- عز الدين رمضاني
الآية الثانية: قول الله تعالى:
﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾[التوبة:105]
وجه الخطأ:﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾[التوبة:105]
كثرة الاستشهاد بهذه الآية للحث على العمل الصالح والثناء على أهله مع أنها سيقت في معرض التهديد والوعيد للمنافقين(1).
هذه الآية مما اختلف فيها أهل العلم بالتفسير، هل هي في المنافقين أو المؤمنين أو هما معا، وبمعنى آخر: هل هي في الوعد أو الوعيد؟
والمتتبع لهذه الأقوال يجد أنَّ قول من قال بأنها في حق المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ولم يعتذروا إلى رسول الله ﷺ هو المقدم على غيره، وأن الآية في الوعيد والترهيب أقرب منها إلى الثناء والترغيب، يدل على ذلك جملة أمور منها:
الأول: أن سياق الآيات جاء في معرض ذم المنافقين وصفاتهم، بدليل قوله تعالى قبل هذه الآية ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ... الآية﴾[التوبة:101]، وقوله بعدها بقليل: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ﴾[التوبة:107] ولا يضر ورود بعض الآيات في السياق مما ليس في ذم المنافقين وذكر أحوالهم كقوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم﴾[التوبة:102]، وذلك «لأن إلحاق ذلك بالذي يليه من الكلام ما كان للتأويل وجه صحيح أولى من إلحاقه بما قد حيل بينه وبينه من معترض الكلام» كما يقول ابن جرير(2).
الثاني: أن دلالة السياق فيها معنى التهديد والوعيد الشديد قبل الآية وبعدها، يقول ابن جرير: «فتوجيه الكلام إلى ما كان نظيرا لما في سياق الآية أولى من توجيهه إلى ما كان منعدلا عنه»(3)، ثم في الآية نفسها ما يدل على الوعيد كقوله تعالى: ﴿فَسَيَرَى اللّهُ﴾، قال النسفي في تفسيره (2 /207): «وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة»، وقوله أيضا: ﴿وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾[التوبة:105]، قال النسفي: «تنبئة تذكير ومجازاة عليه».
وقوله قبل ذلك في مطلع الآية: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ﴾ وهذه الصيغة وإن كانت تصلح للمدح وضعا، فالسياق لا يجعلها تصلح لذلك حكما، وفي هذا يقول العز بن عبد السلام في معرض الحديث عن السياق ودلالاته: «السياق يرشد إلى تبيين المجملات، وترجيح المحتملات، وتقرير الواضحات، وكل ذلك بعرف الاستعمال، فكل صفة وقعت في سياق المدح كانت مدحا، وإن كانت ذما بالوضع، وكل صفة وقعت في سياق الذم كانت ذما، وإن كانت مدحا بالوضع، كقوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيم﴾[الدخان:49] (4).
الثالث: أن «في الآية وعيد» هو اختيار كثير من المفسرين المحققين منهم:
3 مجاهد إمام التفسير في زمانه نقله عنه ابن جرير في تفسيره (11 /668)، وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (3 /275) إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبي الشيخ، وعبارة مجاهد: «هذا وعيد».
3 ابن عطية في «المحرر الوجيز» حيث قال: «وقوله ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ﴾ الآية صيغة أمر مضمنها الوعيد».
وقد استظهر ابن عطية هذا القول ورجحه على قول الطبري الذي قال: «المراد بها الذين اعتذروا من المتخلفين وتابوا، فقال: «والظاهر أن المراد بها الذين اعتذروا ولم يتوبوا وهم المتوعدون، وهم الذين في ضمير قوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ...﴾[التوبة:104].
3 أبو المظفر السمعاني في «تفسير القرآن العظيم» (4 /209)، قال: «في الآية معنى التهديد، فإن قال قائل: ما معنى رؤية الرسول والمؤمنين؟ قلنا: رؤية الرسول هي بإعلام الله إياه عملهم، ورؤية المؤمنين: بإيقاع المحبة في قلوبهم لأهل الصلاح، وإيقاع البغضة في قلوبهم لأهل الفساد».
3 عبد الرحمن السعدي في «تيسير الكريم الرحمن» (2 /285)، قال: «يقول تعالى: ﴿وَقُلِ﴾ لهؤلاء المنافقين: ﴿اعْمَلُواْ﴾ ما ترون من الأعمال واستمروا على باطلكم فلا تحسبوا أن ذلك سيخفى... إلى أن قال: ففي هذا التهديد والوعيد الشديد على من استمر على باطله وطغيانه وغيه وعصيانه».
3 ابن عثيمين في تفسير سورة النجم (ص245) عند إيراده لقوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ ...﴾: «ثم هذا في المنافقين وهو تهديد لهم وليس ثناء عليهم».
الرابع: أن في الآية معنى لا يتوافق مع الواقع، وهو أن الرسول ﷺ لا يرى أعمال أمته في هذا الوقت، يقول الشيخ العلامة ابن عثيمين: «وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى أن بعض الناس إذا عمل عملا كمكتبة أو مسجد، أو عمارة للفقراء أو ما أشبه ذلك كتب: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾، وهذا لا يجوز؛ لأن أحد الأطراف الثلاثة لا يمكن أن يراه، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام»(5).
أقول: أما في عهده ﷺ فممكن، أما بعد موته فلا، بدليل ما جاء في حديث الحوض من أن النبي ﷺ حين حيل بينه وبين أقوام من أمته واختلجوا دونه، قال: أي رب أصحابي، قيل له: «لا تدري ما أحدثوا بعدك»(6).
الخامس: أن الاستشهاد بالآية يكون عند مخافة الاغترار بالعمل الصالح، فينبه العامل على حفظ عمله من العجب والغرور، وهذا هو وجه تنزيلها في حق المؤمنين، لا في مباركة أعمالهم والثناء عليهم بمجرد صدورها منهم، ولذلك قالت عائشة(7): «إذا أعجبك حسن عمل امرئ فقل: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ ولا يستخفنَّك أحد»، وقد نقل الحافظ في «الفتح» (13 /619) عن ابن التين عن الداودي: «معناه لا تغتر بمدح أحد وحاسب نفسك» ثم قال معلقا: «والصواب ما قاله غيره أن المعنى لا يغرنك أحد بعمله فتظن به الخير إلا إن رأيته واقفا عند حدود الشرع».
* خلاصة القول:
لعل من المناسب أن يقال: إن الآية ليست محلا للاستشهاد بها على تزكية أعمال المؤمنين الطائعين وحثهم على العمل الصالح والمسابقة إليه، بقدر ما هي تهديد للمذنبين المسرفين في المعاصي، وتحذير للطائعين العاملين لتحسين العمل وحفظه من السمعة والرياء، وعلى هذا يتنزل قول من صحح أن يكون الخطاب للجميع على ما قال القرطبي (8 /252) وأن الآية فيها وعد ووعيد كما هو قول بعض المفسرين، قال صديق حسن خان في «فتح البيان» (5 /391): «فيه تخويف وتهديد للمذنبين... وفيه أيضا ترغيب وتنشيط للمطيعين».
ثم إن من رجح أن تكون الآية سيقت في حق المعتذرين التائبين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وليست في المنافقين، فإنه لا يلزم من ذلك مدح حالهم وتزكية عملهم؛ لأن أسلوب الخطاب يدل على تنقيص مرتبتهم وذمهم فيما وقعوا فيه، وهذا ما أقره أبو حيان الأندلسي في «البحر المحيط» (5 /100) حيث قال: «وإذا كان الضمير للمعتذرين الخاطئين التائبين، وهذا الظاهر فقد أبرزوا بقوله: ﴿فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ﴾ إبراز المنافقين الذين قيل لهم: ﴿لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ﴾[التوبة:94] الآية، تنقيصا من حالهم وتنفيرا عما وقعوا فيه من التخلف عن الرسول، وأنهم وإن تابوا ليسوا كالذين جاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم لا يرغبون بأنفسهم عن نفسه»، وهذا كلام في غاية التحقيق كما ترى.
والعلم عند الله تعالى.
(1) انظر: «قواعد وفوائد لفقه كتاب الله تعالى» لعبد الله الجوعي (ص70).
(2) «تفسير الطبري» ـ طبعة التركي (2 /354).
(3) نقلا من «قواعد التفسير» لعثمان السبت (2 /654).
(4) «البحر المحيط» للزركشي (6 /52).
(5) «تفسير سورة النجم» (ص245).
(6) البخاري (7049).
(7) البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه [«الفتح» (13 /616)].
*منقول من مجلة الإصلاح «العدد 10»
المصدر..موقع راية الاصلاح