تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام النميري الحراني (661-728هـ / 1263-1328م) فقيه وعالم مسلم مجتهد، ولد في مدينة حران في الجزيرة الفراتية في 10 ربيع الأول سنة 661 هـ. وعند بلوغه السابعة من عمره في سنة 667 هـ انتقل مع عائلته من مسقط رأسه حران إلى مدينة دمشق وذلك بعد إغارة التتر عليها. نشأ ابن تيمية في دمشق نشأة علمية في وسط إحدى أشهر أسر مدينة حران العلمية، والتي تتبع المذهب الحنبلي. وبدأ اهتمامه بالدراسة والعلم منذ صغره فأخذ عن أكثر من مائتي شيخ، وكان أول سماع له من ابن عبد الدائم المقدسي وهو في السابعة من عمره، وتعلم الخط والحساب وحفظ القرآن الكريم في صغره، وأتقن عدداً من العلوم منها التفسير والحديث والفقه والعربية وغيرها من العلوم، ويذكر بعض المؤرخون أيضاً أنه أجاد ثلاثة لغات غير اللغة العربية وهي العبرية والتركية واللاتينية. وشرع في الإفتاء وهو في سن السابعة عشرة من عمره أي سنة 677 هـ وقد بدأ بالتأليف في هذا السن أيضاً، وبدأ في التدريس وهو في الحادية والعشرين من عمره في سنة 681 هـ بعد موت أبيه في المدرسة السكرية، وتولى مشيختها في يوم الاثنين 2 محرم 683 هـ، وبدأ بدرس التفسير بالجامع الأموي في 10 صفر 691 هـ وكان يبلغ من العمر ثلاثين سنة، واستمر فيه سنين طويلة. ودرس بالمدرسة الحنبلية في 17 شعبان 659 هـ.
مولده ونشأته
مولده
تتوزع بلاد ما بين النهرين بين جزأين، الجزء الجنوبي الذي يسمى العراق العربي وهو يتضمن بغداد والبصرة، وأما الجزء الشمالي فيسمى في الأدب العربي القديم ديار بكر وديار مضر، ويسميه الجغرافيون العرب باسم الجزيرة، ويقع في شرقها كردستان وفي غربها آسيا الصغرى وبادية الشام، وفي جنوبها العراق العربي، وفي شمالها أرمينية. وتقع في هذه المنطقة مدينة الموصل والرقة البيضاء، والرها وغيرها. وفي جنوب مدينة الرها (أورفة) تقع مدينة حران إحدى المدن الشهيرة وهي موطن ابن تيمية القديم حيث كانت أسرته تسكن فيها منذ قرون.[34] وهي المدينة التي ولد فيها ابن تيمية. وولد تقي الدين ابن تيمية في يوم الإثنين 10 ربيع الأول سنة 661 هـ، وقد اتفق جمهور من ترجم له على الشهر الذي ولد فيه والسنة التي ولد فيها، ولكن الاختلاف جاء في تحديد اليوم فذكر آخرون أنه ولد في يوم 12 ربيع الأول.[35] وسماه والده بأحمد تقي الدين، واكتني بأبي العباس وهو يافع، ولكنه اشتهر بابن تيمية، وغلب هذا اللقب على اسمه، وعرف بين الناس به.[28]
نشأته
كان عصر ابن تيمية عصراً مليئاً بالقلاقل والفتن والاضطرابات. وكان العالم الإسلامي كله خائفاً من التتر، الذين كانوا إذا أغاروا على مدينة؛ خربوها ونهبوها، وقتلوا سكانها وسلبوا أموالها وسبوا نسائها كما يذكر المؤرخون. وما إن بلغ ابن تيمية السادسة أو السابعة من عمره، حتى أغار التتر على بلده حران، فالتجأت أسرتُه إلى الفرار منها بجميع ما كان لديها. وبما أن العراق كان مركز غارة التتر ونهبهم لم تفكر الأسرة في الهجرة إليه، وكانت بلاد الشام أقرب بلد لم يصل إليه الدمار، حيث كانت تحت حكم ملوك مصر المماليك، فاتجهت أسرته إليها، وقصدت مدينة دمشق. ويذكر المؤرخون قصة والد ابن تيمية عبد الحليم، أنه عندما خرج مع أسرته للطريق أخذ معه كتبه - يقصد المؤرخون ذكر هذه القصة لإثبات محبة الأسرة للعلم بالرغم من من ظروفهم الصعبة التي مروا بها - على عجلة يجرها لعدم توفر الدواب ويعينه على جرها أبناء بلدته الذين خرجوا معه، وكاد التتر أن يلحقوا بهم في أثناء الطريق لتوقف المركبة عن السير. إلا أنهم قاموا برفع أيديهم للدعاء حتى نجوا كما يذكر المؤرخون، وتمكنوا من الوصول إلى دمشق، واستقروا بها.[36][37]
وما أن استقرت الأسرة في دمشق حتى شاع خبرها في أوساط الناس، وقد كان أصحاب العلم يعرفون والد ابن تيمية أبي البركات مجد الدين عبد الحليم ابن تيمية وأعماله، ولم تمر إلا فترة قصيرة حتى بدأ في التدريس والوعظ في الجامع الأموي، وفي مدرسة الحديث السكرية، وصار مرجعاً للطلبة وعلماء المذهب الحنبلي. يقول شمس الدين الذهبي: «وكان قدومه إلى دمشق بأهله وأقاربه مهاجراً سنة سبع وستين (667 هـ)، وكان من أنجم الهدى، وإما اختفى من نور القمر، وضوء الشمس - يشير إلى أبيه وابنه -.» ويقول علم الدين البرزالي: «كان من أعيان الحنابلة باشر بدمشق دار الحديث السكرية بالقصاعين وبها سكن وكان له كرسي بدمشق يتكلم عليه أيام الجمع من حفظه.» ويقول ابن كثير: «كان له فضيلة حسنة، ولديه فضائل كثيرة. كان له كرسي بجامع دمشق يتكلم عليه من ظاهر قلبه، وولي مشيخة دار الحديث السكرية بالقصاعين، وبها كان سكنه، ثم درس ولده الشيخ تقي الدين بها بعده.»[38][39]
طلبه للعلم
يُجمع معظم المؤرخون على أن ابن تيمية نشأ في عفاف وتصون، وعود نفسه على الاقتصاد في الملبس والمأكل، وأيضاً كان باراً بوالديه، ومحباً للعلم والبحث. فيقول الحافظ الذهبي في ذلك: «نشأ في تصون تام وعفاف وتأله وتعبد، واقتصاد في الملبس والمأكل، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، فيتكلم ويناظر ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم؛ فأفتى وله تسع عشرة سنة؛ بل أقل. وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت، وأكب على الاشتغال. ومات والده - وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم - فدرَّس بعده وقام بوظائفه وله إحدى وعشرون سنة، واشتهر، وبَعُدَ صيته في العالم، فطبق ذكره الآفاق.»[40]
اشتهاره بالحفظ
عرفت أسرة ابن تيمية بقوة الذاكرة وكثرة الحفظ وسرعته، فقد كان أبوه وجده أيضاً قويي الذاكرة، ولكن تقي الدين ابن تيمية سبق أسرته في هذا الأمر،[41] فكان من أكابر حفاظ عصره، وصاحب ذاكرة قوية، وسريع الحفظ. ويقول في ذلك محمد الصادق عرجون: «نشأ الإمام ابن تيمية - رحمه الله - يزينه عقل جمع الله له في المعارف قوي الفكر الإنساني، حفظاً وإدراكاً، ووعياً، فالتاريخ يضعه مع طليعة الأفذاذ الذين يضرب بهم المثل في الألمعية والذكاء المتفوق، وفي الحفظ الضابط، والذاكرة الواعية، الذين لا تغلطهم الأَغاليط، ويقول عنه معاصروه: أَنه ما حفظ شيئاً ونسيه، ولا نظر في مكتوب قل أو كثر إلا وحفظه، ولا سمع من العلم والمعارف شيئاً ونسيه، ولا نظر في مكتوب قل أو كثر إلا وحفظه، ولا سمع من العلم والمعارف شيئاً غاب بعد أن علمه، فإذا قرأنا عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة أنه كان يسمع من شيخه إمام المحدثين ابن شهاب الزهري من الثلاثين إلى الأربعين حديثاً في مجلس واحد فيحفظها لا يخرم منها حرفاً إذا تلاها، وقد ذكر الرواة أنه سمع مرة هذا القدر وفيه حديث السقيفة على إتساعه وطوله وتنوع الكلام فيه، فأعاجها كلها لم تند عنه كلمه، وإذا قرأنا عن أبي عبد الله الشافعي أنه سمع من شيخه مالك بن أنس بضع عشر حديثاً في مجلس واحد، فأعادها حفظاً بأسانيدها لم يختلف فيها عن سماعه من الإمام في كلمة أو حرف، إلى كثير من أوتوا في الإسلام حوافظ ضابطة، ومدارك واعية - فإن ما أُثر عن ابن تيمية منذ طفولته - وهو الرجل المخاصم الذي يتربص به خصومه ليأخذوا عليه شيئاً يعيبونه به - ليضعه في الذروة مع أولئك الغر البهاليل من أئمة الإسلام دون نكير.»[42]
ونقل ابن الوردي وابن شاكر الكتبي عن الحافظ الذهبي أنه قال: «انبهر الفضلاء من فرط ذكانئه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته وسرعة إدراكه.» وقال أيضاً عمر بن علي البزار: «كانت مخايل النجابة عليه في صغره لائحة، ودلائل العناية فيه واضحة... كان الله قد خصه بسرعة الحفظ وإبطاء النسيان، لم يكن يقف على شيء، أو يستمع لشيء غالباً إلا ويبقى على خاطره، إما بلفظه أو معناه، وكان العلم كأنه اختلط بلحمه ودمه وسائره، فإنه لم يكن له مستعاراً، بل كان له شعاراً ودثاراً، لم يزل آباؤه أهل الدراية التامة، والقدم الراسخة في الفضل، لكن جمع الله له ما خرق بمثله العادة، ووفقه في جميع أمره لاعلام السعادة، وجعل مآثره لإمامته من أكبر شهادة.» وأورد ابن عبد الهادي في كتابه "العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية" قصة في سرعة حفظه فقال: «واتفق أن بعض مشايخ العلماء بحلب قدم إلى دمشق، وقال: سمعت في البلاد بصبي يقال له أحمد بن تيمية، وأنه سريع الحفظ. وقد جئت قاصداً لعلي أراه. فقال له خياط: هذه طريق كُتابه وهو إلى الآن ماء فاقعد عندنا، الساعة يجيء يعبر علينا ذاهباً إلى الكتاب. فجلس الشيخ الحلبي قليلاً، فمر صبيان، فقال الخياط للحلبي: ذلك الصبي الذي معه اللوح الكبير هو أحمد بن تيمية. فناداه الشيخ، فجاء إليه، فتناول الشيخ اللوح، فنظر فيه ثم قال: يا ولدي امسح حتى أملي عليك شيئاً تكتبه. ففعل، فأملى عليه من متون الأحاديث أحد عشر، أو ثلاثة عشر حديثاً. وقال له: إقرأ هذا فلم يزد علة أن تأمله مرة بعد كتابته إياه، ثم دفعه إليه وقال: اسمعه علي، فقرأه عليه عرضاً كأحسن ما أنت سامع. فقال له: يا ولدي امسح هذا، ففعل. فأنلى عليه عدة أسانيد انتخبها، ثم قال: اقرأ هذا، فنظر فيه، كما فعل أول مرة. فقام الشيخ، وهو يقول: إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم، قإن هذا لم يُر مثله، أو كما قال.»[43][44]
تعليمه
بدأ اهتمام ابن تيمية بدراسة العلوم منذ صغره، ويقول عنه معاصروه ومؤرخوه أنه كان بالرغم من صغر سنه لم يكن يتجه إلى الملاعب والملاهي كبقية الأطفال، فدرس العلوم المعروفة في عصره، وعُني باللغة العربية عناية كبيرة، فأجاد وبرع في اللغة والنحو، واعتنى بدراسة (الكتاب) لسيبويه بنظر ناقد، وبالرغم من أنه كتاب له أهمية كبرى في النحو، فقد خالف ابن تيمية سيبويه في بعض المسائل. ودرس أحوال الجاهلية، وتوسع في دراسة تاريخ العهد الإسلامي والدول الإسلامية. وعُني بدراسة الخط والحساب والعلوم الرياضية. ودرس العلوم الدينية من الفقه والأصول والفرائض والحديث والتفسير. وورث من آبائه الفقه الحنبلي، وقد درسه على يد والده. وكانت ما عادات عصره المتبعة سماع الحديث وحفظه وكتابته، فكان أول كتاب حفظه في الحديث الجمع بين الصحيحين للحميدي، ثم استفاد من علماء عصره وعلماء الشام، وأخذ عنهم الحديث ورواه. وقد بلغ كعدد شيوخه الذين سمع منهم أكثر من مئتي شيخ، كما ذكر ابن عبد الهادي وكان من خواص شيوخه ابن عبدالدائم المقدسي، ورجال طبقته وعصره، وسمع مسند أحمد مرات، وكذلك الصحاح الستة عدة مرات أيضاً.[45]
وكان التفسير أحب العلوم لدى ابن تيمية، وقال عن نفسه بأنه درس أكثر من مئة كتاب في تفسير القرآن، ويقول: «ربما طالعت على الآية الواحدة مئة تفسير، ثم أسأل الله الفهم، وأقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني. وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأمرغ وجهي في التراب، وأسأل الله تعالى وأقول يا معلم إبراهيم فهمني.»[46] ويقول أبو الحسن الندوي: «وكانت لعلم الكلام الذي حمل لواءه الأشاعرة كلمة نافذة في هذا العصر، ولا سيما في مصر والشام، فقد كان السلطان (صلاح الدين) نفسه أشعرياً، حافظاً لمتن قطب الدين أبي المعالي الأشعري (الذي كان قد ألفه في العقائد) منذ صغره، وكان يشرِف على تحفيظه لأولاد أسرته الصغار، وكان هو وخلفاؤه بنو أيوب قد جعلوا الناس ملتزمين بالعقيدة الأشعرية، فكانت (الأشعرية) تتمتع بحماية الحكومة إلى عصره وعصر خلفئه مماليك مصر. وكان الحنابلة يُعتبرون خصماً معارضاً للأشاعرة، تحدث بينهم بعض المناوشات الكلامية، ويشتغل كلا الفريقين بالجدل والكلام، فقد كان كلام الأشاعرة وطريق إثباتهم مبنياً على الاستدلال العقلي والبرهان المنطقي. أما الحنابلة فكانوا يبحثون عن المعاني الظاهرة للنصوص والآيات والأحاديث، وكان يبدو في بعض الأحيان أن كفتهم تطيشُ في الجدال العلمي، لعدم تعمقهم في علم الكلام، وانقطاعهم عن ممارسة العلوم العقلية، فكان يغلب على الظن، ويخيل إلى الناس أن خبرتهم بالعلوم العقلية قليلة، أو عديمة، وأنهم ليسوا متعمقين في العلم. ولعل ذلك ما حفز ابن تيمية، ذلك الشاب الغيور، والعالم الذكي على التوسع والتعمق في علم الكلام، والاطلاع على العلوم العقلية مباشرةً، فعكف على الدراسة العميقة لهذه العلوم، وتبخر فيها، حتى أدرك مواضع الضعف فيها، وأخطاء مؤلفيها وأئمتها من حكماء اليونان، وتصدى للرد على هذه العلوم وانتقادها، وألف كتباً عجزت الأوساط الفلسفية كلها عن الرد عليه...».[47]
كذلك يذكر أحد المؤرخين أن ابن تيمية أتقن لغات أخرى غير اللغة العربية، منها اللغة العبرية التي تعلمها لدراسة العهدين القديم والجديد ويستدل بذلك قوله في مجموع الفتاوى: «وقد سمعت ألفاظ التوراة بالعبرية من مسلمة أهل الكتاب، فوجدت اللغتين متقاربتين غاية التقارب، حتى صرت أفهم كثيراً كم كلامهم العبري بمجرد المعرفة بالعربية». وأيضاً يذكر المؤرخون أنه أجاد اللغة التركية واللغة اللاتينية ودل على ذلك نص ورد في مجموع الرسائل الكبرى.[48]
شيوخه
سمع ابن تيمية من أزيد من مئتي شيخ كما يذكر جل المؤرخون، ومنهم: ابن عبد الدائم المقدسي، وابن أبي اليسر، والكمال بن عبد، وشمس الدين ابن أبي عمر الحنبلي، وشمس الدين بن عطاء الحنفي، وجمال الدين يحيى ابن الصيرفي، ومجد الدين ابن عساكر، والنجيب المقداد، وأحمد ابن أبي الخير الحداد، والمسلم بن علان، وأبو بكر الهروي، والكمال عبد الرحيم، وفخر الدين ابن البخاري، وابن شيبان، والشرف بن القواس، وزينب بنت مكي، وست العرب الكندية، وأبو محمد بن عبد القوي في اللغة العربية، وتاج الدين الفزاري، وزين الدين ابن المنجى، والقاضي الخويي، وابن دقيق العيد، وابن النحَّاس، والقاسم الإربلي، وعبد الحليم بن عبد السلام (والده)، وشرف الدين أبو العباس أحمد بن أحمد المقدسي، وجمال الدين البغدادي، وإبراهيم بن الدرجي، وعلي بن بلبان، ويوسف بن أبي نصر الشقاوي، وعبد الرحمن بن أحمد العاقوسي، ورشيد الدين محمد بن أبي بكر العامري، وبدر الدين بن عبد اللطيف خطيب حماه، وتقي الدين مُزيز، وتاج الدين أحمد بن مزيز، وجمال الدين أحمد بن أبي بكر الحموي.[49]
توليه التدريس
دروس التفسير.
شرع ابن تيمية في التدريس والفتوى وهو ابن سبع عشرة سنة، بالإضافة إلى أنه قد بدأ في هذا السن بالتأليف أيضاً. وكان العالم كمال الدين أحمد بن نعمة المقدسي ممن أذن لابن تيمية بالإفتاء ويذكر المؤرخون أنه كان يفتخر بذلك ويقول: أنا أذنت لابن تيمية بالإفتاء.[50] وما إن بلغ ابن تيمية من عمره 22 سنة حتى توفي والده عبد الحليم ابن تيمية في سنة 682 هـ، وحدث فراغ كبير في مشيخة التدريس بدار الحديث السكرية. فخلفه ابنه أحمد ابن تيمية فيها وكان ذلك في 2 محرم 683 هـ.[51] يذكر المؤرخون بأن علماء كثر قاموا بحضور الدرس الأول لابن تيمية وأنه نال أعجابهم، وكان من هؤلاء العلماء بهاء الدين بن الزكي الشافعي، وتاج الدين الفزاري، وزين الدين ابن المرحل، وزين الدين ابن المنجا الحنبلي، وبعض علماء الحنفية. وفي العاشر من صفر جلس ان تيمية بالجامع الأموي بعد صلاة الجمعة للتفسير.[52]
وأما طريقته في إلقاء دروسه فقد وصف بأنه كان يجلس بعد أن يصلي ركعتين، ويحمد الله ويصلي على النبي، فيبدأ بدرسه من حفظه، وكان يغمض عينيه عند الحديث. وكان يتكلم على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث، ويورد أيضاً في حديثه من القرآن والسنة واللغة والنظر.[53]
بالإضافة إلى تدريسه في دار الحديث السكرية وتفسيره القرآن الكريم في المسجد الأموي، فقد تولى التدريس بالمدرسة الحنبلية خلفاً للعالم زين الدين بن المنجا الحنبلي، ثم تنازل عن التدريس فيها بعد فترة طويلة لعدم تفرغه وكثرة أسفاره بين الشام ومصر، وانشغاله بمحاربة التتار، وإعداد الناس لمجابهتهم، وكان أول يوم في تدريسه بالمدرسة الحنبلية في 17 شعبان، وقد تركها بعد تنازله عنها لشمس الدين ابن الفخر البعلبكي.[54] وكان يورد الدرس بلا توقف ولا تلعثم وبصوت جهوري فصيح، ويجمع المؤرخون أن شروط الاجتهاد اجتمعت فيه، وكان أيضاً قد أقام عدة سنين إذا افتى، لم يلتزم بمذهب معين بل بما يقوم عليه الدليل، وأيضاً إذا ذكرت مسألة، يذكر فيها مذاهب الأئمة،[55] وبعد قدومه إلى دمشق سنة 712 هـ بعد أن غاب عنها فوق سبع سنين، أكمل تدريسه بمدرسة السكرية والحنبلية.[56]
مولده ونشأته
مولده
تتوزع بلاد ما بين النهرين بين جزأين، الجزء الجنوبي الذي يسمى العراق العربي وهو يتضمن بغداد والبصرة، وأما الجزء الشمالي فيسمى في الأدب العربي القديم ديار بكر وديار مضر، ويسميه الجغرافيون العرب باسم الجزيرة، ويقع في شرقها كردستان وفي غربها آسيا الصغرى وبادية الشام، وفي جنوبها العراق العربي، وفي شمالها أرمينية. وتقع في هذه المنطقة مدينة الموصل والرقة البيضاء، والرها وغيرها. وفي جنوب مدينة الرها (أورفة) تقع مدينة حران إحدى المدن الشهيرة وهي موطن ابن تيمية القديم حيث كانت أسرته تسكن فيها منذ قرون.[34] وهي المدينة التي ولد فيها ابن تيمية. وولد تقي الدين ابن تيمية في يوم الإثنين 10 ربيع الأول سنة 661 هـ، وقد اتفق جمهور من ترجم له على الشهر الذي ولد فيه والسنة التي ولد فيها، ولكن الاختلاف جاء في تحديد اليوم فذكر آخرون أنه ولد في يوم 12 ربيع الأول.[35] وسماه والده بأحمد تقي الدين، واكتني بأبي العباس وهو يافع، ولكنه اشتهر بابن تيمية، وغلب هذا اللقب على اسمه، وعرف بين الناس به.[28]
نشأته
كان عصر ابن تيمية عصراً مليئاً بالقلاقل والفتن والاضطرابات. وكان العالم الإسلامي كله خائفاً من التتر، الذين كانوا إذا أغاروا على مدينة؛ خربوها ونهبوها، وقتلوا سكانها وسلبوا أموالها وسبوا نسائها كما يذكر المؤرخون. وما إن بلغ ابن تيمية السادسة أو السابعة من عمره، حتى أغار التتر على بلده حران، فالتجأت أسرتُه إلى الفرار منها بجميع ما كان لديها. وبما أن العراق كان مركز غارة التتر ونهبهم لم تفكر الأسرة في الهجرة إليه، وكانت بلاد الشام أقرب بلد لم يصل إليه الدمار، حيث كانت تحت حكم ملوك مصر المماليك، فاتجهت أسرته إليها، وقصدت مدينة دمشق. ويذكر المؤرخون قصة والد ابن تيمية عبد الحليم، أنه عندما خرج مع أسرته للطريق أخذ معه كتبه - يقصد المؤرخون ذكر هذه القصة لإثبات محبة الأسرة للعلم بالرغم من من ظروفهم الصعبة التي مروا بها - على عجلة يجرها لعدم توفر الدواب ويعينه على جرها أبناء بلدته الذين خرجوا معه، وكاد التتر أن يلحقوا بهم في أثناء الطريق لتوقف المركبة عن السير. إلا أنهم قاموا برفع أيديهم للدعاء حتى نجوا كما يذكر المؤرخون، وتمكنوا من الوصول إلى دمشق، واستقروا بها.[36][37]
وما أن استقرت الأسرة في دمشق حتى شاع خبرها في أوساط الناس، وقد كان أصحاب العلم يعرفون والد ابن تيمية أبي البركات مجد الدين عبد الحليم ابن تيمية وأعماله، ولم تمر إلا فترة قصيرة حتى بدأ في التدريس والوعظ في الجامع الأموي، وفي مدرسة الحديث السكرية، وصار مرجعاً للطلبة وعلماء المذهب الحنبلي. يقول شمس الدين الذهبي: «وكان قدومه إلى دمشق بأهله وأقاربه مهاجراً سنة سبع وستين (667 هـ)، وكان من أنجم الهدى، وإما اختفى من نور القمر، وضوء الشمس - يشير إلى أبيه وابنه -.» ويقول علم الدين البرزالي: «كان من أعيان الحنابلة باشر بدمشق دار الحديث السكرية بالقصاعين وبها سكن وكان له كرسي بدمشق يتكلم عليه أيام الجمع من حفظه.» ويقول ابن كثير: «كان له فضيلة حسنة، ولديه فضائل كثيرة. كان له كرسي بجامع دمشق يتكلم عليه من ظاهر قلبه، وولي مشيخة دار الحديث السكرية بالقصاعين، وبها كان سكنه، ثم درس ولده الشيخ تقي الدين بها بعده.»[38][39]
طلبه للعلم
يُجمع معظم المؤرخون على أن ابن تيمية نشأ في عفاف وتصون، وعود نفسه على الاقتصاد في الملبس والمأكل، وأيضاً كان باراً بوالديه، ومحباً للعلم والبحث. فيقول الحافظ الذهبي في ذلك: «نشأ في تصون تام وعفاف وتأله وتعبد، واقتصاد في الملبس والمأكل، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، فيتكلم ويناظر ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم؛ فأفتى وله تسع عشرة سنة؛ بل أقل. وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت، وأكب على الاشتغال. ومات والده - وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم - فدرَّس بعده وقام بوظائفه وله إحدى وعشرون سنة، واشتهر، وبَعُدَ صيته في العالم، فطبق ذكره الآفاق.»[40]
اشتهاره بالحفظ
عرفت أسرة ابن تيمية بقوة الذاكرة وكثرة الحفظ وسرعته، فقد كان أبوه وجده أيضاً قويي الذاكرة، ولكن تقي الدين ابن تيمية سبق أسرته في هذا الأمر،[41] فكان من أكابر حفاظ عصره، وصاحب ذاكرة قوية، وسريع الحفظ. ويقول في ذلك محمد الصادق عرجون: «نشأ الإمام ابن تيمية - رحمه الله - يزينه عقل جمع الله له في المعارف قوي الفكر الإنساني، حفظاً وإدراكاً، ووعياً، فالتاريخ يضعه مع طليعة الأفذاذ الذين يضرب بهم المثل في الألمعية والذكاء المتفوق، وفي الحفظ الضابط، والذاكرة الواعية، الذين لا تغلطهم الأَغاليط، ويقول عنه معاصروه: أَنه ما حفظ شيئاً ونسيه، ولا نظر في مكتوب قل أو كثر إلا وحفظه، ولا سمع من العلم والمعارف شيئاً ونسيه، ولا نظر في مكتوب قل أو كثر إلا وحفظه، ولا سمع من العلم والمعارف شيئاً غاب بعد أن علمه، فإذا قرأنا عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة أنه كان يسمع من شيخه إمام المحدثين ابن شهاب الزهري من الثلاثين إلى الأربعين حديثاً في مجلس واحد فيحفظها لا يخرم منها حرفاً إذا تلاها، وقد ذكر الرواة أنه سمع مرة هذا القدر وفيه حديث السقيفة على إتساعه وطوله وتنوع الكلام فيه، فأعاجها كلها لم تند عنه كلمه، وإذا قرأنا عن أبي عبد الله الشافعي أنه سمع من شيخه مالك بن أنس بضع عشر حديثاً في مجلس واحد، فأعادها حفظاً بأسانيدها لم يختلف فيها عن سماعه من الإمام في كلمة أو حرف، إلى كثير من أوتوا في الإسلام حوافظ ضابطة، ومدارك واعية - فإن ما أُثر عن ابن تيمية منذ طفولته - وهو الرجل المخاصم الذي يتربص به خصومه ليأخذوا عليه شيئاً يعيبونه به - ليضعه في الذروة مع أولئك الغر البهاليل من أئمة الإسلام دون نكير.»[42]
ونقل ابن الوردي وابن شاكر الكتبي عن الحافظ الذهبي أنه قال: «انبهر الفضلاء من فرط ذكانئه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته وسرعة إدراكه.» وقال أيضاً عمر بن علي البزار: «كانت مخايل النجابة عليه في صغره لائحة، ودلائل العناية فيه واضحة... كان الله قد خصه بسرعة الحفظ وإبطاء النسيان، لم يكن يقف على شيء، أو يستمع لشيء غالباً إلا ويبقى على خاطره، إما بلفظه أو معناه، وكان العلم كأنه اختلط بلحمه ودمه وسائره، فإنه لم يكن له مستعاراً، بل كان له شعاراً ودثاراً، لم يزل آباؤه أهل الدراية التامة، والقدم الراسخة في الفضل، لكن جمع الله له ما خرق بمثله العادة، ووفقه في جميع أمره لاعلام السعادة، وجعل مآثره لإمامته من أكبر شهادة.» وأورد ابن عبد الهادي في كتابه "العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية" قصة في سرعة حفظه فقال: «واتفق أن بعض مشايخ العلماء بحلب قدم إلى دمشق، وقال: سمعت في البلاد بصبي يقال له أحمد بن تيمية، وأنه سريع الحفظ. وقد جئت قاصداً لعلي أراه. فقال له خياط: هذه طريق كُتابه وهو إلى الآن ماء فاقعد عندنا، الساعة يجيء يعبر علينا ذاهباً إلى الكتاب. فجلس الشيخ الحلبي قليلاً، فمر صبيان، فقال الخياط للحلبي: ذلك الصبي الذي معه اللوح الكبير هو أحمد بن تيمية. فناداه الشيخ، فجاء إليه، فتناول الشيخ اللوح، فنظر فيه ثم قال: يا ولدي امسح حتى أملي عليك شيئاً تكتبه. ففعل، فأملى عليه من متون الأحاديث أحد عشر، أو ثلاثة عشر حديثاً. وقال له: إقرأ هذا فلم يزد علة أن تأمله مرة بعد كتابته إياه، ثم دفعه إليه وقال: اسمعه علي، فقرأه عليه عرضاً كأحسن ما أنت سامع. فقال له: يا ولدي امسح هذا، ففعل. فأنلى عليه عدة أسانيد انتخبها، ثم قال: اقرأ هذا، فنظر فيه، كما فعل أول مرة. فقام الشيخ، وهو يقول: إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم، قإن هذا لم يُر مثله، أو كما قال.»[43][44]
تعليمه
بدأ اهتمام ابن تيمية بدراسة العلوم منذ صغره، ويقول عنه معاصروه ومؤرخوه أنه كان بالرغم من صغر سنه لم يكن يتجه إلى الملاعب والملاهي كبقية الأطفال، فدرس العلوم المعروفة في عصره، وعُني باللغة العربية عناية كبيرة، فأجاد وبرع في اللغة والنحو، واعتنى بدراسة (الكتاب) لسيبويه بنظر ناقد، وبالرغم من أنه كتاب له أهمية كبرى في النحو، فقد خالف ابن تيمية سيبويه في بعض المسائل. ودرس أحوال الجاهلية، وتوسع في دراسة تاريخ العهد الإسلامي والدول الإسلامية. وعُني بدراسة الخط والحساب والعلوم الرياضية. ودرس العلوم الدينية من الفقه والأصول والفرائض والحديث والتفسير. وورث من آبائه الفقه الحنبلي، وقد درسه على يد والده. وكانت ما عادات عصره المتبعة سماع الحديث وحفظه وكتابته، فكان أول كتاب حفظه في الحديث الجمع بين الصحيحين للحميدي، ثم استفاد من علماء عصره وعلماء الشام، وأخذ عنهم الحديث ورواه. وقد بلغ كعدد شيوخه الذين سمع منهم أكثر من مئتي شيخ، كما ذكر ابن عبد الهادي وكان من خواص شيوخه ابن عبدالدائم المقدسي، ورجال طبقته وعصره، وسمع مسند أحمد مرات، وكذلك الصحاح الستة عدة مرات أيضاً.[45]
وكان التفسير أحب العلوم لدى ابن تيمية، وقال عن نفسه بأنه درس أكثر من مئة كتاب في تفسير القرآن، ويقول: «ربما طالعت على الآية الواحدة مئة تفسير، ثم أسأل الله الفهم، وأقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني. وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأمرغ وجهي في التراب، وأسأل الله تعالى وأقول يا معلم إبراهيم فهمني.»[46] ويقول أبو الحسن الندوي: «وكانت لعلم الكلام الذي حمل لواءه الأشاعرة كلمة نافذة في هذا العصر، ولا سيما في مصر والشام، فقد كان السلطان (صلاح الدين) نفسه أشعرياً، حافظاً لمتن قطب الدين أبي المعالي الأشعري (الذي كان قد ألفه في العقائد) منذ صغره، وكان يشرِف على تحفيظه لأولاد أسرته الصغار، وكان هو وخلفاؤه بنو أيوب قد جعلوا الناس ملتزمين بالعقيدة الأشعرية، فكانت (الأشعرية) تتمتع بحماية الحكومة إلى عصره وعصر خلفئه مماليك مصر. وكان الحنابلة يُعتبرون خصماً معارضاً للأشاعرة، تحدث بينهم بعض المناوشات الكلامية، ويشتغل كلا الفريقين بالجدل والكلام، فقد كان كلام الأشاعرة وطريق إثباتهم مبنياً على الاستدلال العقلي والبرهان المنطقي. أما الحنابلة فكانوا يبحثون عن المعاني الظاهرة للنصوص والآيات والأحاديث، وكان يبدو في بعض الأحيان أن كفتهم تطيشُ في الجدال العلمي، لعدم تعمقهم في علم الكلام، وانقطاعهم عن ممارسة العلوم العقلية، فكان يغلب على الظن، ويخيل إلى الناس أن خبرتهم بالعلوم العقلية قليلة، أو عديمة، وأنهم ليسوا متعمقين في العلم. ولعل ذلك ما حفز ابن تيمية، ذلك الشاب الغيور، والعالم الذكي على التوسع والتعمق في علم الكلام، والاطلاع على العلوم العقلية مباشرةً، فعكف على الدراسة العميقة لهذه العلوم، وتبخر فيها، حتى أدرك مواضع الضعف فيها، وأخطاء مؤلفيها وأئمتها من حكماء اليونان، وتصدى للرد على هذه العلوم وانتقادها، وألف كتباً عجزت الأوساط الفلسفية كلها عن الرد عليه...».[47]
كذلك يذكر أحد المؤرخين أن ابن تيمية أتقن لغات أخرى غير اللغة العربية، منها اللغة العبرية التي تعلمها لدراسة العهدين القديم والجديد ويستدل بذلك قوله في مجموع الفتاوى: «وقد سمعت ألفاظ التوراة بالعبرية من مسلمة أهل الكتاب، فوجدت اللغتين متقاربتين غاية التقارب، حتى صرت أفهم كثيراً كم كلامهم العبري بمجرد المعرفة بالعربية». وأيضاً يذكر المؤرخون أنه أجاد اللغة التركية واللغة اللاتينية ودل على ذلك نص ورد في مجموع الرسائل الكبرى.[48]
شيوخه
سمع ابن تيمية من أزيد من مئتي شيخ كما يذكر جل المؤرخون، ومنهم: ابن عبد الدائم المقدسي، وابن أبي اليسر، والكمال بن عبد، وشمس الدين ابن أبي عمر الحنبلي، وشمس الدين بن عطاء الحنفي، وجمال الدين يحيى ابن الصيرفي، ومجد الدين ابن عساكر، والنجيب المقداد، وأحمد ابن أبي الخير الحداد، والمسلم بن علان، وأبو بكر الهروي، والكمال عبد الرحيم، وفخر الدين ابن البخاري، وابن شيبان، والشرف بن القواس، وزينب بنت مكي، وست العرب الكندية، وأبو محمد بن عبد القوي في اللغة العربية، وتاج الدين الفزاري، وزين الدين ابن المنجى، والقاضي الخويي، وابن دقيق العيد، وابن النحَّاس، والقاسم الإربلي، وعبد الحليم بن عبد السلام (والده)، وشرف الدين أبو العباس أحمد بن أحمد المقدسي، وجمال الدين البغدادي، وإبراهيم بن الدرجي، وعلي بن بلبان، ويوسف بن أبي نصر الشقاوي، وعبد الرحمن بن أحمد العاقوسي، ورشيد الدين محمد بن أبي بكر العامري، وبدر الدين بن عبد اللطيف خطيب حماه، وتقي الدين مُزيز، وتاج الدين أحمد بن مزيز، وجمال الدين أحمد بن أبي بكر الحموي.[49]
توليه التدريس
دروس التفسير.
شرع ابن تيمية في التدريس والفتوى وهو ابن سبع عشرة سنة، بالإضافة إلى أنه قد بدأ في هذا السن بالتأليف أيضاً. وكان العالم كمال الدين أحمد بن نعمة المقدسي ممن أذن لابن تيمية بالإفتاء ويذكر المؤرخون أنه كان يفتخر بذلك ويقول: أنا أذنت لابن تيمية بالإفتاء.[50] وما إن بلغ ابن تيمية من عمره 22 سنة حتى توفي والده عبد الحليم ابن تيمية في سنة 682 هـ، وحدث فراغ كبير في مشيخة التدريس بدار الحديث السكرية. فخلفه ابنه أحمد ابن تيمية فيها وكان ذلك في 2 محرم 683 هـ.[51] يذكر المؤرخون بأن علماء كثر قاموا بحضور الدرس الأول لابن تيمية وأنه نال أعجابهم، وكان من هؤلاء العلماء بهاء الدين بن الزكي الشافعي، وتاج الدين الفزاري، وزين الدين ابن المرحل، وزين الدين ابن المنجا الحنبلي، وبعض علماء الحنفية. وفي العاشر من صفر جلس ان تيمية بالجامع الأموي بعد صلاة الجمعة للتفسير.[52]
وأما طريقته في إلقاء دروسه فقد وصف بأنه كان يجلس بعد أن يصلي ركعتين، ويحمد الله ويصلي على النبي، فيبدأ بدرسه من حفظه، وكان يغمض عينيه عند الحديث. وكان يتكلم على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث، ويورد أيضاً في حديثه من القرآن والسنة واللغة والنظر.[53]
بالإضافة إلى تدريسه في دار الحديث السكرية وتفسيره القرآن الكريم في المسجد الأموي، فقد تولى التدريس بالمدرسة الحنبلية خلفاً للعالم زين الدين بن المنجا الحنبلي، ثم تنازل عن التدريس فيها بعد فترة طويلة لعدم تفرغه وكثرة أسفاره بين الشام ومصر، وانشغاله بمحاربة التتار، وإعداد الناس لمجابهتهم، وكان أول يوم في تدريسه بالمدرسة الحنبلية في 17 شعبان، وقد تركها بعد تنازله عنها لشمس الدين ابن الفخر البعلبكي.[54] وكان يورد الدرس بلا توقف ولا تلعثم وبصوت جهوري فصيح، ويجمع المؤرخون أن شروط الاجتهاد اجتمعت فيه، وكان أيضاً قد أقام عدة سنين إذا افتى، لم يلتزم بمذهب معين بل بما يقوم عليه الدليل، وأيضاً إذا ذكرت مسألة، يذكر فيها مذاهب الأئمة،[55] وبعد قدومه إلى دمشق سنة 712 هـ بعد أن غاب عنها فوق سبع سنين، أكمل تدريسه بمدرسة السكرية والحنبلية.[56]