معاوية ستر الصحابة
الخطبة الأولى
الحمد لله العلي الأعلى؛ خلق فسوى، وقدر فهدى، نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ فضل هذه الأمة على سائر الأمم، وجعل أولها خيرا من آخرها، وصحابتها أفضل من غيرهم ولو كانوا من خيارها؛ فإن أحدنا لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ جاوز عمر أمته أربعة عشر قرنا، وقد سئل:أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِ، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثُ» صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ خيار هذه الأمة وأفاضلها؛ ترضى عنهم ربهم سبحانه في كتابه، ومات رسول الله وهو عنهم راض؛ فلا يحبهم إلا مؤمن، ولا يشنؤهم إلا منافق، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصي نفسي وإياكم -عباد الله- بتقوى الله تعالى والعمل الصالح؛ فإننا في زمن صار فيه الهوى متبعا، والشح مطاعا، والدنيا مؤثرة، وأعجب فيه كل ذي رأي برأيه، فلا نجاة إلا في دين الله تعالى، ولزوم صراطه المستقيم، والتمسك بحبله المتين ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزُّخرف:43- 44].
أيها الناس:
من حكمة الله تعالى في ابتلاء العباد ابتلاؤهم بالمحكم والمتشابه؛ ليتبين به الموقن من الشاك، والراسخ من المزعزع، والمصدق من المكذب.. وقد جعل سبحانه المتشابه في الكتاب والسنة، وفي من نقلهما عن المبلغ صلى الله عليه وسلم، وفي الحلال والحرام.
ومن رحمة الله تعالى بطلاب الحق أن نصب الأدلة على المحكم، وجعله أصلا يرد إليه المتشابه؛ لحفظ من تجرد عن هواه من الزيغ والانحراف. وأما أهل الأهواء فقد استقر الزيغ في قلوبهم، فهم ينبشون عن المتشابه ليقضوا به على المحكم.
ومن أعظم مواطن الاشتباه التي زلت فيها الأقدام، وانحرفت الأفهام، حتى تأسست بسببها فرق على الضلال والانحراف: الاشتباه في المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم من سيرهم وأفعالهم، سواء في معاص ارتكبوها، أو في اجتهادات أخطئوا فيها، مما يدل على بشريتهم، ونفي العصمة عنهم، وأن الضعف يعتريهم كما يعتري غيرهم.. فأهل العدل وطلاب الحق، يضعون هذه الأخطاء في سياقاتها، ويزنونها بميزانها، ويقارنونها بالمجموع الكلي لسيرهم وأخبارهم؛ لتتمحض خيريتهم، وتنغمر سيئاتهم واجتهاداتهم الخاطئة في بحور حسناتهم. وأما أهل الباطل فيبترونها عن سياقها، ثم يجمعونها وينفخون فيها ويهولونها ويسقطون بها أصحابها..
إن الأصل المتواتر الذي تواتر في الكتاب والسنة أن الصحابة رضي الله عنهم هم خيار هذه الأمة وعدولها، وهم حفظة دينها، قد عدلهم الله تعالى في كتابه، ورضيهم بطانة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليهم فقال سبحانه ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [التوبة:100] فقوله سبحانه ﴿ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ﴾ يدخل فيه كل الصحابة حتى من تأخر إسلامه إلى الفتح وما بعد الفتح، فكلهم قد رضي الله عنهم.
والأصل أيضا أنه لا يمكن الوصول إلى معرفة الدين إلا عن طريق الصحابة، فالقرآن وصلنا منهم، وشرائع الإسلام أخذتها الأمة عنهم.
وقد دلت التجربة على أن الطعن في عدالة واحد منهم أو التشكيك في نصحه للأمة يفتح الطعن والتشكيك في جميعهم؛ فليس بعضهم أولى من بعض في هذا الجانب، وإذا كسر سياج هيبة الصحبة صار الصحابي وغيره سواء، واجترأ على الطعن فيهم كثير من السفهاء.
إن الصحابي ليس كغيره من الناس؛ فهو حلقة السلسلة الأهم بين الأمة ونبيها، وهو مستودع دينها، ومرتكز إيمانها، فلا دين يؤخذ إلا والصحابي هو الخرزة الماسية في عقده، ولا سنة تنقل إلا والصحابي ناقلها، وإلا لم يكن دينا ولم تكن سنة.
وقد تفطن لهذه القضية علماء الإسلام كما تفطن لها الطاعنون في الإسلام من المستشرقين والمنافقين..
أما علماء الإسلام فشيدوا سياجا متينا يحمي الصحابي من الطعن، وذلك حماية للقرآن وللدين وللأحكام. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: «من انتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبغضه لحدث كان، أو ذكر مساويه كان مبتدعا حتى يترحم عليهم جميعاً ويكون قلبه لهم سليما» وأما الطاعنون في الإسلام فقد علموا أن الطعن المباشر في الإسلام لن يحظى بقبول المسلمين، وأن فتح باب الطعن في الصحابي هو السبيل لإسقاط الدين كله، وتشكيك المسلمين فيه، وإخراجهم منه وهم لا يشعرون.
والأعداء يختارون من الصحابة من يمكن الطعن فيه، ومن يثمر الطعن فيه نتيجة في هدم الإسلام؛ كما قد طعن المستشرقون في أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأن إسقاطه يعني إسقاط أكثر من خمسة آلاف حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وطعنوا في معاوية رضي الله عنه لأنه يمكن الطعن فيه بما اشتبه على ضعاف العلم والعقل من سيرته رضي الله عنه، وبما حشاها الإخباريون من المبتدعة بالأخبار الملفقة.. ومن حكمة الله تعالى أن وجد هذا الاشتباه وحفظ إلى يومنا هذا كما وجد المتشابه في القرآن وفي السنة وفي الأحكام؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة.
ووجه الاشتباه في سيرة أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه أنه ولي الخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما، ثم اجتهد وعهد لابنه يزيد من بعده، فمن سلط المجهر على هذه الفقرة من سيرته رضي الله عنه طعن فيه، وصوره أنه طالب ملك، وأنه ما أسلم رغبة في الإسلام، وأنه يبطن خلاف ما يظهر.. مما يسوقه أهل البدعة من الباطنية والعلمانيين وبعض التنويريين؛ إذ بنو على هذه القضية جبالا من الباطل أوصلتهم في نهاية المطاف إلى الطعن في الإسلام والقرآن، ورد السنة والأحكام.
وعلماء السلف قد رأوا ما يؤدي إليه الطعن في معاوية بسبب هذه القضية من هدم الإسلام، ورد أحكامه؛ ولذا قالوا مقولات عظيمة دقيقة تبين ما يؤول إليه الطعن في معاوية رضي الله عنه.
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: «معاوية عندنا محنة، فمن رأيناه ينظر إليه شزرا اتهمناه على القوم، أعني على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم».
وقال وكيع بن الجراح رحمه الله تعالى: «معاوية رضي الله عنه بمنزلة حلقة الباب، من حركة اتهمناه على من فوقه».
ومن أعظم المقولات وأسدها مقولة أبي توبة الحلبي رحمه الله تعالى، قال:«معاوية بن أبي سفيان ستر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه» يا لها من مقولة تكشف الحقيقة، وتدل على خطورة ولوج هذا النفق المظلم.. هل تعلمون أن هذه المقولة الأخيرة يستدل بها أهل السنة على خطورة الطعن في معاوية رضي الله عنه، ويستدل بها الرافضة على وجوب الطعن في الصحابة جميعا؛ مما يدل على أن الطعن في معاوية يئول بصاحبة إلى الطعن في الصحابة كلهم، بل وفي القرآن والدين كله..
وبيان ذلك: أن صاحب الفراسة القوية، الذي أجرى الله تعالى الحق على لسانه، وأخاف الشيطان به فسلك فجا غير فجه، وجعله فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد قرب معاوية وولاه الشام، وعمر صاحب نظر وإدارة، ولا يحابي أحدا. ثم أقر معاوية عثمان رضي الله عنه على ولاية الشام، ووسع ولايته.. فالطعن في معاوية طعن في عمر وعثمان، واتهام لهما بأنهما قد غشا الأمة ولم ينصحا لها، أو أنهما غران قد خدعا به، وكل تهمة هي أشنع من أختها، وهذا يسقط الخليفتين الراشدين رضي الله عنهما.
والطعن في معاوية طعن في الحسن بن علي؛ لأنه سلمه الخلافة، وتنازل له، فكيف يغش الأمة لو كان طعن الطاعنين فيه صحيحا، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثنى على فعل الحسن وبشر به قبل وقوعه وهذا علم من أعلام النبوة، فقال صلى الله عليه وسلم: «ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ» رواه البخاري. فلو لم يكن معاوية أهلا للخلافة لما مدح النبي صلى الله عليه وسلم تنازل الحسن له، ورد ذلك يلزم منه الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعاوية كان كاتبا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد كتب الوحي، والطعن فيه طعن فيما كتب وهو القرآن؛ لأن الأمة لا تعلم ما كتب معاوية مما كتب غيره، والرافضة طردوا أصلهم الباطل في الطعن في كتبة الوحي من الصحابة رضي الله عنهم، وقالوا بتحريف القرآن.
وهذا يلزم منه الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كيف يأتمن على كتابة وحي الله تعالى من لا يوثق فيه، وهو طعن في الله تعالى؛ إذ كيف يقر نبيه صلى الله عليه وسلم على جعل معاوية من كتبة الوحي.
ولا شك في أن الطعن فيمن كتب الوحي هو طعن في الوحي، والطعن في الوحي طعن في الإسلام كله بعقائده وأحكامه وأخباره. فانظروا كيف أوصل الطعن في معاوية رضي الله عنه إلى الطعن في الإسلام والتشكيك فيه. وسبب ذلك اتباع المتشابه من سيرة معاوية رضي الله عنه، وعدم رده إلى المحكم من عدالة الصحابة، واختيار الله تعالى لهم ليكونوا بطانة نبيه صلى الله عليه وسلم، والقضاء على آيات القرآن، وصحيح السنة بأخبار المؤرخين، وبما اشتبه من سيرة الأمويين.
نعوذ بالله تعالى من الزيغ والضلال، ومن الجرأة على الصحابة الكرام، ونسأله سبحانه عصمة القلب واللسان من الطعن في الصحب والآل ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر:10].
بارك الله لي ولكم في القرآن...
الخطبة الأولى
الحمد لله العلي الأعلى؛ خلق فسوى، وقدر فهدى، نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ فضل هذه الأمة على سائر الأمم، وجعل أولها خيرا من آخرها، وصحابتها أفضل من غيرهم ولو كانوا من خيارها؛ فإن أحدنا لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ جاوز عمر أمته أربعة عشر قرنا، وقد سئل:أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِ، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثُ» صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ خيار هذه الأمة وأفاضلها؛ ترضى عنهم ربهم سبحانه في كتابه، ومات رسول الله وهو عنهم راض؛ فلا يحبهم إلا مؤمن، ولا يشنؤهم إلا منافق، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصي نفسي وإياكم -عباد الله- بتقوى الله تعالى والعمل الصالح؛ فإننا في زمن صار فيه الهوى متبعا، والشح مطاعا، والدنيا مؤثرة، وأعجب فيه كل ذي رأي برأيه، فلا نجاة إلا في دين الله تعالى، ولزوم صراطه المستقيم، والتمسك بحبله المتين ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزُّخرف:43- 44].
أيها الناس:
من حكمة الله تعالى في ابتلاء العباد ابتلاؤهم بالمحكم والمتشابه؛ ليتبين به الموقن من الشاك، والراسخ من المزعزع، والمصدق من المكذب.. وقد جعل سبحانه المتشابه في الكتاب والسنة، وفي من نقلهما عن المبلغ صلى الله عليه وسلم، وفي الحلال والحرام.
ومن رحمة الله تعالى بطلاب الحق أن نصب الأدلة على المحكم، وجعله أصلا يرد إليه المتشابه؛ لحفظ من تجرد عن هواه من الزيغ والانحراف. وأما أهل الأهواء فقد استقر الزيغ في قلوبهم، فهم ينبشون عن المتشابه ليقضوا به على المحكم.
ومن أعظم مواطن الاشتباه التي زلت فيها الأقدام، وانحرفت الأفهام، حتى تأسست بسببها فرق على الضلال والانحراف: الاشتباه في المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم من سيرهم وأفعالهم، سواء في معاص ارتكبوها، أو في اجتهادات أخطئوا فيها، مما يدل على بشريتهم، ونفي العصمة عنهم، وأن الضعف يعتريهم كما يعتري غيرهم.. فأهل العدل وطلاب الحق، يضعون هذه الأخطاء في سياقاتها، ويزنونها بميزانها، ويقارنونها بالمجموع الكلي لسيرهم وأخبارهم؛ لتتمحض خيريتهم، وتنغمر سيئاتهم واجتهاداتهم الخاطئة في بحور حسناتهم. وأما أهل الباطل فيبترونها عن سياقها، ثم يجمعونها وينفخون فيها ويهولونها ويسقطون بها أصحابها..
إن الأصل المتواتر الذي تواتر في الكتاب والسنة أن الصحابة رضي الله عنهم هم خيار هذه الأمة وعدولها، وهم حفظة دينها، قد عدلهم الله تعالى في كتابه، ورضيهم بطانة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليهم فقال سبحانه ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [التوبة:100] فقوله سبحانه ﴿ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ﴾ يدخل فيه كل الصحابة حتى من تأخر إسلامه إلى الفتح وما بعد الفتح، فكلهم قد رضي الله عنهم.
والأصل أيضا أنه لا يمكن الوصول إلى معرفة الدين إلا عن طريق الصحابة، فالقرآن وصلنا منهم، وشرائع الإسلام أخذتها الأمة عنهم.
وقد دلت التجربة على أن الطعن في عدالة واحد منهم أو التشكيك في نصحه للأمة يفتح الطعن والتشكيك في جميعهم؛ فليس بعضهم أولى من بعض في هذا الجانب، وإذا كسر سياج هيبة الصحبة صار الصحابي وغيره سواء، واجترأ على الطعن فيهم كثير من السفهاء.
إن الصحابي ليس كغيره من الناس؛ فهو حلقة السلسلة الأهم بين الأمة ونبيها، وهو مستودع دينها، ومرتكز إيمانها، فلا دين يؤخذ إلا والصحابي هو الخرزة الماسية في عقده، ولا سنة تنقل إلا والصحابي ناقلها، وإلا لم يكن دينا ولم تكن سنة.
وقد تفطن لهذه القضية علماء الإسلام كما تفطن لها الطاعنون في الإسلام من المستشرقين والمنافقين..
أما علماء الإسلام فشيدوا سياجا متينا يحمي الصحابي من الطعن، وذلك حماية للقرآن وللدين وللأحكام. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: «من انتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبغضه لحدث كان، أو ذكر مساويه كان مبتدعا حتى يترحم عليهم جميعاً ويكون قلبه لهم سليما» وأما الطاعنون في الإسلام فقد علموا أن الطعن المباشر في الإسلام لن يحظى بقبول المسلمين، وأن فتح باب الطعن في الصحابي هو السبيل لإسقاط الدين كله، وتشكيك المسلمين فيه، وإخراجهم منه وهم لا يشعرون.
والأعداء يختارون من الصحابة من يمكن الطعن فيه، ومن يثمر الطعن فيه نتيجة في هدم الإسلام؛ كما قد طعن المستشرقون في أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأن إسقاطه يعني إسقاط أكثر من خمسة آلاف حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وطعنوا في معاوية رضي الله عنه لأنه يمكن الطعن فيه بما اشتبه على ضعاف العلم والعقل من سيرته رضي الله عنه، وبما حشاها الإخباريون من المبتدعة بالأخبار الملفقة.. ومن حكمة الله تعالى أن وجد هذا الاشتباه وحفظ إلى يومنا هذا كما وجد المتشابه في القرآن وفي السنة وفي الأحكام؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة.
ووجه الاشتباه في سيرة أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه أنه ولي الخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما، ثم اجتهد وعهد لابنه يزيد من بعده، فمن سلط المجهر على هذه الفقرة من سيرته رضي الله عنه طعن فيه، وصوره أنه طالب ملك، وأنه ما أسلم رغبة في الإسلام، وأنه يبطن خلاف ما يظهر.. مما يسوقه أهل البدعة من الباطنية والعلمانيين وبعض التنويريين؛ إذ بنو على هذه القضية جبالا من الباطل أوصلتهم في نهاية المطاف إلى الطعن في الإسلام والقرآن، ورد السنة والأحكام.
وعلماء السلف قد رأوا ما يؤدي إليه الطعن في معاوية بسبب هذه القضية من هدم الإسلام، ورد أحكامه؛ ولذا قالوا مقولات عظيمة دقيقة تبين ما يؤول إليه الطعن في معاوية رضي الله عنه.
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: «معاوية عندنا محنة، فمن رأيناه ينظر إليه شزرا اتهمناه على القوم، أعني على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم».
وقال وكيع بن الجراح رحمه الله تعالى: «معاوية رضي الله عنه بمنزلة حلقة الباب، من حركة اتهمناه على من فوقه».
ومن أعظم المقولات وأسدها مقولة أبي توبة الحلبي رحمه الله تعالى، قال:«معاوية بن أبي سفيان ستر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه» يا لها من مقولة تكشف الحقيقة، وتدل على خطورة ولوج هذا النفق المظلم.. هل تعلمون أن هذه المقولة الأخيرة يستدل بها أهل السنة على خطورة الطعن في معاوية رضي الله عنه، ويستدل بها الرافضة على وجوب الطعن في الصحابة جميعا؛ مما يدل على أن الطعن في معاوية يئول بصاحبة إلى الطعن في الصحابة كلهم، بل وفي القرآن والدين كله..
وبيان ذلك: أن صاحب الفراسة القوية، الذي أجرى الله تعالى الحق على لسانه، وأخاف الشيطان به فسلك فجا غير فجه، وجعله فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد قرب معاوية وولاه الشام، وعمر صاحب نظر وإدارة، ولا يحابي أحدا. ثم أقر معاوية عثمان رضي الله عنه على ولاية الشام، ووسع ولايته.. فالطعن في معاوية طعن في عمر وعثمان، واتهام لهما بأنهما قد غشا الأمة ولم ينصحا لها، أو أنهما غران قد خدعا به، وكل تهمة هي أشنع من أختها، وهذا يسقط الخليفتين الراشدين رضي الله عنهما.
والطعن في معاوية طعن في الحسن بن علي؛ لأنه سلمه الخلافة، وتنازل له، فكيف يغش الأمة لو كان طعن الطاعنين فيه صحيحا، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثنى على فعل الحسن وبشر به قبل وقوعه وهذا علم من أعلام النبوة، فقال صلى الله عليه وسلم: «ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ» رواه البخاري. فلو لم يكن معاوية أهلا للخلافة لما مدح النبي صلى الله عليه وسلم تنازل الحسن له، ورد ذلك يلزم منه الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعاوية كان كاتبا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد كتب الوحي، والطعن فيه طعن فيما كتب وهو القرآن؛ لأن الأمة لا تعلم ما كتب معاوية مما كتب غيره، والرافضة طردوا أصلهم الباطل في الطعن في كتبة الوحي من الصحابة رضي الله عنهم، وقالوا بتحريف القرآن.
وهذا يلزم منه الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كيف يأتمن على كتابة وحي الله تعالى من لا يوثق فيه، وهو طعن في الله تعالى؛ إذ كيف يقر نبيه صلى الله عليه وسلم على جعل معاوية من كتبة الوحي.
ولا شك في أن الطعن فيمن كتب الوحي هو طعن في الوحي، والطعن في الوحي طعن في الإسلام كله بعقائده وأحكامه وأخباره. فانظروا كيف أوصل الطعن في معاوية رضي الله عنه إلى الطعن في الإسلام والتشكيك فيه. وسبب ذلك اتباع المتشابه من سيرة معاوية رضي الله عنه، وعدم رده إلى المحكم من عدالة الصحابة، واختيار الله تعالى لهم ليكونوا بطانة نبيه صلى الله عليه وسلم، والقضاء على آيات القرآن، وصحيح السنة بأخبار المؤرخين، وبما اشتبه من سيرة الأمويين.
نعوذ بالله تعالى من الزيغ والضلال، ومن الجرأة على الصحابة الكرام، ونسأله سبحانه عصمة القلب واللسان من الطعن في الصحب والآل ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر:10].
بارك الله لي ولكم في القرآن...