيف لا يُعلُّ به الصحيح، قال البخاري: «والتمر أكثر»(٤٧)، إذ الكثرة تفيد القوَّةَ، والمرجوح لا يدفع التمسُّك بالراجح(٤٨).
٣- ولا دلالة على النسخ مع مدَّعيه لاختلافهم في الناسخ من جهةٍ، ولأنَّ بعض ما ادَّعَوْه ناسخًا ضعيفٌ كما تعقَّبه الطحاوي(٤٩)، ولأنَّ النسخ لا يثبت بمجرَّد الاحتمال، ولو كفى ذلك لَرَدَّ مَن شاء ما شاء، إذ «الأَصْلُ عَدَمُ النَّسْخِ»، ولا يصار إلى النسخ الاحتمالي مع إمكانية الجمع بين النصوص التي ظاهرُها التعارض، كما هو مقرَّرٌ -أصوليًّا- في باب التعارض والترجيح.
٤- أمَّا الاعتذار الرابع بأنَّ الحديث محمولٌ على صورةٍ مخصوصةٍ، فجوابه أنَّ الحديث ظاهرٌ في تعليق الحكم بالتصرية، وحملُه على الصورة المذكورة تعسُّفٌ، إذ يقتضي تعليقَه بفساد الشرط سواءً وُجدت التصرية أم انتفت، ومن جهةٍ أخرى فلفظُ الحديث عامٌّ، وعلى فرض تسليم ما ادَّعَوْه، فهو فردٌ من أفراد ذلك العموم، فيفتقر إلى دليلٍ لقصر العموم عليه، وهو متعذِّرٌ تحصيلُه.
ج- سبب اختلاف العلماء في الحديث:
الناظر في أدلَّة العلماء يدرك أنَّ سبب اختلافهم يرجع -في الجملة- إلى المسائل التالية:
- هل الفقه شرطٌ من الشروط المعتبرة في الراوي لقبول خبره ؟
- هل يُعمل بخبر الواحد إذا خالف قياسَ الأصول ؟
- هل دلالة العامِّ على أفراده قطعيةٌ فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد ؟
- هل اللبن جزءٌ من المبيع، فيمتنع الردُّ والبدل عند النقصان ؟
• فمن رأى أنَّ الفقه شرطٌ من الشروط المعتبرة في الراوي لقبول روايته، وأنه لا يلزم العملُ بخبر الواحد إذا خالف قياسَ الأصول، وأنَّ دلالة العامِّ على أفراده قطعيةٌ فلا يجوز تخصيص العامِّ ابتداءً بالدليل الظنِّي، إذ التخصيص عندهم تغييرٌ، ومغيِّر القطعيِّ لا يكون ظنِّيًّا، وأنَّ اللبن جزءٌ من المبيع يُنتقص المبيعُ بنقصانه، قال: لا يُرَدُّ البيع بعيب التصرية، ولا يجب ردُّ صاعٍ من تمرٍ أو غيره، بمعنى أنه منع الردَّ والبدل مطلقًا، وأوجب الأرشَ على البائع.
• ومن رأى أنَّ الفقه ليس شرطًا في راوي الحديث، وأنَّ دلالة العامِّ ظنِّيةٌ، ورأى أنه لا يلزم العمل بخبر الواحد إذا خالف قياسَ الأصول، وأنَّ اللبن جزءٌ من المبيع وأنه لا يمتنع الردُّ ولا يجوز البدل من غير جنسه قال: يردُّ اللبن بعينه إن كان باقيًا، ومثله إن كان تالفًا أو قيمته عند الردِّ إن لم يوجد المثل.
• ومن رأى أنَّ الفقه لا يُعَدُّ شرطًا في الراوي لقبول خبره، ورأى لزوم العمل بخبر الواحد وإن خالف قياسَ الأصول، لأنَّ خبر الواحد الثابتَ أصلٌ قائمٌ بذاته، وأنَّ دلالة العامِّ على أفراده ظنِّيةٌ لاحتمال التخصيص في دلالة العموم، وأنَّ اللبن جزءٌ من المبيع لكن لا يمتنع الردُّ إذا كان لاستعلام العيب، ويجوز فيه البدل مُعيَّنًا من غير جنسه نصًّا وهو صاعٌ من التمر عَمِل بمقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدِّم.
• ومن رأى الرأيَ الذي قبله، واعتبر حديثَ أبي هريرة رضي الله عنه خرج مخرجَ الغالب الأعمِّ، ورأى أنَّ اللبن جزءٌ من المبيع فلا يمنع الردَّ من جهةٍ ويجوِّز فيه البدلَ من غير جنسه مطلقًا من جهةٍ أخرى، قال: بأنَّ الواجب ردُّ صاعٍ من قوت البلد، عملاً بالأحاديث التي يقتضي ظاهرُها التخييرَ بين التمر والطعام من ناحيةٍ أخرى، على نحو ما هو معهودٌ في زكاة الفطر.
د- الترجيح:
هذا، والحديثُ -في ظاهره- حجَّةٌ ناهضةٌ تشهد على صحَّة مذهب جمهور الصحابة والتابعين والأئمَّة المجتهدين، وتبيِّن ضعْفَ اعتراضاتِ واعتذاراتِ المخالفين في ردِّهم الحديثَ، لكونها مخالِفةً للظاهر، ولأنَّ دلالة العامِّ على أفراده ظنِّيةٌ يجوز تخصيصها بالدليل الظنِّي(٥٠)، ولأنَّ خبر الشارع الثابتَ مقدَّمٌ على قياس الأصول، لأنه أصلٌ قائمٌ بذاته واجبُ الاعتبار، إذ لا تأصيلَ للأصول إلاَّ من نصوص الشارع، قال الخطَّابي: «والأصول إنما صارت أصولاً لمجيء الشريعة بها، وخبرُ المصرَّاة قد جاء به الشرعُ من طرقٍ جيادٍ أشهرُها هذا الطريق، فالقول فيه واجبٌ، وليس تركُه لسائر الأصول بأَوْلى من تركها له»(٥١)، والمعلوم أنَّ قول النبيِّ معصومٌ من الخطإ وقولَ القائس ليس بمعصومٍ منه، ولا يخفى أنَّ قول المعصوم أقوى من قول غير المعصوم وأَوْلى بالاتِّباع(٥٢)، لذلك كان الصحابة رضي الله عنهم أحرص الناس على اتِّباع التنزيل، فمتى وجدوا النصَّ تركوا الاجتهاد(٥٣)، فكانوا أسعد الناس بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: عملوا بمقتضاه، وخصُّوا به العامَّ في وجوب التماثل في ضمان المتلفات، جمعًا بين النصوص وتوفيقًا بين الأدلَّة، إلاَّ في حالة تعذُّر وجود جنس التمر، فإنه تمضي فيه القواعد الكلِّية في ضمان المتلفات.
(١) متَّفق عليه: أخرجه البخاري (٤/ ٣٦١)، ومسلم (٥/ ١٦٥-١٦٧)، وأبو داود (٣/ ٧٢٢-٧٢٧)، والنسائي (٧/ ٢٥٣)، ومالكٌ في «الموطَّإ» (٢/ ١٧٠)، والشافعي في «الأمِّ» (٨٢) (مختصر المزني)، وأحمد في «مسنده» (٢/ ٢٤٢، ٤٦٥)، والدارقطني (٣/ ٧٥)، والبيهقي (٥/ ٣١٨-٣٢١)، والبغوي في «شرح السنَّة» (٨/ ١١٥)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) أخرجه مسلم في «البيوع» (١٥٢٤) وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٣) وسبب ذلك لزومه ومواظبته مجالسَ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، ودعاؤه له، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: «واللهِ المُوعِدِ، إنِّي كنتُ امرَأً مسكينًا، أصحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على مِلْء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فحضرتُ من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مجلسًا، فقال: «مَنْ يَبْسُطُ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي»، فبسطتُ بردةً عليَّ حتَّى قضى حديثه ثمَّ قبضتها إليَّ، فوالذي نفسي بيده ما نسيتُ شيئًا بعد أن سمعته منه». [أحمد (١٢/ ٢١٩)].
أمَّا عن كنيته رضي الله عنه، فقَدْ أخرج الترمذي (٥/ ٦٨٦) عن عبد الله بن أبي رافع قال: قلت لأبي هريرة رضي الله عنه: لِمَ كُنِّيت أبا هريرة ؟ قال أما تَفْرَقُ مني؟ قلت: بلى والله إنِّي لأهابك. قال: «كنت أرعى غنم أهلي، فكانت لي هريرةٌ صغيرةٌ فكنت أضعها بالليل في شجرة، فإذا كان النهار، ذهبتُ بها معي فلعبتُ بها، فكَنَّوْني أبا هريرة».
(٤) انظر ترجمته وأحاديثه في: «مسند أحمد» (٢/ ٢٢٨، ٥/ ١١٤)، «الطبقات الكبرى» لابن سعد (٢/ ٣٦٢، ٤/ ٣٢٥)، «المعارف» لابن قتيبة (٢٢٧)، «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (٤/ ١٧٦٨)، «مستدرك الحاكم» (٣/ ٥٠٦)، «جامع الأصول» لابن الأثير (٩/ ٩٥)، «الكامل» (٣/ ٥٢٦) و«أسد الغابة» (٥/ ٣١٥) كلاهما لابن الأثير، «سير أعلام النبلاء» (٢/ ٥٧٨) و«طبقات القرَّاء» (١/ ٤٣) و«الكاشف» (٣/ ٣٨٥) و«دول الإسلام» (١/ ٤٢) كلُّها للذهبي، «البداية والنهاية» لابن كثير (٨/ ١٠٣)، «مجمع الزوائد» للهيثمي (٩/ ٣٦١)، «وفيات ابن قنفذ» (٢١)، «الإصابة» (٤/ ٢٠٢) و«تهذيب التهذيب» (٢/ ٢٦٢) كلاهما لابن حجر، «طبقات الحفَّاظ» للسيوطي (١٧)، «شذرات الذهب» لابن العماد (١/ ٦٣)، «الفكر السامي» للحجوي (١/ ٢/ ٢٤٧)، ومؤلَّفنا: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (١٩٨).
(٥) انظر: «الصحاح» للجوهري (٦/ ٢٤٠٠)، «النهاية» لابن الأثير (٣/ ٢٧)، «لسان العرب» لابن منظور (٢/ ٤٣٦).
(٦) «صحيح مسلم» (١/ ١٠٨)، وليس المقصود من النفي في قوله: «فليس منِّي»، وفي روايةٍ: «فليس منَّا» نفيه عن دين الإسلام، وإنما المراد: «تَرَك اتِّباعي وطريقتي في مناصحة الإخوان، إذ ليس هذا من أخلاقنا وأفعالنا»، [«شرح السنَّة» (٨/ ١٦٧)، «المجموع» لابن تيمية (٧/ ٥٢٥)].
(٧) «صحيح مسلم» (٥/ ١٥٦)، «سنن أبي داود» (٣/ ٦٧٢/ ٣٣٧٦).
(٨) كذا ذكره الحافظ في «الفتح» (٤/ ٣٦٢) منقولاً عن النسائي، ولعلَّه نقله بالمعنى، وإلاَّ فهذا لفظ الحميدي في «مسنده» (٢/ ٢٢٧)، ورواه المزني عن الشافعي -أيضًا- بهذه الزيادة [انظر: «مختصر المزني» (٨/ ١٨٠)].
(٩) اللِّقْحَة: الناقة القريبة العهد بالنتاج. [«النهاية» لابن الأثير (٤/ ٢٦٢)].
(١٠) التحفيل: التصرية. [«النهاية» لابن الأثير (١/ ٤٠٨)].
(١١) «سنن النسائي» بشرح السيوطي (٧/ ٢٥٢)، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (١/ ١٧١).
(١٢) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦١).
(١٣) ذهب داود الظاهري إلى عدم جواز التوسُّع في منطوق الحكم، فلا يُحمل النهي إلاَّ عن تصرية الإبل والغنم ولا يقاس عليهما شيءٌ بناءً على أصله في إبطال القياس.
(١٤) «صحيح البخاري» (٤/ ٣٦١).
(١٥) انظر: «عمدة القارئ» للعيني (١١/ ٢٧٠).
(١٦) «شرح النووي» (٥/ ١٦٢).
(١٧) «مفتاح الوصول» للشريف التلمساني (ط١) (٤٢١-٤٢٢).
(١٨) «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (٣/ ١١٨).
(١٩) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦٣).
(٢٠) «سنن أبي داود» (٣/ ٧٧٩)، «سنن النسائي» (٧/ ٢٥٥)، «سنن الترمذي» (٦/ ٢٨)، «سنن ابن ماجه» (٢/ ٧٥٤)، «مسند أحمد» (٦/ ٤٩)، والحديث حسَّنه الألباني في «الإرواء» (٥/ ١٥٨).
(٢١) ومن الصحابة من أفتى به كابن مسعودٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما، ولا مخالفَ لهما من الصحابة، وقال به من التابعين ومن بعدهم من لا يُحصى عدده، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦٤)، «المغني» لابن قدامة (٤/ ١٥٠).
(٢٢) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦٤).
(٢٣) «سنن أبي داود» (٣/ ٧٢٨)، «سنن ابن ماجه» (٢/ ٧٥٣)، وضعَّفه الألباني في «ضعيف أبي داود» (٣٤٤٦) و«ضعيف ابن ماجه» (٢٢٤٠).
(٢٤) انظر: «سبل السلام» للصنعاني (٢/ ٢٦).
(٢٥) خالف زفر من الحنفية في هذه المسألة وقال بقول الجمهور، إلاَّ أنه قال بأنه مخيَّرٌ بين صاعٍ من التمر أو نصف صاعٍ من البرِّ.
(٢٦) انظر: «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (٣/ ١٢٨)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦٥-٣٦٦)، «سبل السلام» للصنعاني (٢/ ٢٦-٢٨).
(٢٧) حديثٌ حسنٌ، سبق تخريجه، انظر: (هامش ٢٠).
(٢٨) أخرجه الدارقطني (٣/ ٧١)، البيهقي (٥/ ٢٩٠)، الحاكم في «المستدرك» (٢/ ٥٧) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا بلفظ: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الكَالِئِ بِالكَالِئِ»، وقال الحاكم: «صحيحٌ على شرط مسلمٍ» ووافقه الذهبي، والحديث إسناده ضعيفٌ، [انظر: «نصب الراية» للزيلعي (٤/ ٣٩)، «الدراية» لابن حجر (٢/ ١٥٧)،«إرواء الغليل» للألباني (٥/ ٢٢٠)]، قال الإمام أحمد : ليس في هذا حديثٌ يصحُّ، لكنَّ إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دينٍ بدينٍ، [انظر: «التلخيص الحبير» لابن حجر (٣/ ٢٦)].
(٢٩) انظر: «شرح معاني الآثار» للطحاوي (٤/ ٢١).
(٣٠) متَّفقٌ عليه: أخرجه البخاري (٤/ ٣٢٨) في «البيوع» باب البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، ومسلم في «البيوع» (١٥٣٢)، من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
(٣١) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦٤).
(٣٢) المصدر السابق، الصفحة نفسها.
(٣٣) «المغني» لابن قدامة (٤/ ١٠٤).
(٣٤) «المجروحين» لابن حبَّان (١/ ٢١٨)، «الميزان» للذهبي (١/ ٤٢١).
(٣٥) أخرجه مسلمٌ في «البيوع» (١٥٢٤)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٣٦) «النهاية» لابن الأثير (٢/ ٣٩٩).
(٣٧) «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (٣/ ١١٩).
(٣٨) انظر: «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (٣/ ١٢٣).
(٣٩) «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٢/ ٣٣٠).
(٤٠) نقلاً عن «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦٦).
(٤١) كالعامِّ الباقي على عمومه مثل قوله تعالى: ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا﴾، وقد أورد ابن تيمية -رحمه الله- عموماتٍ كثيرةً من القرآن الكريم لا مخصِّصَ لها، بل هي باقيةٌ على عمومها. [انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٦/ ٤٤٠-٤٤٥)].
(٤٢) انظر: «التبصرة» للشيرازي (١٣٥)، «المستصفى» للغزَّالي (٣/ ٣٢١)، «روضة الناظر» لابن قدامة (٢/ ١٦٦)، وقد أجيب بأنَّ مجرَّد الاحتمال لا ينفي القطعية بحجَّة أنَّ الخاصَّ قطعيٌّ مع أنه يحتمل المجازَ [انظر: «أصول السرخسي» (١/ ١٣٩)].
(٤٣) أخرجه الإمام أحمد (٥/ ١٨٣)، والدارمي في «سننه» (١/ ٧٥)، وأبو داود (٣٦٦٠)، وابن ماجه (١/ ٨٤) رقم: (٢٣٠)، والترمذي (٥/ ٣٣) رقم: (٢٦٥٦) وغيرهم. [«سلسلة الأحاديث الصحيحة» للألباني (٤٠٤)].
(٤٤) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٢٩٣)، «الإحكام» للآمدي (١/ ٢٧٦).
(٤٥) انظر: «توضيح الأفكار» للصنعاني (٢/ ١٩١)، وأضاف: « ... فإذا لم تُشترط في الراوي فأَوْلى أن لا تُشترط فيمن روى عنه أو من روى عنه راوٍ أيضًا».
(٤٦) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦٥).
(٤٧) «صحيح البخاري» (٤/ ٣٦١).
(٤٨) انظر: «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (٣/ ١٧٢)، «إرشاد الساري» للقسطلاني (٤/ ٤٣٥).
(٤٩) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦٥)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٣٧٦).
(٥٠) انظر: «أصول الفقه» لأبو زهرة (١٢٥)، «أصول الفقه الإسلامي» بدران أبو العينين (٣٨١).
(٥١) «معالم السنن» للخطَّابي على هامش «سنن أبي داود» (٣/ ٧٢٤).
(٥٢) انظر: «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني (٣٦٣).
(٥٣) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٣٢٩).
المصدر..موقع الشيخ فركوس حفظه الله
من حديث النهي عن بيع المصرَّاة
أوَّلا: نصُّ الحديث:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ»، متَّفقٌ عليه واللفظ للبخاري(١)، وفي لفظٍ لمسلمٍ: «فَهُوَ بِالخِيَارِ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ»(٢).
ثانيًا: ترجمة راوي الحديث:
هو الصحابي الجليل الحافظ المكثر أبو هريرة رضي الله عنه، المعروف بكنيته، اختُلف في اسمه على نحو ثلاثين قولاً، وأشهرها: عبد الرحمن بن صخرٍ الدوسي، من دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران، من اليمن، أسلم عامَ خيبر سنةَ سبعٍ من الهجرة، وقدم المدينةَ مهاجرًا وسكن الصُّفَّة، وكان قد شهد خيبر مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ لزمه وواظب عليه رغبةً في العلم، ويقول أبو هريرة رضي الله عنه محدِّثًا عن نفسه: «لقد رأيتُني أُصْرَع بين منبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وحُجْرة عائشة، فيقال: مجنونٌ وما بي جُنونٌ، وما بي إلاَّ الجوع».
وقد كان رضي الله عنه أكثرَ الصحابة روايةً وأوَّلهم على الإطلاق، وله في كتب الحديث ٥٣٧٤ حديثًا(٣)، وله فضائلُ ومناقب.
وقد استعمله عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه على البحرين ثمَّ عزله، ثمَّ أراده على العمل فامتنع، وسكن المدينةَ ووَلِيَ إمرتَها وناب عن مروان في إمرتها، وبها كانت وفاته سنةَ سبعٍ وخمسين من الهجرة (٥٧ﻫ)، وقيل: مات بالعقيق وحُمِلَ إلى المدينة، وصلَّى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان أميرًا على المدينة لعمِّه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما(٤).
ثالثًا: غريب الحديث:
- «لاَ تُصَرُّوا»: بضمِّ المثنَّاة الفوقية وفتح الصاد المهملة، من «صرَّى، يصرِّي» على الأصحِّ، وأصل التصرية حبسُ الماء، يقال: صرَّيتُ الماء إذا حبستُه، وقال الشافعي: هي ربطُ أخلاف الناقة والشاة وتركُ حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر، فيظنُّها المشتري كثيرةَ اللبن فيزيد في ثمنها، فإذا حلبها مرَّتين أو ثلاثًا وقف على التصرية والغرر. وتُسمَّى المصرَّاة محفَّلةً لحفول اللبن واجتماعه في ضرعها، والحفل الجمع الكثير(٥).
- «بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ»: بخير الرأيين.
- «وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ»: عطفٌ على ضمير المفعول في «ردَّها» على تقدير: ويعطي.
رابعًا: المعنى الإجمالي للحديث:
من أنواع التدليس والتغرير والخداع، الذي نهى الشارع عنه وحذَّر منه، هو هذه الظاهرة السيِّئة التي اعتادها بعض تجَّار المواشي -تركًا للطاعة أو جهلاً بالدين- المتمثِّلة في حبس اللبن في ضرع بهيمة الأنعام، يجتمع عند بيعها عن طريق ربط أخلافها (أي أثدائها)، فيظنُّ المشتري أنَّ هذا عادةٌ لها، فيشتريها زائدًا في ثمنها، وبعد حلبها يطَّلع على عيبها، فيكون قد اشتراها بأكثر ممَّا تستحقُّه، وبذلك يكون البائع قد غرَّر بالمشتري وظَلَمَهُ، فنهى الشرع عنه لأنه خداعٌ وغشٌّ.
ولمَّا كانت الشريعة الإسلامية قائمةً بالقسط والعدل، فقَدْ جعل الشارع لمن ابتاع المصرَّاة مدَّةً يتدارك فيها مظلمته، وحدَّدها بثلاثة أيَّامٍ -وهي فترةٌ غالبًا ما تسمح للمشتري بمعرفة عادتها-، فإن علم بالتصرية فله أن يختار أحد الرأيين العائدَ عليه بالخير والنفع وهما:
- الرأي الأوَّل: أن يمسك المصرَّاة ويرضى بها، ويصير العقد بالتالي نافذًا ولازمًا.
- الرأي الثاني: أن يردَّها على البائع، مبطلاً للبيع، ويعطيَ بدلاً عن اللبن المحلوب من ضرعها صاعًا من تمرٍ، ويستردُّ مالَه المدفوع مقابل المصرَّاة.
خامسًا: الفوائد والأحكام المستنبطة من الحديث:
يُؤخذ من الحديث السابق الفوائدُ والأحكام التالية:
١- يستفاد تحريم الغشِّ والتدليس والخديعة في البيع من قوله: «لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ...»، لأنَّ «النَّهْيَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ»، وقد ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم التصريحُ بالنهي عن الغشِّ والغرر في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»(٦)، وعنه أيضًا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الغَرَرِ»(٧).
فالغشُّ والتدليس والغرر مجمعٌ على تحريمها شرعًا، ومذمومٌ فاعل ذلك عقلاً.
٢- استدلَّ بعض الشافعية بظاهر الحديث على تحريم التصرية مطلقًا، سواءً كانت للبيع أو لنفع المالك، وعلَّلوا النهيَ بما فيه من إيذاء الحيوان مع أنَّ الشريعة حثَّت على الرفق بالحيوان، والذي عليه الجمهور أنَّ النهي في الحديث مطلقٌ ورد تقييده بالبيع بما ثبت عند النسائي بلفظ: «لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ لِلْبَيْعِ»(٨)، وله من طريقٍ آخَرَ: «إِذَا بَاعَ أَحَدُكُمْ الشَّاةَ أَوِ اللِّقْحَةَ(٩) فَلاَ يُحَفِّلْهَا(١٠)»(١١)، ولأنَّ ما بعد النهي عن التصرية في حديث الباب يدلُّ على أنَّ المنع للبيع، فقَدْ جاء في لفظ الحديث: «... فَمَنِ ابْتَاعَهَا ...»، فضلاً عن أنَّ العلَّة في النهي عن التصرية هي الغرر والتدليس، وهي غير موجودةٍ في حالة التصرية لنفع المالك، قال الحافظ: «وقُيِّد النهي بالبائع إشارةً إلى أنَّ المالك لو حفَّل، فجمع اللبنَ للولد أو لعياله أو لضيفه لم يحرم، وهذا هو الراجح»(١٢).
أمَّا تعليله بالإيذاء فإنه ضررٌ يسيرٌ لا يستمرُّ، فيُغتفر -عادةً- لتحصيل المنفعة.
٣- وذكرُ الإبل والغنم ليس للتقييد(١٣)، بل يتعدَّى الحكم إلى البقر، وأمَّا تركُ ذكر البقر في الحديث فلِقلَّتها في بلاد العرب العدنانيين، لأنَّ غالب مواشيهم كانت من الإبل والغنم، ولأنَّ العلَّة في ذلك هي التدليس والغرر وهي موجودةٌ في تصرية البقر أيضًا، وقد ترجم البخاري لحديث المصرَّاة بما يدلُّ على العموم فقال: «باب النهي للبائع أن لا يحفِّل الإبلَ والبقر والغنم وكلَّ محفَّلة»(١٤)، ولا يخفى أنَّ ذكر الإبل والغنم في الحديث خرج مخرج الغالب الأعمِّ، وهو مانعٌ من العمل بمفهوم المخالفة عند الجمهور، وعليه فيدخل فيه كلُّ ما يمكن حبسُ حليبه.
٤- ظاهر الحديث أنه لا يثبت الخيار إلاَّ بعد الحلب لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «...فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا ...»، وعند الجمهور أنه إذا علم بالتصرية ثبت له الخيار ولو لم يحلب، فالجمهور قيَّدوه بالعلم، والحديث قيَّده بالحلب، لأنَّ الحلب طريقٌ للعلم، فإذا حصل بطريقٍ أخرى كاعتراف البائع وإقراره، أو شهادة عدولٍ ثبت له الخيار بغير حلب، ولأنَّ التصرية لا تُعرف إلاَّ بعد الحلب غالبًا، من أجل ذلك ذُكر قيدًا في ثبوت الخيار(١٥)، أي: أنَّ الحلب خرج مخرجَ الغالب فلا مفهوم له.
٥- الغرر والتدليس لا يُفسدان أصل البيع، فيبقى البيع موقوفًا على رأي المشتري في التخيير بين الإمساك والردِّ؛ لِما خُتم به الحديث من قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «...فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ»، فثبوتُ الخيار قاضٍ بصحَّة بيع المصرَّاة. قال النووي: «اعلم أنَّ التصرية حرامٌ. سواءٌ تصريةُ الناقة والبقرة والشاة، والجارية، والفرس، والأتان وغيرها، لأنه غشٌّ وخداعٌ، وبيعُها صحيحٌ مع أنه حرامٌ»(١٦).
٦- استُدلَّ بالحديث على أنَّ النهي في المعاملات لا يقتضي فسادَ المنهيِّ عنه، وهو معنى قول بعض الأصوليين: «أنَّ النهي عن الشيء إن كان لحقِّ الله تعالى فإنه يُفسد المنهيَّ عنه، وإن كان لحقِّ العبد فلا يُفسد المنهيَّ عنه»(١٧).
٧- الظاهر من سياق الحديث أنه متى علم بالتصرية ودخلت في ضمانه وأراد ردَّها فعليه أن يردَّها على الفور، لأنَّ الفاء في قوله: «فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ» رابطةٌ لجواب الشرط دالَّةٌ على الجزاء، والأصلُ فيه عدمُ التراخي، وإليه ذهب بعض الشافعية، ويؤيِّد ظاهرَ الحديث اشتراطُ الفور في سائر العيوب فيُلحق به قياسًا، وحملوا الزيادةَ في مسلمٍ: «فَهُوَ بِالخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ» على ما إذا لم يعلم بالتصرية إلاَّ في اليوم الثالث، لأنَّ الغالب أنها لا تُعلم في أقلَّ من ذلك لجواز النقصان باختلاف العلف ونحوه، وتمسَّك الجمهور بالرواية التي فيها أنه «بِالخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ» وأنها مقدَّمةٌ على هذا الإطلاق، ولأنه -وإن علم بالتصرية في أوَّل يومٍ- فإنه يحتاج إلى ظرفٍ زمنيٍّ ليعرف مقدارَ لبنها، وقد يرضى المشتري بذلك المقدار، لهذا أجاز الشارع التأخيرَ إلى هذه المدَّة.
فرُدَّ استدلال الشافعية بوجهين:
أحدهما: فساد اعتبار القياس لمقابلته لحديث: «فَهُوَ بِالخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ».
والآخر: لأنَّ التحديد بالثلاث الواردَ في منطوق الحديث نصٌّ فيه غيرُ مُحتمَلٍ، وهو أَوْلى بالعمل، ولا منافاةَ بينه وبين سائر العيوب في قياس الأصول، لأنَّ التحديد بالثلاث ثبت بالحديث فتُستثنى هذه الحالة من عموم قياس الأصول بالنصِّ. قال ابن دقيق العيد: «والصواب اتِّباع النصِّ لوجهين: أحدهما تقديم النصِّ على القياس، والثاني: أنه خولف القياس في أصل الحكم لأجل النصِّ، فيطَّرد ذلك ويُتَّبع في جميع موارده»(١٨)، ويؤكِّد ذلك -كما ذكر ابن حجرٍ- ما ورد في بعض روايات أحمد والطحاوي: «فَهُوَ بِأَحَدِ النَّظَرَيْنِ بِالخِيَارِ إِلَى أَنْ يَحُوزَهَا أَوْ يَرُدَّهَا»(١٩).
٨- يفيد الحديث من قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ» أنَّ المشتريَ إذا علم بالتصرية، واختار الردَّ بعد الحلب، فإنه يردُّ معها صاعًا من تمرٍ عوضًا عن اللبن المحلوب، سواءً كان اللبن كثيرًا أو قليلاً، وسواءً كان التمر قوتًا لأهل البلد أو لم يكن كذلك، وسواءً كانت المصرَّاة من الإبل أو الغنم أو من البقر أو من غيرها من بهيمة الأنعام، وهي مسألةٌ مختلفٌ فيها -ستأتي قريبًا-.
٩- صاعُ التمر المدفوعُ هو في مقابل اللبن الذي اشترى وهو في ضرعها، أمَّا الحادث بعد ذلك، فليس للمشتري أن يردَّ له شيئًا، لأنه في مقابل ضمانه وتعليفه فكان الحادث للمشتري عملاً بحديث: «الخَرَاجُ بِالضَّمَانِ»(٢٠)، وبناءً على قاعدة: «الغُنْمُ بِالغُرْمِ».
١٠- الحديث دليلٌ على أنَّ مدَّة الخيار ثلاثةُ أيَّامٍ، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَهُوَ بِالخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ»، لكن اختُلف في ابتداء الثلاثة الأيَّام: فقال الحنابلة: إنَّ ابتداء هذه المدَّة من وقت بيان التصرية، وعند الشافعية: من عند العقد، وقال آخَرون: من عند التفرُّق، وأظهرُ هذه الأقوال القولُ الأخير، لأنها تدخل في ضمانه بمجرَّد القبض عند التفرُّق، فإن لم يتحقَّق من أوصافها ويتعرَّف على مقدار لبنها -خلال هذه المدَّة المحدَّدة- فهو من تفريطه.
سادسًا: مواقف العلماء من الحديث:
نصَّ الحديث على النهي عن التصرية للبيع، و«النَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ»، فلو علم المشتري بالتصرية فما الحكم ؟
أ- مذاهب العلماء وأدلَّتهم:
اختلف العلماء في ذلك على عدَّة مذاهبَ نقتصر على أهمِّها:
- المذهب الأوَّل:
مذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين وهو قول الشافعي وأبي عبيدٍ وأبي ثورٍ والليث وإسحاق(٢١): أنَّ البيع صحيحٌ ويثبت الخيار للمشتري، وله أن يردَّ المصرَّاة ويردَّ معها صاعًا من تمرٍ مكانَ ما حلب من اللبن، سواءً كان اللبن كثيرًا أو قليلاً، أو التمر قوتًا لأهل البلد أو لم يكن، أخذًا بظاهر الحديث وعملاً به، لعدم ورود ما يُقيَّد به الحديث.
- المذهب الثاني:
ذهب بعض الشافعية وروايةٌ عن الإمام مالكٍ إلى أنَّ الواجب ردُّ صاعٍ من قوت البلد، لما رواه أحمد عن رجلٍ من الصحابة نحو حديث الباب وفيه: «...إِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مَنْ تَمْرٍ»، قال ابن حجرٍ -رحمه الله-: «إسناده صحيحٌ»(٢٢)، فظاهرُ هذا الحديث يقتضي التخييرَ بين التمر والطعام، وأنَّ الطعام غيرُ التمر.
ولِما أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر وكذا ابن ماجه بلفظ: «...فَإِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا مِثْلَ أَوْ مِثْلَيْ لَبَنِهَا قَمْحًا»(٢٣)، فتعيَّن عندهم الردُّ بقوت البلد للأحاديث المذكورة أعلاه من جهةٍ، ولعلَّهم يُلحقون المسألةَ بالقياس على زكاة الفطر من جهةٍ ثانيةٍ، ولا اختصاص في الردِّ أن يكون صاعًا من تمرٍ، لأنه خرج مخرجَ الغالب الأعمِّ، حيث إنَّ التمر كان غالبَ قوت البلد في المدينة.
- المذهب الثالث:
ما ذهبت إليه طائفةٌ من أهل العلم، حيث ترى أن تُرَدَّ المصرَّاةُ بعيب التصرية، لكن يُرَدُّ اللبن بعينه إن كان باقيًا، أو مثله إن كان تالفًا، أو قيمته يوم الردِّ حيث لم يوجد المثل.
ووجه ذلك: أنَّ المعهود شرعًا في ضمان المتلفات -حَسَبَ الذي تقرَّر- أنه بالمثل إن كان مثليًا، أو بالقيمة إن كان قيميًا، وعلى هذا الأساس يُضمن اللبنُ المحلوب بهذه الكيفية لا بالتمر أو الطعام.
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الضمان يختلف مقدارُه باختلاف مقدار المُتْلَف، ولا يمكن تقدير اللبن المحلوب بصاعٍ قلَّ أو كثر(٢٤).
- المذهب الرابع:
وهو ما ذهب إليه الحنفية التي خالفت أصل المسألة(٢٥)، فقالوا: لا يُرَدُّ البيع بعيب التصرية ولا يجب ردُّ صاعٍ من تمرٍ أو غيره، بل يجب الأرش، وهو أن يدفع البائع للمشتري عوضًا عن نقصان ثمن الشاة إذا تبيَّن أنها مصرَّاةٌ.
وحجَّة الحنفية فيما ذهبوا إليه قولُه تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦]، وبقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤]، وبقوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠]، وبقوله تعالى: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ [البقرة: ١٩٤]، وغيرها من الآيات الدالَّة على المثلية في ضمان المتلفات.
قالوا: لا يلزم العمل بالحديث لأنه مخالفٌ لقياس الأصول المعلومة من جهةٍ، ولأنَّ الأصول المعلومة ثابتةٌ بالأدلَّة القطعية من جهةٍ ثانيةٍ.
ونتناول الجهتين -باختصارٍ- فيما يلي:
الجهة الأولى: أنَّ الحديث مخالفٌ لقياس الأصول المعلومة من وجوهٍ:
١- أنَّ المعلوم من الأصول في ضمان المتلفات أنه بالمِثْل إن كان مثليًا، وبالقيمة إن كان قيميًا، أي: يُقَوَّم بأحد النقدين، غيرَ أنَّ اللبن في الحديث -ما دام مثليًّا- كان ينبغي ضمانُه بمثله لبنًا، وإن كان متقوَّمًا ضُمن بمثله من النقدين، لكنَّ اللبن وقع مضمونًا بالتمر فهو خارجٌ عن الأصلين جميعًا.
٢- إثبات الخيار ثلاثًا من غير شرطٍ مخالفٌ للأصول، فإنَّ خيار العيب وخيار الرؤية وخيار المجلس لا يُقَدَّر شيءٌ منها بالثلاث، وهذه الخيارات ثابتةٌ بأصل الشرع.
٣- أنَّ القواعد الكلِّية في الضمان تقتضي أن يختلف الضمانُ باختلاف التالف، وفي الحديث قُدِّر بالصاع مقدارًا واحدًا، فخرج من القياس الكلِّيِّ في اختلاف ضمان المتلفات.
٤- الأصل أنَّ الأعيان لا تُضمن بالبدل إلاَّ مع فواتها، والحديثُ مخالفٌ لهذا الأصل إذ يلزم منه ضمان الأعيان مع بقائها، حيث كان اللبن موجودًا.
٥- أنَّ اللبن التالف إن كان موجودًا عند العقد فقَدْ نقص جزءٌ من المبيع بحلبه وذلك مانعٌ من الردِّ، كما لو ذهب بعضُ أعضاء المبيع ثمَّ ظهر عليه عيبٌ فيمتنع الردُّ، وإن كان حادثًا عند الشراء، فقَدْ حدث على مِلْك المشتري فلا يضمنه، لأنَّ الخراج بالضمان، وإن كان مختلطًا فما كان موجودًا فيه عند العقد يمتنع الردُّ فيه وما كان حادثًا فلا يضمنه.
٦- لو كان نقصان اللبن عيبًا لثبت به الردُّ من دون تصريةٍ ولا اشتراطٍ، وههنا لم يُشترط الردُّ إذا تبيَّن نقصانه، ولا يثبت الردُّ في الشرع إلاَّ بعيبٍ أو بشرطٍ(٢٦).
٧- أنه مخالفٌ لقاعدة الربا فيما إذا اشترى شاةً بصاعٍ فإذا استردَّ معها صاعًا فقد استرجع الصاعَ الذي هو الثمن فيكون قد باع شاةً وصاعًا بصاعٍ.
هذه هي أهمُّ الوجوه التي خالف فيها الحديث قياسَ الأصول المعلومة.
الجهة الثانية: الأصول المعلومة ثابتةٌ بالأدلَّة القطعية:
يرى الأحناف أنَّ نصوص القرآن الكريم كثيرةٌ في وجوب التماثل في ضمان المتلفات وقد تقدَّم بعضها، وعلى هذا تكون من العامِّ القطعيةِ دلالتُه، وحديثُ أبي هريرة رضي الله عنه خبرُ واحدٍ مظنونٌ، والمظنونُ لا يعارض المعلومَ.
ومع ذلك فقَدِ اعتذروا عن الأخذ بحديث المصرَّاة بأعذارٍ متعدِّدةٍ نذكر من أهمِّها:
١- القدح في أبي هريرة رضي الله عنه راوي الحديث، ووجهُ القدح فيه أنه لم يكن فقيهًا كابن مسعودٍ وابن عبَّاسٍ وابن عمر من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وعلى ذلك فلا يُؤخذ بما يرويه إذا كان مخالفًا للقياس الجليِّ.
٢- وبأنه حديثٌ مضطربٌ، وسبب اضطرابه ورودُ التمر في بعض الروايات، والقمح في أخرى، واعتبار الصاع تارةً، والمِثل تارةً وبالإناء أخرى.
٣- وبأنه حديثٌ منسوخٌ، ثمَّ اختلفوا في تعيين الناسخ، ويرى بعضهم أنَّ الناسخ حديث: «الخَرَاجُ بِالضَّمَانِ»(٢٧)، وذلك لأنَّ اللبن فضلةٌ من فضلات الشاة ولو تلفت لكانت من ضمان المشتري فتكون فضلاتها له، ويرى آخَرون أنَّ ناسخه حديث ابن عمر في «النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ»(٢٨)، وذلك لأنَّ لبن المصرَّاة قد صار دينًا في ذمَّة المشتري، فإذا أُلزم بصاعٍ من تمرٍ صار دينًا بدينٍ(٢٩)، وقال بعضهم: ناسخه حديث: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا»(٣٠)، وذلك لأنَّ الفُرقة قاطعةٌ للخيار من غير فرقٍ بين المصرَّاة وغيرها.
٤- ويرى بعضهم أنَّ الحديث صحيحٌ لا اضطراب فيه ولا علَّة ولا نسْخَ، وإنما هو محمولٌ على صورةٍ مخصوصةٍ، وهو ما إذا اشترى شاةً بشرط أنها تحلب خمسةَ أرطالٍ وشَرَطَ فيها الخيارَ فالشرط فاسدٌ، فإن اتَّفقا على إسقاطه في مدَّة الخيار صحَّ العقد، وإن لم يتَّفقا بَطَل العقدُ ووجب ردُّ الصاع من التمر لأنه كان قيمةَ اللبن يومئذٍ.
ب- مناقشة الأدلَّة وتفنيدها:
يمكن مناقشة أدلَّة المذاهب السابقة بالترتيب التالي:
أوَّلاً: بخصوص دليل القائلين بأنَّ الواجب ردُّ صاعٍ من قوت البلد -وهو المذهب الثاني- استدلالاً ﺑ: «أو» في الحديث عند قوله: «... رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ مِنْ تَمْرٍ» على أنها للتخيير.
فالجواب عن ذلك أنَّ (أو) كما يُحتمل أنها للتخيير، يُحتمل كذلك أن تكون شكًّا من الراوي، وإذا طرأ على الدليل احتمالٌ فإنه يَبطل به الاستدلالُ، وحينئذ وجب المصير إلى الروايات الراجحة التي لم يُختلف فيها، كما أشار الإمام البخاري إليه بقوله: «والتمر أكثر»(٣١).
أمَّا حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: «إِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا مِثْلَ أَوْ مِثْلَيْ لَبَنِهَا قَمْحًا»، فلا يصحُّ الاحتجاج به، ولا يثبت به حكمٌ، لأنَّ في إسناده ضعفًا -كما قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-(٣٢)، وقال ابن قدامة -رحمه الله-: «وحديث ابن عمر مُطَّرَحُ الظاهرِ بالاتِّفاق؛ إذ لا قائل بإيجاب مثل لبنها أو مثلَيْ لبنها قمحًا، ثمَّ قد شكَّ فيه الراوي، وخالفته الأحاديث الصحاح، فلا يُعَوَّل عليه»(٣٣)، وعلَّةُ الحديث جميع بن عميرٍ التيمي، قال ابن حبَّان: «كان رافضيًّا يضع الحديث»(٣٤)، ولو صحَّ فلا يقاوم ما عارضه من الروايات الصحيحة.
أمَّا قولهم: إنَّ الروايات التي فيها «صَاعًا مِنْ تَمْرٍ»، خرجت مخرجَ الغالب الأعمِّ، فهو مدفوعٌ برواية مسلمٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه: «... رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ لاَ سَمْرَاءَ»(٣٥)، والسمراء هي الحنطة(٣٦)، وفيه دليلٌ على أنه لا يعطي غيرَ التمر، قال ابن دقيق العيد: «وذلك ردٌّ على من عدَّاه إلى سائر الأقوات، وإن كانت السمراء غالب قوت البلد -أعني: المدينة- فهو ردٌّ على قائله أيضًا»(٣٧)، على أنه يمكن حملُ الروايات التي نُصَّ فيها على غير التمر من الطعام ونحوه على ما إذا تعذَّر الحصول على التمر، وذلك جمعًا بين الأدلة.
- أمَّا القياس على زكاة الفطر فهو فاسد الاعتبار لمقابلته لنصِّ الحديث.
ثانيًا: والجواب على دليل المذهب الثالث، القائلين بردِّ اللبن بعَينه إن كان باقيًا، أو مثله إن كان تالفًا أو قيمته يومَ الردِّ إذا لم يوجد المثل، ويتمثَّل دليلهم -كما سبق- في شقَّين: وجوب التماثل في ضمان المتلفات، كما هو مقرَّرٌ في الأصل -من جهةٍ-، وأنَّ القواعد الكلِّية تقتضي أن يختلف الضمان باختلاف التالف لا بمقدار الصاع قدرًا مطَّردًا -من جهةٍ ثانيةٍ-.
- والردُّ على الشقِّ الأوَّل بأنه تضمَّن العمومَ في سائر المتلفات، وحديثُ أبي هريرة رضي الله عنه خاصٌّ ورد به النصُّ، والخاصُّ يقيِّد العامَّ، وهو مقدَّمٌ عليه، كما هو مقرَّرٌ في علم الأصول.
- وأمَّا الردُّ على الشقِّ الثاني فإنَّ تقدير الصاع، قدَّره الشارع دفعًا لِما يحدث من تشاجرٍ ومنازعةٍ لعدم الوقوف على حقيقة قدر اللبن؛ لجواز اختلاطه بحادثٍ بعد البيع، فقطع الشارع النزاعَ وقدَّره بحدٍّ لا يَبْعُد رفعًا للخصومة ودفعًا للنزاع، ثمَّ إنَّ التقدير كان بالتمر فهو أقرب شيءٍ إلى اللبن، فإنهما كانا قوتًا في ذلك الزمان؛ ولهذا الحكم نظائرُ في الشريعة الإسلامية، كدِيَة النفس: فإنها مائةٌ من الإبل مع اختلاف أحوال النفوس من حيث القوَّة والضعف، والصغر والكبر، والجمال والقبح، والجنينُ مقدَّرٌ أرشُه ولا يختلف بالذكورة والأنوثة واختلاف الصفات، والحكمةُ التي قصدها الشارع الحكيم من وراء ذلك قطعُ النزاع بتقديره بشيءٍ معيَّنٍ، وتُقدَّم هذه المصلحة في مثل هذا الموضع على تلك القاعدة.
٣- أمَّا اعتراضات الحنفية في عدم العمل بالحديث السابق، لكونه مخالفًا لقياس الأصول المعلومة -من جهةٍ-، ولأنَّ الأصول المعلومة ثابتةٌ بالأدلَّة القطعية -من جهةٍ ثانيةٍ-، فالجواب عنها من الجهتين السابقتين:
- الجهة الأولى:
- بخصوص الاعتراض الأوَّل والثالث: فقَدْ تقدَّم الجواب عنهما عند مناقشة أدلَّة المذهب الثالث.
- والجواب عن الاعتراض الثاني: بأنَّ تقدير هذه المدَّة، تتوقَّف معرفةُ التصرية عليها، بخلاف العيوب الأخرى فليست بحاجةٍ لمثل هذه المدَّة.
- والجواب عن الاعتراض الرابع: بأنَّ اللبن الذي كان في الضرع حالَ العقد يتعذَّر ردُّه، لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد بسبب امتزاجه -بعضِه ببعضٍ-: جزءٌ منه للبائع والآخَر للمشتري، وتعذُّرُ الردِّ لا يمنع الضمانَ مع بقاء العين.
- والجواب عن الاعتراض الخامس: أن يقال: إنَّ النقص إنما يمنع الردَّ إذا لم يكن لاستعلام العيب، وهذا النقص لاستعلام العيب فلا يمتنع الردُّ.
- والجواب على الاعتراض السادس: بأنَّ المشتري لمَّا رأى ضرعًا مملوءًا لبنًا ظنَّ أنه عادةٌ لها، فكأنَّ البائع شرط له ذلك، فظهر الأمرُ بخلافه، فثبت له الردُّ لفقدان الشرط المعنوي، ثمَّ إنَّ المشتري إنما بذل مالَه من أجل صفةٍ أظهرها له البائع، والبائع يُظهر صفةَ المبيع تارةً بقوله، وتارةً بفعله، فإذا أظهر للمشتري مبيعه على صفةٍ فبان الأمر بخلافها كان قد دلَّس عليه فشُرع له الخيار، ومَثَلُ ذلك كمثل الركبان إذا تُلُقُّوا وَاشْتُري منهم قبل نزولهم للسوق لمعرفة السعر، فإنَّ الشارع قد أثبت لهم الخيارَ، مع أنه ليس في هذا الأمر عيبٌ ولا شرطٌ، ولكن لما فيه من الغشِّ والتدليس، فالخيارُ إذن يُثبته التدليس(٣٨).
- والجواب عن الاعتراض السابع: أنَّ الربا في العقود لا في الفسوخ، بدليل أنهما لو تبايعا ذهبًا بفضَّةٍ لم يَجُزْ أن يتفرَّقا قبل القبض، ولو تقايلا في هذا العقد بعينه جاز التفرُّق قبل القبض.
هذه الجهة الأولى مُفَنَّدةٌ باعتبار الاعتراضات الجزئية التي تحتويها، وأمَّا باعتبار الاعتراض الكلِّي للجهة الأولى، والمتمثِّل في مخالفة الحديث لقياس الأصول المعلومة فقَدْ أجاب عنها ابن القيِّم -رحمه الله- بقوله: «زعمُهم أنَّ هذا حديثٌ يخالف الأصول فلا يُقبَل، فيقال: الأصول كتاب الله وسنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وإجماع أمَّته والقياس الصحيح الموافق للكتاب والسنَّة، فالحديث الصحيح أصلٌ بنفسه، فكيف يقال: الأصل يخالف نفسه ؟ هذا من أبطل الباطل، والأصول في الحقيقة اثنان لا ثالث لهما: كلام الله وكلام رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وما عداهما فمردودٌ إليهما: فالسنَّة أصلٌ قائمٌ بنفسه، والقياس فرعٌ، فكيف يُرَدُّ الأصل بالفرع ؟ قال الإمام أحمد: إنما القياس أن تقيس على أصلٍ، فأمَّا أن تجيء إلى الأصل فتهدمه ثمَّ تقيس فعلى أيِّ شيءٍ تقيس ؟»(٣٩).
قال ابن السمعاني -رحمه الله-: «متى ثبت الخبر صار أصلاً من الأصول، ولا يُحتاج إلى عرضه على أصلٍ آخَرَ، لأنه إن وافقه فذاك وإن خالفه فلا يجوز ردُّ أحدهما لأنه ردٌّ للخبر بالقياس، وهو مردودٌ باتِّفاقٍ»(٤٠).
- الجهة الثانية:
تتمثَّل هذه الجهة في: أنَّ الأصول تفيد القطعَ وخبر الواحد يفيد الظنَّ، والمقطوعُ مقدَّمٌ على المظنون ولا يعارضه.
فالجواب عنها: بأنَّ صرْفَ العامِّ القطعيِّ عن عمومه وقصْرَه على بعض أفراده قائمٌ، لما هو ملاحَظٌ في غالب عمومات الكتاب والسنَّة، بمعنى أنَّ العامَّ لا يخلو من قصره على بعض ما يتناوله من الأفراد إلاَّ بقرينةٍ تصرف عنه احتمالَ التخصيص(٤١)، إذ لو كانت دلالة العموم قطعيةً لَما جاز رفعُ الثابت قطعًا بما هو مظنونٌ كخبر الواحد والقياس، وإذا ثبت الاحتمال انتفى القطع واليقين، لأنَّ القطع واليقين لا يثبتان مع الاحتمال، فلا نقول دلالة العامِّ قطعيةٌ وهو محتملٌ للتخصيص(٤٢).
فلجواز أن يكون خبرُ الواحد غيرَ مقطوعٍ به مستثنًى أو مخصَّصًا من محلِّ الأصل المقطوع الذي تناوله، فيكون شاملاً لهذا الفرد المظنون، والدليلُ على تخصيص هذا الفرد بحكمه يفيد الظنَّ، وليس أحد الظنَّين أَوْلى من الآخَر.
ومن جهةٍ أخرى، لا تناقُضَ بين خبرين اختلف زمنُهما، لجواز صدق كلٍّ منهما في وقته، وإيضاحُ تلك الأصول -وإن كانت قطعيةً في وقتها- لكنَّ استمرار حكمها إلى الأبد غير قطعيٍّ، فنسخُها أو تخصيصها بالآحاد إنما هو نفي استمرار حكمها الذي لا قطعيةَ في دلالته على قيام حكمه، وكلٌّ منهما حقٌّ في وقته.
هذا، ويظهر بطلان كلِّ الاعتذارات التي تقدَّم بها الحنفية لردِّ حديث المصرَّاة على الوجه التالي:
١- بخصوص القدح في الصحابي أبي هريرة رضي الله عنه الراوي للحديث بأنَّ حديثه مردودٌ لأنه لم يكن فقيهًا كابن مسعودٍ رضي الله عنه، لأنَّ الفقه من الشروط المعتبرة في الراوي لقبول خبره عندهم، ففسادُ هذا القول من وجهين:
- الوجه الأوَّل: المنع.
- لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ»(٤٣).
وجه دلالة الحديث: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم دعا له وأقرَّه على الرواية مع عدم فقهه وعلمه، ولو لم يكن مقبولَ القول لما كان كذلك، فالحديث نصٌّ في المسألة.
- ولأنَّ الصحابة كانوا يقبلون خبر الأعرابي الذي لم يَرْوِ إلاَّ حديثًا واحدًا.
- ولأنَّ الظاهر من الراوي إذا كان عدلاً متديِّنًا أنّه لا يروي إلاَّ ما يتحقَّقه على الوجه الذي سمعه(٤٤).
- ولأنَّ العلم لا يُشترط في الشهادة وهي آكَدُ من الرواية(٤٥).
الوجه الثاني: التسليم.
- ومع التسليم بأنَّ من شروط الراوي المقبول أن يكون فقيهًا، وأبو هريرة رضي الله عنه لم يكن كذلك، فإنَّ الحديث لم ينفرد به أبو هريرة رضي الله عنه، قال ابن حجرٍ -رحمه الله-: «... فقَدْ أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر، وأخرجه الطبراني من وجهٍ آخَرَ عنه، وأبو يعلى من حديث أنس، وأخرجه البيهقي في الخلافيات من حديث عمرو بن عوفٍ المزني، وأخرجه أحمد من رواية رجلٍ من الصحابة لم يُسَمَّ، وقال ابن عبد البرِّ: هذا الحديث مُجْمَعٌ على صحَّته وثبوته»(٤٦).
- ثمَّ إنَّ كثيرًا من أحكام الشريعة نُقِلت من غير طريق المشهورين من الصحابة، وكذا غير المعروفين بالفقه، فطرحُ أحاديثهم يلزم منه طرحُ شطرٍ واسعٍ من الدين، و«اللاَّزِمُ بَاطِلٌ فَالمَلْزُومُ مِثْلُهُ».
٢- أمَّا الاعتذار باختلاف الرواة في ألفاظه ممَّا يتعذَّر معه الاحتجاجُ به نظرًا لاضطرابه فغَيْرُ مُسلَّمٍ، لأنَّ الطرق الصحيحة كثيرةٌ وقويَّةٌ ولا اختلافَ فيها، فوجب المصير إليها وتركُ ما عداها، لأنَّ الضعيف لا يُعلُّ به الصحيح، قال البخاري: «والتمر أكثر»(٤٧)، إذ الكثرة تفيد القوَّةَ، والمرجوح لا يدفع التمسُّك بالراجح(٤٨).
٣- ولا دلالة على النسخ مع مدَّعيه لاختلافهم في الناسخ من جهةٍ، ولأنَّ بعض ما ادَّعَوْه ناسخًا ضعيفٌ كما تعقَّبه الطحاوي(٤٩)، ولأنَّ النسخ لا يثبت بمجرَّد الاحتمال، ولو كفى ذلك لَرَدَّ مَن شاء ما شاء، إذ «الأَصْلُ عَدَمُ النَّسْخِ»، ولا يصار إلى النسخ الاحتمالي مع إمكانية الجمع بين النصوص التي ظاهرُها التعارض، كما هو مقرَّرٌ -أصوليًّا- في باب التعارض والترجيح.
٤- أمَّا الاعتذار الرابع بأنَّ الحديث محمولٌ على صورةٍ مخصوصةٍ، فجوابه أنَّ الحديث ظاهرٌ في تعليق الحكم بالتصرية، وحملُه على الصورة المذكورة تعسُّفٌ، إذ يقتضي تعليقَه بفساد الشرط سواءً وُجدت التصرية أم انتفت، ومن جهةٍ أخرى فلفظُ الحديث عامٌّ، وعلى فرض تسليم ما ادَّعَوْه، فهو فردٌ من أفراد ذلك العموم، فيفتقر إلى دليلٍ لقصر العموم عليه، وهو متعذِّرٌ تحصيلُه.
ج- سبب اختلاف العلماء في الحديث:
الناظر في أدلَّة العلماء يدرك أنَّ سبب اختلافهم يرجع -في الجملة- إلى المسائل التالية:
- هل الفقه شرطٌ من الشروط المعتبرة في الراوي لقبول خبره ؟
- هل يُعمل بخبر الواحد إذا خالف قياسَ الأصول ؟
- هل دلالة العامِّ على أفراده قطعيةٌ فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد ؟
- هل اللبن جزءٌ من المبيع، فيمتنع الردُّ والبدل عند النقصان ؟
• فمن رأى أنَّ الفقه شرطٌ من الشروط المعتبرة في الراوي لقبول روايته، وأنه لا يلزم العملُ بخبر الواحد إذا خالف قياسَ الأصول، وأنَّ دلالة العامِّ على أفراده قطعيةٌ فلا يجوز تخصيص العامِّ ابتداءً بالدليل الظنِّي، إذ التخصيص عندهم تغييرٌ، ومغيِّر القطعيِّ لا يكون ظنِّيًّا، وأنَّ اللبن جزءٌ من المبيع يُنتقص المبيعُ بنقصانه، قال: لا يُرَدُّ البيع بعيب التصرية، ولا يجب ردُّ صاعٍ من تمرٍ أو غيره، بمعنى أنه منع الردَّ والبدل مطلقًا، وأوجب الأرشَ على البائع.
• ومن رأى أنَّ الفقه ليس شرطًا في راوي الحديث، وأنَّ دلالة العامِّ ظنِّيةٌ، ورأى أنه لا يلزم العمل بخبر الواحد إذا خالف قياسَ الأصول، وأنَّ اللبن جزءٌ من المبيع وأنه لا يمتنع الردُّ ولا يجوز البدل من غير جنسه قال: يردُّ اللبن بعينه إن كان باقيًا، ومثله إن كان تالفًا أو قيمته عند الردِّ إن لم يوجد المثل.
• ومن رأى أنَّ الفقه لا يُعَدُّ شرطًا في الراوي لقبول خبره، ورأى لزوم العمل بخبر الواحد وإن خالف قياسَ الأصول، لأنَّ خبر الواحد الثابتَ أصلٌ قائمٌ بذاته، وأنَّ دلالة العامِّ على أفراده ظنِّيةٌ لاحتمال التخصيص في دلالة العموم، وأنَّ اللبن جزءٌ من المبيع لكن لا يمتنع الردُّ إذا كان لاستعلام العيب، ويجوز فيه البدل مُعيَّنًا من غير جنسه نصًّا وهو صاعٌ من التمر عَمِل بمقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدِّم.
• ومن رأى الرأيَ الذي قبله، واعتبر حديثَ أبي هريرة رضي الله عنه خرج مخرجَ الغالب الأعمِّ، ورأى أنَّ اللبن جزءٌ من المبيع فلا يمنع الردَّ من جهةٍ ويجوِّز فيه البدلَ من غير جنسه مطلقًا من جهةٍ أخرى، قال: بأنَّ الواجب ردُّ صاعٍ من قوت البلد، عملاً بالأحاديث التي يقتضي ظاهرُها التخييرَ بين التمر والطعام من ناحيةٍ أخرى، على نحو ما هو معهودٌ في زكاة الفطر.
د- الترجيح:
هذا، والحديثُ -في ظاهره- حجَّةٌ ناهضةٌ تشهد على صحَّة مذهب جمهور الصحابة والتابعين والأئمَّة المجتهدين، وتبيِّن ضعْفَ اعتراضاتِ واعتذاراتِ المخالفين في ردِّهم الحديثَ، لكونها مخالِفةً للظاهر، ولأنَّ دلالة العامِّ على أفراده ظنِّيةٌ يجوز تخصيصها بالدليل الظنِّي(٥٠)، ولأنَّ خبر الشارع الثابتَ مقدَّمٌ على قياس الأصول، لأنه أصلٌ قائمٌ بذاته واجبُ الاعتبار، إذ لا تأصيلَ للأصول إلاَّ من نصوص الشارع، قال الخطَّابي: «والأصول إنما صارت أصولاً لمجيء الشريعة بها، وخبرُ المصرَّاة قد جاء به الشرعُ من طرقٍ جيادٍ أشهرُها هذا الطريق، فالقول فيه واجبٌ، وليس تركُه لسائر الأصول بأَوْلى من تركها له»(٥١)، والمعلوم أنَّ قول النبيِّ معصومٌ من الخطإ وقولَ القائس ليس بمعصومٍ منه، ولا يخفى أنَّ قول المعصوم أقوى من قول غير المعصوم وأَوْلى بالاتِّباع(٥٢)، لذلك كان الصحابة رضي الله عنهم أحرص الناس على اتِّباع التنزيل، فمتى وجدوا النصَّ تركوا الاجتهاد(٥٣)، فكانوا أسعد الناس بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: عملوا بمقتضاه، وخصُّوا به العامَّ في وجوب التماثل في ضمان المتلفات، جمعًا بين النصوص وتوفيقًا بين الأدلَّة، إلاَّ في حالة تعذُّر وجود جنس التمر، فإنه تمضي فيه القواعد الكلِّية في ضمان المتلفات.
(١) متَّفق عليه: أخرجه البخاري (٤/ ٣٦١)، ومسلم (٥/ ١٦٥-١٦٧)، وأبو داود (٣/ ٧٢٢-٧٢٧)، والنسائي (٧/ ٢٥٣)، ومالكٌ في «الموطَّإ» (٢/ ١٧٠)، والشافعي في «الأمِّ» (٨٢) (مختصر المزني)، وأحمد في «مسنده» (٢/ ٢٤٢، ٤٦٥)، والدارقطني (٣/ ٧٥)، والبيهقي (٥/ ٣١٨-٣٢١)، والبغوي في «شرح السنَّة» (٨/ ١١٥)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) أخرجه مسلم في «البيوع» (١٥٢٤) وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٣) وسبب ذلك لزومه ومواظبته مجالسَ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، ودعاؤه له، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: «واللهِ المُوعِدِ، إنِّي كنتُ امرَأً مسكينًا، أصحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على مِلْء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فحضرتُ من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مجلسًا، فقال: «مَنْ يَبْسُطُ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي»، فبسطتُ بردةً عليَّ حتَّى قضى حديثه ثمَّ قبضتها إليَّ، فوالذي نفسي بيده ما نسيتُ شيئًا بعد أن سمعته منه». [أحمد (١٢/ ٢١٩)].
أمَّا عن كنيته رضي الله عنه، فقَدْ أخرج الترمذي (٥/ ٦٨٦) عن عبد الله بن أبي رافع قال: قلت لأبي هريرة رضي الله عنه: لِمَ كُنِّيت أبا هريرة ؟ قال أما تَفْرَقُ مني؟ قلت: بلى والله إنِّي لأهابك. قال: «كنت أرعى غنم أهلي، فكانت لي هريرةٌ صغيرةٌ فكنت أضعها بالليل في شجرة، فإذا كان النهار، ذهبتُ بها معي فلعبتُ بها، فكَنَّوْني أبا هريرة».
(٤) انظر ترجمته وأحاديثه في: «مسند أحمد» (٢/ ٢٢٨، ٥/ ١١٤)، «الطبقات الكبرى» لابن سعد (٢/ ٣٦٢، ٤/ ٣٢٥)، «المعارف» لابن قتيبة (٢٢٧)، «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (٤/ ١٧٦٨)، «مستدرك الحاكم» (٣/ ٥٠٦)، «جامع الأصول» لابن الأثير (٩/ ٩٥)، «الكامل» (٣/ ٥٢٦) و«أسد الغابة» (٥/ ٣١٥) كلاهما لابن الأثير، «سير أعلام النبلاء» (٢/ ٥٧٨) و«طبقات القرَّاء» (١/ ٤٣) و«الكاشف» (٣/ ٣٨٥) و«دول الإسلام» (١/ ٤٢) كلُّها للذهبي، «البداية والنهاية» لابن كثير (٨/ ١٠٣)، «مجمع الزوائد» للهيثمي (٩/ ٣٦١)، «وفيات ابن قنفذ» (٢١)، «الإصابة» (٤/ ٢٠٢) و«تهذيب التهذيب» (٢/ ٢٦٢) كلاهما لابن حجر، «طبقات الحفَّاظ» للسيوطي (١٧)، «شذرات الذهب» لابن العماد (١/ ٦٣)، «الفكر السامي» للحجوي (١/ ٢/ ٢٤٧)، ومؤلَّفنا: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (١٩٨).
(٥) انظر: «الصحاح» للجوهري (٦/ ٢٤٠٠)، «النهاية» لابن الأثير (٣/ ٢٧)، «لسان العرب» لابن منظور (٢/ ٤٣٦).
(٦) «صحيح مسلم» (١/ ١٠٨)، وليس المقصود من النفي في قوله: «فليس منِّي»، وفي روايةٍ: «فليس منَّا» نفيه عن دين الإسلام، وإنما المراد: «تَرَك اتِّباعي وطريقتي في مناصحة الإخوان، إذ ليس هذا من أخلاقنا وأفعالنا»، [«شرح السنَّة» (٨/ ١٦٧)، «المجموع» لابن تيمية (٧/ ٥٢٥)].
(٧) «صحيح مسلم» (٥/ ١٥٦)، «سنن أبي داود» (٣/ ٦٧٢/ ٣٣٧٦).
(٨) كذا ذكره الحافظ في «الفتح» (٤/ ٣٦٢) منقولاً عن النسائي، ولعلَّه نقله بالمعنى، وإلاَّ فهذا لفظ الحميدي في «مسنده» (٢/ ٢٢٧)، ورواه المزني عن الشافعي -أيضًا- بهذه الزيادة [انظر: «مختصر المزني» (٨/ ١٨٠)].
(٩) اللِّقْحَة: الناقة القريبة العهد بالنتاج. [«النهاية» لابن الأثير (٤/ ٢٦٢)].
(١٠) التحفيل: التصرية. [«النهاية» لابن الأثير (١/ ٤٠٨)].
(١١) «سنن النسائي» بشرح السيوطي (٧/ ٢٥٢)، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (١/ ١٧١).
(١٢) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦١).
(١٣) ذهب داود الظاهري إلى عدم جواز التوسُّع في منطوق الحكم، فلا يُحمل النهي إلاَّ عن تصرية الإبل والغنم ولا يقاس عليهما شيءٌ بناءً على أصله في إبطال القياس.
(١٤) «صحيح البخاري» (٤/ ٣٦١).
(١٥) انظر: «عمدة القارئ» للعيني (١١/ ٢٧٠).
(١٦) «شرح النووي» (٥/ ١٦٢).
(١٧) «مفتاح الوصول» للشريف التلمساني (ط١) (٤٢١-٤٢٢).
(١٨) «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (٣/ ١١٨).
(١٩) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦٣).
(٢٠) «سنن أبي داود» (٣/ ٧٧٩)، «سنن النسائي» (٧/ ٢٥٥)، «سنن الترمذي» (٦/ ٢٨)، «سنن ابن ماجه» (٢/ ٧٥٤)، «مسند أحمد» (٦/ ٤٩)، والحديث حسَّنه الألباني في «الإرواء» (٥/ ١٥٨).
(٢١) ومن الصحابة من أفتى به كابن مسعودٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما، ولا مخالفَ لهما من الصحابة، وقال به من التابعين ومن بعدهم من لا يُحصى عدده، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦٤)، «المغني» لابن قدامة (٤/ ١٥٠).
(٢٢) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦٤).
(٢٣) «سنن أبي داود» (٣/ ٧٢٨)، «سنن ابن ماجه» (٢/ ٧٥٣)، وضعَّفه الألباني في «ضعيف أبي داود» (٣٤٤٦) و«ضعيف ابن ماجه» (٢٢٤٠).
(٢٤) انظر: «سبل السلام» للصنعاني (٢/ ٢٦).
(٢٥) خالف زفر من الحنفية في هذه المسألة وقال بقول الجمهور، إلاَّ أنه قال بأنه مخيَّرٌ بين صاعٍ من التمر أو نصف صاعٍ من البرِّ.
(٢٦) انظر: «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (٣/ ١٢٨)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦٥-٣٦٦)، «سبل السلام» للصنعاني (٢/ ٢٦-٢٨).
(٢٧) حديثٌ حسنٌ، سبق تخريجه، انظر: (هامش ٢٠).
(٢٨) أخرجه الدارقطني (٣/ ٧١)، البيهقي (٥/ ٢٩٠)، الحاكم في «المستدرك» (٢/ ٥٧) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا بلفظ: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الكَالِئِ بِالكَالِئِ»، وقال الحاكم: «صحيحٌ على شرط مسلمٍ» ووافقه الذهبي، والحديث إسناده ضعيفٌ، [انظر: «نصب الراية» للزيلعي (٤/ ٣٩)، «الدراية» لابن حجر (٢/ ١٥٧)،«إرواء الغليل» للألباني (٥/ ٢٢٠)]، قال الإمام أحمد : ليس في هذا حديثٌ يصحُّ، لكنَّ إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دينٍ بدينٍ، [انظر: «التلخيص الحبير» لابن حجر (٣/ ٢٦)].
(٢٩) انظر: «شرح معاني الآثار» للطحاوي (٤/ ٢١).
(٣٠) متَّفقٌ عليه: أخرجه البخاري (٤/ ٣٢٨) في «البيوع» باب البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، ومسلم في «البيوع» (١٥٣٢)، من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
(٣١) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦٤).
(٣٢) المصدر السابق، الصفحة نفسها.
(٣٣) «المغني» لابن قدامة (٤/ ١٠٤).
(٣٤) «المجروحين» لابن حبَّان (١/ ٢١٨)، «الميزان» للذهبي (١/ ٤٢١).
(٣٥) أخرجه مسلمٌ في «البيوع» (١٥٢٤)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٣٦) «النهاية» لابن الأثير (٢/ ٣٩٩).
(٣٧) «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (٣/ ١١٩).
(٣٨) انظر: «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (٣/ ١٢٣).
(٣٩) «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٢/ ٣٣٠).
(٤٠) نقلاً عن «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦٦).
(٤١) كالعامِّ الباقي على عمومه مثل قوله تعالى: ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا﴾، وقد أورد ابن تيمية -رحمه الله- عموماتٍ كثيرةً من القرآن الكريم لا مخصِّصَ لها، بل هي باقيةٌ على عمومها. [انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٦/ ٤٤٠-٤٤٥)].
(٤٢) انظر: «التبصرة» للشيرازي (١٣٥)، «المستصفى» للغزَّالي (٣/ ٣٢١)، «روضة الناظر» لابن قدامة (٢/ ١٦٦)، وقد أجيب بأنَّ مجرَّد الاحتمال لا ينفي القطعية بحجَّة أنَّ الخاصَّ قطعيٌّ مع أنه يحتمل المجازَ [انظر: «أصول السرخسي» (١/ ١٣٩)].
(٤٣) أخرجه الإمام أحمد (٥/ ١٨٣)، والدارمي في «سننه» (١/ ٧٥)، وأبو داود (٣٦٦٠)، وابن ماجه (١/ ٨٤) رقم: (٢٣٠)، والترمذي (٥/ ٣٣) رقم: (٢٦٥٦) وغيرهم. [«سلسلة الأحاديث الصحيحة» للألباني (٤٠٤)].
(٤٤) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٢٩٣)، «الإحكام» للآمدي (١/ ٢٧٦).
(٤٥) انظر: «توضيح الأفكار» للصنعاني (٢/ ١٩١)، وأضاف: « ... فإذا لم تُشترط في الراوي فأَوْلى أن لا تُشترط فيمن روى عنه أو من روى عنه راوٍ أيضًا».
(٤٦) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦٥).
(٤٧) «صحيح البخاري» (٤/ ٣٦١).
(٤٨) انظر: «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (٣/ ١٧٢)، «إرشاد الساري» للقسطلاني (٤/ ٤٣٥).
(٤٩) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٦٥)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٣٧٦).
(٥٠) انظر: «أصول الفقه» لأبو زهرة (١٢٥)، «أصول الفقه الإسلامي» بدران أبو العينين (٣٨١).
(٥١) «معالم السنن» للخطَّابي على هامش «سنن أبي داود» (٣/ ٧٢٤).
(٥٢) انظر: «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني (٣٦٣).
(٥٣) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٣٢٩).
المصدر..موقع الشيخ فركوس حفظه الله