إنَّ تأديبَ الصِّبيان والقيامَ على تربيَتِهم، من أعظم أسبابِ صلاحِ الذُّرِّيَّة وتَنشِئَتِها النَّشأةَ الطَّيِّبَةَ المباركةَ الَّتي تكون سببًا لقُرَّةِ عينِ الأبوَيْن
وغاية التَّربية ومقصد التَّأديب توجيهُ النَّشْءِ في أفكاره ومشاربِه، وضبطُ نوازعه المضطربةِ، وتصحيحُ نظْرَتِه إلى الحياة، لينشأَ جيلاً متلائمَ الأذواقِ، مُتَّحِدَ المشاربِ، مضبوطَ النَّزعاتِ.
قال ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله:
«واعلمْ أنَّ خيرَ القلوبِ أوعاها إلى الخير، وأرجى القلوب للخير ما لم يَسبقِ الشَّرُّ إليه، وأَوْلَى ما عُنِيَ به النَّاصِحون ورَغِبَ في أجرِه الرَّاغِبون، إيصالُ الخير إلى قلوب أولادِ المُؤمِنين ليَرسَخَ فيها، وتنبيهُهم على معالمِ الدِّيانةِ وحدودِ الشَّريعةِ ليُرَاضُوا عليها، وما عليهم أن تَعتَقِدَه من الدِّين قلُوبُهم، وتعملَ به جوارحُهم»(1)، ومن مقول السَّلَفِ السَّائر:
«الصَّلاحُ من الله والأدبُ من الآباء».
والتَّربيةُ وحسنُ التَّأديب لا يَنفَعَانِ إلاَّ بتحقُّقِ القدوةِ الصَّالحةِ من المُربِّي، فإذا فُقِدَت أو شابَها التَّذَبْذُبُ أو حلَّ مكانَها النَّموذَجُ السَّيِّئُ، عاد ذلك بالضَّرر والفسادِ على من يقع عليه التَّأديبُ، ففسادُ الأبناء غالبًا ما يكون سببُه إهمالَ الآباءِ وتفريطَهم في عمليَّةِ التَّأديبِ والتَّعليم؛ قال ابنُ القيِّم رحمه الله:
«فما أَفْسَدَ الأبناءَ مِثلُ تَغفُّلِ الآباءِ وإهمالِهم واستسهالِهم شررَ النَّار بين الثِّيابِ! فأكثرُ الآباءِ يعتمدون مع أولادهم أعظمَ ما يَعتَمِدُ العدوُّ الشَّديدُ العداوةِ مع عدُوِّه وهم لا يشعرون»(2)، وقال في موضعٍ آخر: «وإذا اعتبَرْتَ الفسادَ في الأولادِ رَأَيْتَ عامَّتَه من قِبَلِ الآباء»(3).
وإذا أدرَكْنا أنَّ عامَّةَ الأطفالِ مَفطُورون على غرائِزَ ناقصةٍ؛ فإنَّ الإهمالَ وفقدانَ التَّربيةِ الصَّالحةِ يزيدُها نقصًا وشناعةً، وتُعالِجُها التَّربيةُ الحكيمةُ كما تُعالَجُ الأمراضُ والعللُ، فإذا لم تُعالَجْ في الصِّغَرِ اندَمَلَتْ نفوسُهم عليها كما يَندَمِل الجرحُ على فسادٍ، وجفَّت كما يَجِفُّ العودُ على عِوَج، والتَّصرُّف السَّليمُ هو أن نَضَعَ أَيدِيَنَا على تلك النَّقائِصِ، وأن نَتعهَّدَها بالإصلاحِ والتَّقويمِ، والتَّصحيحِ والتَّعديلِ، فلا يَرَوْنَ منَّا إلاَّ الصَّالِحَ من الأعمالِ والأحوالِ، ولا يَسمَعُونَ منَّا إلاَّ الصَّادقَ من الأقوال، والجميلَ من المنطقِ.
وإنَّ ممَّا أَفْسَدَ على النَّاشئةِ تربِيتَهم ممارسةَ المُربِّين ـ وعلى رأسهم الآباء ثمَّ الأُمَّهات ـ العنفَ ضدَّهم، وأخذَهم بالقَسوَةِ والقَهْرِ في التَّعامل معهم، وكلُّ ذلك معدودٌ من جنايات المُربِّين الجاهِلين بأصولِ التَّربية، ومُوَرِّثٌ لآثارٍ سلبيَّةٍ وسيِّئةٍ، تعود على الولد بالخيبةِ والخسرانِ وفسادِ الطِّباع.
ومن أَبْرَزِ مظاهرِ العُنفِ المُوجَّهِ ضدَّ الأطفال، ما يَصدُر من الآباء والأمَّهاتِ وحتَّى المُعلِّمينَ من الكلماتِ النَّابيةِ والألفاظِ الجارحة، وعباراتِ التَّوبيخِ واستعمالِ اللُّغةِ المُبتَذلَةِ في صَرْفِ الطِّفلِ عن ما لا يليق، أو حملِه على فعلِ ما ينبغي، أو معاقبَتِه عند خَطَئِه وعَمْدِه، أو مُؤاخذَتِه على سَرَفِه وجَهلِه، وقد تصِلُ الخطورةُ أحيانًا إلى جعل أسلوب التَّخاطُبِ ولغةِ المحادثةِ لا تَخرُجُ عن الفحش والبذاء، وقبيحِ الكلام وسيِّئِ الدُّعاء، يُمجُّ بها سمعُ الطِّفلِ ويَنفَطِرُ لها قلبُه، وتُهَزُّ بها نفسيَّتُه، ويَتبلَّدُ منها شعورُه وإحساسُه، حتَّى إنَّه يَعِزُّ على الطِّفل ـ والحال هذه ـ أن يَسمَعَ الطَّيِّبَ من القولِ المصحوبِ بالابتسامةِ الحانيةِ، أو اللَّفظَةِ الزَّاجِرَةِ البَريئةِ من السُّوءِ الَّتي تَنهَاهُ وتُصوِّبُ فِعلَه، فضلاً على أن يَطرُقَ سَمعَه ويُثلِجَ صدرَه كلماتُ المدح والتَّشجيعِ، وعباراتُ الشُّكرِ والتَّقديرِ، وصالحُ الدُّعاء والثَّناء.
***
إنَّ المُربِّي ـ أبًا أو أمًّا أو مُعلِّمًا ـ المحِبَّ، الحازمَ الحاسمَ، المتسامحَ من دون مبالغةٍ هو الَّذي يَعرِفُ أنَّ إحساسَه يتَّجِهُ إلى إنضاجِ ابنِه بالتَّفاعُلِ لا بالقهر، وبالتَّفاهُمِ لا بالقَسْرِ، وبالحَنان لا بالغِلظَةِ، ليكون في مأمنٍ من النَّوازِع الخاطئةِ والتَّصرُّفاتِ السَّلبيَّةِ، يبتدئُ بالكفِّ عن الدُّعاءِ عليه؛ إذ إنَّ أسوأَ ما يُفسِدُ تربيةَ الطِّفلِ، ويُعَرِّضُ نشأتَه للخطر والاستئصال، وأشدَّ عباراتِ التَّوبيخِ وقعًا وتأثيرًا على نَفسيَّتِه دعاءُ والدَيْه عليه، ولذلك جاء النَّهي في الشَّرع عن الدُّعاء على الأولاد، يقول الله تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولا}[الإسراء:11]، قال الحسنُ البصري : في هذه الآيةِ: «يغضبُ أحَدُهم فيدعُو عليه، فيَسُبُّ نفسَه ويَسُبُّ زوجتَه ومالَه وولَدَه، فإنْ أعطاه ذلِكَ شقَّ عليه، فيَمنَعُه ذلك ثمَّ يدعُو بالخَيْرِ فيُعْطِيه»(4).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله ﷺ: «لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ، ولاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لاَ تُوَافِقُوا مِنَ الله سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً، فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ»(5).
ونقل ابنُ الجوزي في «البرِّ والصِّلة» (124) عن الحسن قوله: «دُعاءُ الوالِدَيْن يَستَأْصِلُ المالَ والولدَ».
فعلى من ابتُلِيَ من الآباء والأُمَّهاتِ بإطلاقِ لسانِه في دعاءِ الشَّرِّ كُلَّمَا حَملَه الغيظُ على إنفاذِ أَمْرِه أو ساءه تَصرُّفُ وَلدِه، أن يُوَطِّنَ نفسَه على التُّؤَدَةِ، والنَّظَرِ في العواقِبِ، ومراقبةِ ما يَصدُرُ منه من ألفاظِ الشَّتمِ واللَّعنِ، ويَستَبدِلَ الَّذي هو أدنى بالَّذي هو خير، ويعوِّدَ لسانَه قولَ الحقِّ وحسنَ اللَّفظِ وصالِحَ الدُّعاء؛ فإنَّ ذلك يَعودُ عليه بالغُنْمِ لا بالغُرمِ، وبالأجرِ لا بالوِزرِ، وله في رسول الله ﷺ أسوةٌ حسنةٌ، فعن عائشة رضي الله عنهما قالت: «كان النَّبيُّ ﷺ يُؤتَى بالصِّبيانِ فيدعُو لهم»(6)، فتارةً يدعو لهم بالبركةِ، وتارةً بالرَّحمةِ، ومرَّةً يدعو للصَّبيِّ أنْ يُحبَّهُ اللهُ، وأخرى يدعو له بالتَّفقُّه في الدِّين، وأحيانًا يدعو له بكَثرَةِ المالِ والولدِ، ورُبَّمَا دعَا لهم بالهدايةِ واستغفرَ لهم(7).
ومن طريفِ ما يُروَى عن السَّلَفِ، ما نقلَه أحمدُ بنُ حنبل عن ابنِ عَوْنٍ أنَّهُ كان إذا غَضِبَ على أحدٍ من أهلِه، قال: باركَ اللهُ فيك، فقال لابنٍ له يومًا: باركَ اللهُ فيك فقال: أبَارَكَ اللهُ فِيَّ؟ قال: نعم، فقال بعضُ مَنْ حَضَر: ما قالَ لك إلاَّ خيرًا قال: ما قال لي هذا حتَّى أَجْهَدَ يعني اشتَدَّ غَضبُه»(8)
وجاء رجلٌ إلى عبد الله بنِ المبارك يشكو له عقوقَ وَلدِه، فقال هل دَعَوْتَ عليه؟ فقال: بلى فقال عبد الله: أَنْتَ أَفْسَدتَّه(9)
وعلى المُربِّي أن يُراقِبَ ألفَاظَه عندما يَلجَأُ إلى زجْرِ ولَدِه وإنزالِ العقابِ عليه، فلا يَستَعِمل معه إلاَّ اللفظَ المُناسِبَ، والتَّقريعَ الخالي من الإساءةِ، الَّذي يَفهَمُ منه الطِّفلُ عدمَ رضا مُؤدِّبِه عنه، وليكُفَّ ما أَمكَنَ عن السِّبابِ والشَّتمِ وقبيحِ الكلامِ حتَّى لو كان الطِّفلُ في مراحلِ نُموِّه الأولى، بحجَّةِ أنَّه لا يُدرِكُ معاني الألفاظ ولا يَقدِرُ على النُّطقِ(10)
***
وهذا ما حرصَ على التَّوصيةِ به أهلُ التَّربيةِ والسُّلوكِ من علماء المسلمين، جاء في «الرِّسالة المُفصَّلة لأحوال وأحكام المُعلِّمين والمُتعلِّمين» ص362 للقابسي ت 403هـ ـ أنَّ الصَّبيَّ إذا أَكثَرَ التَّغافُلَ وصدَّه عن الإقبالِ على العلمِ التَّثاقُلُ ـ، قولُه: «ولم يُغنِ فيه العذْلُ والتَّقريعُ بالكلام الَّذي فيه التَّواعُدُ من غيرِ شَتْمٍ ولا سبٍّ لعِرْضٍ؛ كقولِ من لا يَعرِفُ لأطفالِ المؤمنين حقًّا، فيقول: يا مِسْخ، يا قِرْد، فلا يفعل هذا وما كان مثلَه في القبح، فإن قلتَ له واحدةً فلْتَسْتَغْفِرِ اللهَ منها ولْتَنْتَهِ عن معاوَدَتِها، وإنَّما يُجرِي الألفاظَ القبيحةَ من لسان التَّقيِّ تمكُّنُ الغضبِ من نفسه، وليس هذا مكانَ الغضب»
وجاء في كتاب «المدخل» لابن الحاج 2 325 في بيان ما يَأمُرُ به المؤَدِّبُ الصَّبيَّ من الآداب: «ويتعيَّن عليه أنْ لا يَشتُمَ من استحَقَّ الأدبَ من الصِّبيان، وكثيرًا ما يَفعَلُ بعضُ المُؤَدِّبينَ هذا وهو حرامٌ، وذلك أنَّه إذا حصل للمُؤدِّب غيظٌ ما على الصَّبيِّ شَتمَه وتعدَّى بذلِكَ إلى وَالِدَيْه...» إلى أن قال: «فيتعيَّنُ عليه إذا أدرَكَه شيءٌ ممَّا ذُكِرَ أن لا يُؤَدِّبَ الصَّبيَّ في وقتِه ذلك، بل يَترُكُه حتَّى يَسكُنَ غَيظُه ويَذهَبَ عنه ما يَجِدُه من الحَنَقِ عليه، وحينئذٍ يُؤدِّبُه الأدبَ الشَّرعي.
***
ومنْ نَظَرَ في وصايا السَّلفِ من الأمراءِ والعلماءِ للمُؤَدِّبين والمُعلِّمين أَدْرَكَ ما للكلمة الطَّيِّبَةِ من أثرٍ وتـأثيرٍ، وما للكلمةِ النَّابيَةِ من هدمٍ وتدميرٍ في حياة الأطفال، حتَّى ما فَتِئوا يجعلون ذلك في مطلع وصاياهم ومُستهَلِّ نصائِحِهم، أوصى مَسلَمَةُ بنُ عبدِ الملك ت 121هـ مُؤدِّبَ ولَدِه فقال له: «إنِّي قد وصَلْتُ جناحَك بعَضُدي، ورَضِيتُ بك قرينًا لولدي، فأحسِنْ سياسَتَهم تدُمْ لك استقامَتُهم، وأَسْهِلْ بهم في التَّأديبِ عن مذاهب العُنْفِ، وعَلِّمْهُم معروفَ الكلام، وجنِّبْهم مُثاقبَةَ اللِّئامِ، وانْهَهُمْ أن يُعرَفُوا بما لم يَعرِفوا، وكن لهم سائسًا شفيقًا، ومُؤدِّبًا رَفيقًا تُكسِبْكَ الثِّقةُ منهم المحبَّةَ والرِّفقَ وحسنَ القَبولِ ومَحمودَ المغبَّةِ»(11)، وأوصى عُييْنَة بنُ أبي سفيان عبدَ الصَّمَد مُؤدِّبَ وَلَدِه فقال له: «لِيَكُنْ أوَّلُ إصلاحِك بَنِيَّ إصلاحَ نَفسِكَ؛ فإنَّ عيوبَهم معقودةٌ بعيْبِكَ، فالحَسَنُ عنده ما فَعَلْتَ، والقبيحُ ما تَركْتَ»(12)، وممَّا حَذَّرَ منه هشامُ بنُ عبدِ الملك مُؤدِّبَ ولده سليمانَ الكلبي أن يتساهل معه في سماع الكلام القبيح، قال له: «ولا تُدخِلْ عليه الفُسَّاقَ ولا شَرَبَةَ السُّكر؛ فإنَّكَ منهم بيْنَ خَصلَتَيْن: إمَّا أن يَسمَعَ منهم كلامًا قبيحًا فيأخُذَ به وتريدَ تحويلَه عنه فلا تقدر عليه (13)»
***
وعلى المُربِّي إذا اسْتَهْدَفَ تغييرَ سلوكِ منْ يُربِّيه أن يكونَ دومًا إيجابِيًّا في توجيهِ اللَّومِ والعتابِ، خفيفًا في إنزالِ العقوبةِ والتَّعزيرِ وإن كان الطِّفلُ يَستَحِقُّ ذلك؛ لأنَّه من أهلِ التَّأديبِ، لا من أهلِ العقوبةِ والجنايةِ، قال الكاساني في «بدائع الصَّنائع» (7 /64) مُشيرًا إلى نوعِ التَّعزير الَّذي يُوجَّهُ للطِّفلِ ويُؤاخَذُ عليه أنَّه «يُعزَّرُ تَأديبًا لا عقوبةً؛ لأنَّه مِنْ أهلِ التَّأديبِ، ألا ترى إلى ما رُوِيَ عنه ـ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ـ أنَّه قال: «مُرُوا صِبيَانَكُمْ بالصَّلاَةِ إِذَا بَلَغُوا سَبْعًا، واضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا إِذَا بَلَغُوا عَشْرًا»، وذلك بطريقِ التَّأديبِ والتَّهذيبِ لا بطريق العقوبةِ؛ لأنَّها تَستَدْعي الجنايةَ، وفعلُ الصَّبيِّ لا يُوصَفُ بكونِه جنايةً، بخلاف المجنونِ والصَّبيِّ الَّذي لا يَعقِلُ؛ لأنَّهما ليسَا من أهلِ العُقوبَةِ ولا من أهلِ التَّأديبِ»
فكم من صبيٍّ تلقَّى من وَالِدَيْه وابِلاً من الشَّتائِمِ، وقَرَعَ سمعَه قاموسٌ من الألفاظ النَّابيةِ، وهو لا يدري سببَ هذا التَّهجُّمِ، ولا فيما استحقَّ كلَّ هذه الإهانةِ والتَّحقيرِ، مع أنَّ المُسلَّمَ به في قواعد التَّربيةِ والتَّأديب أنَّ الصَّبيَّ لا يُعاقَبُ على كلِّ ذنبٍ أو خطإٍ صدرَ منه، وإذا عوقب فيعاقَبُ على قدرِ ذَنبِه وحَجْمِ خَطَئِه حتَّى لا يَعتَادَ العقوبةَ فيَقِلَّ تأثيرُها فيه، وأن يتجَنَّبَ المُربِّي التَّأنِيبَ والتَّوبِيخَ في حالةِ الغضبِ والانفعالِ؛ لأن ذلك مُفضٍ به إلى مهالكِ القولِ وعوراتِ الكلام، وهو في هذه الحال عند إرادةِ تغييرِ سلوك ابنِه كمَنْ جاء ليَبْنِيَ قَصْرًا فهَدَمَ مِصْرًا، فعلى المُربِّي أنْ يَتعَلَّمَ كيفَ يُدِيرُ غَضَبَه ويَضبِطُ انفعَالاَتِه، وكيفَ يَسْعَى إلى حلِّ المُشكِلَةِ دون أن يزيد في تعقيدها أو يفرز توترا هو أكبر من حجم تلك المشكلة، والانفعالاتُ وإن كان لا يسلَمُ منها بشرٌ فإنَّ الانقيادَ لها مرفوض، والمُربِّي النَّاجِحُ مَنْ يَملِكُ نفسَه عند الغضبِ وحالةِ الانفعالِ ويتمكَّنُ من السَّيطرَةِ على الذَّاتِ، فلا يَقُولُ إلاَّ خيرًا، ويكون استياؤُه من تَصرُّفِ الطِّفلِ وسلوكِه صحيحًا ومناسِبًا وهادِئًا، مُتجنِّبًا السُّخريَةَ والتَّهكُّمَ والاستهزاءَ والتَّحقيرَ وكلَّ أنواعِ الإهانةِ وأشكالِ العُنفِ والتَّهديدِ
***
والمُربِّي المثالي ليس ذلك الذي يتغاضى عن الزَّلاَّتِ ويُهمِلُ التَّأديبَ في وَقتِه، أو يَضرِبُ صفحًا عن إيقاعِ العقابِ والتَّوبيخِ بالطِّفلِ حين يُسِيءُ، وإنَّما المُربِّي النَّاجِحُ هو الَّذي يُظهِرُ استيَاءَه ويُوجِّهُ تَوبِيخَه إلى السُّلوكِ السَّيِّءِ الَّذي وَقَع فيه الطِّفلُ وليس إلى شخصِه حتَّى لا يَهزِمَ نفسِيَّتَه فيُصَابَ بالإحباطِ، بل عليه أن يتَحَوَّلَ من الكلمة النَّابيةِ إلى الكلمةِ البانية، ومن المقولة السَّائبة إلى المقولة الجالِبة، ومن اللَّفظَةِ القاسيةِ إلى اللَّفظَةِ الحانيةِ، فبدَلَ أن يَقُولَ له: «أَنْتَ أنانِيٌّ وحقير؛ لأنَّكَ أكلتَ حلوى أخيك»، يقول له: «إنَّ ما قُمتَ به عملٌ سيِّئٌ غيرُ مَقبُول منك؛ لأنَّه حقُّ أخيك»
ولْنتأَمَّلْ هذا الحديثَ لندرِكَ قدرَ التَّوجيه البَنَّاءِ وطريقة الزَّجرِ الَّتي يُؤخَذُ بها الطِّفل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذَ الحَسَنُ بنُ عليٍّ رضي الله عنهما تَمْرَةً من تَمْرِ الصَّدَقَةِ فجعلَها في فيه، فقالَ له النَّبيُّ ﷺ : «كِخْ، كِخْ» ليطْرَحَها، ثمَّ قال: «أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؟»(14)
قال النَّووي: «وهي كلمةٌ يُزجَرُ بها الصِّبيانُ عن المُستَقْذَراتِ، فيقالُ له كِخْ، أي اتْرُكْهُ وارْمِ به»(15)
والحديثُ من النَّاحية التَّربويَّةِ يُقدِّمُ أسلوبًا مِثالِيًّا في طريقةِ الزَّجرِ، ليكُفَّ الحسن رضي الله عنه عن الفعل، ثمَّ ما لَبِثَ أن وضَّحَ له تعليلَه لسبَبِ عدمِ الأكلِ لتكون له سلوكًا دائمًا ويكونَ وقعُ ذلك على نفسه أقوى تأثيرًا
ثمَّ لْنَقِفْ على هذا المثالِ الواقعي الَّذي يُوضِّحُ لنا كيفَ يَضُرُّ الانتقادُ السَّلبي المصحوبُ بالكلمةِ النَّابيةِ بنفسِيَّةِ الطِّفلِ، ثمَّ نُتبِعُه بمثالٍ آخَرَ للانتقاد الإيجابي المُرفَقِ بالكلمة البانية مع بيان نتائجه الطَّيِّبَةِ
«زياد طفل في العاشرةِ من عُمُرِه سَكَبَ كُوبًا من الحليب دون قصدٍ منه، وهو جالسٌ مع وَالِدَيْه على مائدةِ الإفطارِ، صَرَخَتْ أُمُّه في وَجهِه قائِلةً: أعتقد أنَّكَ في سنٍّ تَجعَلُك تعرِفُ كيف تُمسِكُ الكأسَ، كم مرَّة قلتُ لك أن تأخُذَ حِذْرَكَ، لكن كالعادة لا تَسمَعُ الكلام
وعلَّق الأبُ غاضِبًا: لنْ يفعَلَ أبدًا لأنَّه غبيٌّ، وسيبقى غبيًّا
التَّعليق: لقد سَكَبَ زيادٌ قليلاً من الحليب، لكن هجومُ والدَيْه القاسي على شخصِيَّتِه سبَّبَ له ألمًا نفسِيًّا ربَّمَا يطولُ أَثرُه رَدْحًا من الزَّمن، كما أنَّه لا يَجعَلُه راغِبًا في تَحسِينِ سُلوكهِ
وأمَّا أَيْمَن البالغُ من العمر ثماني سنوات فقد وقَع له مثلُ ما وقع لزياد، لكنَّ الَّذي اختلف هو حسنُ تعامل والِدَتِه معه، وتعليقُها على ما صدَرَ من ابنِها بأَلْطَفِ عبارَةٍ وأَرْقَى أُسلُوبٍ وَرَّثَ إعجابًا وحُبًّا من وَلَدِها حين قالت له: لقد سكَبْتَ الحليبَ وعليكَ أن تُنظِّفَ المائدةَ، وأعطَتْه إسفَنْجَة مُبلَّلة ليَمْسَحَ الحليبَ الَّذي سَكَبَه؛ ففعَل وتأسَّفَ عن ما صدر منه، ولم تقُلْ له أمُّه: كن أكثَرَ حذَرًا في المرَّةِ القادمةِ؛ لأنَّها لم ترغَبْ في إفسادِ إحساسِه بالامتنانِ الَّذي ارتسم واضحًا في ملامحه»(16)
حقًّا؛ قليلٌ أولئكَ الآباء أو الأمَّهات الَّذينَ باستطاعتهم أن يَستَعمِلُوا الثَّناءَ في الأوقاتِ الصَّعبةِ عندما يقوم الأولادُ بأمورٍ غير مُناسِبةٍ وغيرِ لائقةٍ بهم، وبدلاً من التَّأنيبِ يوحون إليهم بالسُّلوكِ الحَسَنِ ويُذِكِّرُونَهم بتَصرُّفاتٍ قاموا بها في السَّابِق واستحقَّت المدح
وهاك مثالاً يُقرِّبُ لك مدى تأثيرِ الكلمةِ في سامعها وأهمِّيَّةِ صياغتِها، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرٌّ
«محمَّد» ولد مُجتَهدٌ في دراستِه، عنده طُموحٌ وجُنوحٌ إلى التَّفوُّق، لا يجرُؤ أن يَتَفَوَّهَ به لأبيه تجنُّبًا لكلمة إحباطٍ تَهُزُّ مشاعِرَه، وتُصَيِّرُ حُلمَه سَرابًا
جاءت الامتحانات فلم تكنْ نتائِجُه قدرَ طموحِه، فاتَه النَّجاحُ، وكان نصيبُه الرُّسوبَ، فحَرَّكَ ذلك في آماله آلامًا، لكن ثَمَّتَ ما هو أَصعَبُ من ذلك كلِّه؛ وهو اطِّلاعُ والدِه على هذه النَّتائجِ
قال الأبُ للابن: لا يأتي منك خير لقد فشلت كعادتك، أنت بليد، انظر إلى زميلِك فلان لقد نجح ولم يُخَيِّبْ آمالَ أبيه، سيكون أَسْعَدَ الآباءِ أمامَ النَّاس
لقد ساق هذا الوالدُ الجَهولُ مكاييلَ من الكلام اللاَّذِع والتَّوبيخ الجارح كانت أشدَّ وَقْعًا على نَفسِ وَلدِه من الفأْسِ على الرَّأس، ما جعله يَصرِفُ ذِهنَه عن فكرَةِ النَّجاحِ والتَّفوُّقِ ويَنصَرِفُ إلى أشياءَ أخرى تتماشى والبلادةَ الَّتي رماه بها والدُه
ثمَّ إنْ لم يَفقِدْ مُحمَّدٌ ثقتَه في نفسِه؛ فإنَّه سَيفقِدُها على الأقلِّ في وَالِدِه الَّذي ليس له همٌّ ولا أَرَبٌ إلاَّ أن يتفاخَرَ أمامَ النَّاسِ بنجاح ابنِه، ولا يَهمُّه أن يُدخِلَ السُّرورَ على قَلبِ وَلدِه، أو يَزْرَعَ فيه مشاعِرَ الحُبِّ والوُدِّ، وأن يُعيدَ إليه ثِقتَه بنفسِه أَحْوَجَ ما يكونُ إليها
وصورةٌ أخرى لزميل مُحمَّد مع أبٍ آخر، لا مشؤوم ولا لئيم في الموقف نفسِه
الأب للابن: أراكَ مُغتَمًّا وحزينًا، لا بدَّ أنَّ ذلك بسبَبِ نتائجِ الامتحانات، وأنَّ مثلَ هذا ـ يُضيفُ الوَالِدُ ـ لا يَستدعِي انهِزامًا، لقد تَفوَّقْتَ في امتحاناتٍ كثيرةٍ قبل هذا، ثمَّ إنَّ الامتحانَ هو امتحانُ الحياةِ وتَغلُّبُكَ على المصاعبِ الَّتي تُواجِهُكَ بنفسٍ قَويَّةٍ راضيةٍ بقَدَرِ الله
جميلٌ أن تجتازَ عقبةَ الامتحان، لكنَّ الأهمَّ هو أنَّك بَذَلْتَ جُهدًا يَستحِقُّ الثَّناءَ، وأنَّك مُستَعِدٌّ لبَذلِ المَزيدِ، فالهزيمةُ كثيرًا ما تكون مِفتاحَ نَجَاحٍ، والمرءُ يَتعلَّمُ من أخطائِه
وهنا تضاءلت فكرةُ الرُّسوبِ في ذهنِ زميلِ مُحمَّد، وبعدما كانت تَهُدُّ من شَخصِه وإرادتِه صارتْ مَصدَرَ قُوَّةٍ واعتبارٍ بإيحاءٍ من الوالِد، فذكره به في وقت حاجتِه إليه
وهكذا يُقدِّمُ الثَّناءُ ومراعاةُ الشُّعور ثروةً أخرى هي الشَّجاعةُ والثَّباتُ وإيقادُ العزائم لمواجَهَةِ صعاب المُستقبَلِ
فعلى المُربِّين أن يُضِيفُوا إلى رصيدِ التَّأديبِ والتَّربيةِ هذه الجوانبَ المُشرِقَةَ الهادئةَ في الفعل، الهادفةَ في القول، المراعية للإحساس، الرَّامية إلى كسبِ انتباه الطِّفل لإصلاحِ أخطائِه وتقويمِ سُلوكاتِه؛ لأنَّه من الخطإ الفادح اعتقادُ أنَّ التَّأديبَ يعني اللُّجوءَ إلى العقاب لأوَّلِ وهلَةٍ، وجعلَ الزَّجرِ والتَّهديد لغةَ التَّخاطبِ والحوارِ لتعديل السُّلوك لدى الطِّفل أو إخضاعه لتنفيذ الأوامر؛ فإنَّ التَّأديبَ أَوْسَعُ من ذلك بكثيرٍ، فهو تعليمٌ وتهذيبٌ، وترغيبٌ وترهيبٌ، وتشجيعٌ وتحفيزٌ وتفسيرٌ وتسويغٌ، بل هو عمليَّةٌ مقصودةٌ لإدماج الطِّفلِ في مُواصَفَاتِ شخصِيَّةٍ تتَّسِمُ بالاتِّزانِ والهدوء
(1) «الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني» (ص8)
(2) «تحفة المودود» (ص352).
(3) نفس المرجع (ص351).
(4) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدُّر المنثور» (9 /266).
(5) مسلم (3009)، وأبو داود (1532).
(6) البخاري (6355).
(7) وفي كل ذلك وردت أحاديث عن النَّبيِّ ﷺ فلتُنْظَرْ في مظانِّها.
(8) «تاريخ ابن عساكر» (31 /352).
(9) ذكره أبو حامد الغزالي في «الإحياء» (2 /217).
(10) أفادت بعض الدِّراسات الحديثة أنَّ الطِّفلَ ابتداءً من الشَّهر (16) يبدأ بفهم حوالي 200 كلمة ويستعمل تقريبًا 110 كلمة، وأنَّ تطوُّر اللُّغة واكتساب كلماتٍ جديدةٍ يكون سريعًا جدًّا، وبين الشَّهر (20 و24) يستعمل ما بين 250 على 300 كلمة، ويُركِّب جُملاً تتألَّفُ من 3 كلمات.
انظر كتاب «كيف نجعل أطفالَنا أشدَّ انتباهًا وتركيزًا» لفرنسوا شارمان (ص34).
(11) «العيال» لابن أبي الدُّنيا، انظر «موسوعة ابن أبي الدُّنيا» (4 /324).
(12) «العيال» لابن أبي الدُّنيا، انظر «موسوعة ابن أبي الدُّنيا» (4 /324).
(13) «العيال» لابن أبي الدُّنيا، انظر «موسوعة ابن أبي الدُّنيا» (4 /326).
(14) البخاري (1419)، مسلم (1069).
(15) «شرح النَّووي على مسلم» (7 /175).
(16) مأخوذ من كتاب «كيف تُغيِّر سلوك طفلك» لمحمد ديماس (ص51) بتصرُّف.
* منقول من مجلة الإصلاح «العدد 10»، نقلا عن موقع راية الاصلاح.
وغاية التَّربية ومقصد التَّأديب توجيهُ النَّشْءِ في أفكاره ومشاربِه، وضبطُ نوازعه المضطربةِ، وتصحيحُ نظْرَتِه إلى الحياة، لينشأَ جيلاً متلائمَ الأذواقِ، مُتَّحِدَ المشاربِ، مضبوطَ النَّزعاتِ.
قال ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله:
«واعلمْ أنَّ خيرَ القلوبِ أوعاها إلى الخير، وأرجى القلوب للخير ما لم يَسبقِ الشَّرُّ إليه، وأَوْلَى ما عُنِيَ به النَّاصِحون ورَغِبَ في أجرِه الرَّاغِبون، إيصالُ الخير إلى قلوب أولادِ المُؤمِنين ليَرسَخَ فيها، وتنبيهُهم على معالمِ الدِّيانةِ وحدودِ الشَّريعةِ ليُرَاضُوا عليها، وما عليهم أن تَعتَقِدَه من الدِّين قلُوبُهم، وتعملَ به جوارحُهم»(1)، ومن مقول السَّلَفِ السَّائر:
«الصَّلاحُ من الله والأدبُ من الآباء».
والتَّربيةُ وحسنُ التَّأديب لا يَنفَعَانِ إلاَّ بتحقُّقِ القدوةِ الصَّالحةِ من المُربِّي، فإذا فُقِدَت أو شابَها التَّذَبْذُبُ أو حلَّ مكانَها النَّموذَجُ السَّيِّئُ، عاد ذلك بالضَّرر والفسادِ على من يقع عليه التَّأديبُ، ففسادُ الأبناء غالبًا ما يكون سببُه إهمالَ الآباءِ وتفريطَهم في عمليَّةِ التَّأديبِ والتَّعليم؛ قال ابنُ القيِّم رحمه الله:
«فما أَفْسَدَ الأبناءَ مِثلُ تَغفُّلِ الآباءِ وإهمالِهم واستسهالِهم شررَ النَّار بين الثِّيابِ! فأكثرُ الآباءِ يعتمدون مع أولادهم أعظمَ ما يَعتَمِدُ العدوُّ الشَّديدُ العداوةِ مع عدُوِّه وهم لا يشعرون»(2)، وقال في موضعٍ آخر: «وإذا اعتبَرْتَ الفسادَ في الأولادِ رَأَيْتَ عامَّتَه من قِبَلِ الآباء»(3).
وإذا أدرَكْنا أنَّ عامَّةَ الأطفالِ مَفطُورون على غرائِزَ ناقصةٍ؛ فإنَّ الإهمالَ وفقدانَ التَّربيةِ الصَّالحةِ يزيدُها نقصًا وشناعةً، وتُعالِجُها التَّربيةُ الحكيمةُ كما تُعالَجُ الأمراضُ والعللُ، فإذا لم تُعالَجْ في الصِّغَرِ اندَمَلَتْ نفوسُهم عليها كما يَندَمِل الجرحُ على فسادٍ، وجفَّت كما يَجِفُّ العودُ على عِوَج، والتَّصرُّف السَّليمُ هو أن نَضَعَ أَيدِيَنَا على تلك النَّقائِصِ، وأن نَتعهَّدَها بالإصلاحِ والتَّقويمِ، والتَّصحيحِ والتَّعديلِ، فلا يَرَوْنَ منَّا إلاَّ الصَّالِحَ من الأعمالِ والأحوالِ، ولا يَسمَعُونَ منَّا إلاَّ الصَّادقَ من الأقوال، والجميلَ من المنطقِ.
وإنَّ ممَّا أَفْسَدَ على النَّاشئةِ تربِيتَهم ممارسةَ المُربِّين ـ وعلى رأسهم الآباء ثمَّ الأُمَّهات ـ العنفَ ضدَّهم، وأخذَهم بالقَسوَةِ والقَهْرِ في التَّعامل معهم، وكلُّ ذلك معدودٌ من جنايات المُربِّين الجاهِلين بأصولِ التَّربية، ومُوَرِّثٌ لآثارٍ سلبيَّةٍ وسيِّئةٍ، تعود على الولد بالخيبةِ والخسرانِ وفسادِ الطِّباع.
ومن أَبْرَزِ مظاهرِ العُنفِ المُوجَّهِ ضدَّ الأطفال، ما يَصدُر من الآباء والأمَّهاتِ وحتَّى المُعلِّمينَ من الكلماتِ النَّابيةِ والألفاظِ الجارحة، وعباراتِ التَّوبيخِ واستعمالِ اللُّغةِ المُبتَذلَةِ في صَرْفِ الطِّفلِ عن ما لا يليق، أو حملِه على فعلِ ما ينبغي، أو معاقبَتِه عند خَطَئِه وعَمْدِه، أو مُؤاخذَتِه على سَرَفِه وجَهلِه، وقد تصِلُ الخطورةُ أحيانًا إلى جعل أسلوب التَّخاطُبِ ولغةِ المحادثةِ لا تَخرُجُ عن الفحش والبذاء، وقبيحِ الكلام وسيِّئِ الدُّعاء، يُمجُّ بها سمعُ الطِّفلِ ويَنفَطِرُ لها قلبُه، وتُهَزُّ بها نفسيَّتُه، ويَتبلَّدُ منها شعورُه وإحساسُه، حتَّى إنَّه يَعِزُّ على الطِّفل ـ والحال هذه ـ أن يَسمَعَ الطَّيِّبَ من القولِ المصحوبِ بالابتسامةِ الحانيةِ، أو اللَّفظَةِ الزَّاجِرَةِ البَريئةِ من السُّوءِ الَّتي تَنهَاهُ وتُصوِّبُ فِعلَه، فضلاً على أن يَطرُقَ سَمعَه ويُثلِجَ صدرَه كلماتُ المدح والتَّشجيعِ، وعباراتُ الشُّكرِ والتَّقديرِ، وصالحُ الدُّعاء والثَّناء.
***
إنَّ المُربِّي ـ أبًا أو أمًّا أو مُعلِّمًا ـ المحِبَّ، الحازمَ الحاسمَ، المتسامحَ من دون مبالغةٍ هو الَّذي يَعرِفُ أنَّ إحساسَه يتَّجِهُ إلى إنضاجِ ابنِه بالتَّفاعُلِ لا بالقهر، وبالتَّفاهُمِ لا بالقَسْرِ، وبالحَنان لا بالغِلظَةِ، ليكون في مأمنٍ من النَّوازِع الخاطئةِ والتَّصرُّفاتِ السَّلبيَّةِ، يبتدئُ بالكفِّ عن الدُّعاءِ عليه؛ إذ إنَّ أسوأَ ما يُفسِدُ تربيةَ الطِّفلِ، ويُعَرِّضُ نشأتَه للخطر والاستئصال، وأشدَّ عباراتِ التَّوبيخِ وقعًا وتأثيرًا على نَفسيَّتِه دعاءُ والدَيْه عليه، ولذلك جاء النَّهي في الشَّرع عن الدُّعاء على الأولاد، يقول الله تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولا}[الإسراء:11]، قال الحسنُ البصري : في هذه الآيةِ: «يغضبُ أحَدُهم فيدعُو عليه، فيَسُبُّ نفسَه ويَسُبُّ زوجتَه ومالَه وولَدَه، فإنْ أعطاه ذلِكَ شقَّ عليه، فيَمنَعُه ذلك ثمَّ يدعُو بالخَيْرِ فيُعْطِيه»(4).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله ﷺ: «لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ، ولاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لاَ تُوَافِقُوا مِنَ الله سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً، فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ»(5).
ونقل ابنُ الجوزي في «البرِّ والصِّلة» (124) عن الحسن قوله: «دُعاءُ الوالِدَيْن يَستَأْصِلُ المالَ والولدَ».
فعلى من ابتُلِيَ من الآباء والأُمَّهاتِ بإطلاقِ لسانِه في دعاءِ الشَّرِّ كُلَّمَا حَملَه الغيظُ على إنفاذِ أَمْرِه أو ساءه تَصرُّفُ وَلدِه، أن يُوَطِّنَ نفسَه على التُّؤَدَةِ، والنَّظَرِ في العواقِبِ، ومراقبةِ ما يَصدُرُ منه من ألفاظِ الشَّتمِ واللَّعنِ، ويَستَبدِلَ الَّذي هو أدنى بالَّذي هو خير، ويعوِّدَ لسانَه قولَ الحقِّ وحسنَ اللَّفظِ وصالِحَ الدُّعاء؛ فإنَّ ذلك يَعودُ عليه بالغُنْمِ لا بالغُرمِ، وبالأجرِ لا بالوِزرِ، وله في رسول الله ﷺ أسوةٌ حسنةٌ، فعن عائشة رضي الله عنهما قالت: «كان النَّبيُّ ﷺ يُؤتَى بالصِّبيانِ فيدعُو لهم»(6)، فتارةً يدعو لهم بالبركةِ، وتارةً بالرَّحمةِ، ومرَّةً يدعو للصَّبيِّ أنْ يُحبَّهُ اللهُ، وأخرى يدعو له بالتَّفقُّه في الدِّين، وأحيانًا يدعو له بكَثرَةِ المالِ والولدِ، ورُبَّمَا دعَا لهم بالهدايةِ واستغفرَ لهم(7).
ومن طريفِ ما يُروَى عن السَّلَفِ، ما نقلَه أحمدُ بنُ حنبل عن ابنِ عَوْنٍ أنَّهُ كان إذا غَضِبَ على أحدٍ من أهلِه، قال: باركَ اللهُ فيك، فقال لابنٍ له يومًا: باركَ اللهُ فيك فقال: أبَارَكَ اللهُ فِيَّ؟ قال: نعم، فقال بعضُ مَنْ حَضَر: ما قالَ لك إلاَّ خيرًا قال: ما قال لي هذا حتَّى أَجْهَدَ يعني اشتَدَّ غَضبُه»(8)
وجاء رجلٌ إلى عبد الله بنِ المبارك يشكو له عقوقَ وَلدِه، فقال هل دَعَوْتَ عليه؟ فقال: بلى فقال عبد الله: أَنْتَ أَفْسَدتَّه(9)
وعلى المُربِّي أن يُراقِبَ ألفَاظَه عندما يَلجَأُ إلى زجْرِ ولَدِه وإنزالِ العقابِ عليه، فلا يَستَعِمل معه إلاَّ اللفظَ المُناسِبَ، والتَّقريعَ الخالي من الإساءةِ، الَّذي يَفهَمُ منه الطِّفلُ عدمَ رضا مُؤدِّبِه عنه، وليكُفَّ ما أَمكَنَ عن السِّبابِ والشَّتمِ وقبيحِ الكلامِ حتَّى لو كان الطِّفلُ في مراحلِ نُموِّه الأولى، بحجَّةِ أنَّه لا يُدرِكُ معاني الألفاظ ولا يَقدِرُ على النُّطقِ(10)
***
وهذا ما حرصَ على التَّوصيةِ به أهلُ التَّربيةِ والسُّلوكِ من علماء المسلمين، جاء في «الرِّسالة المُفصَّلة لأحوال وأحكام المُعلِّمين والمُتعلِّمين» ص362 للقابسي ت 403هـ ـ أنَّ الصَّبيَّ إذا أَكثَرَ التَّغافُلَ وصدَّه عن الإقبالِ على العلمِ التَّثاقُلُ ـ، قولُه: «ولم يُغنِ فيه العذْلُ والتَّقريعُ بالكلام الَّذي فيه التَّواعُدُ من غيرِ شَتْمٍ ولا سبٍّ لعِرْضٍ؛ كقولِ من لا يَعرِفُ لأطفالِ المؤمنين حقًّا، فيقول: يا مِسْخ، يا قِرْد، فلا يفعل هذا وما كان مثلَه في القبح، فإن قلتَ له واحدةً فلْتَسْتَغْفِرِ اللهَ منها ولْتَنْتَهِ عن معاوَدَتِها، وإنَّما يُجرِي الألفاظَ القبيحةَ من لسان التَّقيِّ تمكُّنُ الغضبِ من نفسه، وليس هذا مكانَ الغضب»
وجاء في كتاب «المدخل» لابن الحاج 2 325 في بيان ما يَأمُرُ به المؤَدِّبُ الصَّبيَّ من الآداب: «ويتعيَّن عليه أنْ لا يَشتُمَ من استحَقَّ الأدبَ من الصِّبيان، وكثيرًا ما يَفعَلُ بعضُ المُؤَدِّبينَ هذا وهو حرامٌ، وذلك أنَّه إذا حصل للمُؤدِّب غيظٌ ما على الصَّبيِّ شَتمَه وتعدَّى بذلِكَ إلى وَالِدَيْه...» إلى أن قال: «فيتعيَّنُ عليه إذا أدرَكَه شيءٌ ممَّا ذُكِرَ أن لا يُؤَدِّبَ الصَّبيَّ في وقتِه ذلك، بل يَترُكُه حتَّى يَسكُنَ غَيظُه ويَذهَبَ عنه ما يَجِدُه من الحَنَقِ عليه، وحينئذٍ يُؤدِّبُه الأدبَ الشَّرعي.
***
ومنْ نَظَرَ في وصايا السَّلفِ من الأمراءِ والعلماءِ للمُؤَدِّبين والمُعلِّمين أَدْرَكَ ما للكلمة الطَّيِّبَةِ من أثرٍ وتـأثيرٍ، وما للكلمةِ النَّابيَةِ من هدمٍ وتدميرٍ في حياة الأطفال، حتَّى ما فَتِئوا يجعلون ذلك في مطلع وصاياهم ومُستهَلِّ نصائِحِهم، أوصى مَسلَمَةُ بنُ عبدِ الملك ت 121هـ مُؤدِّبَ ولَدِه فقال له: «إنِّي قد وصَلْتُ جناحَك بعَضُدي، ورَضِيتُ بك قرينًا لولدي، فأحسِنْ سياسَتَهم تدُمْ لك استقامَتُهم، وأَسْهِلْ بهم في التَّأديبِ عن مذاهب العُنْفِ، وعَلِّمْهُم معروفَ الكلام، وجنِّبْهم مُثاقبَةَ اللِّئامِ، وانْهَهُمْ أن يُعرَفُوا بما لم يَعرِفوا، وكن لهم سائسًا شفيقًا، ومُؤدِّبًا رَفيقًا تُكسِبْكَ الثِّقةُ منهم المحبَّةَ والرِّفقَ وحسنَ القَبولِ ومَحمودَ المغبَّةِ»(11)، وأوصى عُييْنَة بنُ أبي سفيان عبدَ الصَّمَد مُؤدِّبَ وَلَدِه فقال له: «لِيَكُنْ أوَّلُ إصلاحِك بَنِيَّ إصلاحَ نَفسِكَ؛ فإنَّ عيوبَهم معقودةٌ بعيْبِكَ، فالحَسَنُ عنده ما فَعَلْتَ، والقبيحُ ما تَركْتَ»(12)، وممَّا حَذَّرَ منه هشامُ بنُ عبدِ الملك مُؤدِّبَ ولده سليمانَ الكلبي أن يتساهل معه في سماع الكلام القبيح، قال له: «ولا تُدخِلْ عليه الفُسَّاقَ ولا شَرَبَةَ السُّكر؛ فإنَّكَ منهم بيْنَ خَصلَتَيْن: إمَّا أن يَسمَعَ منهم كلامًا قبيحًا فيأخُذَ به وتريدَ تحويلَه عنه فلا تقدر عليه (13)»
***
وعلى المُربِّي إذا اسْتَهْدَفَ تغييرَ سلوكِ منْ يُربِّيه أن يكونَ دومًا إيجابِيًّا في توجيهِ اللَّومِ والعتابِ، خفيفًا في إنزالِ العقوبةِ والتَّعزيرِ وإن كان الطِّفلُ يَستَحِقُّ ذلك؛ لأنَّه من أهلِ التَّأديبِ، لا من أهلِ العقوبةِ والجنايةِ، قال الكاساني في «بدائع الصَّنائع» (7 /64) مُشيرًا إلى نوعِ التَّعزير الَّذي يُوجَّهُ للطِّفلِ ويُؤاخَذُ عليه أنَّه «يُعزَّرُ تَأديبًا لا عقوبةً؛ لأنَّه مِنْ أهلِ التَّأديبِ، ألا ترى إلى ما رُوِيَ عنه ـ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ـ أنَّه قال: «مُرُوا صِبيَانَكُمْ بالصَّلاَةِ إِذَا بَلَغُوا سَبْعًا، واضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا إِذَا بَلَغُوا عَشْرًا»، وذلك بطريقِ التَّأديبِ والتَّهذيبِ لا بطريق العقوبةِ؛ لأنَّها تَستَدْعي الجنايةَ، وفعلُ الصَّبيِّ لا يُوصَفُ بكونِه جنايةً، بخلاف المجنونِ والصَّبيِّ الَّذي لا يَعقِلُ؛ لأنَّهما ليسَا من أهلِ العُقوبَةِ ولا من أهلِ التَّأديبِ»
فكم من صبيٍّ تلقَّى من وَالِدَيْه وابِلاً من الشَّتائِمِ، وقَرَعَ سمعَه قاموسٌ من الألفاظ النَّابيةِ، وهو لا يدري سببَ هذا التَّهجُّمِ، ولا فيما استحقَّ كلَّ هذه الإهانةِ والتَّحقيرِ، مع أنَّ المُسلَّمَ به في قواعد التَّربيةِ والتَّأديب أنَّ الصَّبيَّ لا يُعاقَبُ على كلِّ ذنبٍ أو خطإٍ صدرَ منه، وإذا عوقب فيعاقَبُ على قدرِ ذَنبِه وحَجْمِ خَطَئِه حتَّى لا يَعتَادَ العقوبةَ فيَقِلَّ تأثيرُها فيه، وأن يتجَنَّبَ المُربِّي التَّأنِيبَ والتَّوبِيخَ في حالةِ الغضبِ والانفعالِ؛ لأن ذلك مُفضٍ به إلى مهالكِ القولِ وعوراتِ الكلام، وهو في هذه الحال عند إرادةِ تغييرِ سلوك ابنِه كمَنْ جاء ليَبْنِيَ قَصْرًا فهَدَمَ مِصْرًا، فعلى المُربِّي أنْ يَتعَلَّمَ كيفَ يُدِيرُ غَضَبَه ويَضبِطُ انفعَالاَتِه، وكيفَ يَسْعَى إلى حلِّ المُشكِلَةِ دون أن يزيد في تعقيدها أو يفرز توترا هو أكبر من حجم تلك المشكلة، والانفعالاتُ وإن كان لا يسلَمُ منها بشرٌ فإنَّ الانقيادَ لها مرفوض، والمُربِّي النَّاجِحُ مَنْ يَملِكُ نفسَه عند الغضبِ وحالةِ الانفعالِ ويتمكَّنُ من السَّيطرَةِ على الذَّاتِ، فلا يَقُولُ إلاَّ خيرًا، ويكون استياؤُه من تَصرُّفِ الطِّفلِ وسلوكِه صحيحًا ومناسِبًا وهادِئًا، مُتجنِّبًا السُّخريَةَ والتَّهكُّمَ والاستهزاءَ والتَّحقيرَ وكلَّ أنواعِ الإهانةِ وأشكالِ العُنفِ والتَّهديدِ
***
والمُربِّي المثالي ليس ذلك الذي يتغاضى عن الزَّلاَّتِ ويُهمِلُ التَّأديبَ في وَقتِه، أو يَضرِبُ صفحًا عن إيقاعِ العقابِ والتَّوبيخِ بالطِّفلِ حين يُسِيءُ، وإنَّما المُربِّي النَّاجِحُ هو الَّذي يُظهِرُ استيَاءَه ويُوجِّهُ تَوبِيخَه إلى السُّلوكِ السَّيِّءِ الَّذي وَقَع فيه الطِّفلُ وليس إلى شخصِه حتَّى لا يَهزِمَ نفسِيَّتَه فيُصَابَ بالإحباطِ، بل عليه أن يتَحَوَّلَ من الكلمة النَّابيةِ إلى الكلمةِ البانية، ومن المقولة السَّائبة إلى المقولة الجالِبة، ومن اللَّفظَةِ القاسيةِ إلى اللَّفظَةِ الحانيةِ، فبدَلَ أن يَقُولَ له: «أَنْتَ أنانِيٌّ وحقير؛ لأنَّكَ أكلتَ حلوى أخيك»، يقول له: «إنَّ ما قُمتَ به عملٌ سيِّئٌ غيرُ مَقبُول منك؛ لأنَّه حقُّ أخيك»
ولْنتأَمَّلْ هذا الحديثَ لندرِكَ قدرَ التَّوجيه البَنَّاءِ وطريقة الزَّجرِ الَّتي يُؤخَذُ بها الطِّفل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذَ الحَسَنُ بنُ عليٍّ رضي الله عنهما تَمْرَةً من تَمْرِ الصَّدَقَةِ فجعلَها في فيه، فقالَ له النَّبيُّ ﷺ : «كِخْ، كِخْ» ليطْرَحَها، ثمَّ قال: «أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؟»(14)
قال النَّووي: «وهي كلمةٌ يُزجَرُ بها الصِّبيانُ عن المُستَقْذَراتِ، فيقالُ له كِخْ، أي اتْرُكْهُ وارْمِ به»(15)
والحديثُ من النَّاحية التَّربويَّةِ يُقدِّمُ أسلوبًا مِثالِيًّا في طريقةِ الزَّجرِ، ليكُفَّ الحسن رضي الله عنه عن الفعل، ثمَّ ما لَبِثَ أن وضَّحَ له تعليلَه لسبَبِ عدمِ الأكلِ لتكون له سلوكًا دائمًا ويكونَ وقعُ ذلك على نفسه أقوى تأثيرًا
ثمَّ لْنَقِفْ على هذا المثالِ الواقعي الَّذي يُوضِّحُ لنا كيفَ يَضُرُّ الانتقادُ السَّلبي المصحوبُ بالكلمةِ النَّابيةِ بنفسِيَّةِ الطِّفلِ، ثمَّ نُتبِعُه بمثالٍ آخَرَ للانتقاد الإيجابي المُرفَقِ بالكلمة البانية مع بيان نتائجه الطَّيِّبَةِ
«زياد طفل في العاشرةِ من عُمُرِه سَكَبَ كُوبًا من الحليب دون قصدٍ منه، وهو جالسٌ مع وَالِدَيْه على مائدةِ الإفطارِ، صَرَخَتْ أُمُّه في وَجهِه قائِلةً: أعتقد أنَّكَ في سنٍّ تَجعَلُك تعرِفُ كيف تُمسِكُ الكأسَ، كم مرَّة قلتُ لك أن تأخُذَ حِذْرَكَ، لكن كالعادة لا تَسمَعُ الكلام
وعلَّق الأبُ غاضِبًا: لنْ يفعَلَ أبدًا لأنَّه غبيٌّ، وسيبقى غبيًّا
التَّعليق: لقد سَكَبَ زيادٌ قليلاً من الحليب، لكن هجومُ والدَيْه القاسي على شخصِيَّتِه سبَّبَ له ألمًا نفسِيًّا ربَّمَا يطولُ أَثرُه رَدْحًا من الزَّمن، كما أنَّه لا يَجعَلُه راغِبًا في تَحسِينِ سُلوكهِ
وأمَّا أَيْمَن البالغُ من العمر ثماني سنوات فقد وقَع له مثلُ ما وقع لزياد، لكنَّ الَّذي اختلف هو حسنُ تعامل والِدَتِه معه، وتعليقُها على ما صدَرَ من ابنِها بأَلْطَفِ عبارَةٍ وأَرْقَى أُسلُوبٍ وَرَّثَ إعجابًا وحُبًّا من وَلَدِها حين قالت له: لقد سكَبْتَ الحليبَ وعليكَ أن تُنظِّفَ المائدةَ، وأعطَتْه إسفَنْجَة مُبلَّلة ليَمْسَحَ الحليبَ الَّذي سَكَبَه؛ ففعَل وتأسَّفَ عن ما صدر منه، ولم تقُلْ له أمُّه: كن أكثَرَ حذَرًا في المرَّةِ القادمةِ؛ لأنَّها لم ترغَبْ في إفسادِ إحساسِه بالامتنانِ الَّذي ارتسم واضحًا في ملامحه»(16)
حقًّا؛ قليلٌ أولئكَ الآباء أو الأمَّهات الَّذينَ باستطاعتهم أن يَستَعمِلُوا الثَّناءَ في الأوقاتِ الصَّعبةِ عندما يقوم الأولادُ بأمورٍ غير مُناسِبةٍ وغيرِ لائقةٍ بهم، وبدلاً من التَّأنيبِ يوحون إليهم بالسُّلوكِ الحَسَنِ ويُذِكِّرُونَهم بتَصرُّفاتٍ قاموا بها في السَّابِق واستحقَّت المدح
وهاك مثالاً يُقرِّبُ لك مدى تأثيرِ الكلمةِ في سامعها وأهمِّيَّةِ صياغتِها، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرٌّ
«محمَّد» ولد مُجتَهدٌ في دراستِه، عنده طُموحٌ وجُنوحٌ إلى التَّفوُّق، لا يجرُؤ أن يَتَفَوَّهَ به لأبيه تجنُّبًا لكلمة إحباطٍ تَهُزُّ مشاعِرَه، وتُصَيِّرُ حُلمَه سَرابًا
جاءت الامتحانات فلم تكنْ نتائِجُه قدرَ طموحِه، فاتَه النَّجاحُ، وكان نصيبُه الرُّسوبَ، فحَرَّكَ ذلك في آماله آلامًا، لكن ثَمَّتَ ما هو أَصعَبُ من ذلك كلِّه؛ وهو اطِّلاعُ والدِه على هذه النَّتائجِ
قال الأبُ للابن: لا يأتي منك خير لقد فشلت كعادتك، أنت بليد، انظر إلى زميلِك فلان لقد نجح ولم يُخَيِّبْ آمالَ أبيه، سيكون أَسْعَدَ الآباءِ أمامَ النَّاس
لقد ساق هذا الوالدُ الجَهولُ مكاييلَ من الكلام اللاَّذِع والتَّوبيخ الجارح كانت أشدَّ وَقْعًا على نَفسِ وَلدِه من الفأْسِ على الرَّأس، ما جعله يَصرِفُ ذِهنَه عن فكرَةِ النَّجاحِ والتَّفوُّقِ ويَنصَرِفُ إلى أشياءَ أخرى تتماشى والبلادةَ الَّتي رماه بها والدُه
ثمَّ إنْ لم يَفقِدْ مُحمَّدٌ ثقتَه في نفسِه؛ فإنَّه سَيفقِدُها على الأقلِّ في وَالِدِه الَّذي ليس له همٌّ ولا أَرَبٌ إلاَّ أن يتفاخَرَ أمامَ النَّاسِ بنجاح ابنِه، ولا يَهمُّه أن يُدخِلَ السُّرورَ على قَلبِ وَلدِه، أو يَزْرَعَ فيه مشاعِرَ الحُبِّ والوُدِّ، وأن يُعيدَ إليه ثِقتَه بنفسِه أَحْوَجَ ما يكونُ إليها
وصورةٌ أخرى لزميل مُحمَّد مع أبٍ آخر، لا مشؤوم ولا لئيم في الموقف نفسِه
الأب للابن: أراكَ مُغتَمًّا وحزينًا، لا بدَّ أنَّ ذلك بسبَبِ نتائجِ الامتحانات، وأنَّ مثلَ هذا ـ يُضيفُ الوَالِدُ ـ لا يَستدعِي انهِزامًا، لقد تَفوَّقْتَ في امتحاناتٍ كثيرةٍ قبل هذا، ثمَّ إنَّ الامتحانَ هو امتحانُ الحياةِ وتَغلُّبُكَ على المصاعبِ الَّتي تُواجِهُكَ بنفسٍ قَويَّةٍ راضيةٍ بقَدَرِ الله
جميلٌ أن تجتازَ عقبةَ الامتحان، لكنَّ الأهمَّ هو أنَّك بَذَلْتَ جُهدًا يَستحِقُّ الثَّناءَ، وأنَّك مُستَعِدٌّ لبَذلِ المَزيدِ، فالهزيمةُ كثيرًا ما تكون مِفتاحَ نَجَاحٍ، والمرءُ يَتعلَّمُ من أخطائِه
وهنا تضاءلت فكرةُ الرُّسوبِ في ذهنِ زميلِ مُحمَّد، وبعدما كانت تَهُدُّ من شَخصِه وإرادتِه صارتْ مَصدَرَ قُوَّةٍ واعتبارٍ بإيحاءٍ من الوالِد، فذكره به في وقت حاجتِه إليه
وهكذا يُقدِّمُ الثَّناءُ ومراعاةُ الشُّعور ثروةً أخرى هي الشَّجاعةُ والثَّباتُ وإيقادُ العزائم لمواجَهَةِ صعاب المُستقبَلِ
فعلى المُربِّين أن يُضِيفُوا إلى رصيدِ التَّأديبِ والتَّربيةِ هذه الجوانبَ المُشرِقَةَ الهادئةَ في الفعل، الهادفةَ في القول، المراعية للإحساس، الرَّامية إلى كسبِ انتباه الطِّفل لإصلاحِ أخطائِه وتقويمِ سُلوكاتِه؛ لأنَّه من الخطإ الفادح اعتقادُ أنَّ التَّأديبَ يعني اللُّجوءَ إلى العقاب لأوَّلِ وهلَةٍ، وجعلَ الزَّجرِ والتَّهديد لغةَ التَّخاطبِ والحوارِ لتعديل السُّلوك لدى الطِّفل أو إخضاعه لتنفيذ الأوامر؛ فإنَّ التَّأديبَ أَوْسَعُ من ذلك بكثيرٍ، فهو تعليمٌ وتهذيبٌ، وترغيبٌ وترهيبٌ، وتشجيعٌ وتحفيزٌ وتفسيرٌ وتسويغٌ، بل هو عمليَّةٌ مقصودةٌ لإدماج الطِّفلِ في مُواصَفَاتِ شخصِيَّةٍ تتَّسِمُ بالاتِّزانِ والهدوء
(1) «الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني» (ص8)
(2) «تحفة المودود» (ص352).
(3) نفس المرجع (ص351).
(4) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدُّر المنثور» (9 /266).
(5) مسلم (3009)، وأبو داود (1532).
(6) البخاري (6355).
(7) وفي كل ذلك وردت أحاديث عن النَّبيِّ ﷺ فلتُنْظَرْ في مظانِّها.
(8) «تاريخ ابن عساكر» (31 /352).
(9) ذكره أبو حامد الغزالي في «الإحياء» (2 /217).
(10) أفادت بعض الدِّراسات الحديثة أنَّ الطِّفلَ ابتداءً من الشَّهر (16) يبدأ بفهم حوالي 200 كلمة ويستعمل تقريبًا 110 كلمة، وأنَّ تطوُّر اللُّغة واكتساب كلماتٍ جديدةٍ يكون سريعًا جدًّا، وبين الشَّهر (20 و24) يستعمل ما بين 250 على 300 كلمة، ويُركِّب جُملاً تتألَّفُ من 3 كلمات.
انظر كتاب «كيف نجعل أطفالَنا أشدَّ انتباهًا وتركيزًا» لفرنسوا شارمان (ص34).
(11) «العيال» لابن أبي الدُّنيا، انظر «موسوعة ابن أبي الدُّنيا» (4 /324).
(12) «العيال» لابن أبي الدُّنيا، انظر «موسوعة ابن أبي الدُّنيا» (4 /324).
(13) «العيال» لابن أبي الدُّنيا، انظر «موسوعة ابن أبي الدُّنيا» (4 /326).
(14) البخاري (1419)، مسلم (1069).
(15) «شرح النَّووي على مسلم» (7 /175).
(16) مأخوذ من كتاب «كيف تُغيِّر سلوك طفلك» لمحمد ديماس (ص51) بتصرُّف.
* منقول من مجلة الإصلاح «العدد 10»، نقلا عن موقع راية الاصلاح.
آخر تعديل: