9/10/2016
لما تمّ للإسكندر المقدونيّ فتح البلاد، أمرَ بالقبضِ على لصٍّ من لصوص البحر. ولما صار بين يديه سأله: بأيّ حقٍّ تسرقُ مال الغيّ؟
فقال له: أنا أسرقُ بسفينة صغيرةٍ فيسمونني لصّاً، وأنتَ تسرقُ بأسطولٍ كبير فيسمونكَ فاتحاً!
السّياسة هي ذاتها في كلّ عصر، الذي يتغيّر هم السّاسة فقط!
أسطول الإسكندر هو ذاته الأسطول الخامس الأمريكيّ اليوم، وأحصنة هولاكو في بغداد هي ذاتها دبابات الأبرامز، وريكاردوس قلب الأسد في الحروب الصليبيّة هو ذاته بوتين الذي رشّ كبير أساقفته الماء المُقدّس على صواريخ طائرات السوخوي، ونيرون الذي صعد إلى أعلى برجٍ ليستمتع بحريق روما لا يختلفُ كثيراً عن الأسد وهو يشاهد حريق حلب، وفرعون الذي ماتَ فرّخَ لنا زعماء يحكمون بعقليّة "ما أُريكم إلا ما أرى"! شخصيات الحيوان في شعر أحمد شوقي القصصيّ هي نحن وقد صرنا قصائد، وشخصيات ابن المقفّع في كليلة ودمنة هي شخصيّات النّاس في الحياة، والثورة في مزرعة الحيوان لجورج أورويل تشبه الرّبيع العربيّ إلى حدٍّ بعيد، وهنا مربط الفرس، وإسطبل الكلام!
القانون الأوّل للثورات يقتضي أن يستفزّ أحدهم النّاس للثورة قولاً أو فعلاً، دون أن ننسى أنّ النّاس لا بدّ أن يكونوا قد عانوا من استبداد السّلطة طويلاً.
وجورج أورويل خيرُ من يُحدّثنا عن الثّورات، فهو ليس مزارعاً وإن كان المزارعون أنتجوا في الثّورة مثل ما أنتجوا من القمح! وليس أكاديمياً صِرفاً وإن كانت "البندقية التي لا فكر خلفها تقتل ولا تُحرر"! ولكنّه كان جنديّاً في إحدى أكبر الدول الاستعماريّة في التّاريخ! فقد حارب في الجيش البريطاني في الحرب العالميّة الثّانية، وقاتل في بورما وإسبانيا والهند، لذلك فإنه يعرف الاستبداد والمستبدّين، وكيف تُستعمر الشّعوب، وتُغيّر الأنظمة، ويُستبدل الحُكّام، والأهم يعرفُ كيف تقوم الثّورات!
وقبل الشّروع في إسقاط أحداث مزرعة الحيوان الأورويلية على واقعنا العربيّ، لا بدّ أولاً أن نتفق على أمرين:
الأول: أنّ الحيوانات في الأدب ليست إلا رموزاً، وهمزاً ولمزاً لشخوص الواقع كما تقدّم!
الثّاني: أنّ الرّموز تختلف من مجتمع لآخر، فالبومة مثلاً نذير شؤم في ثقافتنا، بينما في الغرب هي رمز للحكمة! والخنزير عندنا رمز مستقذر وعندهم يحمل معاني القوّة والفهم!
تدور أحداث الرّواية في مزرعة "مانور" التي يملكها السّيد "جونز"، وتبدأ بخطبة عصماء يُلقيها الخنزير "ميجور" على الحيوانات يُذكّرهم فيها ظلم السّيد "جونز" ويحثّهم على الثّورة، فهي السبيل الوحيد للخلاص من الاستبداد!
إذاً القانون الأوّل للثورات يقتضي أن يستفزّ أحدهم النّاس للثورة قولاً أو فعلاً، دون أن ننسى أنّ النّاس لا بدّ أن يكونوا قد عانوا من استبداد السّلطة طويلاً، وإلا فمن المستحيل أن يثور شعب على واقعٍ يرتضيه!
إنّ الصانع الحقيقي للثورات ليس الشعوب وإنما الاستبداد! ويمكننا القول أنّ خطبة "ميجور" في الرّبيع الأورويلي هي إحراق محمد البوعزيزي نفسه في الرّبيع العربيّ! وظلم السّيد "جونز" ما هو إلا نسخة مكررة من استبداد السّلطة في بلادنا! وهكذا اجتمع الحافز والشّرارة الأولى، فاشتعلَ النّاس!
يموتُ "ميجور" بعد ثلاثة أيّام من خطبته، فتندلعُ الثّورة بقيادة الخنزيرين "نابليون" و "سنوبول"، ويتمُّ خلع السّيد "جونز" عن الحكم. وتعتقدُ الحيوانات أنها تخلّصتْ من الاستبداد!
تماماً كما حدث في بلاد العرب، حيث اعتقدنا أنّ الثّورة غاية في ذاتها، فقمنا بها وعدنا إلى بيوتنا! اعتقدنا أنّ المشكلة تتلخص في شخص رئيس الدّولة، ونسينا أنّ في كلّ دولة ظاهرة دولة عميقة، هي في العادة أخطر وأعتى!
يُهاجمُ السّيد "جونز" المزرعة مستعيناً برجالٍ أشدّاء محاولاً استرداد الحكم، ولكن الحيوانات تتصدى له وتطرده مجدداً!
هذا الحدث هو الثّورة المضادة التي شهدناها في مصر على سبيل المثال! فالدّولة العميقة لا تستوعب فراق السلطة، فما تلبثُ أن تلبسَ ثياب الثّائرين وتضرب مجدداً، ولكن للأسف كانتْ حيوانات المزرعة أعقل منا، لأنها فهمت أن الاستبداد القديم قد يأتي بصورةٍ جديدة، فلم تُفرّط في مكتسبات الثّورة! في حين أننا بدل أن نحمي ما حققناه من مكاسب ونبني عليه، أعدنا إحياء الاستبداد القديم، معتقدين أنّ المشكلة في شخص الحاكم لا في نظام الحكم! والسّيد "جونز" الذي استعان بالغرباء لاستعادة الحكم، يشبه إلى حدّ بعيد الأسد وقد جاء بروسيا وإيران!
استلمَ الخنازيرُ حكم المزرعة لأنّهم أهل السّابقة! وصاروا يحكمون دون انتخابات ولا مشاورات، فأمسكوا زمام الدّولة! تماماً كما لم يجد رئيس تونس إلا صهره ليترأّسَ الحكومة!
ولأنّ السّلطة غالية ولا تقبل القسمة على اثنين، انقلبَ "نابليون" على "سنوبول" شريكه في الثّورة مستعيناً بكلابٍ متوحّشة من خارج المزرعة، وتمّ اتهام "سنوبول" بالعمالة وتمّ إعدامه!
فرق كبير بين أن نكون ضدّ السرقة لأنها سرقة، وبين أن نكون ضدّها لأننا لم ننلْ شيئاً وقت قسمة المسروقات!
تماماً كما فعل جمال عبد النّاصر بالإخوان المسلمين ومحمد نجيب شُركاء الثّورة! وكما فعل صدّام حسين وحافظ الأسد برفاق البعث! فالثّورة إذا ما كانت غاية بحدّ ذاتها لا وسيلة لبناء الدّولة ما يلبث الثّائرون أن يصبحوا مستبدّين! وقد وضع "نابليون" دستوراً يقول: نابليون دوماً على حقّ! و"نابليون" في الحقيقة رئيس عربيّ بامتياز!
والشّخصيات الثّانوية في الرّواية تعيشُ اليوم بيننا، فالحصانُ "بوكسر" الذي أبلى بلاءً حسناً ضدّ الثّورة المضادة، يعمل بجهد ولكنّه لا يُفكّر، وللأسف يسهل خداع الطّيبين والمخلصين! والقطّة "مولي" التي تبيع كلّ مبادئها وأخلاقها للحصول على امتيازات شخصيّة، يوجد عندنا منها ملايين النّسخ التي تعيش وفق قانون: أنا وبعدي الطوفان! هؤلاء يعتقدون أنهم يشترون حاضرهم وهم للأسف يبيعون مستقبل أولادهم! أمّا الحمار "بنيامين" فهو شيطان أخرس، يعلم كلّ شيء ولكنّه لا يتدخّل في الشّأن العام! وهذه الشياطين الخرساء إذا لم ترتكب جريمةً غير سكوتها فقد ارتكبتْ فاحشةً كبرى!
وفي النّهاية ضاعت الثّورة وتمّ استنساخ الاستبداد! فالشّعبُ الذي لا يُحاسبُ ثائريه كما حاسب مستبدّيه لا يلبث أن يعاني من استبدادهم! والثّائرُ الذي لا يتعففُ عن شهوة الاستبداد في الحقيقة هو لم يثر على الاستبداد وإنما لأجل حظّه منه! فرق كبير بين أن نكون ضدّ السرقة لأنها سرقة، وبين أن نكون ضدّها لأننا لم ننلْ شيئاً وقت قسمة المسروقات!
وكلّ ثورةٍ وأنتم بخير!
ادهم شرقاوي
لما تمّ للإسكندر المقدونيّ فتح البلاد، أمرَ بالقبضِ على لصٍّ من لصوص البحر. ولما صار بين يديه سأله: بأيّ حقٍّ تسرقُ مال الغيّ؟
فقال له: أنا أسرقُ بسفينة صغيرةٍ فيسمونني لصّاً، وأنتَ تسرقُ بأسطولٍ كبير فيسمونكَ فاتحاً!
السّياسة هي ذاتها في كلّ عصر، الذي يتغيّر هم السّاسة فقط!
أسطول الإسكندر هو ذاته الأسطول الخامس الأمريكيّ اليوم، وأحصنة هولاكو في بغداد هي ذاتها دبابات الأبرامز، وريكاردوس قلب الأسد في الحروب الصليبيّة هو ذاته بوتين الذي رشّ كبير أساقفته الماء المُقدّس على صواريخ طائرات السوخوي، ونيرون الذي صعد إلى أعلى برجٍ ليستمتع بحريق روما لا يختلفُ كثيراً عن الأسد وهو يشاهد حريق حلب، وفرعون الذي ماتَ فرّخَ لنا زعماء يحكمون بعقليّة "ما أُريكم إلا ما أرى"! شخصيات الحيوان في شعر أحمد شوقي القصصيّ هي نحن وقد صرنا قصائد، وشخصيات ابن المقفّع في كليلة ودمنة هي شخصيّات النّاس في الحياة، والثورة في مزرعة الحيوان لجورج أورويل تشبه الرّبيع العربيّ إلى حدٍّ بعيد، وهنا مربط الفرس، وإسطبل الكلام!
القانون الأوّل للثورات يقتضي أن يستفزّ أحدهم النّاس للثورة قولاً أو فعلاً، دون أن ننسى أنّ النّاس لا بدّ أن يكونوا قد عانوا من استبداد السّلطة طويلاً.
وجورج أورويل خيرُ من يُحدّثنا عن الثّورات، فهو ليس مزارعاً وإن كان المزارعون أنتجوا في الثّورة مثل ما أنتجوا من القمح! وليس أكاديمياً صِرفاً وإن كانت "البندقية التي لا فكر خلفها تقتل ولا تُحرر"! ولكنّه كان جنديّاً في إحدى أكبر الدول الاستعماريّة في التّاريخ! فقد حارب في الجيش البريطاني في الحرب العالميّة الثّانية، وقاتل في بورما وإسبانيا والهند، لذلك فإنه يعرف الاستبداد والمستبدّين، وكيف تُستعمر الشّعوب، وتُغيّر الأنظمة، ويُستبدل الحُكّام، والأهم يعرفُ كيف تقوم الثّورات!
وقبل الشّروع في إسقاط أحداث مزرعة الحيوان الأورويلية على واقعنا العربيّ، لا بدّ أولاً أن نتفق على أمرين:
الأول: أنّ الحيوانات في الأدب ليست إلا رموزاً، وهمزاً ولمزاً لشخوص الواقع كما تقدّم!
الثّاني: أنّ الرّموز تختلف من مجتمع لآخر، فالبومة مثلاً نذير شؤم في ثقافتنا، بينما في الغرب هي رمز للحكمة! والخنزير عندنا رمز مستقذر وعندهم يحمل معاني القوّة والفهم!
تدور أحداث الرّواية في مزرعة "مانور" التي يملكها السّيد "جونز"، وتبدأ بخطبة عصماء يُلقيها الخنزير "ميجور" على الحيوانات يُذكّرهم فيها ظلم السّيد "جونز" ويحثّهم على الثّورة، فهي السبيل الوحيد للخلاص من الاستبداد!
إذاً القانون الأوّل للثورات يقتضي أن يستفزّ أحدهم النّاس للثورة قولاً أو فعلاً، دون أن ننسى أنّ النّاس لا بدّ أن يكونوا قد عانوا من استبداد السّلطة طويلاً، وإلا فمن المستحيل أن يثور شعب على واقعٍ يرتضيه!
إنّ الصانع الحقيقي للثورات ليس الشعوب وإنما الاستبداد! ويمكننا القول أنّ خطبة "ميجور" في الرّبيع الأورويلي هي إحراق محمد البوعزيزي نفسه في الرّبيع العربيّ! وظلم السّيد "جونز" ما هو إلا نسخة مكررة من استبداد السّلطة في بلادنا! وهكذا اجتمع الحافز والشّرارة الأولى، فاشتعلَ النّاس!
يموتُ "ميجور" بعد ثلاثة أيّام من خطبته، فتندلعُ الثّورة بقيادة الخنزيرين "نابليون" و "سنوبول"، ويتمُّ خلع السّيد "جونز" عن الحكم. وتعتقدُ الحيوانات أنها تخلّصتْ من الاستبداد!
تماماً كما حدث في بلاد العرب، حيث اعتقدنا أنّ الثّورة غاية في ذاتها، فقمنا بها وعدنا إلى بيوتنا! اعتقدنا أنّ المشكلة تتلخص في شخص رئيس الدّولة، ونسينا أنّ في كلّ دولة ظاهرة دولة عميقة، هي في العادة أخطر وأعتى!
يُهاجمُ السّيد "جونز" المزرعة مستعيناً برجالٍ أشدّاء محاولاً استرداد الحكم، ولكن الحيوانات تتصدى له وتطرده مجدداً!
هذا الحدث هو الثّورة المضادة التي شهدناها في مصر على سبيل المثال! فالدّولة العميقة لا تستوعب فراق السلطة، فما تلبثُ أن تلبسَ ثياب الثّائرين وتضرب مجدداً، ولكن للأسف كانتْ حيوانات المزرعة أعقل منا، لأنها فهمت أن الاستبداد القديم قد يأتي بصورةٍ جديدة، فلم تُفرّط في مكتسبات الثّورة! في حين أننا بدل أن نحمي ما حققناه من مكاسب ونبني عليه، أعدنا إحياء الاستبداد القديم، معتقدين أنّ المشكلة في شخص الحاكم لا في نظام الحكم! والسّيد "جونز" الذي استعان بالغرباء لاستعادة الحكم، يشبه إلى حدّ بعيد الأسد وقد جاء بروسيا وإيران!
استلمَ الخنازيرُ حكم المزرعة لأنّهم أهل السّابقة! وصاروا يحكمون دون انتخابات ولا مشاورات، فأمسكوا زمام الدّولة! تماماً كما لم يجد رئيس تونس إلا صهره ليترأّسَ الحكومة!
ولأنّ السّلطة غالية ولا تقبل القسمة على اثنين، انقلبَ "نابليون" على "سنوبول" شريكه في الثّورة مستعيناً بكلابٍ متوحّشة من خارج المزرعة، وتمّ اتهام "سنوبول" بالعمالة وتمّ إعدامه!
فرق كبير بين أن نكون ضدّ السرقة لأنها سرقة، وبين أن نكون ضدّها لأننا لم ننلْ شيئاً وقت قسمة المسروقات!
تماماً كما فعل جمال عبد النّاصر بالإخوان المسلمين ومحمد نجيب شُركاء الثّورة! وكما فعل صدّام حسين وحافظ الأسد برفاق البعث! فالثّورة إذا ما كانت غاية بحدّ ذاتها لا وسيلة لبناء الدّولة ما يلبث الثّائرون أن يصبحوا مستبدّين! وقد وضع "نابليون" دستوراً يقول: نابليون دوماً على حقّ! و"نابليون" في الحقيقة رئيس عربيّ بامتياز!
والشّخصيات الثّانوية في الرّواية تعيشُ اليوم بيننا، فالحصانُ "بوكسر" الذي أبلى بلاءً حسناً ضدّ الثّورة المضادة، يعمل بجهد ولكنّه لا يُفكّر، وللأسف يسهل خداع الطّيبين والمخلصين! والقطّة "مولي" التي تبيع كلّ مبادئها وأخلاقها للحصول على امتيازات شخصيّة، يوجد عندنا منها ملايين النّسخ التي تعيش وفق قانون: أنا وبعدي الطوفان! هؤلاء يعتقدون أنهم يشترون حاضرهم وهم للأسف يبيعون مستقبل أولادهم! أمّا الحمار "بنيامين" فهو شيطان أخرس، يعلم كلّ شيء ولكنّه لا يتدخّل في الشّأن العام! وهذه الشياطين الخرساء إذا لم ترتكب جريمةً غير سكوتها فقد ارتكبتْ فاحشةً كبرى!
وفي النّهاية ضاعت الثّورة وتمّ استنساخ الاستبداد! فالشّعبُ الذي لا يُحاسبُ ثائريه كما حاسب مستبدّيه لا يلبث أن يعاني من استبدادهم! والثّائرُ الذي لا يتعففُ عن شهوة الاستبداد في الحقيقة هو لم يثر على الاستبداد وإنما لأجل حظّه منه! فرق كبير بين أن نكون ضدّ السرقة لأنها سرقة، وبين أن نكون ضدّها لأننا لم ننلْ شيئاً وقت قسمة المسروقات!
وكلّ ثورةٍ وأنتم بخير!
ادهم شرقاوي