الإمام أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي

إلياس

:: أستاذ ::
أحباب اللمة
إنضم
24 ديسمبر 2011
المشاركات
24,447
نقاط التفاعل
27,812
النقاط
976
محل الإقامة
فار إلى الله
الجنس
ذكر
الإمام أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي




تاريخ الأمة المحمدية زاخر بالمواقف والمشاهد التي تكررت عبر عصور هذه الأمة، والتي تحكي وتكشف لنا عن حقيقة العلماء الربانيين، والأئمة الكبار، الذين يعلمون يقينًا الدور المنوط بهم، وتبعات هذا الدور الشريف؛ لذلك فإننا نعجب كثيرًا إذا ما رأينا أن رد فعل العلماء والأئمة الكبار واحد أمام المحن والفتن والابتلاءات، فردهم وجوابهم واحد، وشعارهم واحد، فديدن حياتهم الثبات حتى الممات، والأخذ بالعزمات، والإعراض عن الرخص، لا لشيء إلا لأنهم قدوات متبوعون، وبترخصهم يترخص الكثيرون، وبسقوطهم يسقطون، وهذه محنة واحد من هؤلاء الأئمة الأعلام.



التعريف به:

هو الإمام العلامة، سيد الفقهاء، وكبير الشافعية، جبل العلم، أبو يعقوب يوسف بن يحيى القرشي البويطي، أخص تلاميذ الإمام الشافعي، وأنجبهم، وأقربهم لقلبه، وأعلمهم، وخليفته في حلقته بعد وفاته.



لا يُعلم على وجه التحديد متى ولد، ولكنه يرجع لأرومة قرشية أصيلة، أما نسبه البويطي فيرجع إلى قرية بويط بصعيد مصر؛ حيث استقرت أسرته منذ أيام الفتح الإسلامي للبلاد.



تلقى العلم في بداية حياته في قريته بويط، ثم انتقل إلى الفسطاط مع أبيه، وجلس لعبد الله ابن وهب شيخ المالكية في مصر، وحمل عنه علمًا كثيرًا؛ فلما دخل الشافعي رحمه لله إلى مصر سنة 198هـ لنشر علمه جلس إليه البويطي، فانبهر بعلمه؛ فلازم مجلسه ولم يفارقه، وتخرج به، وكان ذا حظ وافر من الفهم والذكاء؛ فصار أكبر أصحاب الإمام الشافعي، وأكثرهم فهمًا لدقائق مذهبه ومسائله، حتى إنه لما مات الإمام الشافعي سنة 204هـ جلس البويطي مكانه في الحلقة، وتصدر وأفتى، وناظر وألف؛ وذلك كله وهو في شرخ الشباب.



ثناء الناس عليه:

لقد كان الإمام البويطي من الأئمة الأعلام، المقتدى بهم في العلم والعمل؛ فلقد كان إمامًا في العلم، قدوة في العمل، زاهدًا ربانيًا، متهجدًا، دائم الذكر والعمل، ولنسمع ثناء أستاذه وإمامه الشافعي، وكلامه فيه لنعلم مدى مكانة هذا الإمام؛ فقد قال عنه الإمام الشافعي: ليس في أصحابي أحد أعلم من البويطي، وكانت المسائل تأتي الشافعي فيحيلها على البويطي ليجيب عليها، وقال مرة للمعترض على ذلك: البويطي لساني الذي أتكلم به، حتى إنه كان يرسله مع رجال الوالي من الحرس والشرط لردع العصاة، والاحتساب على الماجنين والفاسقين، ولما أوشك الإمام الشافعي على الموت سألوه عمن يرث مجلسه، فقال: ليس أحدًا أحق بمجلسي من يوسف، يقصد: البويطي.



وقال عنه قرينه ونظيره في حلقة الشافعي، الإمام الربيع بن سليمان: كان البويطي أبدًا يحرك شفتيه بذكر الله، وما أبصرت أحدًا أنزع بحجة من كتاب الله من البويطي، وكان يسرد الصوم، ويختم في الأسبوع الواحد عدة مرات، وكان من رجال العامة: يقوم مع الناس في حاجاتهم، وله صنائع المعروف مع الناس أجمعين.



قال عنه الإمام الذهبي: كان إمامًا في العلم، وقدوة في العمل، زاهدًا، ربانيًا، متهجدًا دائم الذكر والعكوف على الفقه.

قال عنه جاره ابن أبي الجارود: كان البويطي جاري، فما كنت أنتبه ساعة من الليل إلا سمعته يقرأ ويصلي.

قال ابن خلكان: البويطي صاحب الشافعي رضي الله عنه كان واسطة عقد جماعته، وأظهرهم نجابة، وكان صالحًا متنسكًا، عابدًا زاهدًا.




محنته:

يعتبر الحسد هو المحرك الرئيسي للمحنة التي وقعت للإمام البويطي، والتي أدت في النهاية إلى مصرعه رحمه الله بطريقة مأساوية، وإن كان هو نفسه رحمه الله قد جعل من محنته تلك مثلا من أروع أمثلة الثبات على الحق، والصبر واليقين.



فلقد مر بنا أن البويطي كان من أكبر وأعلم تلاميذ الإمام الشافعي رحمه الله، وقد فاق أقرانه في حلقة الشافعي؛ لدرجة أن المسائل كانت ترد إلى الشافعي فيطلب من البويطي الإجابة عليها، وأقرانه شاهدون لذلك، وكان يقول لمن يلومه في تقديم البويطي: إنه أعلم أصحابي، ولساني الذي أتكلم به، وكلها أمور كانت تحرك مكنونات الصدور، والحسد بين الأقران أمر مشهور، معروف عبر الدهور.



فلما اشتد المرض على الإمام الشافعي ولم يقدر على الجلوس للعلم تنازع تلاميذ الإمام في من حلقته بالمسجد، وكانت أكبر وأعظم حلقة وقتها، وكان تنازع فيها ثلاثة: البويطي، ومحمد بن عبد الحكم، والمزني، والثلاثة هم أكبر تلاميذ الإمام، وكان البويطي أحقهم: لعلمه وفقهه، ووصلت أخبار هذه المنازعة للإمام وهو على فراش المرض، فقال لأحد تلاميذه - واسمه الحميدي، وكان من أئمة الحديث والأثر، وأصله من الحجاز - قال له الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف، ليس أحد في أصحابي أعلم منه؛ فانطلق الحميدي إلى الثلاثة، وأخبرهم بقول الإمام، فانظر كيف كان رد فعل ابن عبد الحكم، وكان من أشد الثلاثة حرصًا على المنصب!!



عندما سمع ابن عبد الحكم ذلك الكلام انكسر له بشدة وغضب، وقال للحميدي: كذبت، فرد عليه الحميدي، وكان أكبر منه سنًا وقدرًا: بل كذبت أنت، وتنازعا الكلام حتى انتهى لأن جلس البويطي مكان شيخه وإمامه الشافعي، وأكلت الغيرة والحسد قلب محمد بن عبد الحكم حتى فارق مجلسهم، بل فارق مذهب الشافعي بالكلية، وعاد إلى مذهبه القديم - المالكي - ونال فيه مراده، وصار شيخ المالكية في زمانه، وصار شديدًا على الإمام الشافعي، حتى صنف كتابًا في الرد على الشافعي، على الرغم من أن الإمام الشافعي كان يحبه كثيرًا، حتى إنه قد كان يتمنى أن يولد له ولد مثل ابن عبد الحكم هذا، ولكنها الغيرة، ومنافسة الأقران، التي أدت لذلك كله.



توفي الشافعي رحمه الله سنة 204هـ، وجلس البويطي وتصدر وقد حان أوانه؛ فصار كبير الشافعية، وإليه المنتهى في فقه الإمام، وأقبل هو على العلم والعبادة، وإرشاد الناس ونصحهم، والناس تبع له، يحبونه ويجلونه، حتى قدر أتباع الشافعية في أيامه بعشرات الآلاف من أهل مصر.



في تلك الفترة أخذت بدعة القول بخلق القرآن في الظهور شيئًا فشيئًا على يد دعاة الاعتزال، حتى استطاعوا العبث بعقل الخليفة العباسي المأمون، وأقنعوه بتلك البدعة الشنيعة، وحملوه على امتحان الناس، وإجبار العلماء على ذلك، وذلك كما مر بنا الحديث أثناء محنة الإمام أحمد بن حنبل، فلما تولى الخلافة الواثق بن المعتصم العباسي سنه 227هـ كان من أشد الناس قولا بتلك البدعة، وقد استحوذ قاضي المحن كلها أحمد ابن أبي دؤاد على عقله وقلبه، فلم يقطع الواثق قولا، ولا يصدر رأيًا إلا بمشورة هذا الضال الهالك أحمد بن أبي دؤاد.



استغل أحمد بن أبي دؤاد طاعة الواثق العمياء له؛ فوضع خطة واسعة لنشر تلك البدعة الخبيثة في كل البلاد الإسلامية، وبالفعل شرع في تنفيذها، وأقنع الواثق بعزل كل القضاة والأئمة والولاة الذين لا يقولون بتلك البدعة، وجعل مكانهم قضاة وولاة وأئمة من المعتزلين، القائلين بخلق القرآن، وأصدر أوامره لمعلمي الصبيان في الكتاتيب والمدارس لأن يلقنوا الصبيان الصغار عقيدة الاعتزال، ووصل الأمر ذروته حتى امتحنوا أسرى المسلمين عند الروم: فمن قال بخلق القرآن افتدوه، ومن لم يقل تركوه في الأسر عند الكفار، وبالجملة غلت البلاد بتلك البدعة الخبيثة، وفارت بها أقاليم الخلافة كلها.



في ذلك الجو الخانق والمشحون بالبدع والضلالات ينشط الوشاة، وأصحاب النفوس المريضة من الحاسدين والحاقدين، وانتهز البعض الفرصة لتصفية الحسابات، والقضاء على الكفاءات، وكان قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد يتتبع الأئمة والعلماء وكبار المشايخ، ويعمل جاهدًا على إسكاتهم بأية صورة كانت، وبالترغيب أو بالترهيب، كلٌ حسب صموده وصبره، فانتهز ذلك الأمر بعض الحاسدين للإمام البويطي: وهم أبو بكر الأصم قاضي مصر، وكان معتزليًا، ورجل آخر، وهو بكل أسف وحزن عبد الله بن الإمام الشافعي نفسه، وكان مخالفًا لسيرة أبيه تمامًا، وقام الرجلان بالكتابة إلى قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد في شأن البويطي وعقيدته السلفية، ومعارضته للقول بالبدعة الشنيعة، وعظَّما جدًا من خطورة البويطي على البدعة وأهلها.



كتب ابن أبي دؤاد إلى والي مصر يأمره بامتحان الإمام البويطي، وكان الوالي حسن الرأي فيه، ويحبه لعلمه وورعه؛ فقال له: قل فيما ببني وبينك، أي طلب منه التظاهر بالموافقة فقط ليأمن غائلة الطاغية ابن أبي داود، فإذا بالإمام البويطي يضرب أروع الأمثلة في فهم مكانة الإمام، وطبيعة الدور الذي يؤديه في قيادة الأمة وقت النوازل، وأبى أن يترخص في الأمر، وعمل بالعزيمة كما فعل أخوه الإمام أحمد بن حنبل، وقال للوالي المشفق عليه: إنه يقتدي بن مائة ألف، لا يدرون أني أتظاهر فقط بالموافقة، وإن أجبت أجابوا هم أيضًا؛ فلما علما الطاغية ابن أبي دؤاد أمر بالقبض عليه، وحمله مقيدًا في الحديد الثقيل من الفسطاط إلى بغداد، وذلك سنة 230هـ.



ولنا أن نتخيل حجم المعاناة الشديدة، والمحنة الكبيرة التي كان فيها البويطي طوال الرحلة من الفسطاط إلى بغداد، وهو مقيد بسلسلة حديدية وزنها أربعون رطلا كما حكى لنا زميله وقرينه الربيع بن سليمان، في مشهد هو الأروع في تاريخ المحن، وصبر العلماء عليها.



قال الربيع: لقد رأيت الإمام البويطي على بغل في عنقه غل، وفي رجله قيد، وبينه وبين الغل سلسلة فيها لبنة وزنها أربعون رطلا، وهو يقول - أي البويطي -: إنما خلق الله الخلق بـ (كن)؛ فإذا كانت مخلوقة، فكأن مخلوقًا خلق بمخلوق، ولئن أدخلت عليه - يعني الخليفة الواثق - لأَصْدُقَنَّهُ: أي أقول الصدق، ولا أخاف منه، ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم.



ما أروع تلك الكلمات، والله إنها لتستحق أن تكتب بماء من ذهب، وحروف من نور في تاريخ علماء الأمة، ليتعلم منه العلماء والدعاة في كل زمان ومكان والصبر والثبات واليقين، والفداء والتضحية من اجل هذا الدين؛ فالبويطي رغم الإهانة العظيمة، والمحنة الشديدة أرسى العديد من المعالم الهامة، والعظات البالغة لعلماء الأمة أثناء المحن والنوازل منها:

1- جهره بالحق، وصدعه به رغم الآلام النفسية والبدنية الشديدة.

2- تعليمه للناس العقيدة الصحيحة، ودحض الباطل، حتى وهو في قمة المحنة في القيود والأغلال.

3- شجاعته وجرأته في الشدائد، وتمسكه بالصدع من القول حتى ولو كان أمام الخليفة الحاكم نفسه.

4- بذل نفسه وروحه لله عز وجل، والاستقبال لله عز وجل، وإصراره على الحق والثبات على الدين حتى الموت، ولو في السجون والأغلال.

5- حرصه على تعليم أجيال العلماء الآتية الفداء والتضحية من أجل الدين، حتى يعلموا كيف يواجهوا الشدائد والمحن.

فيالها من دروس وعظات كثيرة ضربها لنا ذلك الإمام الفذ.



وفاته:

حمل البويطي في القيود والأغلال من الفسطاط إلى بغداد، وكان طوال الرحلة الطويلة الشاقة يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر ويدحض البدع؛ مما جعل غيظ الطاغية ابن أبي داود يشتد عليه؛ فما كاد الإمام أن يصل إلى بغداد حتى أمر ابن أبي داود بإلقائه في غياهب السجون، والتشديد عليه، ولم يمتحنه كما فعل مع غيره من العلماء، ولم يدخله على الخليفة كما هي العادة مع كبار العلماء خوفًا من أن يقنع الواثق بالحق، ويرده عن البدعة.



ظل البويطي في ظلمات السجون عدة شهور كان فيها مثالا للعالم الرباني، سائرًا على درب يوسف عليه السلام، يعلّم المساجين أمور دينهم، ويناظر المبتدعة، وكان في كل يوم جمعة يتطهر ويأتي باب زنزانته ويطلب الخروج لأداء الجمعة، والسجان يردده فيقول: والله إنك تعلم أن المنع ليس مني، وظل دأبه هكذا فترة.



حاول ابن أبي دؤاد الضغط على الإمام البويطي حتى يكسر جموده وصبره، وحاول إرسال بعض المعتزلة لإقناعه فلم ينجح، وظل البويطي جبلا شامخًا، وطورًا عظيمًا أمام المحنة، عندها أمر الطاغية بتشديد الأغلال والقيود عليه حتى أنهم قد لفوه بالحديد من أعلاه إلى أدناه، واشتد الأمر على البويطي فلم يعد قادرا على الحركة إلا ببطء شديد، ومعاناة كبيرة، وأثر ذلك على نفسية الإمام، ذلك أنه لم يعد قادرًا على التطهر والوضوء والصلاة إلا بشق الأنفس، وعرف أعداؤه كيف ينالون منه، في أعز ما يملك: طاعته وعبادته لله عز وجل، وها هو الإمام البويطي يصف لنا حاله برسالة بعث بها للإمام الذهلي، وهو من كبار علماء الحديث في خراسان قال فيها: يا أبا يحيى قل لإخواني أصحاب الحديث، وطلبة العلم أن يدعو الله عز وجل أن يفك كربتي، فلقد كبلوني بالحديد حتى إني لم أعد أتطهر وأصلي كما ينبغي، عسى الله أن يفرج عني ما أنا فيه بدعائهم.



فلما قرأ الإمام الذهلي الرسالة على طلبة الحديث في حلقته بكى وبكوا جميعًا، وضجوا في الدعاء له.



سرعان ما استجاب الله عز وجل لهم، كأنا بأسباب السماء كانت مفتوحة وقتها، وخرجت دعوة المظلوم المكلوم لربها الذي سبق منه القول واليقين بإجابتها ولو بعد حين، نعم جاء الفرج للإمام البويطي من رب السماء، وأخرجه ربه عز وجل من السجن الكبير، أخرجه من سجن الدنيا التي لاقى من أهلها العنت والحسد والوشاية، أخرجه إلى الأفق الرحب، والسعادة السرمدية والراحة الأبدية، أخرجه إلى جنات تجري من تحتها الأنهار، فيما نحتسبه عند الله عز وجل، مات الإمام البويطي في سجنه وقيوده وحديده، وخرجت روحه الطاهرة إلى ربها تشتكي ظلم الطغاة والوشاة؛ وذلك سنة 231هـ، وقد انتصر على خصومه فما نالوا إلا من دنياه، أما من آخرته فما نالوا إلا ما سيلاقونه غدًا من حسرة وندامة بين يدي الله عز وجل عندما يسألهم بأي ذنب سجنتموه وقتلتموه، والله عز وجل أعلم بالعواقب والخواتيم.
 
رد: الإمام أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي

بارك الله فيك
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top