۩ العـلم و أثره في تزكية الـنُّـفوس ۩

ابو ليث

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
8 جانفي 2010
المشاركات
10,466
نقاط التفاعل
10,286
النقاط
356
محل الإقامة
الجزائر
۩ العـلم و أثره في تزكية الـنُّـفوس ۩

محاضرة ألقاها:
الشيخ الدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر- حفظهما الله -
الاربعاء :
19 جمادى الثاني 1431هـ

بـمديــنة : قسنـطـيـنة / الجــزائــر


إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نتوب إليه ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله الا الله و حده لا شريك له و أشهد محمدا عبده و رسوله صلى الله و سلم عليه و على آله و صحبه أجمعين .
أما بعد :
أيّها الإخوة الكرام هذه ساعة مباركة و لحظات طيبة نجتمع فيها هذا الجمع الذي نسأل الذي يسره أن يبارك فيه و أن يجعله لوجهه خالصا و لنا جميعا نافعا و أن يُثَقل به موازيننا يوم نلقاه ، ما شاء الله لا حول و لا قوة الا بالله .
و قبل الدخول في موضوع حديثنا ، أُحب أيها الإخوة أن أذكر لكم ما بداخلي حقيقة من فرح و سرور بهذا اللقاء ، لأنني بين اخوة كرام و أحبة أفاضل يسّر الله لنا بمنّه و كرمه هذا الجمع .
و لا أخفيكم كم كنت مشتاقا لمثل هذا اللقاء ، و لا أخفيكم أيضا أن شعب الجزائر شعب حبيب إلى القلب ، و يجمعني بكثير منهم حب في الله و تآخٍ فيه سبحانه و تعالى اجتمعنا بمنّ مولانا عزّ وجل على طاعته و ذكره سبحانه و هذا فضله و الفضل بيده عز و جل يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم .
و هو شعب عندي معروف بالنُـبل و الكرم و الشهامة و الحرص على الخير ، جازى الله الجميع خيرا و توفيقا و هداية و تسديدا و عونا على طاعته و ما يقرب اليه سبحانه و تعالى .
أيّها الجمع الكريم : يقول نبينا عليه الصلاة و السلام : ( لا يشكُر الله من لا يشكُر الناس ) و هذا الّلقاء الذي يسّره ربنا عزّ و جل ، قد جعل سبحانه و تعالى لتيسيره أسبابا ، و علمنا نبيه عليه الصلاة و السلام شُكر من أسدى الينا معروفا ، و لهذا فإني أيضا أستهل لقائي هذا بشكري كل من كان له يد أو سببٌ في ترتيب هذا اللّقاء و أخصُ بالذكر والي ولاية – قسطنطينة - بلد العلم و العلماء و جميع من كان لهم يد في الترتيب لهذا اللّقاء .
و أشكر الإخوة الأفاضل القائمين على جمعية – سبيل الرشاد الخيرية – على حرصهم و استضافتهم و متابعتهم ، و أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يثيب الجميع خيرا .
و أيضا أيّها الإخوة أشكركم جميعا على حضوركم هذا المجلس ، و أعلم أن عددا من الإخوة جاؤوا من مسافات بعيدة و تجسموا تعبًا و عناءً حرصا منهم على المشاركة و الحضور في لقاءنا هذا ، فأسأل الله عزّ و جل أن يثيب الجميع ، و أن يجزي الجميع خيرا ، و أن يتقبل منا ذلك بقبول حسن .
و نبدأ مستعينين بالله عزّ و جل ، متوكّلين عليه ، مستمّحين مده و توفيقه ، طالبين عونه و تسديده في موضوعنا الذي اجتمعنا لأجله و هو عن :

۩ العـلم و أثره في تزكية الـنُّـفوس ۩

و العلم أيّها الإخوة نور و ضياء لصاحبه ، و قد قال الله تعالى : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم ) فالعلم نُور يضئ لصاحبه الطريق ، و تَستبين لصاحبه به الجَادّة ، فيكون في سيره على نور من ربّه ، يكون في سيره سائرا في طريق مُضِي و جادّة منيرة فلا تلتبس عليه السّبيل و الله يقول : ( أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) و يقول : (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ) و يقول: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) و الآيات في هذا المعنى كثيرة ، و لهذا أيّها الإخوة الكرام كان التَوجيب لطلب العلم من أمارات الخير و دلائل الفلاح ، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) ، و في حديث أبي الدرداء في المسند و غيره أنّ النبي صلى الله عليه و سلم قال :( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقا الى الجنة و إنَّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع و إنّ فضل العالم على العابد كفضل القَمر ليلة البدر على سائر الكواكب و إنّ العلماء ليستغفر لهم كل شئ حتى الحيتان في الماء ، و إنّ العلماء ورثة الأنبياء ، فإنّ الأنبياء لم يورِّثوا دينارا و لا درهما و إنَّما ورّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر ) و الأحاديث في فضل العلم و بيان شرفه و علو مكانته و رفيع منزلة أهله كثيرة جدا ، معلومة لدى طلاب العلم و عموم الناس .
و كلَّما كان العبد قريبا من العلم جادا في تحصيله ، مُبتغيا في ذلك وجه ربّه سبحانه و تعالى ، كان ذلك أمْكنَ له في تزكيتِه لنفسه لأنَّ النَّفس إنَّما تزكو بالعلم و لا سبيل إلى تَزَكِّـيها إلا به ، و قد قال الله سبحانه و تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ) أي أنّ التزكية التي تكون لهم إنّما تكون بتلاوة الآيات ، و معرفة و دراسة وحي الله جل و علا و تنزيله .
فالوحي هو الذي به تتزكى النُّفوس ، قال الله تعالى : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) و قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) و قال تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء ) و قال تعالى : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) و قال تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ ) و قال تعالى : ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيد) و الآيات في هذا المعنى كثيرة .
و عندما يقف المسلم على موضوع التزكية و جوانبِ هذا الموضوع الفسيحَة المباركة في ضوء الآيات والأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنّه يقف فيهما على قواعد متينة و تأصيلات جامعة و معالم بينة تُضيء للمرء طريقه في عمله على تزكِية نفسه .
و أعظم معدن و قاعدة في هذا الباب العظيم المبارك أنّ التزكية مِنّة الاهية و هِبَة ربانية و الله عزّ و جل هو الذي بيده الأمر يزكِّي من يشاء ، قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ) و قال الله تعالى : ( وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ) و قال الله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) و يقول الله تعالى : (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) و الآيات في هذا المعنى كثيرة .
ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم و أرضاهم يقولون في رجَزِهم :
لولا الله ما اهتدينا ... و لا صُمنا و لا صَلينا
أي أنّ المِنّة في ذلك كله لله وحده ، فهو المَان و المتفضل ، و هو جلّ و علا الهادي من يشاء الى صِراط مستقيم ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) .
و قد كان نبينا صلوات الله و سلامه عليه يغرسُ هذا الأمر في نفوسِ الصحابة و يؤكد عليه تأكيدا متكررا فكان يقول في خطبة الجمعة مُستهلا لها بحمد الله يقول : ( إنّ الحمد لله نحمده و نستعينه و نستهديه ( أي نطلب منه الهدية ) و نعوذ بالله من شرور نفسنا و سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له و أشهد أنّ لا اله إلّا الله وحده لا شريك له و أشهد أنّ محمدا عبده و رسوله ) صلى الله و سلم عليه .
وهي تُعرف بخطبة الحاجة ، جمعت قواعد الدين و ثوابِت الشريعة ، و أُصول الشّرائع جـمعًا عديدا ، و لها تأثير بالغ في من يكرمه الله سبحانه و تعالى بفهم مضامينها و معرفة دلالاتها و لقد كانت هذه الخطبة سببًا بِمَنّ الله سبحانه و تعالى و فضله لهداية قوم بأكملهم لدين الإسلام .
في قصة عجيبة خرّجها الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه و هي قصة اسلام الإمام الأزدي رضي الله عنه ، و ذلك أنّ إماما كان في جاهليته راقيا يشتغل برقية الناس و من كان منهم مصابا بمس أو جنون أو نحو ذلك و كان مُشتهرا بالرّقية ، يقول قدمت مكة فكُـنت كلما مررت بطريق في مكة سمعت إنّ محمدا مجنون ، كلما سرت في الطريق سمعت إنّ محمدا مجنون فقلت : إنَّي رجل راقٍ و إنَّ الله شَفى على يدي من شاء من عباده لـئِن لقيت هذا الرجل لأرْقِينَه لعل الله يشفيه على يدي ، يقول ثم إنَّـني لقيت محمدا أي النبي عليه الصلاة و السلام فقلت له : إنَّـني رجل راقٍ و إنّ الله شفى على يدي من شاء فهل لك بذلك ؟ تحب أنْ أرقيك ؟ يخاطب بذلك النبي عليه الصلاة و السلام بسبب الدعاية الآثنة الكبيرة الواسعة التي تُحاك حوله ، فقال هل لك بذلك ؟ يقول فقال النبي عليه الصلاو السلام : ( إنّ الحمد لله نحمده ، ونستعينه و نستغفره و نتوب إليه ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ) ، قال فقلت له : أعِـد علي كلامك هذا ، أعجبي كلامك و أثّـر فِـي ، قال قلت له : أعد علي كلامك هذا فأعاده النبي عليه الصلاة و السلام .
قال الإمام فقلت له : لقد سمعت كلام السّحرة و الكهنة و ما هذا من كلامهم ، و سمعت كلام المجانين و ما هذا من كلامهم ، سمعت كلام الشعراء ما هذا من كلامهم ، ووالله إنّ كلامك هذا قد بلغ – قاموس البحر – أعظم بحر ، يعني كلمتك دخلت في الصميم ، أعطني يدك أبايعك على الإسلام .
فقال له النبي عليه الصلاة و السلام : عنك و عن قومك ؟ قال : عـنّي و عن قومي لأنّه كان رئيس و سيد قومه ، قال : عني و عن قومي ، فكانت هذه الخطبة سببا لدخوله رضي الله عنه و قومه في هذا الدين العظيم المبارك .
و هي قائمة على ذِكر أصُول عظيمة و قواعد متينة من تدبّرها و أحسن تأملها نفعه الله سبحانه و تعالى بها نفعا عظيما ، و لها في موضوعنا هذا دلالات و هدايات ، في جوانب عديدة منها ، جديرة بأن تُتأمل و تًـتَدبر ، كقوله مثلا في هذه الخطبة : ( و نستهديه ) و قوله : (و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ) و قوله : ( من يهده الله فلا مضل له ) و غيرها من ألفاظ هذه الخطبة العظيمة المباركة ،و الشّاهد أنّ الهداية و التزكية مِنّة الاهية .
فالرّب العظيم هو الهادي وهو سبحانه و تعالى الّـذي يزكي من يشاء و هو الموفق لا شريك له جل و علا .
و بهذا يُعلم أنّ أعظم أصل في هذا الباب – باب التزكية – أنّها مِنّة الاهية لا يُلجأ في طلبها إلّا إلى الله سبحانه و تعالى الذي بيده أجِمّة الأمور .
فيُحْسن العبد صلته بالله و يُحسن إقباله على الله ، و يَصْدق مع الله سبحانه و تعالى ، و يُحسن في سؤال ربه جلا و علا و طلبه طالبا منه الهداية و الصّلاح و الزّكاه و الله عز و جل لا يُخَيِبُ عبدا دعاه و لا يرُدّ مؤمنا ناداه و هو القائل سبحانه : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ )
ثم إنّ هذا أيّها الإخوة الكرام يبين لنا مكانة الدعاء في هذا الباب العظيم و في كل باب .
و قد قال أحد السلف : تأملتُ الخير فإذا هو أبواب عديدة و تأملت فإذا ذلك كله بيد الله عزّ و جل فعلمت أنّ الدعاء مفتاح كل خير .
و لهذا جدير بالعبد المؤمن أنْ يكثر الدُّعاء و السُّؤال و الطلب و المناجاة لله سبحانه و تعالى ، أنْ يهديه ، أنْ يصلح قلبه ، أنْ يزكي نفسه ، أنْ يثبته على صراطه المستقيم ، أنْ يعيذه من سبيل الزّيغ ، أنْ لا يكِله إلى نفسه طرفة عين ... إلى غير ذلكم من الدعوات المأثورة عن نبينا عليه الصلاة و السلام . و كان من أكثر دعاءه صلى الله عليه و سلم : ( ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار ) و كان مِن أكثر دعاءه أيضا : ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك - قالت أم سلمة رضي الله عنها : للنبي عليه الصلاة و السلام ما أكثر دعاءك بهذه الدعوة ثم قالت له : أَوَإنّ القلوب لتتقـلب ؟ قال : ما من قلب إلّا هو بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء ، فإنْ شاء أقامه و إن شاء أزاغه ).
و في القرآن : ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )
و في دعاء ابراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام : ( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) اجْعلني ، لا يمكن أن تكون مصليا إلّا إذا جعلك الله من المصلين ، و لا يمكن أنْ يكون أبناءك مصلين إلّا إذا جعلهم الله كذلك قال : ( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) ... إلى غير ذلكم من الدعوات العظيمة التي كان يدعوا بها صلوات الله و سلامه عليه .
و من ذلكم أيضا ما جاء في صحيح مسلم : ( اللّهم أصلح لي ديني الذي هو عصة أمري و أصلح لي دنياي التي فيها معاشي و أصلح لي آخرتي التي فيها معادي ، و اجعل الحياة زيادة لي في كل خير و الموت راحة لي من كل شر )
و كذلك دعوة المكروب : ( اللّهم رحمتك أرجوا فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين و أصلح لي شأني كله لا إله إلّا أنت )
و في موضوع التزكية خصوصا جاء في هذا الباب دعاء عظيم في صحيح مسلم من حديث زيد بن أرقم يقول فيه عليه الصلاة السلام : ( اللّهم آتِ نفسي تقواها و زكّها أنت خير من زكاها أنت وليها و مولاها ) يتوسل إلى الله جل و علا بهذين الاسمين العظيمين – الولي و المولى – و هما دالان على ولاية الله عزّ و جل الخاصة بعبده المؤمن و توليه له توفيقاً و تسديداً و عوناً و تثبيتاً و حفظاً ، يتوسل إلى الله جل و علا بهذين الاسمين أنْ يؤتي نفسه تقواها و أنْ يُزكيها .
فإنّ النّفس لا تزكوا إلّا إذا زكاها الرّب جلا و علا ، و نسأل الله الكريم ، ربّ العرش العظيم أن يؤتي نفوسنا جميعا تقواها ، و أن يزكيها إنّه تبارك و تعالى خير من زكَّـاها إنّه هو وليها و مولاها .
أيّها الإخوة الكرام : الحديث عن تزكية النّفس في ضوء دلالة الآيات و النصوص و الأحاديث المأثورة عن النبي صلى الله عليه الصلاة و سلم حديث واسع و له جوانب كثيرة جدا ، و في لقاءنا هذا سأقف وقفات مع جوانب مهمة و قواعد عظيمة مستمدة من كتاب الله عز و جل و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم كلها تدور حول فقه تزكية النّفوس .
و نبدأ أولا بحديث مختصر عن النّفس ما هي ؟ و ما حقيقتها ؟ النّفس البشرية ، وماهي صفاتها ؟ نقف أيضا في هذا الباب على بعض الأمثلة أو الأمثال العظيمة التي ضربها أهل العلم ، التي توضح ما يتعلق بالـنَّـفس البشرية .
و كيف أنّ أمر تزكية النّفس يحتاج من العبد إلى معالجة مستمرة و عناية دائمة و رعاية لهذه النّفس لكي لا تَنْفلِت و تضيع و قد جاء في القرآن الكريم ذكر ثلاثة أوصاف للنّفس مشهورة معلومة ، فوصفت بالنّفس المطمئنة ، ووصفت بالنّفس الأمارة بالسوء ، ووصفت بالنّفس اللوامة ، و هي ثلاث صفات للنّفس مشهورة معلومة ، وهذه الصّفات ترجع إلى أحوال تتعلق بالنّفس ، ولها في كل حال من هذه الأحوال ما يُناسبها من وصف ، فإذا كانت نفس الإنسان اطمئنت بالإيمان و ذكر الله و عبادته و حسن الإقبال عليه استحقت هذا الوصف - النفس المطمئنة - ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ . الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) .
بينما إذا كانت هذه النّفس تستحِثُ صاحبها على فعل المحرمات و ارتكاب الآثام و تقُـوده إلى مواطن المنكرات و مواضع الرذيلة و تدفعه إلى فعل القبائح و الرذائل ، فإنّها في هذه الحال نفس أمارة بالسوء .
بينما إذا كانت النّفس تلوم صاحبها و هي النّفس اللّوامة ، تلوم صاحبها على فعله لخطأ أو تقصيره في واجب أو تفريطه في طاعة فهي نفس لوامة ، وهذه صفة له أي أنَّها تلوم صاحبها ، و لوم النفس لصاحبها أيضا على قسمين كما نبّه أهل العلم :
قد تكون نفساً أمارة بالسوء و تلوم صاحبها على عدم إزدياده مِن السُّوء ، و تماديه في الخطأ .
و قِسم و يتعلق بالنّفس المطمئنة تلوم نفسها أو تلوم صاحبها على تفريطه و تقصيره و عدم إزدياده من الخير .
فهذه الأوصاف الثلاثة للنّـفس المطمئنة و الأمارة للسُّوء و اللّوامة أحوال تتعلق بالنّفس و لها من هذه الأوصاف بحسب حالها ، و لهذا قد تكون النّفس في اليوم الواحد أو في السّاعة الواحدة مُتقلبة ، و كل انسان يعلم ذلك من نفسه ، و هذه التقلبات للنّفس راجعة الى الواردات التّي ترد على النّفس ، فالنّفس بتقلباتها بحسب الواردات التي ترد عليها .
أرأيتُم أنّ الإنسان عندما يُكرمه الله جلّ و علا بحضور مجلس ذكرٍ و حلقة علم و مكان وعظٍ و تذكيرٍ بالله سبحانه و تعالى كيف أنّ نفسه بسبب هذا الوارد ترتقي نحو الفضائل ، و كيف أنّ نفسه تطمئن حتى إنَّ كثيرا من الناس يحدث بذلك عن نفسه .
يقول : و الله إنّني لَدخلت المسجد و صليت و سمعت العلم و التذكير بالله ، أجد طمئنينة و أجد راحة و أجد كذا .. الخ ، يُخبر بذلك عن نفسه .
هذه الطمئنينة للنّفس حصلت بهذه الواردات المباركة التي هـيئَها الله سبحانه و تعالى لهذا الإنسان .
بينما إذا ذهب الإنسان إلى الأماكن التي تثير في قلبه المُحرم و الرّذيلة و الفاحشة و الفساد ، يجِد أنَّ نفسه انتقلت إلى نفس أمارة بالسُّوء .
و هذه المعالم تؤكد لنا أيُّها الإخوة الكرام أنَّ النفس تحتاج من العبد إلى محاسبة و إلى مجاهدة ، و هذه المُحاسبة و المُجاهدة و المُتابعة للنّفس هي نوع من الجهاد في سبيل الله .
و قد قال عليه الصلاة و السلام في خطبته في حجة الوداع قال : ( ألا أنبئكم بالمؤمن ؟ المؤمن من أمِنَه النّاس على دمائهم و أموالهم ، و المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده ، و المهاجر من هجـر الخطايا و الذنوب ، و المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله ).
و ثبت عنه عليه الصلاة و السلام في معجم الطبراني و غيره أنّه قال :( و أفضل الجهاد جهاد النفس في طاعة الله ).
و لا شك أنّ هذا جهاد ، و لا شك أنّ النّفس تحتاج إلى جهاد و تحتاج إلى مُتابعة ، و قد يجد الإنسان في بداية الأمر شيئ من المشقة و شيئ من الصعوبة ، و إذا مضى مستعينا بالله ، بلغ بإذنِ الله سبحاته و تعالى مبْلغا عظيما مباركا في تزكيتهِ لنفسه .
و أقف هنا أيُّها الإخوة لأعرض لكم مثلين عظيمين ضربهما عالمان جليلان لهما عناية دقيقة في هذا الباب باب تزكية النّفس :
المثل الأول : للإمام الآجري رحمه الله تعالى ذكره في كتابه - أدب النُّفوس - وكتابه أدب النُّفوس و إنّ كان صغير الحجم إلّا أنّه كبير الفائدة ، عظيم النفع .
و المثل الثاني : ضربه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين
نقف أولاً مع المثل الذي ضَربه الإمام الآجري رحمه الله و أُؤكد أيّها الإخوة على التأمُلِ في المثل و في مضامينه و دلالاته و أبعاده ، لأن الأمثال مِن شأنِها تقريب المعاني ، و جعلها بمثابة الإشياء الملموسة المحسوسة ، فيتضح الأمر تماماً .
يقول الآجري رحمه الله و أنا أُمثل لك مثالا لا يخفى عليك أمرها إن شاء الله ، يعـني إذا تأملت المثل ، قال : ( اعلم أنّ النّفس مثلها كمثل المُهرِ الحسن من الخَيل إذا نظر إليه النّاظر أعجبهُ حسنه وبهاؤُه ، فيقول أهل البصيرة به ( يقولون لصاحب هذا المُهر ) : لا يُنتفع بهذا حتى يُراض رياضة حسنةً ، ويؤدب أدباً حسناً ، فحينئذ يُنتفع به ، فيصلح للطلَب والهرب ، و يَحمَد راكبه عواقبَ تأديبه و رياضته ، فإن لم يُؤدب لم ينتفع بحسنه ولا ببهائه ، ولا يَحمَد راكبه عواقبَه عند الحاجة . فإن قبِل صاحب هذا المُهر قول أهل النصيحة والبصيرة به ،علم أنّ هذا قول صحيح فدفعه إلى رائضٍ فراضه . ثم لا يصلح أنْ يكون الرائض إلا عالما بالرياضة ، معه صبر على ما معه من علم الرياضة ، فإنْ كان معه علم بالرياضة ، ونصيحه انتفع به صاحبه ، فإن كان الرائض لا معرفة معه بالرياضة ، ولا علم بأدب الخيل ، أفسد هذا المُهر وأتعب نفسه ، ولم يَحمَد راكبه عواقبه ، وإنْ كان الرائض معه معرفة بالرياضة والأدب بالخيل إلّا أنّه مع معرفته لم يصبر على مشقة الرياضة ، وأحبَّ الترفيه لنفسه ، وتوانى عما وجب عليه من النّصيحة في الرياضة ، أفسد هذا المُهر ، وأساء إليه ، ولم يصلح للطلب ، ولا للهرب ، وكان له منْظر بلا مَخْبَر ، فإن كان مالكه هو الرائض له ، ندم على توانيه يوم لا ينفع الندم ، وحين نظر إلى غيره في وقت الطلب ، قد طلب فأدرك ، وفي وقت الهرب قد هرب فسَلِم ، وطلب هو فلم يدرك ، وهرب فلم يسلم ، كل ذلك بتَوانيه ، وقلة صبره بعد معرفته منه ، ثم أقبل على نفسه يلُومها ويُبخها ، فيقول : لمَ فرطتِ ؟ لمَ قصرتِ ؟ ، لقد عاد علي من قلة صبرى كل ما أكره . والله المستعان ) اعقلوا رحمكم الله هذا المثل و تفقهوا به تُفلحوا و تنجحوا .
ثم نقل رحمه الله عن وهب بن منبه و هو من علماء التابعين قال : ( النّفس كنفوس الدّواب ، والإيمان قائد ، والعمل سائق ، والنّفس حَـرون ، فإن فتر قائدُها حرنَت على سائقها ، وإن فتر سائقها ضلت على الطريق ).
هذا المثل الأول و هو للإمام الآجري رحمه الله تعالى و يوضح أنّ النّفس البشرية تحتاج من صاحبها إلى رياضة و صبر عليها ، و أنْ يكون على علم بلأمور التي تُصلح النّفس و تزكِّيها في ضوء دلائل كتاب الله عـز و جل و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم و أنّ الإنسان إنْ فرّط في هذا الجانب سيندم في نهايه المطاف غاية الندم
و المثل الثاني للإم ابن القيم رحمه الله تعالى أورده في كتابه – مدارج السالكين –فقال رحمه الله :( النّفس جبلٌ عظيم شاق في طريق السّير إلى الله تعالى وكل سائر لا طريق له إلاّ على ذلك الجبل فلا بُد أن ينتهى إليه ولكن منهم ( أي من النّاس ) من هو شاق عليه ومنهم من هو سهل عليه وإنَّه ليسير على من يسره الله عليه قال : و في ذلك الجبل أودية و شُعوب و عَقبات ووهُـود وشوك وعوسَج وعُـلَّيْـق وشِبرق ولصوص يقطعون الطريق على السائرين ، ولا سيما أهل الّليل المُدلجين ، فإذا لم يكن معهم عُـدَدُ الإيمان ومصابيح اليقين تَتَّـقِد بزيت الإخبات ، وإلا تعلقت بهم تلك الموانع وتشبثت بهم تلك القواطع وحالت بينهم وبين السّير فإنَّ أكثر السّائرين فيه رجعوا على أعقابهم لمّا عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته ، والشّيطان على قُـلَّـة ذلك الجبل ( أي على أعلاه ) يُحذرُ النّاس من صعوده و ارتفاعه و يُخوفهم منه ، فيتـفِق مشقة الصعود و قُعود ذلك المُخوف على قُـلّـتِه ، وضَعف عزيمة السّائر ونيته ، فيتولد من ذلك الانقطاع والرّجوع ، والمعصوم من عصمَه الله ، وكلما رقَى السّائر في ذلك الجبل اشتد به صياح القاطع وتحذيره وتخويفه فإذا قطعه وبلغ قُـلَّـته انقلبت تلك المخاوف كلهنَّ أمنًا وحينئذ يسهل السّير وتزول عنه عوارض الطريق ومشقتة ومشقة عقباتها ويَرى طريقا واسعا آمنا يُفضي به إلى المنازل والمناهِل و عليه الأعلام وفيه الإقاماتُ قد أُعدت لركب الرحمن ، فبين العبد و بين السّعادة و الفلاح قوة عزيمةٍ وصبر ساعةٍ وشجاعة نفسٍ و ثبات قلب و الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم ) .
هذا أيُّها الإخوة المثل و كذلك المثل الذي قبله يُبين لنا حال النّفس ، و أن النّفس البشرية تحتاج من صاحبها إلى تعاهد و الى مُتابعة و الى مُعالجة و الى مُداومة و الى رعاية ، فإنْ لم يتابعها ، إنْ لم يُراقبها ، إنْ لم يجاهدها تنفلت مَنه و تضيع ، و مِن الخير للإنسان أن يُحاسب نفسه ما دام في دار المُهلة و دار العمل ، قبل أنْ يُحاسبه ربّ العالمين في دار الجزاء يوم القيامة .
و لهذا جاء عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال : ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، و زنُوها قبل أن توزنُوا ، فإنّه أهْون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينُـوا للعرض الأكبر، يومئذ تُعرضون لا تخفى منكم خافية ) .
نعم أيّها الإخوة الكرام ، إنَّ من الخير للعبد أنْ يحاسب نفسه الآن في هذه الحياة الدنيا قبل أنْ يَمكن بالحساب يوم القيامة ، فمُحاسبة الإنسان لنفسه ووزنُه لها في هذه الحياة خير له ، لأنَّ المحاسبة تورد العمل و الصلاح و الإستقامة .
وهذه المحاسبة للنّفس هي التي تورث بإذن الله تبارك و تعالى صلاحًا و فلاحًا ، و لقد كثرت النُّـقول عن السلف رحمهم الله تعالى في الحث على مُحاسبة النّفس و معاتبتها و مداواتها .
يقول الحسن البصري رحمه الله : ( إنّ العـبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته ) ، و قال ميمون بن مهران : ( لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشدَّ المحاسبة من الشريك لشريكه ) ، و لهذا قيل : النّفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه ذهب بمالك . و قال الحسن رحمه الله : ( المؤمن قوَّام على نفسه يحاسب نفسه ، و إنَّما خص الحسابُ يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا ، و إنّما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير مُحاسبة ، إنَّ المؤمن يفاجئُه الشيء ويعجبه فيقول : والله إنِّي لأشتهيك، وإنّـك لمن حاجتي ، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حِيل بيني وبينك ، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردتِ إلى هذا ؟ مالي ولهذا ؟ والله لا أعود إلى هذا أبداً ، إنَّ المؤمنين قوم أوقفهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم ، إنَّ المؤمن أسيٌر في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله ، يعلم أنَّه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره ، وفي لسانه وفي جوارحه ، مأخوذ عليه فيذلك كله ) .
والآثار عن السّلف رحمهم الله تعالى في هذا المعـنى كثيرة .
و يَتأكد في هذا المقام مقام تزكية النّـفس في مثل الأزمة التي تكثر فيها الفتن و الصّوارف التي تصرف الإنسان عن الخير و تشغله بما يسخط الله تبارك و تعالى و يُغضبه .
و إذا كان عبد الله ابن المبارك و هو من علماء التابعين يقول رحمه الله تعالى في زمانه : ( إنَّ الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تؤاتيهم على الخير عفواً، وإنَّ أنفسنا لا تكاد تؤاتينا إلّا على كرهٍ ، فينبغي لنا أنْ نُكرِهها ) إذا كان ذلك يقوله رحمه الله تعالى في ذلك الزمان ، فكيف إذا بلأزمنة المُتأخرة مع كثرة الفتن و كثرة الصّوارف و كثرة الشّواغل التي تُلهي الإنسان و تصرفه عن الخير و تصرفه عن ما يُقرب الى الله تبارك تعالى و يُدني منه سبحانه .
أيُّها الإخوة الكرام : نأتي بعد هذا إلى الحديث عن حقيقة تزكية النّفس ، و ماهي الأمور التي تزكوا بها النّفس البشرية ؟ و يُمكنُ اجمال ذلك أيُّها الإخوة الكرام في أمور ثلاثة .
الأمر الأول : وهو أساس تزكية النّفس و لا زكاء لنفسٍ إلّا إذا قامت عليه و تأسست عليه ألا وهو الإيمان بالله و توحيده سبحانه و تعالى و إخلاص الدِّين له ، ألّا و هو تحقيق شهادة أن لا إله إلّا الله ، بما تعنيه هذه الكلمة من توحيد و إخلاص و إفراد لله سبحانه و تعالى بالذّل و الخضوع و المحبة و الإمتثال و جميع أنواع العبادة ، و هذا أساس تزكية النفس .
والنفس بأعمالها الصالحة و طاعاتها الزَاكية مَثلها مَثل شجرة مُباركة ، و من المعلوم أنَّ الأشجار لا قيام لها إلّا على أصُولها ، و قد قال الله تعالى في سورة ابراهيم : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ) ، و بهذا يُعلم أنَّ تزكية النّفس له أساس لا تقوم التزكية إلا عليه و هو توحيد الله و إخلاصُ الدّين له جل و علا .
قال الله تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) و قال الله تعالى : ( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاة ) قال بن عباس : لا يشهدون أنَّ لا إله إلا الله ، و قال مجاهد : لا يزكون أعمالهم أي : ليست زاكية ، و قيل : لا يُطهرونها بلإخلاص كأنّه أراد و الله أعلم أهل الرِّياء فإنَّه شِرك .
وقال الله سبحانه و تعالى في قصة موسى مع فرعون : ( فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ) أي بلإخلاص و التوحيد لله جل و علا .
فالتّزكية شجرة مباركة ، عظيمة الثَمر ، كبيرة الأثر ، لها أصل لا قيام لها إلّا عليه ألا و هو توحيد الله عز وجل و إخلاص الدين له سبحانه و تعالى .
و كُـلما كان هذا التوحيد و الإخلاص و الإيمان بالله مُتمكنا من القلب ، كان هذا أبلغ في نَماء هذه الشّجرة و كونها مُثمرة أطايب الثَمر و لذيذه و حسنه و نافعه .
الأمر الثاني : من جوانب تزكية النّفس ، تزكيتها بفرائض الإسلام ، وواجبات الدّين ، وحُسن التّـقرب إلى الله سبحانه و تعالى ، بفعل ما أمر و ترك مانهى عنه تبارك و تعالى و زجـر .
و لهذا ينبغي أنْ يُعلم أنّ التزكية لها جانبان لا تكون إلّا بهما ، يدُل عليهما أصل هذه الكلمة اللّغوي ، و أيضا دلالة هذه الكلمة في نصوص الشرع .
و إذا نظرنا في كتب اللّغة في معنى التّزكية و مدلولها نجِد أنَّ لها جانبان كلاهما من معاني التزكية و هما : الطهارة والنّماء .
فالتزكية طهارة و نماء ، و لهذا يُقال : زكى الزّرع إذا طاب و زالت عنه المُؤذيات التي تُضعف نماءَه .
و تُسمى الصدقة المفروضة زكاة لأّنها تُطهر المال (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) و لأنَّها أيضا في الوقت نفسه سبب لنماء المال .
فالتزكية طهارة و في الوقت نفسه نماء ، طهارة بالبعد عن الأعمال المحرمة و المعاصي و الآثام ، ونماء بفعل الطاعات و العبادات المقربة إلى الله سبحانه وتعالى .
و عليه أيّها الإخوة فإنّ التّـزكية لابد فيها من فعل الأوامر التي فرضها الله سبحانه و تعالى على عباده و أوجبها عليهم و لا بد أيضا في الوقت نفسه من البُعد عن النّواهي و الآثام .
ففعل الأمر تزكية و ترك النَّهي أيضا تزكية ، فالتزكية تخلية و تحلية .
تخلية للنّفس بإبعادها عن الرذائل و الخسائس ، و تحلية لها بفعل الأوامر و الطاعات المقربة إلى الله سبحانه و تعالى .
فالصّلاة تزكية ، قد قال الله عز و جل : (إنَّ الصَلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) ، وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ النبي عليه الصلاة و السلام قال : (أرأيتم لو أنَّ نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات ، هل يبقى من درَنِه شيئ ؟ قالوا : لا ، لايبقى من درنه شيئ ، فقال عليه الصلاة و السلام فذلكَ مَثلُ الصَّلواتِ يمحُو الله بِهنَّ الخَطايا ) .
الزكاة تزكية ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا )
و الصيام تزكية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
الحج تزكية ، جميع الطاعات التي أمر الله عزّ وجل عباده بها كُـلها داخلة في هذا الباب باب تزكية النَّفس .
و لهذا قال الله تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)
الذّكــر تزكية للنَّفس ، بل هو أعظم باب تزكوا به النُّفوس و تتطهر به القلوب و تطمئنن ، وكم من الأذكار المشروعة من الآثار المباركة على أهلها في الدنيا و الآخرة من تطهير وتنقية للنّفس من أدرانها و تفريقها و تقشيرها ، و الحديث بهذا الجانب قد يطول ، لكـنني اكتفي بمَثلٍ واحد في هذا الباب من السنة و هو ما رواه الترمذي في جامعه( أنَّ النبي عليه الصلاة و السلام مرَّ و كان مع أصحابه بشجرة يابسة الورق و بيده عليه الصلاة و السلام عصا ، فضرب الشّجرة بالعصا التي بيده فأخذ الورق يتناثر و يتساقط من تلك الشجرة ، و قال عليه الصلاة و السلام للصحابة وهم ينظرون لهذا الورق يتساقط من هذه الشّجرة ، إنَّ سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر لتُساقط من ذنُوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة) ، فذكر الله عز وجل تزكية للنُّفوس و طهارة لها ، و عُـموم الطاعات و العبادات المقربة إلى الله جل و علا كلّها داخلة في هذا الباب باب تزكية النفس ، كذلك ترك النواهي و المحرمات و اجتبابُ الكبائر و الموبقات باب مهم للغاية في تزكية النّفس ، فإذا غـشى العبد في الحرام و ارتكب الآثام يكون بذلك ذنّب نفسه و دسّاها و حقّرها بحسب فعله لتلك المحرمات و ارتكابه لتلك الآثام ، و في هذا تأمل قوله سبحانه : ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).
فالبعد عن المحرمات ، اجتناب الكبائر و الآثام كل ذلكم أيّها الإخوة الكرام داخل في باب تزكية النّفس .
في هذا المعنى أيضا قول الله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ )
الأمر الثالث في باب تزكية النّفس : تزكيتها بفعل الرّغائب و المُستحبات ، و هذه المرحلة تأتي بعد المرحلة الفارطة ، و في الحديث القدسي يقول الله تعالى : ( ما تقرّب إلي عبدي بشئ أحب إلي ممّا افترضتُه عليه و لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنّوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به و يده التي يبطِش بها و رجله التي يمشي عليها ، و لئن سألني لأُعطينه و لئن استعاذ بي لأُعيذنه ).
فهذه مجالات التزكية و جوانبها و هي ثلاثة ، تتلخص في أمور ثلاثة :
الأول الأصل و هو توحيد الله و الإيمان به وبكل ما أمر سبحانه و تعالى عباده بلإيمان به .
والثاني تزكيتها بفعل الفرائض و الواجبات وترك الكبائر و المحرمات .

والثالث تزكيتُها بفعل الرّغائب و النّوافل و المستحبات .

ثم أيّها الإخوة الكرام : تزكية النُّـفوس كما يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين : ( أمرها مُسلّم إلى الرسل عليهم الصلاة و السلام و إنّما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إيّاها و جعلها على أيديهم دعوةً و تعليماً و بيانا و ارشادا لا خلقاً ولا إلهاماً ، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم ) .
قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) ، و قال تعالى : (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ )
يقول سفيان ابن عيينه رحمه الله :( إنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم هو الميزان الأكبر وعليه تُعرض الأشياء ، على خُلقه وسيرته وهديه ، فما وافقها فهوالحق ، وما خالفها فهو الباطل ) هذا أيّها الإخوة ميزان دقيق و مهم للغاية في باب تزكية النّفس .
تزكية النَّـفس ليس أمرا مُسلما للإنسان يزكي نفسه بأي طريقة شاء و بأي سبيل أراد . لا . بل لابد في باب تزكية النّفس من وزنِ الأعمال بما جاء عن النبي الكريم عليه الصلاة و السلام ، فَخلُقه و سيرته و هديه صلى الله عليه و سلم مِيزان تُعرض عليه الأعمال و تُقاس عليه الأمور ، و ليس للإنسان أنْ يتخِذَ لنفسه ما شاء من الأمور أو الوسائل التي يزعُم أنّها تُـزكي نفسه .
ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله : ( تزكية النُّفوس أصعب من علاج الأبدان و أشـد ، فمن زكّي نفسه بالرياضة و المجاهدة و الخَلوة ، التي لم يجئ بها الرسل ( يعني جاء بأعمال و طرق يزعم أنّها تزكي النّـفس لكن لم تأتي على الرسل عليهم الصلاة و السلام ) فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه ، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب ؟ ) فالرّسل أطباء القلوب ، فلا سبيل إلى تزكيتها و صلاحها إلّا من طريقهم و على أيديهم و بمحض الإنقياد والتسليم لهم و الله المستعان .
بعض النَّاس يظن في هذا الباب أنَّ التزكية تكون بالتّشديد على النَّفس و القسوة عليها ، و حرمان النَّفس من حقُـوقها التي فطر الله سبحانه و تعالى النّفوس على الإحتياج اليها ، قد قال عليه الصلاة و السلام :( و لنفسك عليك حق ) فبعض النَّاس يظن أنَّ تزكيته لنفسه تكون بحرمان النَّفس من حقوقها المباحة أو بالقسوة على النَّفس و الشّدة عليها أو بالرّعونة و نحو ذلك من التّصرُفات التي يظن أنّه بمثل هذه المسالك يزكّي نفسه ، و هيهات أن تكون تزكية النَّـفس بمثل ذلك .
فتزكية النَّفس لا تكون لا بالإفراط و لا أيضا بالتفريط ، لا تكون لا بالزيادة و لا بالتقصير ، بل تكون بالتّـوسط و الإعتدال و ذلك بلزوم هدي النبي صلى الله عليه و سلم و نهجِه القويم صلوات الله و سلامه و بركاته عليه .
فلا بُـد من الوسطية و الإعتدال في باب تزكية النَّـفس مطلوبة بالدليل ، لكن تتفاوت في المسالك ، فمن النّـاس من يريد أن يزكي نفسه بالتّشديد و التعزير و القسوة على النّفس و في الحديث : ( إنّ هذا الدين يسر ولنْ يُشاد الدّين أحد إلا غلبه فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا ) و من النّاس من يزكّي نفسه بوسائل و طرائق لا أصل لها و لا أساس ، فالنّاس في هذا الباب بين افراط و تفريط ، و خِيارُ الأمور أوساطُها لا تفريطها و لا إفراطها .
يقول ابن القيم رحمه الله في - مدارج السالكين - : (فإنَّ النّفس متى انحرفت عن التوسط ، انحرفت إلى أحد الخُلقين الذميمين و لا بُد ، فإذا انحرفت عن خلق التواضع : انحرفت إما إلى كبر و علو ، وإما إلى ذلّ و مهانة و حقارة وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت : إمّا إلى قِحَةٍ وجُرأة ، وإمّا إلى عجـزٍ وخور ومهانة ، و كذلك إذا انحرفت عن خلق الصبر المحمود انحرفت إمّا إلى جزع و هلع وإمّا إلى غلظة كبد وقسوة قلب وتحجـر طبع ، وإذا انحرفت عن خلق الحلم انحرفت : إمّا إلى طيش أو إلى مهانة و حقارة وإذا انحرفت عن خلق الأناة والرفق انحرفت : إمّا إلى عجلة وطيش وعنف أو إلى تفريط وإضاعة ، وإذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها الله لأهل الإيمان انحرفت : إمّا إلى كِبر وإمّا إلى ذُل ، وإذا انحرفت عن خلق الشّجاعة انحرفت : إما إلى تهور وإقدام غير محمود أو إلى جبن وتأخر مذموم ) ، و هكذا نجد أنَّ النّفس إذا خرجت في باب التزكية عن حدّ الإعتدال والتّـوسط الذي كان عليه نبينا صلى الله عليه و سلم تنحرف إلى جانبين كلاهما مذموم و خِيار الأمور أوساطها لا تفريطها و لا إفراطها .
و يجب أنْ يُعلم في هذا الباب أنَّ خير العمل ما كان لله أطوع و لصاحبه أنفع و قد يكون ذلك أيسر العملين و قد يكون أشدُّهُما ، فليس كل شديد فاضلا ولا كل يسير مفضولا .
بل الشرع إذا أمرنا بأمر شديد فإننا نأمر به بما فيه من المنفعة لا لمجرد تعذيب النّفس . و قد قال عليه الصلاة و السلام : ( إنّما بُعِثتُم ميسرين و لم تُبعثوا معسّرين ) و قال
لمعاذ و أبي موسى لما بعثهما إلى اليمن : ( يسرا و لا تعسرا ، و بشِّرا و لا تُنفرا ) ، و قال عليه الصلاة و السلام : (هذا الدين يسر ولنْ يشادّ الدين أحد إلا غلبهُ ) ، و قال عليه الصلاة و السلام :( أحبُّ الدين إلى الله الحنيفية السّمحاء ) ، و الشيطان له مداخل في هذا الباب عندما يرى الإنسان قد أقـبل على تزكية النّـفس إمّا أنْ يدخله في باب تشديد و تحقير على النَّفس ، بترك المباحات و تعذيب النفس بقلة المرأى ، يـُـفشل البدن ، المنع من المباحات ، أو ينقل الإنسان نقلة أخرى بعيدا يحرفه من خلالها عن الصواب و السداد .

والواجب على المسلم في هذا الباب باب تزكية النّفس و في كل باب أنْ يُلزم نفسه بشرع الله و دينه الثّابت عن رسوله صلوات الله و سلامه عليه ، و أنْ يحذر من كلِ طريق و سبيل لا أصل له في شرع الله عز وجل .
ثُم أيّها الإخوة الكرام : يَحتاج العبد في هذا المقام مقامِ تزكية النّـفس إلى أمر مهم للغاية لا بد من التأكيد عليه و هو : أنْ يكون على ذكر دائم للوقوف بين يدي الله و المجازات و المحاسبة ، و قد قال الله عـزّ و جل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) و لتنظر نفس ما قدمت لغد ، وقال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ) و من أواخر ما نزل على نبينا عليه الصلاة و السلام قول الله تعالى : (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ) ، و في الحديث و في سنده مقال و لكن معناه صحيح لا ريب في صحة معناه : ( الكيس من دان نفسة وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتْـبع نفسهُ هواها وتنمى على الله الأماني )
الكيس : أي اللّبيب الفطن الذي يحاسب نفسه و يُعِـدها لما بعد الموت ، يُعدها للقاء الله سبحانه و تعالى ، و العاجز من أتْبع نفسه هواها و تمنى على الله الأماني .
ثُمّ أمرٌ أخير أختم به ألا و هو أيّها الإخوة : ينبغي على من أكرمَه الله عزّ و جل بلإستقامة ووفقه للرّعاية لنفسه و العناية بها أن يذكُر دائما أن هذا محضُ فضل الله عليه و مَـنّه سبحانه و تعالى ، و أنّه لولا فضل الله عليه لما استقام و لَمَا اهتدى ، فيحذر في هذا المقام من أن ينظر إلى نفسه نظر الإعجاب أو الثناء على نفسه أو التزكّية لها و الله يقول : ( فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) و يقول : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ) ، فإذا أكرم الله سبحانه و تعالى عبده ، ووفقه لسلوكِ طريق الهِداية و لزوم سبيل الإستِقامة ، فعليه أنْ يذكر أنَّ هذا محضُ فضل الله و منّه عليه .
فلا ينظر إلى نفسه نظر إعجاب ، بل يكونُ حامدا ، شاكرا ، مُثنيا على مولاه سبحانه و تعالى ، و قد ذكر الله جل و علا في صفات المؤمنين الكُمّل فقال : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) أي : يقدمون ما يقدمون من طاعات و عبادات و قلوبهم خائفة .
و جاء في المسند أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سألت النبي عليه الصلاة و السلام عن معنى هذه الآية الكريمة ، و قالت : (يا رسول الله أهُـوَ الرجل يزني ويسرق و يقتل و يخاف أن يعذب ؟ قال لا يا ابنة الصديق ، و لكنّه الرجل يصلي و يصوم و يتصدق و يخاف أن لا يُقبل منه ) ، و لهذا قال الحسن البصري رحمه الله تعالى : ( إنَّ المؤمن جمع بين إحسان و مَخافة ، و المنافق جمع بين إساءة و أمن ) ، المؤمن يحسن في العمل و يخاف ، و المنافق يسئ في العمل وآمن .
فالواجب على المسلم أنْ يُجاهد نفسه على تقوى الله سبحانه و تعالى و نيل رضاه ، و أنْ ينظر إلى نفسه دائما نظـر التقصير و التفريط ، و يلُـوم نفسه على تقصيرها و تفريطها ، و يجاهد نفسه على البعد عن الذّنوب و الآثام التي تحرمه من الخير و تحُـول بينه و بين نيل الفضائل و الخيرات و البركات في الدنيا و الآخرة ، و يكُون مُقبلا على ربّهِ سبحانه ، يرجوا رحمته و يخاف عذابه ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ) .
و أسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم بأسمائه الحسنى و صفاته العليا ، و بأنَّهُ الله الذي لا إله إلّا هو ، الذي وسع كل شئ رحمة و علما أن يوفقنا جميعا لكل خير ، و أن يصلح لنا شأننا كله ، و أن يغفر لنا و لوالدينا ، و لمشايخنا و للمسلمين و المسلمات و المؤمنين و المؤمنات الأحياء منهم و الأموات ، اللّهم آتِ نفوسنا تقواها و زكّها أنت خير من زكّاها أنت وليها ومولاها ، اللّهم أعِـنَّا ولا تُـعن علينا وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا تمكر علينا وأهدنا ويسر الهدى لنا وانصرنا على من بغى علينا ، اللّهم اجعلنا لك شاكرين لك ذاكرين إليك أوّاهين منيبين ، لك مخبتين لك مطيعين، اللّهم تقبّل توبتنا واغسل حوبتنا ، و ثبت حُجّتنا ، و اهدِ قلوبنا و اسلل سخيمة صدورنا ، اللّهم و أصلح ذات بيننا و ألف بين قلوبنا ، واهدنا سُبُل السّلام ، و أخرجنا من الظلمات إلى النور ، و بارك لنا في أسماعنا و أبصارنا ، و أزواجنا و ذرّياتنا ، و أموالنا و أوقاتنا و اجعلنا مباركين أينما كنّا ، اللّهم آمنّا في أوطاننا و أصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللّهم وفق ولاة أمرنا لكل خير و اهدهم يا حي يا قيوم لما تحبه و ترضاه من سديد الأقوال و صالح الأعمال ، اللّهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، و أصلح لنا شأننا كله لا إله إلّا أنت ، و الحمد لله أولا و آخرا ، و له الشُّكر ظاهراو باطنا ، و صلى الله و سلم و بارك و أنعم على عبده و رسوله نبينا محمد و آله و صحبه أجمعين .


v52.gif


و تم تفريغها و مراجعتها من طرف الأخت : أروى الأثرية

مساء يوم الجمعة : 21 جمادى الثاني 1431


  • بالجزائر العاصمة
و ما كان في تفريغي هذا من صواب فمن الله وحده ، و ما كان من خطأ فمن نفسي و من الشيطان .

و أسأل الله أن ينفعنا بما نقرأ و نسمع و أن يوفقنا جميعا لما يحب و يرضى .
 
رد: ۩ العـلم و أثره في تزكية الـنُّـفوس ۩

بارك الله فيك
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top