سلسلة بلايا ووصايا
الوصية الخامسة:
طريق الحق بين سالكيه والزائغين عنه.
إن الله سبحانه وتعالى مَنَّ علينا بمنن عظيمة، ونعم جسيمة، وهي كثيرة لا يمكن للمحصي أن يحصيها، ولا للعاد أن يعدها ويستقصيها؛ كما قال الله تعالى:"وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)" سورة إبراهيم. وقال سبحانه:" وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)" سورة النحل.وهي دائرة بين نعم معنوية دينية، وأخرى مادية دنيوية، ومما لا شك فيه أن النعم الدينية هي أجلها وأعظمها وأعلاها وأفضلها؛ لأن فائدتها مستمرة دائمة، بعكس الدنيوية فهي منقطعة منصرمة.
ومن هنا يعلم أن أجل نعمة أنعم الله بها على عباده نعمة الإسلام الذي بعث به النبي عليه الصلاة والسلام، وكيف لا تكون كذلك وهي النعمة التي أخرجهم سبحانه بها من الظلمات إلى النور، ومن أسباب الشقاء إلى أسباب البهجة والسعادة والسرور.
ثم اعلم أن هذه النعمة العظيمة لا ينتفع العبد الانتفاع التام بها، ولا يسر السرور الكامل بحصولها؛ إلا إذا قارنتها نعمة أخرى تبقيها وتحفظها وتتممها وتكملها، ألا وهي: نعمة لزوم السنة النبوية، والسير على الطريقة السلفية، ولذلك أُثر عن مجاهد رحمه الله أنه قال:" مَا أَدْرِي أَيُّ النِّعْمَتَيْنِ أَعَظْمُ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ أَوْ عَافَانِي مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاء" كما أُثر عن أبي العالية أيضا أنه قال:" مَا أَدْرِي أَيُّ النِّعْمَتَيْنِ عَلَيَّ أَعْظَمُ أَنْ أَخْرَجَنِي اللَّهُ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ عَصَمَنِي فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ لِي فِيهِ هَوًى".
فهما نعمتان جليلتان: نعمة الهداية إلى الإسلام ومعرفته والتدين لله به، ونعمة الهداية إلى السنة والعلم بها والاستقامة عليها.
ومما هو متقرر عند كل العقلاء أن النعمة إذا حصلت لصاحبها كان لزاما عليه أن يحافظ عليها، ولا يتهاون بها فيضيعها، ولأجل هذا ترى السلفيين من أحرص الناس - بل هم أحرصهم - على الحفاظ على هاتين النعمتين، فيحافظون على الأولى بدراسة التوحيد وتعلمه، والتدقيق في معرفة كل ما له علاقة به، ثم الحرص بعد ذلك على تحقيقه والعمل بمقتضاه، ويحافظون على الثانية بمعرفتها، ومحاولة لزومها، وترك كل طريق وسبيل خالفها وانحرف عنها.
والشيء الذي يقوي هذه المحافظة ويمتنها هو لزوم أهل الحق الداعين إليه والمتمسكين به، وترك أهل الباطل الواقعين فيه والمتلطخين بأدناسه، فهو ولاء وبراء؛ ومن ضَعُفَ جانب الولاء لأهل الحق والبراء من أهل الباطل عنده ضل لا محالة، وزاغ عن الحق وانغمس في الضلالة.
وهذا الأمر مما يُعِينُنا على فهم حقيقة طالما سأل عنها السائلون، وأظهر تعجبهم منها الكثيرون ألا وهي: كيف زاغ فلان وكان على الجادة داعيا إليها، منافحا عنها، مبينا محاسنها؟ والجواب هو: أن من أكبر أسباب زيغه وانحرافه هو ضعف جانب الولاء والبراء عنده، الذي تسبب في تهاونه مع الباطل وأهله؛ فتارة يخالطهم ويسمع كلامهم، وتارة يدافع عنهم ويذب عن حياضهم، وثالثة يبرؤهم وينفي عنهم الحقائق التي تدينهم، بل قد يصل إلى تأصيل الأصول التي تحميهم وتحصنهم ويحارب أهل الحق ممن يتظاهر بالانتساب إليهم من جرائهم وأَجلِهم.
فسبب زيغ علي حسن عبد الحميد هداه الله مثلا بعض الدعاة الذين قدم حبهم وصلته بهم وما قد يصله من صلاتهم على طاعة الله سبحانه وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فوالاهم وهو مطالب بالبراءة منهم، وناصرهم وهو مأمور بمعاداتهم، ثم حاول بعد وقوع ذلك منه أن يسوغ ما هو عليه بإحداث قواعد باطلة وأصول عاطلة.
وهكذا بالنسبة لعبد المالك رمضاني هداه الله الذي زاغ بسبب ضعف براءته من أهل الضلال فخلَّفَ الحق وراءه؛ منتصرا لعلي حسن وأشباهه، ولو كان مائلا مع الحق حيث مال، متبعا للهدى أينما حل، لتركهم جميعا، ونأى بدينه عنهم مسرعا.
وكما تعرف هذا في الدعاة المشهورين تلمسه من بعض من تعاشر من السلفيين الذين ضعف الولاء والبراء عندهم فاضطربت معاملاتهم، ومرجت تصرفاتهم؛ فيقربون المنحرف من أهل الضلال ويصاحبونه، ويضاحكونه ويحسنون إليه، ويبذلون الغالي والنفيس من أجل إرضائه، في الوقت الذي ينفرون فيه من السلفي ويعادونه، ويثقل عليهم اللقاء به والحديث معه.
فالحذر الحذر من مخالطة أهل الباطل ومماشاتهم، ومصاحبتهم والجلوس معهم والسماع منهم، فإن ذلك من أعظم أسباب ضعف جانب الولاء والبراء والذي يؤدي إلى الزيغ عن الصراط المستقيم، والانحراف عن الدين القويم، ومعاداة أهل الحق من السلفيين.
وهذه الحقيقة التي أنبه في هذه النصيحة عليها هي من سبيل أهل الحق الذي هم عليه، وطريقهم الذي لا يحيدون عنه؛ ومع ذلك قد تجد بعض المنتسبين للسلفية يفرطون فيه، ولا يلتفتون إليه، ويعمدون إلى آرائهم المخالفة له فيعملون بها، وإلى أهوائهم المناقضة لجادته فيتبعونها.
وهم أقسام:
فمنهم: من عنده هوى يتبعه؛ فحتى لو بلغه الحق لا يلتفت إليه، ولا يعمل به، لأنه يخالف هواه الذي درج عليه، ولم يبذل وسعا في التخلص منه، وهذا وإن تسمى بالسلفية فهو من أهل الأهواء الردية، وسبيل صلاحه أن يترك هوى نفسه، وأن يقبل على ربه يسأله التوفيق للحق بأن يريه إياه ويرزقه اتباعه.
ومنهم: من يعرف الحق ويتنكبه؛ بسبب شبهة ألمت به، أو شهوة أثرت فيه، وهذا سبيل إصلاحه العلم الذي يزيل عنه الشبهة، أو الورع الذي يدفع عنه الشهوة.
ومنهم: من جهل الحق ولم يعرفه، ولذلك وقع في تركه ومخالفته، والمرء عدو ما جهل، وهذا سبيل إصلاحه سبيل إصلاح صاحب الشبهة أي: العلم الذي إذا حصل له رده إلى الجادة، وعطفه عن الحيدة.
ومنهم: من عرف الحق وتيقنه، ولكنه لا يريد أن يعترف به ويذعن له؛ لأجل منزلته التي يخشى زوالها، ويخاف إن اعترف بالحق أفولها، وهذا سبيل إصلاحه تحقيق الإخلاص لله، وطلب ما عنده سبحانه وحده، والزهد في الدنيا التي أفسدت عليه قلبه، وأعمت عين بصيرته.
ومنهم: من عرف الحق ولم يرتب فيه، ولكنه تركه وتنكبه بسبب حسده لمن سبقه إليه، أو حقده على من كان معروفا به، فحقده وحسده لبعض الناس يجعله يترك الحق ولو وقع في الضلال والباس، وكم عرفنا من هؤلاء من ينكر الحق ويجادل فيه بسبب أن غيره قاله وتكلم به، بل إنك لتجد بعضهم يختار القول في المسائل الخلافية لا لقناعته به واقتناعه بأدلة صاحبه وإنما اختراه لأنه خلاف القول الذي تبناه محسوده وعمل به غريمه؛ وهذا سبيل إصلاحه أن يعرف ربه بأسمائه وصفاته؛ وأنه حكيم عليم لطيف خبير لا يفعل إلا لحكمة، وأن عطاءه وحرمانه سبحانه ابتلاء منه لعباده، وليس في الوجود من بني آدم من هو خارج عن الامتحان الذي لابد منه ليتميز أهل الجنان من أهل النيران، فمن حسد غيره على ابتلاء ابتلاه الله به، ما عرف حقيقة ما خلق له، ولا عرف ربه وشرعه الذي أنزله على نبيه، فهو جاهل ولو كان ممن يشار إليه بالبنان ويوصف بالعلم والعرفان.
ومنهم: من يعرف الحق ويستقيم عليه، ويتبنى جميع أصوله وفروعه، ويدعو الناس إليه ويذب ما استطاع عن حياضه؛ ما دام الأمر موافقا، وما دام معافا غير مبتلى، فإذا ابتلي في بعض أمره، وتعارض الحق مع بعض مصالحه، ترك الحق وتنكبه، وأعرض عنه وخالف أهله، وأمثلة ذلك كثيرة أكتفي بذكر مثالين:
الأول: أن يطعن أهلُ الحق في بعض أهله، أو ذويه وخاصته؛ ممن يكون زائغا عن الصراط المستقيم والطريق القويم، فينبري للدفاع عنه في أمور كان يدين غيره بأقل منها، وأشياء كان يعلن نكيره على من سواه بأدنى منها، وكما قيل حبك الشيء يعمي ويصم.
الثاني: أن يكون قائلا بالحق مشكورا عليه، يثني أهلُ الحق عليه به؛ فتقع منه الزلة، وتفرط منه الغلطة، فيُنصح بسببها، ويوصى من قبل أهل الحق بتركها، والتبرؤ منها، فعوض أن يستجيب لإخوانه ممن هو دونه، وفي مستواه، ومن باب أولى ممن هو أعلم منه بمراحل؛يتأبى عليهم ويرد نصيحتهم، بل ويطعن فيهم منتصرا لنفسه بالباطل، وكأنه ممن يستحيل عليه الخطأ، ويبعد منه الغلط.
وسبيل إصلاح هذا الصنف أن يسيء الظن بنفسه، وأن يعرف حقيقة ذاته؛ وأنه ضعيف خطاء، ممتحن ومبتلى بأنواع البلاء، وأنه يجب عليه أن يلتمس رضى ربه ولو سخط الناس كلهم عليه، لا أن يلتمس رضى الناس ولو سخط عليه مولاه وخالقه وولي نعمته التي لا تحصل له إلا من قبله.
والخلاصة: أقول لهؤلاء جميعا: إن لزوم الحق واجب محتم، وطريق متعين لنجاة وسعادة المسلم، فاطلبه أخي وابحث عنه واحذر من أن تتركه لأي سبب من الأسباب فتندم ساعة لا ينفعك الندم.
والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سواء السبيل والحمد لله رب العالمين.
وكتبه: أبو عبد السلام عبد الصمد سليمان الاربعاء 22شوال 1437ه
إن الله سبحانه وتعالى مَنَّ علينا بمنن عظيمة، ونعم جسيمة، وهي كثيرة لا يمكن للمحصي أن يحصيها، ولا للعاد أن يعدها ويستقصيها؛ كما قال الله تعالى:"وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)" سورة إبراهيم. وقال سبحانه:" وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)" سورة النحل.وهي دائرة بين نعم معنوية دينية، وأخرى مادية دنيوية، ومما لا شك فيه أن النعم الدينية هي أجلها وأعظمها وأعلاها وأفضلها؛ لأن فائدتها مستمرة دائمة، بعكس الدنيوية فهي منقطعة منصرمة.
ومن هنا يعلم أن أجل نعمة أنعم الله بها على عباده نعمة الإسلام الذي بعث به النبي عليه الصلاة والسلام، وكيف لا تكون كذلك وهي النعمة التي أخرجهم سبحانه بها من الظلمات إلى النور، ومن أسباب الشقاء إلى أسباب البهجة والسعادة والسرور.
ثم اعلم أن هذه النعمة العظيمة لا ينتفع العبد الانتفاع التام بها، ولا يسر السرور الكامل بحصولها؛ إلا إذا قارنتها نعمة أخرى تبقيها وتحفظها وتتممها وتكملها، ألا وهي: نعمة لزوم السنة النبوية، والسير على الطريقة السلفية، ولذلك أُثر عن مجاهد رحمه الله أنه قال:" مَا أَدْرِي أَيُّ النِّعْمَتَيْنِ أَعَظْمُ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ أَوْ عَافَانِي مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاء" كما أُثر عن أبي العالية أيضا أنه قال:" مَا أَدْرِي أَيُّ النِّعْمَتَيْنِ عَلَيَّ أَعْظَمُ أَنْ أَخْرَجَنِي اللَّهُ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ عَصَمَنِي فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ لِي فِيهِ هَوًى".
فهما نعمتان جليلتان: نعمة الهداية إلى الإسلام ومعرفته والتدين لله به، ونعمة الهداية إلى السنة والعلم بها والاستقامة عليها.
ومما هو متقرر عند كل العقلاء أن النعمة إذا حصلت لصاحبها كان لزاما عليه أن يحافظ عليها، ولا يتهاون بها فيضيعها، ولأجل هذا ترى السلفيين من أحرص الناس - بل هم أحرصهم - على الحفاظ على هاتين النعمتين، فيحافظون على الأولى بدراسة التوحيد وتعلمه، والتدقيق في معرفة كل ما له علاقة به، ثم الحرص بعد ذلك على تحقيقه والعمل بمقتضاه، ويحافظون على الثانية بمعرفتها، ومحاولة لزومها، وترك كل طريق وسبيل خالفها وانحرف عنها.
والشيء الذي يقوي هذه المحافظة ويمتنها هو لزوم أهل الحق الداعين إليه والمتمسكين به، وترك أهل الباطل الواقعين فيه والمتلطخين بأدناسه، فهو ولاء وبراء؛ ومن ضَعُفَ جانب الولاء لأهل الحق والبراء من أهل الباطل عنده ضل لا محالة، وزاغ عن الحق وانغمس في الضلالة.
وهذا الأمر مما يُعِينُنا على فهم حقيقة طالما سأل عنها السائلون، وأظهر تعجبهم منها الكثيرون ألا وهي: كيف زاغ فلان وكان على الجادة داعيا إليها، منافحا عنها، مبينا محاسنها؟ والجواب هو: أن من أكبر أسباب زيغه وانحرافه هو ضعف جانب الولاء والبراء عنده، الذي تسبب في تهاونه مع الباطل وأهله؛ فتارة يخالطهم ويسمع كلامهم، وتارة يدافع عنهم ويذب عن حياضهم، وثالثة يبرؤهم وينفي عنهم الحقائق التي تدينهم، بل قد يصل إلى تأصيل الأصول التي تحميهم وتحصنهم ويحارب أهل الحق ممن يتظاهر بالانتساب إليهم من جرائهم وأَجلِهم.
فسبب زيغ علي حسن عبد الحميد هداه الله مثلا بعض الدعاة الذين قدم حبهم وصلته بهم وما قد يصله من صلاتهم على طاعة الله سبحانه وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فوالاهم وهو مطالب بالبراءة منهم، وناصرهم وهو مأمور بمعاداتهم، ثم حاول بعد وقوع ذلك منه أن يسوغ ما هو عليه بإحداث قواعد باطلة وأصول عاطلة.
وهكذا بالنسبة لعبد المالك رمضاني هداه الله الذي زاغ بسبب ضعف براءته من أهل الضلال فخلَّفَ الحق وراءه؛ منتصرا لعلي حسن وأشباهه، ولو كان مائلا مع الحق حيث مال، متبعا للهدى أينما حل، لتركهم جميعا، ونأى بدينه عنهم مسرعا.
وكما تعرف هذا في الدعاة المشهورين تلمسه من بعض من تعاشر من السلفيين الذين ضعف الولاء والبراء عندهم فاضطربت معاملاتهم، ومرجت تصرفاتهم؛ فيقربون المنحرف من أهل الضلال ويصاحبونه، ويضاحكونه ويحسنون إليه، ويبذلون الغالي والنفيس من أجل إرضائه، في الوقت الذي ينفرون فيه من السلفي ويعادونه، ويثقل عليهم اللقاء به والحديث معه.
فالحذر الحذر من مخالطة أهل الباطل ومماشاتهم، ومصاحبتهم والجلوس معهم والسماع منهم، فإن ذلك من أعظم أسباب ضعف جانب الولاء والبراء والذي يؤدي إلى الزيغ عن الصراط المستقيم، والانحراف عن الدين القويم، ومعاداة أهل الحق من السلفيين.
وهذه الحقيقة التي أنبه في هذه النصيحة عليها هي من سبيل أهل الحق الذي هم عليه، وطريقهم الذي لا يحيدون عنه؛ ومع ذلك قد تجد بعض المنتسبين للسلفية يفرطون فيه، ولا يلتفتون إليه، ويعمدون إلى آرائهم المخالفة له فيعملون بها، وإلى أهوائهم المناقضة لجادته فيتبعونها.
وهم أقسام:
فمنهم: من عنده هوى يتبعه؛ فحتى لو بلغه الحق لا يلتفت إليه، ولا يعمل به، لأنه يخالف هواه الذي درج عليه، ولم يبذل وسعا في التخلص منه، وهذا وإن تسمى بالسلفية فهو من أهل الأهواء الردية، وسبيل صلاحه أن يترك هوى نفسه، وأن يقبل على ربه يسأله التوفيق للحق بأن يريه إياه ويرزقه اتباعه.
ومنهم: من يعرف الحق ويتنكبه؛ بسبب شبهة ألمت به، أو شهوة أثرت فيه، وهذا سبيل إصلاحه العلم الذي يزيل عنه الشبهة، أو الورع الذي يدفع عنه الشهوة.
ومنهم: من جهل الحق ولم يعرفه، ولذلك وقع في تركه ومخالفته، والمرء عدو ما جهل، وهذا سبيل إصلاحه سبيل إصلاح صاحب الشبهة أي: العلم الذي إذا حصل له رده إلى الجادة، وعطفه عن الحيدة.
ومنهم: من عرف الحق وتيقنه، ولكنه لا يريد أن يعترف به ويذعن له؛ لأجل منزلته التي يخشى زوالها، ويخاف إن اعترف بالحق أفولها، وهذا سبيل إصلاحه تحقيق الإخلاص لله، وطلب ما عنده سبحانه وحده، والزهد في الدنيا التي أفسدت عليه قلبه، وأعمت عين بصيرته.
ومنهم: من عرف الحق ولم يرتب فيه، ولكنه تركه وتنكبه بسبب حسده لمن سبقه إليه، أو حقده على من كان معروفا به، فحقده وحسده لبعض الناس يجعله يترك الحق ولو وقع في الضلال والباس، وكم عرفنا من هؤلاء من ينكر الحق ويجادل فيه بسبب أن غيره قاله وتكلم به، بل إنك لتجد بعضهم يختار القول في المسائل الخلافية لا لقناعته به واقتناعه بأدلة صاحبه وإنما اختراه لأنه خلاف القول الذي تبناه محسوده وعمل به غريمه؛ وهذا سبيل إصلاحه أن يعرف ربه بأسمائه وصفاته؛ وأنه حكيم عليم لطيف خبير لا يفعل إلا لحكمة، وأن عطاءه وحرمانه سبحانه ابتلاء منه لعباده، وليس في الوجود من بني آدم من هو خارج عن الامتحان الذي لابد منه ليتميز أهل الجنان من أهل النيران، فمن حسد غيره على ابتلاء ابتلاه الله به، ما عرف حقيقة ما خلق له، ولا عرف ربه وشرعه الذي أنزله على نبيه، فهو جاهل ولو كان ممن يشار إليه بالبنان ويوصف بالعلم والعرفان.
ومنهم: من يعرف الحق ويستقيم عليه، ويتبنى جميع أصوله وفروعه، ويدعو الناس إليه ويذب ما استطاع عن حياضه؛ ما دام الأمر موافقا، وما دام معافا غير مبتلى، فإذا ابتلي في بعض أمره، وتعارض الحق مع بعض مصالحه، ترك الحق وتنكبه، وأعرض عنه وخالف أهله، وأمثلة ذلك كثيرة أكتفي بذكر مثالين:
الأول: أن يطعن أهلُ الحق في بعض أهله، أو ذويه وخاصته؛ ممن يكون زائغا عن الصراط المستقيم والطريق القويم، فينبري للدفاع عنه في أمور كان يدين غيره بأقل منها، وأشياء كان يعلن نكيره على من سواه بأدنى منها، وكما قيل حبك الشيء يعمي ويصم.
الثاني: أن يكون قائلا بالحق مشكورا عليه، يثني أهلُ الحق عليه به؛ فتقع منه الزلة، وتفرط منه الغلطة، فيُنصح بسببها، ويوصى من قبل أهل الحق بتركها، والتبرؤ منها، فعوض أن يستجيب لإخوانه ممن هو دونه، وفي مستواه، ومن باب أولى ممن هو أعلم منه بمراحل؛يتأبى عليهم ويرد نصيحتهم، بل ويطعن فيهم منتصرا لنفسه بالباطل، وكأنه ممن يستحيل عليه الخطأ، ويبعد منه الغلط.
وسبيل إصلاح هذا الصنف أن يسيء الظن بنفسه، وأن يعرف حقيقة ذاته؛ وأنه ضعيف خطاء، ممتحن ومبتلى بأنواع البلاء، وأنه يجب عليه أن يلتمس رضى ربه ولو سخط الناس كلهم عليه، لا أن يلتمس رضى الناس ولو سخط عليه مولاه وخالقه وولي نعمته التي لا تحصل له إلا من قبله.
والخلاصة: أقول لهؤلاء جميعا: إن لزوم الحق واجب محتم، وطريق متعين لنجاة وسعادة المسلم، فاطلبه أخي وابحث عنه واحذر من أن تتركه لأي سبب من الأسباب فتندم ساعة لا ينفعك الندم.
والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سواء السبيل والحمد لله رب العالمين.
وكتبه: أبو عبد السلام عبد الصمد سليمان الاربعاء 22شوال 1437ه
آخر تعديل: