الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي {بَعَثَ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُم الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} .
وأشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا شَهِدَ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَالْمَلَائِكَةُ، وَأُولُو الْعِلْمِ، قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العزيز الحكيم.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خَتَمَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ، وَهَدَى بِهِ أَوْلِيَاءَهُ، وَنَعَتَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيم. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم} . صلى الله عليه أفضل صلاة وأكمل تسليم. أمّا بعد :
فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَمْ يُؤْتُوا فِي دِينِهَا مِنْ شَيْء مَا أُوتُوا فِيهِ مِنْ قِبَلِ التَّكَلُّفِ وَالْجِدَالِ وَهُمَا دَاءُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَلَمْ يَأْتِيَا امْرَأً بِخَيْرٍ قَطُّ وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى أَنْهَى شَيْءٍ عَنْهُمَا امْرأ وَالرَّسُول الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَهُ الْخَلْقِ لَهُمَا وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقْبِضْ إِلَيْهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى خَارَ لَهُ وَأَغْنَى بِهِ وَأَكْمَلَ لَهُ الدِّينَ وَأَتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ فَتَرَكَ الْأُمَّةَ عَلَى وَاضِحَةٍ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا وَمَا مِنْ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا وَعِنْدَهَا فِيهِ مِنْ نَبِيِّهَا عِلْمٌ إِلَّا أَنْ يَضِلَّ عَبْدٌ عَمْدَ عَيْنٍ فَكَانَ مِنْ أَوَاخِرِ مَا أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآيَةَ.[1]
و إنه مما ابتلينا به اليوم ظهور من يهوى الجدال بالباطل و المراء في الدين و التكلّم بجهل في دين الله ربّ العالمين . و ممّا صحّ عنه عليه الصلاة و السلام في التحذير من هؤلاء قوله صلّى الله عليه و سلّم : ( إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ )[3] . قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " ( الأئمة المضلين ) أئمة الشر ، وصدق النبي -صلى الله عليه و سلم- ، إن أعظم ما يخاف على الأمة الأئمة المضلون ، كرؤساء الجهمية والمعتزلة وغيرهم الذين تفرقت الأمة بسببهم .ا.ه[4]
و ممّا يحزن له القلب اتّباع شبابنا لهذا الصّنف من المتكلّمين باسم الإعجاز -و إن كان في الحقيقة خرافات من صنعهم ليست إلا- و الذين -كما سبق الذِّكر- حذر منهم النبي عليه الصلاة و السلام قبل قرون و لعل أبرزهم هذا المدعو "علي منصور الكيّالي" الذي لم يجد كيف يشتهر بين العامّة حتى اتّخذ قاعدة "خالف تُعرف" فراح ينكر أمورا مقطوعا بصحّتها شرعا و عقلا ,متواترة الدليل , سليمة النّقل وذلك نتيجة خلطه بين الجهل بالشرع و سعيه إلى إثبات الغيبيات بأشياء ملموسة أحيانا و تأويلها و ردّها بعقله أحيانا أخرى لأنه و كما هو معلوم عند الجميع رجل فيزيائي مفكّر -ظهر قبل يومين- ليس له أدنى ذرّة فقه في دين الله ربّ العالمين .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في وصف أمثال"الكيّالي" : ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحاً ويدس البدع في كلامه وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله[5]
وكلام هذا وأمثاله يدلّ على أنهم بعيدون عن معرفة الصواب في هذا الباب، كأنهم غرباء عن دين الإسلام في مثل هذه المسائل لم يتدبّروا القرآن ولا عرفوا السنن ولا آثار الصحابة ولا التابعين ولا كلام أئمة المسلمين، وفي مثل هؤلاء قال النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» . فشريعة الإسلام في هذا الباب غريبة عند هؤلاء لا يعرفونها، فإن هذا وأمثاله لو كان عندهم علم بنوع من أنواع الأدلة الشرعية في هذا الباب لوزعهم ذلك عما وقعوا فيه من الضلال والابتداع ومخالفة دين المرسلين، والخروج عما عليه جميع أئمة الدين، مع ما فيه من الافتراء على الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم وعلى علماء المسلمين وعلى المجيب.[5-2]
فرأيت من باب قوله عليه الصلاة و السلام : ( الدِّينُ النَّصِيحَةُ ) قُلْنَا -أي الصحابة- لِمَنْ ؟ ، قال : ( لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ )[3] بيان حال هذا الرجل حِين اغْترَّ بمقالته قوم واقتدى ببدعه طَائِفَة وشككهم فِي اعْتِقَادهم و ظنّهم أَنه من جملَة دعاة السّنة . فَوَجَبَ حِينَئِذٍ كشف حَاله وَإِزَالَة حسن ظنهم فِيهِ ليزول عَنْهُم اغترارهم بقوله وينحسم الدَّاء بحسم سَببه فَإِن الشَّيْء يَزُول من حَيْثُ ثَبت . مبيّنا في نفس الوقت -إن شاء الله- وجه الصّواب بالردّ من كلام الأئمة على هذه التلبيسات و إن كانت في حقيقتها مجرد تخبّطات قد لا يسلم منها غالبا أمثاله ممن يتكلّمون في دين الله عز و جلّ بغير علم أو المتشبّعوم بما لم يعطَوا إن صحّ التعبير .
أوّلا و قبل كل شيء أردت أن أظهر للقارئ في بضعة أسطر خطورة أربعة أصول -أجملتها خشية الإطالة- يرتكز عليها "الكيّالي" في تقريره و استدلاله و فهمه :
الأصل الأول -و هو الطّامّة-: الجرأة في التكلم في دين الله - و بغير علم-
لأن "الكيّالي" كما لا يخفى على أحد مفكّر له دكتوراه في علم الفيزياء. لم يُعرف بطلب العلم الشرعي و لا النّظر فيه و لا أظنّه -مع ما يصدر منه من شطحات- استمع يوما إلى عالم من العلماء الربّانيّين . و إنّما ظهر البارحة فنصّب نفسه مفسّرا و داعية -وهو في الحقيقة يسلك مسلك المعتزلة العقلانيين...جهلا أم تعمّدا ؟! الله أعلم بذلك.
و التكلّم في دين الله بغير علم من أعظم المحرّمات فقد قال الله - جل جلاله – في محكم تنزيله : (( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ))
قال ابن القيم رحمه الله : رتب -أي الله عز و جلّ- المحرمات أربع مراتب :
وبدأ بأسهلها وهو الفواحش .
ثم ثَنَّى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم .
ثم ثَلَّث بما هو أعظم تحريما منها وهو الشرك به سبحانه .
ثم ربَّع ما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم ، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه . [5-3]
وقال تعالى: ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ).و غيرها من كتاب الله كثير في ذم هؤلاء المتفيهقين.
و تَعظُم الحُرمة و يشتد اللإثم أكثر باتباع النّاس لهذا المتكلم بجهل إذ كان سببا في غوايتهم فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال : ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ) رواه البخاري (100) ومسلم (2673) . و أي غواية يا "كيالي"و أيّ إضلال !! فقد أغويت الناس في معتقدهم -لا كثّر الله أمثالك- .
و قد تأمّلت في كلام الفيزيائيّ "الكيّالي" فرأيت كما رأى غيري جرأةٍ في الكلام في دينِ الله ، في مُدلهمّ المسائلِ و أكثرها تعقيدا ! فإنكَ تجدُ عجباً من تطاوله و تعالُمِه ! تجدهُ يأتيكَ بثقةٍ متحدثاً متمعلماً متعالماً ، ويقولُ في كلّ مسألةٍ رأيهُ دونَ معرفةٍ بكتابِ الله ولا بسنة ِ نبيّه – صلى الله عليهِ وسلّم – .
ولا أدري ممَّ استقى هذا المُتكلّم علمَه وكيفَ بنى رأيه ؟!
فإن من الناس من يكون عنده نوع من الدين؛ لكن مع جهل عظيم، فهؤلاء يتكلم أحدهم بلا علم؛ فيخطئ، ويخبر عن الأمور بخلاف ما هي عليه خبرا غير مطابق، ومن تكلم في الدين بغير الاجتهاد المسوغ له الكلام وأخطأ فإنه كاذب آثم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الذي في السنن عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة؛ رجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة). فهذا الذي يجهل وإن لم يتعمد خلاف الحق فهو في النار، بخلاف المجتهد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلّم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر). فهذا جعل له أجرا مع خطئه، لأنه اجتهد فاتقى الله ما استطاع، بخلاف من قضى بما ليس له به علم وتكلم بدون الاجتهاد المسوّغ له الكلام فإن هذا كما في الحديث عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» وفي رواية: «بغير علم» . وفي حديث جندب عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ومن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار» .[6]
الأصل الثاني : إعتماده على القرآن و إعراضه التامّ عن السنّة
فقد أظهر "الكيالي" من خلال الكثير من المقاطع المنشورة له أنّه يتبنّى منهج "القرآنيين" المعرضين عن السنّة تمام الإعراض.
و القرآنيون -حتى يعرف القارئ منهج الكيّالي- : هم طائفة ألغت السنّة كمصدر ثانٍ للتشريع و اعتمدت على القرآن وحده .حين تأوّلوا قول الله عز و جلّ على غير ما أراد سبحانه إنا نحن نزّلنا الذكر و ان له لحافظون ) و أغلبهم اليوم يتمركزون بالسودان .
أرى أن ننقل كلام أئمّة الشأن عن هذه الآية -التي دخليتهم الشّبهة منها- حتّى يتّضح مدى جهل هؤلاء بشرع الله تبارك و تعالى :
قال ابن جرير الطّبري -شيخ المفسّرين- : " يقول تعالى ذكره: ( "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ" وهو القرآن "وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" ) قال: ( و إنا للقرآن لحافظون) من أن يزاد فيه باطل ما ليس منه ، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه" تفسير ابن جرير (14/ 7)، وبهذا يتضح من دلالة الآية أن الله سبحانه تكفَّل بحفظ القرآن ، وهذا يستلزم منه حفظ السنة التي هي بيان للقرآن كما قال سبحانه: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" [النحل:44]؛
لأن المقصود حفظ الشريعة والدين، ولا يتحقق هذا على وجه الكمال والتمام إلا بحفظ السنة التي هي بيان للقرآن ، وقد دل على هذا قوله سبحانه: ( " إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرآنه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" )[القيامة: 18-19].[7] أي بيان القرآن وإيضاحه علينا، ويستلزم من ذلك حفظ هذا البيان ، وهو السنة. وقد حفظ الله السنة في صدور الصحابة- رضي الله عنهم- والتابعيين حتى بلغوها للأمة وكتبت ودُوِّنت في المصنفات، والمسانيد والمعاجم، وهيأ الله -سبحانه وتعالى- لهذه السنة جهابذة العلماء الذين بذلوا جهوداً عظيمة في حفظها من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وابتكروا وسائل وطرقاً تضمنت أصولاً وقواعد عرفت بعلوم الحديث، وهي في غاية الإتقان والإحكام يحصل من خلالها تمييز الصحيح من الضعيف والمحفوظ من المنكر والشاذ ، وإيضاح الأوهام والأخطاء التي توجد في الأسانيد والمتون، ومن أمعن النظر في تراجم أئمة الحديث، وتدبر ما آتاهم الله من قوة الحفظ وسداد الفهم والتفاني في خدمة السنة وحياطتها والذب عنها أدرك أن ذلك ثمرة حفظه تعالى لدينه وشريعته، ولكن لما كان القرآن معجزاً بألفاظه ومعانيه ومتعبداً بتلاوته جعل الله حفظه إليه ونُقل نقلاً متواتراً، وأما السنة فلم يقصد التعبد ولا الإعجاز بألفاظها فحفظها الله- سبحانه وتعالى- بتهيئة أولئك الأئمة الذين بذلوا جهوداً عظيمة في حفظها والذب عنها.[7-2]
و يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- أيضاً: (قال تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" )[الحجر: 9]، فما في تفسير القرآن أو نقل الحديث أو تفسيره من غلط فإن الله يقيم له من الأمة من يبينه ويذكر الدليل على غلط الغالط وكذب الكاذب، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة ولا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة إذ كانوا في آخر الأمم فلا نبي بعدهم ولا كتاب بعد كتابهم، وكانت الأمم قبلهم إذا بدَّلوا وغيروا بعث الله نبياً يبين لهم ويأمرهم وينهاهم ولم يكن بعد محمد -صلى الله عليه و سلم- نبي ، وقد ضمن الله أن يحفظ ما أنزله من الذكر، وأن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، بل أقام الله لهذه الأمة في كل عصر من يحفظ به دينه من أهل العلم والقرآن) [8]
ثمّ إنّي أقول "للكيّالي" : ألا ترى يا عبد الله -هدانا الله و إيّاك- أن القرآن أوجب طاعة الرسول -صلى الله عليه و سلم- فيما يقرب من مائة آية ، واعتبر طاعة الرسول -صلى الله عليه و سلم- من طاعة الله عز وجل ، وتوعد مخالف الرسول ومشاقته بالعذاب الشديد ، فقال تعالى : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً ) [سورة النساء/80 ]، وقال عز وجل : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ) [سورة النساء /65 ]، وقال عز وجل : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) [النساء/115 ]، وغير ذلك من الآيات .
و قال ابن كثير -رحمه الله- : هُوَ الْقُرْآن وَهُوَ الْحَافِظ لَهُ مِنْ التَّغْيِير وَالتَّبْدِيل وَمِنْهُمْ مَنْ أَعَادَ الضَّمِير فِي قَوْله تَعَالَى " لَهُ لَحَافِظُونَ " عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ " وَاَللَّه يَعْصِمك مِنْ النَّاس " وَالْمَعْنَى الْأَوَّل أَوْلَى وَهُوَ ظَاهِر السِّيَاق .[9]*و كذلك قال آخرون كابن عطيّة و القرطبي و الشوكاني و البغوي و غيرهم من المفسّرين -رحمهم الله-.
فلا يمتنع أن يكون كلاهما -أي القرآن أو النبي -صلى الله عليه و سلم- مرادا لأن المراد من حفظ النبيّ عليه الصلاة و السلام حفظه و حفظ سنّته التي هي وحي و شرع الله ربّ العالمين . و من هنا يتأكّد لك أخي القارئ مدى بطلان استدلال هؤلاء القوم بهذه الآية على إلغاء السنّة و اعتمادهم على القرآن وحده .
و أسوق لك أخي القارئ -يا رعاك الله- كلام بعض أئمّة المسلمين الذين لا يختلف في إمامتهم اثنان و لا يتناطح فيها عنزان (اللهمّ إن كان "الكيالي" لا يعتبِرها عنده كذلك فالله المستعان ..!) :
قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي -رحمه الله- فِي الرّسَالَة وَنَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمدْخل : " قد وضع الله رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من دينه وفرضه وَكتابه الْموضع الَّذِي أبان جلّ ثَنَاؤُهُ أَنه جعله علما لدينِهِ ، بِمَا افْترض من طَاعَته ، وَحرم من مَعْصِيَته وَأَبَان من فضيلته ، بِمَا قرن بَين الْإِيمَان بِرَسُولِهِ الْإِيمَان بِهِ ... فَفرض الله على النَّاس اتِّباع وحيه وَسنَن رَسُوله ، فَقَالَ فِي كِتَابه : ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ، مَعَ آي سواهَا ذكر فِيهِنَّ الْكتاب وَالْحكمَة .
ثُمّ قَالَ الشَّافِعِي : فَذكر الله الْكتاب ، وَهُوَ الْقُرْآن ، وَذكر الْحِكْمَة ، فَسمِعت من أرضاه من أهل الْعلم بِالْقُرْآنِ يَقُول : الْحِكْمَة سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم .
وَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) .. وَغَيرهَا من الْآيَات الَّتِي دلّت على اتِّبَاع أمره ، وَلُزُوم طَاعَته فَلَا يسع أحدا رد أمره لفرض الله طَاعَة نبيه .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رحمه الله -معلّقا- بعد إحكامه هَذَا الْفَصْل : وَلَوْلَا ثُبُوت الْحجَّة بِالسنةِ ، لما قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خطبَته بعد تَعْلِيم من شهده أَمر دينهم : ( أَلا فليبلغ الشَّاهِد مِنْكُم الْغَائِب ، فَرب مبلّغ أوعى من سامع ) ، ثمَّ أورد حَدِيث : ( نضر الله امْرَءًا سمع منا حَدِيثا فأداه كَمَا سَمعه ، فَرب مبلغ أوعى من سامع ) ، وَهَذَا الحَدِيث متواتر .
إِلى أَن قَالَ -أي الشَّافِعِي- : فَلَمَّا ندب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى اسْتِمَاع مقَالَته وحفظها وأدائها ، دلّ على أَنه لَا يَأْمر أن يؤدَّى عَنهُ إلاَّ مَا تقوم بِهِ الْحجَّة على من أدَّى إِلَيْهِ ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يؤدَّى عَنهُ حَلَال يُؤْتى ، وَحرَام يجْتَنب ، وحدّ يُقَام ، وَمَال يُؤْخَذ وَيُعْطى ، ونصيحة فِي دين وَدُنْيا .
ثمَّ أورد الْبَيْهَقِيّ -رحمه الله- من حَدِيث أبي رَافع قَالَ : قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم : ( لَا ألفيَنَّ أحدكُم مُتكئا على أريكته يَأْتِيهِ الْأَمر من أَمْرِي مِمَّا أمرت بِهِ أَو نهيت عَنهُ يَقُول : لَا أَدْرِي ، مَا وجدنَا فِي كتاب الله اتَّبعنَا ) [10]ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم : ( يُوشك أَن يقْعد الرجل على أريكته يحدث بحديثي فَيَقُول بيني وَبَيْنكُم كتاب الله فَمَا وجدنَا فِيهِ حَلَالا استحللناه ، وَمَا وجدنَا فِيهِ حَرَامًا حرمناه ، أَلا وَإِن مَا حرَّم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل مَا حرَّم الله ) ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ --رحمه الله-: وَهَذَا خبر من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّا يكون بعده من رد المبتدعة حديثَه ، فَوجدَ تَصْدِيقه فِيمَا بعده ". انتهى .
قال مَكْحُولٌ -رحمه الله- : الْقُرْآنُ إِلَى السُّنَّةِ أَحْوَجُ مِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْقُرْآنِ .[11]
و عَنْ حَسَّانِ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ) قال الهروي :زَادَ عِيسَى وَرَوْحٌ (وَيُعَلِّمُهُ إِيَّاهَا كَمَا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ ).[12]
و عَنْ مُجَاهِدٍ في قول الله تعالى : {فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} قَالَ : إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ .[13]
و قال الإمام الشاطبي -في معرض كلام له على أهمّية السنّة بالنّسبة للقرآن- : السنة راجعة في معناها إلى الكتاب فهي تفصيل مجمله وبيان مشكله وبسط مختصره وذلك لأنها بيان له وهو الذي دل عليه قوله تعالى ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) فلا تجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية وأيضا فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها فهو دليل على ذلك لأن الله قال : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) وفسرت عائشة -رضي الله عنها- ذلك بأن خُلُقَه القرآن واقتصرت في خلقه على ذلك فدل على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن لأن الخلق محصور .[14]
و في تحذير السّلف ممّن يردّ السنّة و يعتمد على القرآن وحده كما يصنع "الكيّالي" صحّ عن أبي قلابة -رحمه الله- أنه قال : إِذَا حَدَّثْتَ الرَّجُلَ بِالسُّنَّةِ فَقَالَ دَعْ ذَا وَهَاتِ كِتَابَ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ ضَالٌّ.[15]
و عَنْ أَيُّوبٍ السختياني -رحمه الله- أنه قَالَ :إِذَا سَمِعْتَ أَحَدَهُمْ يَقُولُ لَا نُرِيدُ إِلَا الْقُرْآنَ فَذَاكَ حِينَ تَرَكَ الْقُرْآنُ.[16]
و كما هو معلوم فإنّ حجّية السنّة قد دل عليها الكتاب و السنّة و الإجماع و ليس هذا محلّ بسط الكلام فيها . و من أراد مزيد فائدة فليرجع إلى هذا المقال الماتعٍ لعالِم الجزائر و شيخ شيوخها العلامة .د محمد علي فركوس -حفظه الله- فإنه كعادته أجاد و أفاد في هذا الموضوع -جزاه الله خيرا- : http://ferkous.com/home/?q=art-mois-107
الأصل الثالث : إعتماده على تفسير القرآن بالرّأي و إعراضه التامّ عن تفسير الصحابة و من تبعهم بإحسان .
فهاهو "الكيّالي" -ردّه الله إلى الصّواب- لم يكتف بإلغاء السنّة و الاعتماد المطلق على القرآن حتى راح يفسره بعقله و رأيه معرضا عن تفاسير الصحابة و التابعين ومن سار على هديهم فكأن لسان حاله يقول : "لسنا بحاجة إلى تفسيركم و لا نحن بحاجة إلى فهمهكم" كأنه لا يدري أن الوحي قد أنزل بين أظهرهم و هو -اي الكيالي- الذي ظهر قبل يومين بسبب نفخ الجهّال النّاعقين له.
و إنّي أتحدّى كل مفتون بهذا الفيزيائيّ أن يأتيني بمقطع قال فيه "الكيالي" في تفسيره لآية من كتاب الله عز و جلّ : ( قال ابن عباس أو ابن مسعود أو مجاهد أو غيرهم في تفسير الآية ...أو حتّى قال ابن جرير كذا أو قال ابن كثير كذا ...) و من لم ينتبه لهذا الأصل الذي ينتهجه "الكيّالي" فإنّي أبشّره بأنه معرضٌ أشدّ الإعراض عن تفسير السّلف مدمن على التّفسير بالرأي و تأويل النّصوص بالعقل على وفق ما يوافق أصول معتقد المعتزلة و من نحى نحوهم ممن حكّم العقل قبل الشرع .
و هذا بعينه ما أشار إليه الفاروق رضي الله عنه لما قال : ( إياكم و أصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم أحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلّوا و أضلّوا ) و في لفظ : ( أصبح أهل الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها و تفلتت منهم أن رووها فاشتقوا الرأي)[17]
كما أنه ( يجب أن يُعلم أن النبي ﷺ بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل: 44) ، يتناول هذا وهذا. ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جداً، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم. وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر. الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ).[18]
عن بقية بن الوليد قال : قال لي الأوزاعي : (( يا بقية : العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم، و ما لم يجيء عن أصحاب محمد فليس بعلم. يا بقية لا تذكر أحداً من أصحاب محمد نبيك صلى الله عليه و سلم إلا بخير و لا أحداً من أمتك. و إذا سمعت أحداً يقع في غيره فاعلم أنه إنما يقول أنا خير منه ))[19] انظر جيّدا يا "كيالي" في كلام إمام الشّام في زمانه الأوزاعي -رحمه الله- :"العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم" ..ليس ما جاء به عقلك ..! فتنبّه !
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: فمن قال في القرآن برأيه، فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أُمِر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ، لأنه لم يأتِ الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب.[20]
و قال أيضا -رحمه الله- بعد أن ذكر النوع الأول من سببي الإختلاف- مبيّنا سبب وقوع أمثال "الكيالي" في هذا الغلط : وأما النوع الثاني فهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان.
إحداهما: قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها.
والثانية: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلي المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به.
والأولون صنفان: تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه، وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به. وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعني باطلاً فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقا فيكون خطؤهم فيه في الدليل لا في المدلول.
والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأياً ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا من أئمة المسلمين، لا في رأيهم ولا في تفسيرهم.[21]
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- في شرحها :" وتفسير القرآن بالرأي : تارة يفسره الإنسان بحسب مذهبه ، كما يفعله أهل الأهواء . فيقول المراد بكذا وكذا ، كذا وكذا ، مما ينطبق على مذهبه ، وكذلك هؤلاء المتأخرون الذين فسروا القرآن بما وصلوا إليه من الأمور العلمية ، الفلكية أو الأرضية ، والقرآن لا يدل عليها ، فإنهم يكونون قد فسروا القرآن بآرائهم ، إذا كان القرآن لا يدل عليه ، لا بمقتضى النص ولا بمقتضى اللغة ، فهذا هو رأيهم ، ولا يجوز أن يفسر القرآن بهذا .
وكذلك أيضاً لو لم يكن عند الإنسان فهم للمعنى اللغوي ، ولا للمعنى الشرعي الذي تفسر به الآية ، فإنه إذا قال قولا بلا علم ، فيكون آثما ، كما لو أن أحداً من العامة فسر آية من القرآن الكريم على حسب فهمه ، من غير مستند - لا لغوي ولا شرعي- ، فإنه يكون حراماً عليه ذلك ؛ لأن مفسر القرآن يشهد على الله بأنه أراد كذا ، وهذا أمر خطير ، لأن الله حرّم علينا أن نقول عليه ما لا نعلم ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) الأعراف ( 33 ) ، فأي إنسان يقول على الله ما لا يعلم ، في معنى كلامه أو في شيء من أحكامه ، فقد أخطأ خطأ عظيماً " انتهى. [22]
قال "الشعبي" رحل "مسروق" إلى البصرة في تفسير آية فقيل له إن الذي يفسرها رحل إلى الشام فتجهز ورحل إليه حتى علم تفسيرها[23].
و قال ابن شوذب: حدثني يزيد بن أبي يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع.[24]
رحم الله الرجال.. !رحم الله الرّجال ..! انظر كيف كانت هِمَمُ من أنكرتَ -يا "كيالي"- جهودهم و و تجاهلتها عمداً و تعنّتا -هدانا الله و إياك- ... حتى تأتي أنت من بعيد تفسّر القرآن على وفق أصول عقلية لم يسبقك إليها إلا أفراخ المعتزلة و أهل الضّلال...فراجع نفسك و تنبّه!
الأصل الرّابع : تقديمه للعقل على النّقل خاصّة في الغيبيّات ( أو السمعيات كما سمّاها الأشعري و من تبعه)
و يا سبحان الله !!! فإنّ العقل يا "كيالي" حتى في الحاضر لا يدرك كل الحاضر، بل ربما يفكر الإنسان ويضرب أخماساً بأسداس ولا يتوصل للقرار الصحيح، ويكتشف بعد طول التفكير واتخاذ القرار وتنفيذه أنه كان قراراً خاطئاً، وربما حصل لمجموعة في مجلس إدارة شركة قرار جماعي يكتشفون بعده أن قرارهم كان خاطئاً، هذا في مجال الدنيا، فكيف إذا تدخل العقل في رد النصوص الصحيحة، كيف إذا تدخل في الغيب، الإيمان بالغيب واجب، وهو من أهم صفات المؤمن التي ذكرها الله في أول سورة البقرة ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) [سورة البقرة3]
و مردُّ فتنة هؤلاء إنما كان نتيجة تأصيلاتهم لأصول عقلية فُتنوا بها طويلاً وظنوها يقينيّات لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها! وثق كثيراً أن هذه الأصول التي وضع معظمها أسلاف هؤلاء العقلانيين الذين نراهم في كل عصر وآن هي المتكأ الوحيد لكل عقلاني جاء بعد أولئك القوم، مصداقاً لمن قال: لكل قومٍ وارث.
قال ابن قتيبة الدِّينَوري – رحمه الله - : ( وقد اعترض كتابَ اللّه بالطعن ملحدون ولغوا فيه وهجروا ، واتبعوا ( ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ) آل عمران/ 7 بأفهام كليلة ، وأبصار عليلة ، ونظر مدخول )-و هذه الأوصاف الثلاثة كلها تنطبق على "الكيالي" للأسف- ( فحرّفوا الكلام عن مواضعه ، وعدلوه عن سبله ، ثم قضوا عليه بالتّناقض والاستحالة واللّحن وفساد النّظم والاختلاف ، وأدلوا في ذلك بعلل ربما أمالت الضّعيف الغمر والحدث الغرّ ، واعترضت بالشبه في القلوب وقدحت بالشكوك في الصدور ، ولو كان ما نحلوا إليه على تقريرهم و تأوّلهم : لسبق إلى الطعن به من لم يزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يحتجّ عليه بالقرآن ، ويجعله العلَم لنبوّته ، والدليل على صدقه ويتحداه في موطن بعد موطن على أن يأتي بسورة من مثله ، وهم الفصحاء والبلغاء والخطباء والشعراء والمخصوصون من بين جميع الأنام بالألسنة الحداد واللّدد، في الخصام ، مع اللّب والنّهى وأصالة الرّأي ، وقد وصفهم اللّه بذلك في غير موضع من الكتاب ، و كانوا مرّة يقولون : هو سحر ، ومرة يقولون : هو قول الكهنة ، ومرة : أساطير الأولين ، ولم يحك اللّه تعالى عنهم - ولا بلغنا في شي ء من الروايات - أنهم جدبوه من الجهة التي جدبه منها الطاعنون ).[25]
و المتأمّل في المسائل التي يتكلّم فيها "الكيّالي" يرى أنّها -من أوّلها إلى آخرها- من الغرائب المحضة و من التكلّف في البحث عمّا لا فائدة في البحث عنه. فهل يعقل أن يشغل مؤمن موحّد نفسه بالبحث عن مكان الجنّة و النّار -فضلا عمّن يسمّونه عالما- ؟ هل يعقل هذا بالله عليكم !! أليس المطلوب إعداد العُدّة للفوز بالأولى و النّجاة من الثانية ؟ أين عقولكم -بصّرنا الله و إياكم- !! فالظّاهر أن "الفيزيائيّ" لم يجد كيف يشتهر إلا بتتبّع الغرائب و التكلّف المحض .و قد قال عليه الصلاة والسلام: "ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"[26].
و بهذا الصّدد قال شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه الله- : ومثل هذا القانون -تقديم العقل على النّقل- الذي وضعه هؤلاء يضع كل فريق لأنفسهم قانوناً فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعاً له، فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه.
وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم، وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل،كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات، فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن، وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم، وقد غلطوا في الرأي والعقل. فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء، ولكن النصارى يشبههم من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول، كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم، بخلاف بدعة الجهمية والفلاسفة -الذين يسلك "الكيّالي" مسلكهم - فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء وأولئك يظنون أن ما ابتدعوه هو المعروف من كلام الأنبياء، وأنه صحيح عندهم.[27]
أيسرّك أن تشابه النّصارى يا "كيّالي" ..؟!!
و قال -رحمه الله- أيضا : الأدلة العقلية الصحيحة البينة التي لا ريب فيها، بل العلوم الفطرية الضرورية توافق ما أخبرت به الرسل لا تخالفه، وأن الأدلة العقلية الصحيحة جميعها موافقة للسمع لا تخالف شيئا من السمع وهذا ـ ولله الحمد ـ قد اعتبرته فيما ذكره عامة الطوائف فوجدت كل طائفة من طوائف النظار أهل العقليات لا يذكر أحد منهم في مسألة ما دليلا صحيحا يخالف ما أخبرت به الرسل بل يوافقه، حتى الفلاسفة القائلين بقدم العالم كأرسطو وأتباعه: ما يذكرونه من دليل صحيح عقلي فإنه لا يخالف ما أخبرت به الرسل بل يوافقه، وكذلك سائر طوائف النظار من أهل النفي والإثبات لا يذكرن دليلا عقليا في مسألة إلا والصحيح منه موافق لا مخالف.[28]
و قد اعترف بقصور العقل ومحدوديته كثير من علماء المسلمين وغير المسلمين بل و حتّى الفلاسفة . فإليك يا "كيّالي" شيئا من تلك الإعترافات :
قال الفيلسوف كانت -أو كانط- : (يجب على العقل أن يقف في تصوره عند حد التجربة الحسية إذ لا يمكن لأفكارنا أن تمتد إلى كنه الأشياء ولبابها إلى الأشياء في أنفسها. فإذا ما حاولنا أن نعرفها بنفس الوسائل التي تعرف بها الظواهر –أي الزمان والمكان والسببية وغيرها– تورطنا في التناقض والخطأ ) [29] .
بنحو الكلام السابق ل"كانط" قال الفيلسوف "برجسون" الإنجليزي و غيرهما ممّن أقرّ بقصور العقل البشري و محدوديّته .
و هذا بعينه حال "الكيّالي" فإنّه لم يجد كيف يثبت الغيبيّات بأمور ملموسة حسيّة ممّا أدّى به إلى إنكارها و العياذ بالله .
و هذا الرازي مع فرط ذكائه يشكو حيرته وعجزه فيقول:
نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا .
فكم قد رأينا في رجال ودولة ... فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا والجبال جبال
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن [30]، أقرأ في الإثبات: (الرحمن على العرش استوى) . (إليه يصعد الكلم الطيب) .وأقرأ في النفي (ليس كمثله شيء) . (ولا يحيطون به علماً)
ثم قال: ((ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي)) [31] .
قد يقول قائل : من أين جاء التعارضُ في رأي البعضِ إذًا، واختلف الناس في العقائد والشرائع وتنازعوا وتفرَّقوا ، ما دام العقل لا يعارض النقل؟
إليك الجواب من كلام شيخ الإسلام ابن تيميّة . قال رحمه الله : "وقد تأمَّلت ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه، فوجدتُ ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة شبهاتٍ فاسدةً يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضِها الموافق للشرع، وهذا تأمَّلتُه في مسائل الأصول الكبار؛ كمسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر، والنبوات، والمعاد، وغير ذلك، ووجدتُ ما يُعلَم بصريح العقل لم يخالفه سمعٌ قط، بل السمعُ الذي يقال إنه يخالفه إما حديث موضوع أو دلالة ضعيفة، فلا يصلحُ أن يكون دليلاً لو تجرَّد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول؟ ونحن نعلم أن الرسل لا يُخبِرون بمجالات العقول، بل بمحارات "العقول، فلا يُخبِرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يُخبِرون بما يعجز العقل عن معرفته".[32]
و يقول الشاطبي -رحمه الله- : إن الله جعل للعقول في إدراكها حداً تنتهي إليه لا تتعداه. ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب. ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون. إذ لو كان كيف كان يكون؟ فمعلومات الله لا تتناهى. ومعلومات العبد متناهية. والمتناهي لا يساوي ما لا يتناهى.
وقد دخل في هذه الكلية ذوات الأشياء جملة وتفصيلاً. وصفاتها وأحوالها وأفعالها وأحكامها جملة وتفصيلاً. فالشيء الواحد من جملة الأشياء يعلمه الباري تعالى على التمام والكمال، بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أحواله ولا في أحكامه، بخلاف العبد فإن علمه بذلك الشيء قاصر ناقص سواء كان في تعقل ذاته أو صفاته أو أحواله أو أحكامه، وهو في الإنسان أمر مشاهد محسوس لا يرتاب فيه عاقل تُخرّجه التجربة إذا اعتبرها الإنسان في نفسه.[33]
و هذا المنهج الذي اتّخذه هؤلاء القوم -العقلانيين- و الذين اتّبع نهجهم "الكيّالي" قد أوردهم -اي تقيدمهم للعقل على النقل- المهالك كما قال شيخ الاسلام -رحمه الله : ولهذا آل الأمر بمن يسلك هذا الطريق إلي انهم لا يستفيدون من جهة الرسول شيئا من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الله تعالي وأفعاله بل وباليوم الآخر عند بعضهم لاعتقادهم أن هذه فيها ما يرد بتكذيب أو تأويل وما لا يرد وليس لهم قانون يرجعون إليه في هذا الأمر من جهة الرسالة بل هذا يقول : ما أثبته عقلك فأثبته وإلا فلا وهذا يقول : ما أثبته كشفك فأثبته وإلا فلا فصار وجود الرسول صلي الله عليه وسلم عندهم كعدمه في المطالب الإلهية وعلم الربوبية بل وجوده ـ علي قولهم ـ أضر من عدمه لأنهم لم يستفيدوا من جهته شيئا واحتاجوا إلي أن يدفعوا ما جاء به : إما بتكذيب وإما بتفويض وإما بتأويل .[34]
واعلم -يا "كيّالي"- أن أهل الحق لا يطعنون في جنس الأدلة العقلية ولا فيما علم العقل صحته وإنما يطعنون فيما يدعي المعارض أنه يخالف الكتاب والسنة وليس في ذلك ـ ولله الحمد ـ دليل صحيح في نفس الأمر ولا دليل مقبول عند عامة العقلاء ولا دليل لم يقدح فيه بالعقل وحينئذ فنقول في : إن كل ما عارض الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده وإن لم يعارض العقل وما علم فساده بالعقل لا يجوز أن يعارض به لا عقل ولا شرع . وهذه الجملة تفصيلها هو الكلام علي حجج المخالفين للسنة من أهل البدع بأن نبين بالعقل فساد تلك الحجج وتناقضها وهذا ـ ولله الحمد ـ مازال الناس يوضحونه ومن تأمل ذلك وجد في المعقول مما يعلم به فساد المعقول المخالف للشرع ما لا يعلمه إلا الله.
ثمّ إن الأمور السمعية التي يقال : إن العقل عارضها كإثبات الصفات والمعاد ( -كما هو حال الكيالي فإنه كما سيأتي يردّ أخبار الصّراط و الميزان و غيرهما بل و لا يعتبرها أصلا - ) ونحو ذلك هي مما علم بالاضطرار أن الرسول صلي الله عليه وسلم جاء بها وما كان معلوما بالاضطرار من دين الإسلام امتنع أن يكون باطلا مع كون الرسول رسول الله حقا فمن قدح في ذلك وادعي أن الرسول لم يجيء به كان قوله معلوم الفساد بالضرورة من دين المسلمين [35]
علم العليم وعقل العاقل اختلفا *** من ذا الذي فيهما قد أحرز الشرفا
فالعلم قال: أنا أحرزت غايته *** والعقل قال: أنا الرحمن بي عرفا
فأفصح العلم إفصاحاً وقال له *** بأينا الله في فرقانه اتصفا
بالعقل أو بالعلم؟
فأيقن العقل أن العلم سيده *** فقبل العقل رأس العلم وانصرفا
ويُشير شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - إلى أنَّ الأدلَّة العقلية من الأدلَّة التي قررها القرآن العظيم والسُّنَّة النبوية المطهرة، حيث قال: والكتاب والسُّنَّة يدلُّ بالإخبار تارة، ويدل بالتنبيه تارة، والإرشاد والبيان للأدلة العقلية تارة. وخلاصة ما عند أرباب النظر العقلي في الإلهيات من الأدلَّة اليقينية والمعارف الإلهية قد جاء به الكتاب والسُّنَّة، مع زيادات وتكميلات لم يهتد إليها إلا من هداه الله بخطابه، فكان فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأدلَّة العقلية والمعارف اليقينية فوق ما في عقول جميع العقلاء من الأولين والآخرين[35-2].
و نحن لا نلغي دور العقل في الجملة يا "كيّالي" فهو كما هو معلوم عن الصّغير و الكبير آلة التدبّر و التفكّر في ملكوت ربّ الأرض و السماوات . كما أنه مناط التّكليف . به يكون التمير للحقّ من الباطل به و قد أثنى الله عز و جلّ -في غيرما موضع من كتابه -على أولي العقول النيّرة التي يستعملونها في مكانها لا كاستعمالك لها أنت و أمثالك. وكذلك عاب على الكفار عدم التعقل بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]و قال الله - تعالى -: {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: ٣]، وقال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 67]، وقال: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} [طه: 54].
.
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -:"ومَن كان مسلوبَ العقل أو مجنونًا، فغايتُه أن يكون القلم رفع عنه، فليس عليه عقاب،ولا يصح إيمانُه ولا صلاته ولا صيامه، ولا شيء من أعماله، فإن الأعمال كلها لا تقبل إلا مع العقل، فمَن لا يعقل لا يصح شيء من عبادته، لا فرائضه ولا نوافله؛ ولهذا قال - تعالى -: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) [طه: 128]؛ أي: العقول.وقال - تعالى -: ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ) [الأنفال: 22].
وقال - تعالى -: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف: 2].
إنما مدح الله وأثنى على مَن كان له عقل، فأما مَن لا يعقل، فإن الله لم يحمَدْه ولم يُثنِ عليه، ولم يذكره بخير قط، بل قال - تعالى - عن أهل النار: ( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيأَصْحَابِ السَّعِيرِ ) [الملك: 10]".[36]
و العلم كما قال-رحمه الله- : إما نقل مصدق عن معصوم، إما قول عليه دليل معلوم، وما سوى ذلك فإما مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود.[37]
فإن كانَ سلفنا و علماؤنا توصّلوا لأحكام أصولِ الدين وأسسِ العقيدةِ وعُضْلِ المسائلِ وكِبارِها دونما جُهدٍ ، فما فائدة ُ العلم ! حتى تأتي أنت من بعيد تفسر برأيك و تنكر الغيبيات و تلغي السنّة و تقدّم عقله على نصوص الشرع ووو...فاتّق الله يا عبد الله ! و الزم حدّك و غرز علمائك و سلفك و دعك من السّعي وراء الشّهرة فإنّها مجلَبة للرياء قاصمة للظهور ..
لا تثريب على فلاسفة اليونان والغرب! الذين ضلوا مع قوة عقولهم وذكائهم، ولكن كما قال الإمام الذهبي ((لعن الله الذكاء بلا إيمان ورضي الله عن البلادة مع التقوى)) [37-2] .ولكن اللوم والأسى على من أنار الله بصيرته بالقرآن و السنّة .فأبى إلّا أن يعرض عنهما . فإنا لله و إنا إليه راجعون..
و لعلّك ترى يا "كيالي" أنّه قد لزم من منهجك هذا الذي أجملناه في أربعة أصول عدّة أمور أبرزها :
أوّلا أنّه لا حاجة للسنّة و هذا اعتراض على علم الله و طعن في نبيّه -صلى الله عليه و سلّم- و صحابته -نسأل الله العافية- .
ثانيا أنه لا فائدة في حفظ الصّحابة لأنك كما سبق لا تعتدّ بتفاسيرهم و علمهم و هذا طعن في اصطفاء الله لهم كما في الحديث -رضوان الله عليهم- .
ثالثا أنّه لا حاجة للناس في طلب العلم الشرعي و تعلم دينهم ما دام كل واحد منهم يستطيع أن يفسّر القرآن برأيه و يثبت ما أراد و ينكر ما أراد و هذا فيه من نسبة النقص لله تعالى الشيء الكثير -عافانا الله- .
و هذه بعض الطّوام التي أتى بها -هداه الله- :
تحديده لموقع الجنة و النار -زعماً- .
انكاره لعذاب القبر و نعيمة و حياة البرزخ عموما .
انكاره لوجود قوم يسمّون يأجوج و مأجوج .
إنكاره لخلق الله عز و جل السماوات و الأرض في ستة أيام .
إنكاره للصّراط يوم القيامة .
أنكاره لحقيقة الميزان .
و من أمعن النّظر في جملة هذه الإنكارات و التخرّصات فإنه ولا شكّ يلاحظ أن "الكيالي" ردّها لكونها غيبيات لا تستند لشيء مادّي ملموس و هو الذي يعتمد عليه علم الفيزياء للتصديق بحقائق الأمور. فانظر يا "كيّالي" أين جرّك علمك و أين أوردك -بئس الورد المورود- ؟!!...و إنّا نعلم -في المقابل- من نبغ في هذا العلم غير أنه لم يخرّف عليه عقله بخلط هذا العلم (الفيزياء) مع الدين كما هو الحال معك -هدانا الله و إيّاك- .
فالواجب عليك يا "كيّالي" ان تتعلّم التسليم للنصوص الثابتة في أمور الغيب فتؤمن بها ، ولا تقيسها بمقياس أهل الدنيا قال تعالى : ( ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) فما علمناه منها نقول به ، وما لم نعلمه فالله يعلمه ، ولا نتكلف علم ما لم نعلم .و قد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- : "نهينا عن التكلّف".[38]
و اعْلَم أَن مَذْهَب أهل السّنة أَن الْعقل لَا يُوجب شَيْئا عَلَى أحد، وَلَا يدْفع شَيْئا عَنهُ، وَلَا حَظّ لَهُ فِي تَحْلِيل أَو تَحْرِيم، وَلَا تَحْسِين وَلَا تقبيح، وَلَو لم يرد السّمع مَا وَجب عَلَى أحد شَيْء، وَلَا دخلُوا فِي ثَوَاب وَلَا عِقَاب، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} ،وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِكَايَة عَنِ الْمَلَائِكَة فِيمَا خاطبوا بِهِ أهل النَّار: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يومكم هَذَا قَالُوا بلَى} فَأَقَامَ الْحجَّة عَلَيْهِم ببعثة الرُّسُل فَلَو كَانَت الْحجَّة لَازِمَة بِنَفس الْعقل لم تكن بعثة الرُّسُل شرطا لوُجُوب الْعقُوبَة.[38-2]
فهذه القواعد الفاسدة هي التي حملت "الكيّالي" و سابقيه على تلك التأويلات الباطلة لأنهم رأوها لا تلائم نصوص الوحي بل بينها وبينها الحرب العوان فأجهدوا أنفسهم وكدوا خواطرهم في الصلح وزعموا أن ذلك إحسان وتوفيق وكأن الله سبحانه أنزل هذه الآيات في شأنهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء63-60].[39]
أما أهل السّنة المتبعون للآثار السالكون طَرِيق السّلف الأخيار فَمَا عَلَيْهِم غَضَاضَة وَلَا يلحقهم عَار . مِنْهُم الْعلمَاء الْعَامِلُونَ وَمِنْهُم الْأَوْلِيَاء والصالحون وَمِنْهُم الأتقياء الْأَبْرَار والأصفياء والأخيار أهل الولايات والكرامات وَأهل الْعِبَادَات والاجتهادات بذكرهم تزين الْكتب والدفاتر وأخبارهم تحسن المحافل والمحاضر تحيا الْقُلُوب بِذكر أخبارهم وَتحصل السَّعَادَة باقتفاء آثَارهم بهم قَامَ الدّين وَبِه قَامُوا وبهم نطق الْكتاب وَبِه نطقوا .
(ذهبت دولة أَصْحَاب الْبدع ... ووهى حبلهم ثمَّ انْقَطع)
(وتداعى بانصداع شملهم ... حزب إِبْلِيس الَّذِي كَانَ جمع)
(هَل لكم بِاللَّه فِي بدعتكم ... من فَقِيه أَو إِمَام يتبع).
(مثل سُفْيَان أخي الثَّوْريّ الَّذِي ... علم النَّاس خفيات الْوَرع)
(أَو سُلَيْمَان أخي التيم الَّذِي ... هجر النّوم لهول المطلع)
(أَو إِمَام الْحَرَمَيْنِ مَالِكًا ... ذَلِك الْبَحْر الَّذِي لَا ينتزع)
(أَو فَقِيه الشَّام أوزاعيها ... ذَاك لَو قارعه القرا قرع)
(أَو فَتى الْإِسْلَام أَعنِي أحمدا ... ذَاك حصن الدّين إِن حصن منع)
(لم يخف سوطهم إِذْ خوفوا ... لَا وَلَا سيفهم حِين لمع)
أما هُوَ حزبه من أهل الْكَلَام فَمَا ذكرهم إِلَّا ذمّهم والتحذير مِنْهُم والتنفير من مجالستهم وَالْأَمر بمباينتهم وهجرانهم وَترك النّظر فِي كتبهمْ لَا يثبت لأحد مِنْهُم قدم فِي الْولَايَة وَلَا يقوم لَهُم فِي الصَّالِحين راية وَلَا يكون لأحد مِنْهُم كَرَامَة وَلَا يرَوْنَ رَبهم فِي الْآخِرَة وَلَا كرامه يكذبُون بكرامات الصَّالِحين وَيُنْكِرُونَ نعْمَة الله على عباده الْمُؤمنِينَ فهم فِي الدُّنْيَا ممقوتون وَفِي الْآخِرَة معذبون لَا يفلح مِنْهُم أحد وَلَا يوفق لاتباع رشد .[40]
الخلاصة، أن "الكيالي" و أصحابه تجدهم يستظلون دوماً بمظلة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة, فيمررون من خلالها ما يشاءون من أباطيل بحجة أن هذا مثبت علمياً، و قد شهد له إما القرآن و إما السنة ,فوجدوا علم الفيزياء للأسف أرضا خصبة لمُروّجي هذه الخرافات لعدة أسباب:
1- أنها علم غنيّ بالقوانين والمصطلحات التي تُفسّر الظواهر الطبيعية، كالموجات، والطاقات والأطياف..إلى آخره.
2- الفيزياء تمتلك طابعا معقّد لغير المتخصصين بها، لذلك فإنه من السهل تلفيق مبرر علمي لأي فكرة باستخدام إحدى المصطلحات غير المفهومة، وبالتأكيد لن يستطيع غير المتخصصين مجادلتهم أو التشكيك فيهم.. فالرونق المعقد للتبرير العلمي يترك لدى الناس انطباع المصداقية.
3- لا توجد محاولات جدية من الفيزيائيين في العالم الغربي لدحض هذه الخرافات، إما لانشغالهم بالواقع والمعامل، أو لأنهم يعتبرون الحديث في الروحانيات أمر لا يستحق إضاعة الوقت. مع ذلك بدأت تظهر فئة فيزيائية تستند على فرضيات لترويج الإشاعات. إما طمعاً في الشهرة -كما هو حال الكيالي-، أو لطباعة كتاب يحقق أعلى المبيعات، أو غير ذلك .
أتمنّى أخي القارئ بعد قراءتك لهذه السّطور -التي حاولت فيها الإيجاز قدر المستطاع- أنّك قد أدركت مدى خطورة هذه الأصول التي يعتمدها "الكيالي" -هدانا الله و إيّاه- في إضلال النّاس .
فهذه مقدّمة أحببت أن أبيّن فيها أصول منهج المدعو "الكيّالي" في التّقرير و الإستدلال عسى أن يسهُل فيما بعد إيصال الهدف المرجوّ -إلى القارئ- من السّطور القادمة -إن شاء الله-.
و الله المستعان وحده و هو الهادي إلى سواء السّبيل.
و صلى الله و سلّم على نبيّنا محمد و على آله و صحبه أجمعين .
كتبه: أبو أيوب صهيب زين البسكري الجزائري
التاريخ 1 شوال 1437
الهامشوأشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا شَهِدَ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَالْمَلَائِكَةُ، وَأُولُو الْعِلْمِ، قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العزيز الحكيم.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خَتَمَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ، وَهَدَى بِهِ أَوْلِيَاءَهُ، وَنَعَتَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيم. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم} . صلى الله عليه أفضل صلاة وأكمل تسليم. أمّا بعد :
فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَمْ يُؤْتُوا فِي دِينِهَا مِنْ شَيْء مَا أُوتُوا فِيهِ مِنْ قِبَلِ التَّكَلُّفِ وَالْجِدَالِ وَهُمَا دَاءُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَلَمْ يَأْتِيَا امْرَأً بِخَيْرٍ قَطُّ وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى أَنْهَى شَيْءٍ عَنْهُمَا امْرأ وَالرَّسُول الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَهُ الْخَلْقِ لَهُمَا وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقْبِضْ إِلَيْهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى خَارَ لَهُ وَأَغْنَى بِهِ وَأَكْمَلَ لَهُ الدِّينَ وَأَتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ فَتَرَكَ الْأُمَّةَ عَلَى وَاضِحَةٍ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا وَمَا مِنْ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا وَعِنْدَهَا فِيهِ مِنْ نَبِيِّهَا عِلْمٌ إِلَّا أَنْ يَضِلَّ عَبْدٌ عَمْدَ عَيْنٍ فَكَانَ مِنْ أَوَاخِرِ مَا أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآيَةَ.[1]
و إنه مما ابتلينا به اليوم ظهور من يهوى الجدال بالباطل و المراء في الدين و التكلّم بجهل في دين الله ربّ العالمين . و ممّا صحّ عنه عليه الصلاة و السلام في التحذير من هؤلاء قوله صلّى الله عليه و سلّم : ( إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ )[3] . قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " ( الأئمة المضلين ) أئمة الشر ، وصدق النبي -صلى الله عليه و سلم- ، إن أعظم ما يخاف على الأمة الأئمة المضلون ، كرؤساء الجهمية والمعتزلة وغيرهم الذين تفرقت الأمة بسببهم .ا.ه[4]
و ممّا يحزن له القلب اتّباع شبابنا لهذا الصّنف من المتكلّمين باسم الإعجاز -و إن كان في الحقيقة خرافات من صنعهم ليست إلا- و الذين -كما سبق الذِّكر- حذر منهم النبي عليه الصلاة و السلام قبل قرون و لعل أبرزهم هذا المدعو "علي منصور الكيّالي" الذي لم يجد كيف يشتهر بين العامّة حتى اتّخذ قاعدة "خالف تُعرف" فراح ينكر أمورا مقطوعا بصحّتها شرعا و عقلا ,متواترة الدليل , سليمة النّقل وذلك نتيجة خلطه بين الجهل بالشرع و سعيه إلى إثبات الغيبيات بأشياء ملموسة أحيانا و تأويلها و ردّها بعقله أحيانا أخرى لأنه و كما هو معلوم عند الجميع رجل فيزيائي مفكّر -ظهر قبل يومين- ليس له أدنى ذرّة فقه في دين الله ربّ العالمين .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في وصف أمثال"الكيّالي" : ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحاً ويدس البدع في كلامه وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله[5]
وكلام هذا وأمثاله يدلّ على أنهم بعيدون عن معرفة الصواب في هذا الباب، كأنهم غرباء عن دين الإسلام في مثل هذه المسائل لم يتدبّروا القرآن ولا عرفوا السنن ولا آثار الصحابة ولا التابعين ولا كلام أئمة المسلمين، وفي مثل هؤلاء قال النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» . فشريعة الإسلام في هذا الباب غريبة عند هؤلاء لا يعرفونها، فإن هذا وأمثاله لو كان عندهم علم بنوع من أنواع الأدلة الشرعية في هذا الباب لوزعهم ذلك عما وقعوا فيه من الضلال والابتداع ومخالفة دين المرسلين، والخروج عما عليه جميع أئمة الدين، مع ما فيه من الافتراء على الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم وعلى علماء المسلمين وعلى المجيب.[5-2]
فرأيت من باب قوله عليه الصلاة و السلام : ( الدِّينُ النَّصِيحَةُ ) قُلْنَا -أي الصحابة- لِمَنْ ؟ ، قال : ( لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ )[3] بيان حال هذا الرجل حِين اغْترَّ بمقالته قوم واقتدى ببدعه طَائِفَة وشككهم فِي اعْتِقَادهم و ظنّهم أَنه من جملَة دعاة السّنة . فَوَجَبَ حِينَئِذٍ كشف حَاله وَإِزَالَة حسن ظنهم فِيهِ ليزول عَنْهُم اغترارهم بقوله وينحسم الدَّاء بحسم سَببه فَإِن الشَّيْء يَزُول من حَيْثُ ثَبت . مبيّنا في نفس الوقت -إن شاء الله- وجه الصّواب بالردّ من كلام الأئمة على هذه التلبيسات و إن كانت في حقيقتها مجرد تخبّطات قد لا يسلم منها غالبا أمثاله ممن يتكلّمون في دين الله عز و جلّ بغير علم أو المتشبّعوم بما لم يعطَوا إن صحّ التعبير .
أوّلا و قبل كل شيء أردت أن أظهر للقارئ في بضعة أسطر خطورة أربعة أصول -أجملتها خشية الإطالة- يرتكز عليها "الكيّالي" في تقريره و استدلاله و فهمه :
الأصل الأول -و هو الطّامّة-: الجرأة في التكلم في دين الله - و بغير علم-
لأن "الكيّالي" كما لا يخفى على أحد مفكّر له دكتوراه في علم الفيزياء. لم يُعرف بطلب العلم الشرعي و لا النّظر فيه و لا أظنّه -مع ما يصدر منه من شطحات- استمع يوما إلى عالم من العلماء الربّانيّين . و إنّما ظهر البارحة فنصّب نفسه مفسّرا و داعية -وهو في الحقيقة يسلك مسلك المعتزلة العقلانيين...جهلا أم تعمّدا ؟! الله أعلم بذلك.
و التكلّم في دين الله بغير علم من أعظم المحرّمات فقد قال الله - جل جلاله – في محكم تنزيله : (( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ))
قال ابن القيم رحمه الله : رتب -أي الله عز و جلّ- المحرمات أربع مراتب :
وبدأ بأسهلها وهو الفواحش .
ثم ثَنَّى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم .
ثم ثَلَّث بما هو أعظم تحريما منها وهو الشرك به سبحانه .
ثم ربَّع ما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم ، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه . [5-3]
وقال تعالى: ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ).و غيرها من كتاب الله كثير في ذم هؤلاء المتفيهقين.
و تَعظُم الحُرمة و يشتد اللإثم أكثر باتباع النّاس لهذا المتكلم بجهل إذ كان سببا في غوايتهم فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال : ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ) رواه البخاري (100) ومسلم (2673) . و أي غواية يا "كيالي"و أيّ إضلال !! فقد أغويت الناس في معتقدهم -لا كثّر الله أمثالك- .
و قد تأمّلت في كلام الفيزيائيّ "الكيّالي" فرأيت كما رأى غيري جرأةٍ في الكلام في دينِ الله ، في مُدلهمّ المسائلِ و أكثرها تعقيدا ! فإنكَ تجدُ عجباً من تطاوله و تعالُمِه ! تجدهُ يأتيكَ بثقةٍ متحدثاً متمعلماً متعالماً ، ويقولُ في كلّ مسألةٍ رأيهُ دونَ معرفةٍ بكتابِ الله ولا بسنة ِ نبيّه – صلى الله عليهِ وسلّم – .
ولا أدري ممَّ استقى هذا المُتكلّم علمَه وكيفَ بنى رأيه ؟!
فإن من الناس من يكون عنده نوع من الدين؛ لكن مع جهل عظيم، فهؤلاء يتكلم أحدهم بلا علم؛ فيخطئ، ويخبر عن الأمور بخلاف ما هي عليه خبرا غير مطابق، ومن تكلم في الدين بغير الاجتهاد المسوغ له الكلام وأخطأ فإنه كاذب آثم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الذي في السنن عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة؛ رجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة). فهذا الذي يجهل وإن لم يتعمد خلاف الحق فهو في النار، بخلاف المجتهد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلّم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر). فهذا جعل له أجرا مع خطئه، لأنه اجتهد فاتقى الله ما استطاع، بخلاف من قضى بما ليس له به علم وتكلم بدون الاجتهاد المسوّغ له الكلام فإن هذا كما في الحديث عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» وفي رواية: «بغير علم» . وفي حديث جندب عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ومن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار» .[6]
الأصل الثاني : إعتماده على القرآن و إعراضه التامّ عن السنّة
فقد أظهر "الكيالي" من خلال الكثير من المقاطع المنشورة له أنّه يتبنّى منهج "القرآنيين" المعرضين عن السنّة تمام الإعراض.
و القرآنيون -حتى يعرف القارئ منهج الكيّالي- : هم طائفة ألغت السنّة كمصدر ثانٍ للتشريع و اعتمدت على القرآن وحده .حين تأوّلوا قول الله عز و جلّ على غير ما أراد سبحانه إنا نحن نزّلنا الذكر و ان له لحافظون ) و أغلبهم اليوم يتمركزون بالسودان .
أرى أن ننقل كلام أئمّة الشأن عن هذه الآية -التي دخليتهم الشّبهة منها- حتّى يتّضح مدى جهل هؤلاء بشرع الله تبارك و تعالى :
قال ابن جرير الطّبري -شيخ المفسّرين- : " يقول تعالى ذكره: ( "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ" وهو القرآن "وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" ) قال: ( و إنا للقرآن لحافظون) من أن يزاد فيه باطل ما ليس منه ، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه" تفسير ابن جرير (14/ 7)، وبهذا يتضح من دلالة الآية أن الله سبحانه تكفَّل بحفظ القرآن ، وهذا يستلزم منه حفظ السنة التي هي بيان للقرآن كما قال سبحانه: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" [النحل:44]؛
لأن المقصود حفظ الشريعة والدين، ولا يتحقق هذا على وجه الكمال والتمام إلا بحفظ السنة التي هي بيان للقرآن ، وقد دل على هذا قوله سبحانه: ( " إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرآنه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" )[القيامة: 18-19].[7] أي بيان القرآن وإيضاحه علينا، ويستلزم من ذلك حفظ هذا البيان ، وهو السنة. وقد حفظ الله السنة في صدور الصحابة- رضي الله عنهم- والتابعيين حتى بلغوها للأمة وكتبت ودُوِّنت في المصنفات، والمسانيد والمعاجم، وهيأ الله -سبحانه وتعالى- لهذه السنة جهابذة العلماء الذين بذلوا جهوداً عظيمة في حفظها من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وابتكروا وسائل وطرقاً تضمنت أصولاً وقواعد عرفت بعلوم الحديث، وهي في غاية الإتقان والإحكام يحصل من خلالها تمييز الصحيح من الضعيف والمحفوظ من المنكر والشاذ ، وإيضاح الأوهام والأخطاء التي توجد في الأسانيد والمتون، ومن أمعن النظر في تراجم أئمة الحديث، وتدبر ما آتاهم الله من قوة الحفظ وسداد الفهم والتفاني في خدمة السنة وحياطتها والذب عنها أدرك أن ذلك ثمرة حفظه تعالى لدينه وشريعته، ولكن لما كان القرآن معجزاً بألفاظه ومعانيه ومتعبداً بتلاوته جعل الله حفظه إليه ونُقل نقلاً متواتراً، وأما السنة فلم يقصد التعبد ولا الإعجاز بألفاظها فحفظها الله- سبحانه وتعالى- بتهيئة أولئك الأئمة الذين بذلوا جهوداً عظيمة في حفظها والذب عنها.[7-2]
و يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- أيضاً: (قال تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" )[الحجر: 9]، فما في تفسير القرآن أو نقل الحديث أو تفسيره من غلط فإن الله يقيم له من الأمة من يبينه ويذكر الدليل على غلط الغالط وكذب الكاذب، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة ولا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة إذ كانوا في آخر الأمم فلا نبي بعدهم ولا كتاب بعد كتابهم، وكانت الأمم قبلهم إذا بدَّلوا وغيروا بعث الله نبياً يبين لهم ويأمرهم وينهاهم ولم يكن بعد محمد -صلى الله عليه و سلم- نبي ، وقد ضمن الله أن يحفظ ما أنزله من الذكر، وأن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، بل أقام الله لهذه الأمة في كل عصر من يحفظ به دينه من أهل العلم والقرآن) [8]
ثمّ إنّي أقول "للكيّالي" : ألا ترى يا عبد الله -هدانا الله و إيّاك- أن القرآن أوجب طاعة الرسول -صلى الله عليه و سلم- فيما يقرب من مائة آية ، واعتبر طاعة الرسول -صلى الله عليه و سلم- من طاعة الله عز وجل ، وتوعد مخالف الرسول ومشاقته بالعذاب الشديد ، فقال تعالى : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً ) [سورة النساء/80 ]، وقال عز وجل : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ) [سورة النساء /65 ]، وقال عز وجل : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) [النساء/115 ]، وغير ذلك من الآيات .
و قال ابن كثير -رحمه الله- : هُوَ الْقُرْآن وَهُوَ الْحَافِظ لَهُ مِنْ التَّغْيِير وَالتَّبْدِيل وَمِنْهُمْ مَنْ أَعَادَ الضَّمِير فِي قَوْله تَعَالَى " لَهُ لَحَافِظُونَ " عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ " وَاَللَّه يَعْصِمك مِنْ النَّاس " وَالْمَعْنَى الْأَوَّل أَوْلَى وَهُوَ ظَاهِر السِّيَاق .[9]*و كذلك قال آخرون كابن عطيّة و القرطبي و الشوكاني و البغوي و غيرهم من المفسّرين -رحمهم الله-.
فلا يمتنع أن يكون كلاهما -أي القرآن أو النبي -صلى الله عليه و سلم- مرادا لأن المراد من حفظ النبيّ عليه الصلاة و السلام حفظه و حفظ سنّته التي هي وحي و شرع الله ربّ العالمين . و من هنا يتأكّد لك أخي القارئ مدى بطلان استدلال هؤلاء القوم بهذه الآية على إلغاء السنّة و اعتمادهم على القرآن وحده .
و أسوق لك أخي القارئ -يا رعاك الله- كلام بعض أئمّة المسلمين الذين لا يختلف في إمامتهم اثنان و لا يتناطح فيها عنزان (اللهمّ إن كان "الكيالي" لا يعتبِرها عنده كذلك فالله المستعان ..!) :
قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي -رحمه الله- فِي الرّسَالَة وَنَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمدْخل : " قد وضع الله رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من دينه وفرضه وَكتابه الْموضع الَّذِي أبان جلّ ثَنَاؤُهُ أَنه جعله علما لدينِهِ ، بِمَا افْترض من طَاعَته ، وَحرم من مَعْصِيَته وَأَبَان من فضيلته ، بِمَا قرن بَين الْإِيمَان بِرَسُولِهِ الْإِيمَان بِهِ ... فَفرض الله على النَّاس اتِّباع وحيه وَسنَن رَسُوله ، فَقَالَ فِي كِتَابه : ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ، مَعَ آي سواهَا ذكر فِيهِنَّ الْكتاب وَالْحكمَة .
ثُمّ قَالَ الشَّافِعِي : فَذكر الله الْكتاب ، وَهُوَ الْقُرْآن ، وَذكر الْحِكْمَة ، فَسمِعت من أرضاه من أهل الْعلم بِالْقُرْآنِ يَقُول : الْحِكْمَة سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم .
وَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) .. وَغَيرهَا من الْآيَات الَّتِي دلّت على اتِّبَاع أمره ، وَلُزُوم طَاعَته فَلَا يسع أحدا رد أمره لفرض الله طَاعَة نبيه .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رحمه الله -معلّقا- بعد إحكامه هَذَا الْفَصْل : وَلَوْلَا ثُبُوت الْحجَّة بِالسنةِ ، لما قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خطبَته بعد تَعْلِيم من شهده أَمر دينهم : ( أَلا فليبلغ الشَّاهِد مِنْكُم الْغَائِب ، فَرب مبلّغ أوعى من سامع ) ، ثمَّ أورد حَدِيث : ( نضر الله امْرَءًا سمع منا حَدِيثا فأداه كَمَا سَمعه ، فَرب مبلغ أوعى من سامع ) ، وَهَذَا الحَدِيث متواتر .
إِلى أَن قَالَ -أي الشَّافِعِي- : فَلَمَّا ندب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى اسْتِمَاع مقَالَته وحفظها وأدائها ، دلّ على أَنه لَا يَأْمر أن يؤدَّى عَنهُ إلاَّ مَا تقوم بِهِ الْحجَّة على من أدَّى إِلَيْهِ ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يؤدَّى عَنهُ حَلَال يُؤْتى ، وَحرَام يجْتَنب ، وحدّ يُقَام ، وَمَال يُؤْخَذ وَيُعْطى ، ونصيحة فِي دين وَدُنْيا .
ثمَّ أورد الْبَيْهَقِيّ -رحمه الله- من حَدِيث أبي رَافع قَالَ : قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم : ( لَا ألفيَنَّ أحدكُم مُتكئا على أريكته يَأْتِيهِ الْأَمر من أَمْرِي مِمَّا أمرت بِهِ أَو نهيت عَنهُ يَقُول : لَا أَدْرِي ، مَا وجدنَا فِي كتاب الله اتَّبعنَا ) [10]ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم : ( يُوشك أَن يقْعد الرجل على أريكته يحدث بحديثي فَيَقُول بيني وَبَيْنكُم كتاب الله فَمَا وجدنَا فِيهِ حَلَالا استحللناه ، وَمَا وجدنَا فِيهِ حَرَامًا حرمناه ، أَلا وَإِن مَا حرَّم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل مَا حرَّم الله ) ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ --رحمه الله-: وَهَذَا خبر من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّا يكون بعده من رد المبتدعة حديثَه ، فَوجدَ تَصْدِيقه فِيمَا بعده ". انتهى .
قال مَكْحُولٌ -رحمه الله- : الْقُرْآنُ إِلَى السُّنَّةِ أَحْوَجُ مِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْقُرْآنِ .[11]
و عَنْ حَسَّانِ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ) قال الهروي :زَادَ عِيسَى وَرَوْحٌ (وَيُعَلِّمُهُ إِيَّاهَا كَمَا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ ).[12]
و عَنْ مُجَاهِدٍ في قول الله تعالى : {فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} قَالَ : إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ .[13]
و قال الإمام الشاطبي -في معرض كلام له على أهمّية السنّة بالنّسبة للقرآن- : السنة راجعة في معناها إلى الكتاب فهي تفصيل مجمله وبيان مشكله وبسط مختصره وذلك لأنها بيان له وهو الذي دل عليه قوله تعالى ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) فلا تجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية وأيضا فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها فهو دليل على ذلك لأن الله قال : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) وفسرت عائشة -رضي الله عنها- ذلك بأن خُلُقَه القرآن واقتصرت في خلقه على ذلك فدل على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن لأن الخلق محصور .[14]
و في تحذير السّلف ممّن يردّ السنّة و يعتمد على القرآن وحده كما يصنع "الكيّالي" صحّ عن أبي قلابة -رحمه الله- أنه قال : إِذَا حَدَّثْتَ الرَّجُلَ بِالسُّنَّةِ فَقَالَ دَعْ ذَا وَهَاتِ كِتَابَ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ ضَالٌّ.[15]
و عَنْ أَيُّوبٍ السختياني -رحمه الله- أنه قَالَ :إِذَا سَمِعْتَ أَحَدَهُمْ يَقُولُ لَا نُرِيدُ إِلَا الْقُرْآنَ فَذَاكَ حِينَ تَرَكَ الْقُرْآنُ.[16]
و كما هو معلوم فإنّ حجّية السنّة قد دل عليها الكتاب و السنّة و الإجماع و ليس هذا محلّ بسط الكلام فيها . و من أراد مزيد فائدة فليرجع إلى هذا المقال الماتعٍ لعالِم الجزائر و شيخ شيوخها العلامة .د محمد علي فركوس -حفظه الله- فإنه كعادته أجاد و أفاد في هذا الموضوع -جزاه الله خيرا- : http://ferkous.com/home/?q=art-mois-107
الأصل الثالث : إعتماده على تفسير القرآن بالرّأي و إعراضه التامّ عن تفسير الصحابة و من تبعهم بإحسان .
فهاهو "الكيّالي" -ردّه الله إلى الصّواب- لم يكتف بإلغاء السنّة و الاعتماد المطلق على القرآن حتى راح يفسره بعقله و رأيه معرضا عن تفاسير الصحابة و التابعين ومن سار على هديهم فكأن لسان حاله يقول : "لسنا بحاجة إلى تفسيركم و لا نحن بحاجة إلى فهمهكم" كأنه لا يدري أن الوحي قد أنزل بين أظهرهم و هو -اي الكيالي- الذي ظهر قبل يومين بسبب نفخ الجهّال النّاعقين له.
و إنّي أتحدّى كل مفتون بهذا الفيزيائيّ أن يأتيني بمقطع قال فيه "الكيالي" في تفسيره لآية من كتاب الله عز و جلّ : ( قال ابن عباس أو ابن مسعود أو مجاهد أو غيرهم في تفسير الآية ...أو حتّى قال ابن جرير كذا أو قال ابن كثير كذا ...) و من لم ينتبه لهذا الأصل الذي ينتهجه "الكيّالي" فإنّي أبشّره بأنه معرضٌ أشدّ الإعراض عن تفسير السّلف مدمن على التّفسير بالرأي و تأويل النّصوص بالعقل على وفق ما يوافق أصول معتقد المعتزلة و من نحى نحوهم ممن حكّم العقل قبل الشرع .
و هذا بعينه ما أشار إليه الفاروق رضي الله عنه لما قال : ( إياكم و أصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم أحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلّوا و أضلّوا ) و في لفظ : ( أصبح أهل الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها و تفلتت منهم أن رووها فاشتقوا الرأي)[17]
كما أنه ( يجب أن يُعلم أن النبي ﷺ بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل: 44) ، يتناول هذا وهذا. ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جداً، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم. وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر. الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ).[18]
عن بقية بن الوليد قال : قال لي الأوزاعي : (( يا بقية : العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم، و ما لم يجيء عن أصحاب محمد فليس بعلم. يا بقية لا تذكر أحداً من أصحاب محمد نبيك صلى الله عليه و سلم إلا بخير و لا أحداً من أمتك. و إذا سمعت أحداً يقع في غيره فاعلم أنه إنما يقول أنا خير منه ))[19] انظر جيّدا يا "كيالي" في كلام إمام الشّام في زمانه الأوزاعي -رحمه الله- :"العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم" ..ليس ما جاء به عقلك ..! فتنبّه !
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: فمن قال في القرآن برأيه، فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أُمِر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ، لأنه لم يأتِ الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب.[20]
و قال أيضا -رحمه الله- بعد أن ذكر النوع الأول من سببي الإختلاف- مبيّنا سبب وقوع أمثال "الكيالي" في هذا الغلط : وأما النوع الثاني فهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان.
إحداهما: قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها.
والثانية: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلي المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به.
والأولون صنفان: تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه، وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به. وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعني باطلاً فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقا فيكون خطؤهم فيه في الدليل لا في المدلول.
والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأياً ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا من أئمة المسلمين، لا في رأيهم ولا في تفسيرهم.[21]
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- في شرحها :" وتفسير القرآن بالرأي : تارة يفسره الإنسان بحسب مذهبه ، كما يفعله أهل الأهواء . فيقول المراد بكذا وكذا ، كذا وكذا ، مما ينطبق على مذهبه ، وكذلك هؤلاء المتأخرون الذين فسروا القرآن بما وصلوا إليه من الأمور العلمية ، الفلكية أو الأرضية ، والقرآن لا يدل عليها ، فإنهم يكونون قد فسروا القرآن بآرائهم ، إذا كان القرآن لا يدل عليه ، لا بمقتضى النص ولا بمقتضى اللغة ، فهذا هو رأيهم ، ولا يجوز أن يفسر القرآن بهذا .
وكذلك أيضاً لو لم يكن عند الإنسان فهم للمعنى اللغوي ، ولا للمعنى الشرعي الذي تفسر به الآية ، فإنه إذا قال قولا بلا علم ، فيكون آثما ، كما لو أن أحداً من العامة فسر آية من القرآن الكريم على حسب فهمه ، من غير مستند - لا لغوي ولا شرعي- ، فإنه يكون حراماً عليه ذلك ؛ لأن مفسر القرآن يشهد على الله بأنه أراد كذا ، وهذا أمر خطير ، لأن الله حرّم علينا أن نقول عليه ما لا نعلم ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) الأعراف ( 33 ) ، فأي إنسان يقول على الله ما لا يعلم ، في معنى كلامه أو في شيء من أحكامه ، فقد أخطأ خطأ عظيماً " انتهى. [22]
قال "الشعبي" رحل "مسروق" إلى البصرة في تفسير آية فقيل له إن الذي يفسرها رحل إلى الشام فتجهز ورحل إليه حتى علم تفسيرها[23].
و قال ابن شوذب: حدثني يزيد بن أبي يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع.[24]
رحم الله الرجال.. !رحم الله الرّجال ..! انظر كيف كانت هِمَمُ من أنكرتَ -يا "كيالي"- جهودهم و و تجاهلتها عمداً و تعنّتا -هدانا الله و إياك- ... حتى تأتي أنت من بعيد تفسّر القرآن على وفق أصول عقلية لم يسبقك إليها إلا أفراخ المعتزلة و أهل الضّلال...فراجع نفسك و تنبّه!
الأصل الرّابع : تقديمه للعقل على النّقل خاصّة في الغيبيّات ( أو السمعيات كما سمّاها الأشعري و من تبعه)
و يا سبحان الله !!! فإنّ العقل يا "كيالي" حتى في الحاضر لا يدرك كل الحاضر، بل ربما يفكر الإنسان ويضرب أخماساً بأسداس ولا يتوصل للقرار الصحيح، ويكتشف بعد طول التفكير واتخاذ القرار وتنفيذه أنه كان قراراً خاطئاً، وربما حصل لمجموعة في مجلس إدارة شركة قرار جماعي يكتشفون بعده أن قرارهم كان خاطئاً، هذا في مجال الدنيا، فكيف إذا تدخل العقل في رد النصوص الصحيحة، كيف إذا تدخل في الغيب، الإيمان بالغيب واجب، وهو من أهم صفات المؤمن التي ذكرها الله في أول سورة البقرة ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) [سورة البقرة3]
و مردُّ فتنة هؤلاء إنما كان نتيجة تأصيلاتهم لأصول عقلية فُتنوا بها طويلاً وظنوها يقينيّات لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها! وثق كثيراً أن هذه الأصول التي وضع معظمها أسلاف هؤلاء العقلانيين الذين نراهم في كل عصر وآن هي المتكأ الوحيد لكل عقلاني جاء بعد أولئك القوم، مصداقاً لمن قال: لكل قومٍ وارث.
قال ابن قتيبة الدِّينَوري – رحمه الله - : ( وقد اعترض كتابَ اللّه بالطعن ملحدون ولغوا فيه وهجروا ، واتبعوا ( ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ) آل عمران/ 7 بأفهام كليلة ، وأبصار عليلة ، ونظر مدخول )-و هذه الأوصاف الثلاثة كلها تنطبق على "الكيالي" للأسف- ( فحرّفوا الكلام عن مواضعه ، وعدلوه عن سبله ، ثم قضوا عليه بالتّناقض والاستحالة واللّحن وفساد النّظم والاختلاف ، وأدلوا في ذلك بعلل ربما أمالت الضّعيف الغمر والحدث الغرّ ، واعترضت بالشبه في القلوب وقدحت بالشكوك في الصدور ، ولو كان ما نحلوا إليه على تقريرهم و تأوّلهم : لسبق إلى الطعن به من لم يزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يحتجّ عليه بالقرآن ، ويجعله العلَم لنبوّته ، والدليل على صدقه ويتحداه في موطن بعد موطن على أن يأتي بسورة من مثله ، وهم الفصحاء والبلغاء والخطباء والشعراء والمخصوصون من بين جميع الأنام بالألسنة الحداد واللّدد، في الخصام ، مع اللّب والنّهى وأصالة الرّأي ، وقد وصفهم اللّه بذلك في غير موضع من الكتاب ، و كانوا مرّة يقولون : هو سحر ، ومرة يقولون : هو قول الكهنة ، ومرة : أساطير الأولين ، ولم يحك اللّه تعالى عنهم - ولا بلغنا في شي ء من الروايات - أنهم جدبوه من الجهة التي جدبه منها الطاعنون ).[25]
و المتأمّل في المسائل التي يتكلّم فيها "الكيّالي" يرى أنّها -من أوّلها إلى آخرها- من الغرائب المحضة و من التكلّف في البحث عمّا لا فائدة في البحث عنه. فهل يعقل أن يشغل مؤمن موحّد نفسه بالبحث عن مكان الجنّة و النّار -فضلا عمّن يسمّونه عالما- ؟ هل يعقل هذا بالله عليكم !! أليس المطلوب إعداد العُدّة للفوز بالأولى و النّجاة من الثانية ؟ أين عقولكم -بصّرنا الله و إياكم- !! فالظّاهر أن "الفيزيائيّ" لم يجد كيف يشتهر إلا بتتبّع الغرائب و التكلّف المحض .و قد قال عليه الصلاة والسلام: "ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"[26].
و بهذا الصّدد قال شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه الله- : ومثل هذا القانون -تقديم العقل على النّقل- الذي وضعه هؤلاء يضع كل فريق لأنفسهم قانوناً فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعاً له، فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه.
وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم، وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل،كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات، فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن، وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم، وقد غلطوا في الرأي والعقل. فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء، ولكن النصارى يشبههم من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول، كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم، بخلاف بدعة الجهمية والفلاسفة -الذين يسلك "الكيّالي" مسلكهم - فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء وأولئك يظنون أن ما ابتدعوه هو المعروف من كلام الأنبياء، وأنه صحيح عندهم.[27]
أيسرّك أن تشابه النّصارى يا "كيّالي" ..؟!!
و قال -رحمه الله- أيضا : الأدلة العقلية الصحيحة البينة التي لا ريب فيها، بل العلوم الفطرية الضرورية توافق ما أخبرت به الرسل لا تخالفه، وأن الأدلة العقلية الصحيحة جميعها موافقة للسمع لا تخالف شيئا من السمع وهذا ـ ولله الحمد ـ قد اعتبرته فيما ذكره عامة الطوائف فوجدت كل طائفة من طوائف النظار أهل العقليات لا يذكر أحد منهم في مسألة ما دليلا صحيحا يخالف ما أخبرت به الرسل بل يوافقه، حتى الفلاسفة القائلين بقدم العالم كأرسطو وأتباعه: ما يذكرونه من دليل صحيح عقلي فإنه لا يخالف ما أخبرت به الرسل بل يوافقه، وكذلك سائر طوائف النظار من أهل النفي والإثبات لا يذكرن دليلا عقليا في مسألة إلا والصحيح منه موافق لا مخالف.[28]
و قد اعترف بقصور العقل ومحدوديته كثير من علماء المسلمين وغير المسلمين بل و حتّى الفلاسفة . فإليك يا "كيّالي" شيئا من تلك الإعترافات :
قال الفيلسوف كانت -أو كانط- : (يجب على العقل أن يقف في تصوره عند حد التجربة الحسية إذ لا يمكن لأفكارنا أن تمتد إلى كنه الأشياء ولبابها إلى الأشياء في أنفسها. فإذا ما حاولنا أن نعرفها بنفس الوسائل التي تعرف بها الظواهر –أي الزمان والمكان والسببية وغيرها– تورطنا في التناقض والخطأ ) [29] .
بنحو الكلام السابق ل"كانط" قال الفيلسوف "برجسون" الإنجليزي و غيرهما ممّن أقرّ بقصور العقل البشري و محدوديّته .
و هذا بعينه حال "الكيّالي" فإنّه لم يجد كيف يثبت الغيبيّات بأمور ملموسة حسيّة ممّا أدّى به إلى إنكارها و العياذ بالله .
و هذا الرازي مع فرط ذكائه يشكو حيرته وعجزه فيقول:
نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا .
فكم قد رأينا في رجال ودولة ... فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا والجبال جبال
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن [30]، أقرأ في الإثبات: (الرحمن على العرش استوى) . (إليه يصعد الكلم الطيب) .وأقرأ في النفي (ليس كمثله شيء) . (ولا يحيطون به علماً)
ثم قال: ((ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي)) [31] .
قد يقول قائل : من أين جاء التعارضُ في رأي البعضِ إذًا، واختلف الناس في العقائد والشرائع وتنازعوا وتفرَّقوا ، ما دام العقل لا يعارض النقل؟
إليك الجواب من كلام شيخ الإسلام ابن تيميّة . قال رحمه الله : "وقد تأمَّلت ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه، فوجدتُ ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة شبهاتٍ فاسدةً يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضِها الموافق للشرع، وهذا تأمَّلتُه في مسائل الأصول الكبار؛ كمسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر، والنبوات، والمعاد، وغير ذلك، ووجدتُ ما يُعلَم بصريح العقل لم يخالفه سمعٌ قط، بل السمعُ الذي يقال إنه يخالفه إما حديث موضوع أو دلالة ضعيفة، فلا يصلحُ أن يكون دليلاً لو تجرَّد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول؟ ونحن نعلم أن الرسل لا يُخبِرون بمجالات العقول، بل بمحارات "العقول، فلا يُخبِرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يُخبِرون بما يعجز العقل عن معرفته".[32]
و يقول الشاطبي -رحمه الله- : إن الله جعل للعقول في إدراكها حداً تنتهي إليه لا تتعداه. ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب. ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون. إذ لو كان كيف كان يكون؟ فمعلومات الله لا تتناهى. ومعلومات العبد متناهية. والمتناهي لا يساوي ما لا يتناهى.
وقد دخل في هذه الكلية ذوات الأشياء جملة وتفصيلاً. وصفاتها وأحوالها وأفعالها وأحكامها جملة وتفصيلاً. فالشيء الواحد من جملة الأشياء يعلمه الباري تعالى على التمام والكمال، بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أحواله ولا في أحكامه، بخلاف العبد فإن علمه بذلك الشيء قاصر ناقص سواء كان في تعقل ذاته أو صفاته أو أحواله أو أحكامه، وهو في الإنسان أمر مشاهد محسوس لا يرتاب فيه عاقل تُخرّجه التجربة إذا اعتبرها الإنسان في نفسه.[33]
و هذا المنهج الذي اتّخذه هؤلاء القوم -العقلانيين- و الذين اتّبع نهجهم "الكيّالي" قد أوردهم -اي تقيدمهم للعقل على النقل- المهالك كما قال شيخ الاسلام -رحمه الله : ولهذا آل الأمر بمن يسلك هذا الطريق إلي انهم لا يستفيدون من جهة الرسول شيئا من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الله تعالي وأفعاله بل وباليوم الآخر عند بعضهم لاعتقادهم أن هذه فيها ما يرد بتكذيب أو تأويل وما لا يرد وليس لهم قانون يرجعون إليه في هذا الأمر من جهة الرسالة بل هذا يقول : ما أثبته عقلك فأثبته وإلا فلا وهذا يقول : ما أثبته كشفك فأثبته وإلا فلا فصار وجود الرسول صلي الله عليه وسلم عندهم كعدمه في المطالب الإلهية وعلم الربوبية بل وجوده ـ علي قولهم ـ أضر من عدمه لأنهم لم يستفيدوا من جهته شيئا واحتاجوا إلي أن يدفعوا ما جاء به : إما بتكذيب وإما بتفويض وإما بتأويل .[34]
واعلم -يا "كيّالي"- أن أهل الحق لا يطعنون في جنس الأدلة العقلية ولا فيما علم العقل صحته وإنما يطعنون فيما يدعي المعارض أنه يخالف الكتاب والسنة وليس في ذلك ـ ولله الحمد ـ دليل صحيح في نفس الأمر ولا دليل مقبول عند عامة العقلاء ولا دليل لم يقدح فيه بالعقل وحينئذ فنقول في : إن كل ما عارض الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده وإن لم يعارض العقل وما علم فساده بالعقل لا يجوز أن يعارض به لا عقل ولا شرع . وهذه الجملة تفصيلها هو الكلام علي حجج المخالفين للسنة من أهل البدع بأن نبين بالعقل فساد تلك الحجج وتناقضها وهذا ـ ولله الحمد ـ مازال الناس يوضحونه ومن تأمل ذلك وجد في المعقول مما يعلم به فساد المعقول المخالف للشرع ما لا يعلمه إلا الله.
ثمّ إن الأمور السمعية التي يقال : إن العقل عارضها كإثبات الصفات والمعاد ( -كما هو حال الكيالي فإنه كما سيأتي يردّ أخبار الصّراط و الميزان و غيرهما بل و لا يعتبرها أصلا - ) ونحو ذلك هي مما علم بالاضطرار أن الرسول صلي الله عليه وسلم جاء بها وما كان معلوما بالاضطرار من دين الإسلام امتنع أن يكون باطلا مع كون الرسول رسول الله حقا فمن قدح في ذلك وادعي أن الرسول لم يجيء به كان قوله معلوم الفساد بالضرورة من دين المسلمين [35]
علم العليم وعقل العاقل اختلفا *** من ذا الذي فيهما قد أحرز الشرفا
فالعلم قال: أنا أحرزت غايته *** والعقل قال: أنا الرحمن بي عرفا
فأفصح العلم إفصاحاً وقال له *** بأينا الله في فرقانه اتصفا
بالعقل أو بالعلم؟
فأيقن العقل أن العلم سيده *** فقبل العقل رأس العلم وانصرفا
ويُشير شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - إلى أنَّ الأدلَّة العقلية من الأدلَّة التي قررها القرآن العظيم والسُّنَّة النبوية المطهرة، حيث قال: والكتاب والسُّنَّة يدلُّ بالإخبار تارة، ويدل بالتنبيه تارة، والإرشاد والبيان للأدلة العقلية تارة. وخلاصة ما عند أرباب النظر العقلي في الإلهيات من الأدلَّة اليقينية والمعارف الإلهية قد جاء به الكتاب والسُّنَّة، مع زيادات وتكميلات لم يهتد إليها إلا من هداه الله بخطابه، فكان فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأدلَّة العقلية والمعارف اليقينية فوق ما في عقول جميع العقلاء من الأولين والآخرين[35-2].
و نحن لا نلغي دور العقل في الجملة يا "كيّالي" فهو كما هو معلوم عن الصّغير و الكبير آلة التدبّر و التفكّر في ملكوت ربّ الأرض و السماوات . كما أنه مناط التّكليف . به يكون التمير للحقّ من الباطل به و قد أثنى الله عز و جلّ -في غيرما موضع من كتابه -على أولي العقول النيّرة التي يستعملونها في مكانها لا كاستعمالك لها أنت و أمثالك. وكذلك عاب على الكفار عدم التعقل بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]و قال الله - تعالى -: {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: ٣]، وقال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 67]، وقال: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} [طه: 54].
.
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -:"ومَن كان مسلوبَ العقل أو مجنونًا، فغايتُه أن يكون القلم رفع عنه، فليس عليه عقاب،ولا يصح إيمانُه ولا صلاته ولا صيامه، ولا شيء من أعماله، فإن الأعمال كلها لا تقبل إلا مع العقل، فمَن لا يعقل لا يصح شيء من عبادته، لا فرائضه ولا نوافله؛ ولهذا قال - تعالى -: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) [طه: 128]؛ أي: العقول.وقال - تعالى -: ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ) [الأنفال: 22].
وقال - تعالى -: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف: 2].
إنما مدح الله وأثنى على مَن كان له عقل، فأما مَن لا يعقل، فإن الله لم يحمَدْه ولم يُثنِ عليه، ولم يذكره بخير قط، بل قال - تعالى - عن أهل النار: ( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيأَصْحَابِ السَّعِيرِ ) [الملك: 10]".[36]
و العلم كما قال-رحمه الله- : إما نقل مصدق عن معصوم، إما قول عليه دليل معلوم، وما سوى ذلك فإما مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود.[37]
فإن كانَ سلفنا و علماؤنا توصّلوا لأحكام أصولِ الدين وأسسِ العقيدةِ وعُضْلِ المسائلِ وكِبارِها دونما جُهدٍ ، فما فائدة ُ العلم ! حتى تأتي أنت من بعيد تفسر برأيك و تنكر الغيبيات و تلغي السنّة و تقدّم عقله على نصوص الشرع ووو...فاتّق الله يا عبد الله ! و الزم حدّك و غرز علمائك و سلفك و دعك من السّعي وراء الشّهرة فإنّها مجلَبة للرياء قاصمة للظهور ..
لا تثريب على فلاسفة اليونان والغرب! الذين ضلوا مع قوة عقولهم وذكائهم، ولكن كما قال الإمام الذهبي ((لعن الله الذكاء بلا إيمان ورضي الله عن البلادة مع التقوى)) [37-2] .ولكن اللوم والأسى على من أنار الله بصيرته بالقرآن و السنّة .فأبى إلّا أن يعرض عنهما . فإنا لله و إنا إليه راجعون..
و لعلّك ترى يا "كيالي" أنّه قد لزم من منهجك هذا الذي أجملناه في أربعة أصول عدّة أمور أبرزها :
أوّلا أنّه لا حاجة للسنّة و هذا اعتراض على علم الله و طعن في نبيّه -صلى الله عليه و سلّم- و صحابته -نسأل الله العافية- .
ثانيا أنه لا فائدة في حفظ الصّحابة لأنك كما سبق لا تعتدّ بتفاسيرهم و علمهم و هذا طعن في اصطفاء الله لهم كما في الحديث -رضوان الله عليهم- .
ثالثا أنّه لا حاجة للناس في طلب العلم الشرعي و تعلم دينهم ما دام كل واحد منهم يستطيع أن يفسّر القرآن برأيه و يثبت ما أراد و ينكر ما أراد و هذا فيه من نسبة النقص لله تعالى الشيء الكثير -عافانا الله- .
و هذه بعض الطّوام التي أتى بها -هداه الله- :
تحديده لموقع الجنة و النار -زعماً- .
انكاره لعذاب القبر و نعيمة و حياة البرزخ عموما .
انكاره لوجود قوم يسمّون يأجوج و مأجوج .
إنكاره لخلق الله عز و جل السماوات و الأرض في ستة أيام .
إنكاره للصّراط يوم القيامة .
أنكاره لحقيقة الميزان .
و من أمعن النّظر في جملة هذه الإنكارات و التخرّصات فإنه ولا شكّ يلاحظ أن "الكيالي" ردّها لكونها غيبيات لا تستند لشيء مادّي ملموس و هو الذي يعتمد عليه علم الفيزياء للتصديق بحقائق الأمور. فانظر يا "كيّالي" أين جرّك علمك و أين أوردك -بئس الورد المورود- ؟!!...و إنّا نعلم -في المقابل- من نبغ في هذا العلم غير أنه لم يخرّف عليه عقله بخلط هذا العلم (الفيزياء) مع الدين كما هو الحال معك -هدانا الله و إيّاك- .
فالواجب عليك يا "كيّالي" ان تتعلّم التسليم للنصوص الثابتة في أمور الغيب فتؤمن بها ، ولا تقيسها بمقياس أهل الدنيا قال تعالى : ( ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) فما علمناه منها نقول به ، وما لم نعلمه فالله يعلمه ، ولا نتكلف علم ما لم نعلم .و قد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- : "نهينا عن التكلّف".[38]
و اعْلَم أَن مَذْهَب أهل السّنة أَن الْعقل لَا يُوجب شَيْئا عَلَى أحد، وَلَا يدْفع شَيْئا عَنهُ، وَلَا حَظّ لَهُ فِي تَحْلِيل أَو تَحْرِيم، وَلَا تَحْسِين وَلَا تقبيح، وَلَو لم يرد السّمع مَا وَجب عَلَى أحد شَيْء، وَلَا دخلُوا فِي ثَوَاب وَلَا عِقَاب، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} ،وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِكَايَة عَنِ الْمَلَائِكَة فِيمَا خاطبوا بِهِ أهل النَّار: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يومكم هَذَا قَالُوا بلَى} فَأَقَامَ الْحجَّة عَلَيْهِم ببعثة الرُّسُل فَلَو كَانَت الْحجَّة لَازِمَة بِنَفس الْعقل لم تكن بعثة الرُّسُل شرطا لوُجُوب الْعقُوبَة.[38-2]
فهذه القواعد الفاسدة هي التي حملت "الكيّالي" و سابقيه على تلك التأويلات الباطلة لأنهم رأوها لا تلائم نصوص الوحي بل بينها وبينها الحرب العوان فأجهدوا أنفسهم وكدوا خواطرهم في الصلح وزعموا أن ذلك إحسان وتوفيق وكأن الله سبحانه أنزل هذه الآيات في شأنهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء63-60].[39]
أما أهل السّنة المتبعون للآثار السالكون طَرِيق السّلف الأخيار فَمَا عَلَيْهِم غَضَاضَة وَلَا يلحقهم عَار . مِنْهُم الْعلمَاء الْعَامِلُونَ وَمِنْهُم الْأَوْلِيَاء والصالحون وَمِنْهُم الأتقياء الْأَبْرَار والأصفياء والأخيار أهل الولايات والكرامات وَأهل الْعِبَادَات والاجتهادات بذكرهم تزين الْكتب والدفاتر وأخبارهم تحسن المحافل والمحاضر تحيا الْقُلُوب بِذكر أخبارهم وَتحصل السَّعَادَة باقتفاء آثَارهم بهم قَامَ الدّين وَبِه قَامُوا وبهم نطق الْكتاب وَبِه نطقوا .
(ذهبت دولة أَصْحَاب الْبدع ... ووهى حبلهم ثمَّ انْقَطع)
(وتداعى بانصداع شملهم ... حزب إِبْلِيس الَّذِي كَانَ جمع)
(هَل لكم بِاللَّه فِي بدعتكم ... من فَقِيه أَو إِمَام يتبع).
(مثل سُفْيَان أخي الثَّوْريّ الَّذِي ... علم النَّاس خفيات الْوَرع)
(أَو سُلَيْمَان أخي التيم الَّذِي ... هجر النّوم لهول المطلع)
(أَو إِمَام الْحَرَمَيْنِ مَالِكًا ... ذَلِك الْبَحْر الَّذِي لَا ينتزع)
(أَو فَقِيه الشَّام أوزاعيها ... ذَاك لَو قارعه القرا قرع)
(أَو فَتى الْإِسْلَام أَعنِي أحمدا ... ذَاك حصن الدّين إِن حصن منع)
(لم يخف سوطهم إِذْ خوفوا ... لَا وَلَا سيفهم حِين لمع)
أما هُوَ حزبه من أهل الْكَلَام فَمَا ذكرهم إِلَّا ذمّهم والتحذير مِنْهُم والتنفير من مجالستهم وَالْأَمر بمباينتهم وهجرانهم وَترك النّظر فِي كتبهمْ لَا يثبت لأحد مِنْهُم قدم فِي الْولَايَة وَلَا يقوم لَهُم فِي الصَّالِحين راية وَلَا يكون لأحد مِنْهُم كَرَامَة وَلَا يرَوْنَ رَبهم فِي الْآخِرَة وَلَا كرامه يكذبُون بكرامات الصَّالِحين وَيُنْكِرُونَ نعْمَة الله على عباده الْمُؤمنِينَ فهم فِي الدُّنْيَا ممقوتون وَفِي الْآخِرَة معذبون لَا يفلح مِنْهُم أحد وَلَا يوفق لاتباع رشد .[40]
الخلاصة، أن "الكيالي" و أصحابه تجدهم يستظلون دوماً بمظلة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة, فيمررون من خلالها ما يشاءون من أباطيل بحجة أن هذا مثبت علمياً، و قد شهد له إما القرآن و إما السنة ,فوجدوا علم الفيزياء للأسف أرضا خصبة لمُروّجي هذه الخرافات لعدة أسباب:
1- أنها علم غنيّ بالقوانين والمصطلحات التي تُفسّر الظواهر الطبيعية، كالموجات، والطاقات والأطياف..إلى آخره.
2- الفيزياء تمتلك طابعا معقّد لغير المتخصصين بها، لذلك فإنه من السهل تلفيق مبرر علمي لأي فكرة باستخدام إحدى المصطلحات غير المفهومة، وبالتأكيد لن يستطيع غير المتخصصين مجادلتهم أو التشكيك فيهم.. فالرونق المعقد للتبرير العلمي يترك لدى الناس انطباع المصداقية.
3- لا توجد محاولات جدية من الفيزيائيين في العالم الغربي لدحض هذه الخرافات، إما لانشغالهم بالواقع والمعامل، أو لأنهم يعتبرون الحديث في الروحانيات أمر لا يستحق إضاعة الوقت. مع ذلك بدأت تظهر فئة فيزيائية تستند على فرضيات لترويج الإشاعات. إما طمعاً في الشهرة -كما هو حال الكيالي-، أو لطباعة كتاب يحقق أعلى المبيعات، أو غير ذلك .
أتمنّى أخي القارئ بعد قراءتك لهذه السّطور -التي حاولت فيها الإيجاز قدر المستطاع- أنّك قد أدركت مدى خطورة هذه الأصول التي يعتمدها "الكيالي" -هدانا الله و إيّاه- في إضلال النّاس .
فهذه مقدّمة أحببت أن أبيّن فيها أصول منهج المدعو "الكيّالي" في التّقرير و الإستدلال عسى أن يسهُل فيما بعد إيصال الهدف المرجوّ -إلى القارئ- من السّطور القادمة -إن شاء الله-.
و الله المستعان وحده و هو الهادي إلى سواء السّبيل.
و صلى الله و سلّم على نبيّنا محمد و على آله و صحبه أجمعين .
كتبه: أبو أيوب صهيب زين البسكري الجزائري
التاريخ 1 شوال 1437
__________________________________________________ ________________
1 (مقدّمة ابي اسماعيل الهروي من كتابه "ذم الكلام و أهله" (1/8)).
2 (رواه أبو داود (4252) ، والترمذي (2229) عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه مرفوعا وصححه الألباني رحمه الله في " صحيح سنن أبي داود ". و قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "حديث ( الأئمة المضلون ) محفوظ ، وأصله في الصحيح " [ بيان تلبيس الجهمية (2/293)] .
3 (رواه مسلم رحمه الله في "صحيحه" (55) عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه ) . قال الخطابي :" معنى النصيحة لله سبحانه: صحةُ الاعتقادِ في وحدانيته ، وإخلاصُ النية في عبادته " فنستنتج من كلام الخطّابي -رحمه الله- أن من تمام النصيحة لله الإعراض عن أمثال الكيّالي الجهّال بالشّرع . فلا تكن يا عبد الله من اتباع كل ناعق ! )
4 ( القول المفيد على كتاب التوحيد " (1/365) ). 4(الأعراف/33.)
5 ( مقدّمة في أصول التفسير له رحمه الله)
5-2 (الردّ على الإخنائي له -رحمه الله- (1/19) و حديث الغربة :عند مسلم (146) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه)
5-3 (انظر مزيد كلام في :" إعلام الموقعين " (1/38)).
6 (الردّ على الإخنائي لشيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله- (1/17) و الأثران عن ابن عباس -رضي الله عنهما كلاهما ضعيف ضعفعهما الشيخ الألباني -رحمه الله- ).
7 ( جامع البيان للطّبري رحمه الله )
7-2 (الرد على البكري ( 1/ 171 ))
8 (الجواب الصحيح (3 / 39) )
7 (ذكره الذهبي في التذكرة عن الزهري وذكره البغوي في شرح السنة بدون سند، وقال محققه: أخرجه الطبري من طريق أبي معمر عن أبي بكر وهو منقطع. كما حكم أيضا على سند أبي عبيد بالانقطاع و سبقه الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وذكر أن عبد بن حميد رواه من طريقين، وبذلك يتقوى سنده)
9 (تفسير ابن كثير)
10 ( أخرجه أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم ، وَمن حَدِيث الْمِقْدَام بن معدي كرب أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرّم أَشْيَاء يَوْم خَيْبَر ، مِنْهَا الْحمار الأهلي وَغَيره ، )تخريج البيهقي نفسه.
11 (ذم الكلام للهروي (2/60)).
12 (المصدر السابق (2/64)).
13 (، مختصرا من "مفتاح الجنة " (ص/5-9)).
14 (الموافقات (4/173)).
15 ( ذم الكلام الهروي (2/57)).
16 ( المصدر السابق).
18 (مقدّمة في أصول التفسير له رحمه الله)
17 ( أخرجه ابن أبي زمنين في أصول السنة ص52، و اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة( 1/123) تحت رقم( 201)، و أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم و فضله ( 2/134-135،) و البيهقي في المدخل إلى السنن ( ص213).و حسّن اسناده الشيخ محمد بازمول)
19 ( " البحر المحيط " للزركشي ( 6 / 11 ) ونقله ابن مفلح الحنبلي في " الآداب الشرعية " ( 2 / 307 ) عن التابعي مكحول)
20 ( مجموع الفتاوى (13/371))
21 (مقدمة في أصول التفسير له رحمه الله)
22 (درء التّعارض (1/147))
23 ( راجع تفسير الثعالبي (1/ 11))
24 (أورده ابن كثير في مقدمة تفسيره و كذلك شيخ الاسلام في مقدمة تفسيره و غيرهما )
25 ( تأويل مشكل القرآن (1/ 23 )).
27 (درء التعارض (1/8,6))
28 ( المصدر السابق (1/77)).
29 ( قصة الفلسفة الحديثة (1/291) أحمد أمين )
30 ( يقصد أهل السنّة و الجماعة)
31 ( انظر: سير أعلام النبلاء 21/501).
32 (درء التعارض (1/133)).
33 (الاعتصام (2/318)).
34 ( درء التّعارض (1/114)).
35 (درء التعارض (1/112)).
35-2 (مدمزع الفتاوى (2/110)).
36 (مجموع الفتاوى له 10/435، 436).
37 (شرح مقدمة التفسير (ص/142))
37-2 ( سير أعلام النبلاء (14/62)) .
38 (أخرجه البخاري في صحيحه (6838)) 13 (المصدر السابق (2/67)).
38-2 ( نقله الأصبهاني عن أبي أبي المظفّر السّمعاني في كتابه "الحجة في بيان المحجة (2/109 ))
39 (الصواعق المرسلة لابن القيم رحمه الله (1/341)).
40 (تحريم النّظر في كتب اهل البدع لابن قدامة (1/40).
آخر تعديل بواسطة المشرف: