قادة غيروا الدنيا

angegardienretour

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
23 أكتوبر 2016
المشاركات
1,505
نقاط التفاعل
1,028
النقاط
71
محل الإقامة
الجزائر العاصمة
الجنس
أنثى
السلام عليكم

قادة قادوا المعارك ببصيرة حربية مذهلة، فغيروا الدنيا....

أسد الدين شيركوه .. فاتح مصر الثاني
هو الأمير الكبير أسد الدين شيركوه بن شادى الزرزازي الكردي، ولد في إحدى قرى أذربيجان هو وأخوه نجم الدين أيوب والد الناصر صلاح الدين الأيوبي، وهما من أشرف شعوب الأكراد وأكثرها شجاعة وبأسًا, عمل هو وأخوه نجم الدين في خدمة الأمير نهروز أمير شحنة العراق "مدير الأمن"، فاستناب نهروز نجم الدين أيوب على قلعة تكريت, فاتفق أن دخلها عماد الدين زنكي مصابًا في إحدى غزواته، فأحسنا إليه وخدماه فحفظ عماد الدين هذا الصنيع لهما.

في صحبة نور الدين محمود
وحدث ذات يوم أن تعرض رجل من نصارى تلك القلعة لإحدى بنات الأيوبيين، فخرج أسد الدين لهذا الرجل فقتله، فثار قومه في القلعة فأخرجهما نهروز من القلعة، وذلك في نفس الليلة التي ولد فيها صلاح الدين, فسارا إلى حلب ليخدما عماد الدين زنكي فأحسن إليهما، ولما تولى نور الدين محمود الأمر من بعد أبيه زنكي صار أسد الدين مقربًا عنده، ومن يومها بزغ نجم أسد الدين شيركوه في سماء الفتوحات ضد الصليبيين.

ما لبث أن صار أسد الدين شيركوه هو الساعد الأيمن للسلطان نور الدين محمود الشهيد، وأكبر أمرائه، لذلك اعتمد عليه نور الدين في كثير من غزواته ضد الصليبيين لشهامته وشجاعته وصرامته في جهاد الصليبيين، وأقطعه نور الدين بلاد حمص والرحبة، و وكان لأسد الدين شيركوه أكبر الأثر في معارك حاسمة مثل فتح دمشق سنة 549هـ، حيث أرسله نور الدين على رأس مجموعة صغيرة من الفرسان كسلاح استطلاع ومقدمة للجيوش النورية قبل دخولها، واستطاع أسد الدين أن يدخل دمشق وينتصر على جيوش ضخمة على الرغم من قلة جنده.

فاتح مصر الثاني
أما أفضل أعمال أسد الدين شيركوه والتي كانت سببًا لشهرته التي لا يعرفها الكثير هو فتح مصر، والذي جاء على عدة مراحل, وهذا الفتح يعتبر سببًا لسقوط الدولة العبيدية الرافضية في مصر، بعد أن دامت أكثر من مائتي سنة.

وتبدأ فعاليات هذا الفتح العظيم عندما جاء الوزير شاور من القاهرة، يستنجد بالسلطان نور الدين زنكي على الأمير ضرغام الذي استولى على مقاليد الأمور في مصر وقتل أولاد الوزير شاور وذلك في سنة 559هـ. فلما دخل على نور الدين وعرض عليه الأمر رحب نور الدين جدًا بالأمر، وأحس أنها الفرصة المناسبة لتحرير مصر من سلطان العبيديين المجرمين.

فأعد نور الدين جيشًا بقيادة أسد الدين شيركوه، واستطاع الأسد أن يدخل الديار المصرية ويقتل الأمير ضرغام ويعيد شاور للوزارة, ولكن شاور أحد الخائنين الذي يعملون لمصلحتهم، فغدر بنور الدين وأسد الدين، واستغاث شاور بالصليبيين ليطردوا أسد الدين من القاهرة ومصر.

وأبدى أسد الدين شجاعة وقيادة فائقة، واستطاع أن يصمد أمام جحافل الصليبيين أكثر من ثمانية شهور, وجاء هذا الصمود في صالح الإسلام؛ لأن السلطان نور الدين استغل غيبة الصليبيين في مصر ودخل بلادهم وضرب حصونهم وسبى أولادهم ونساءهم، وعندها فك الصليبيون الحصار عن أسد الدين وعقدوا معه صلحًا خرج بموجبه كلاهما من مصر.

ثم كانت الحلقة الثانية من حلقات الفتح الأسدى للديار المصرية, عندما أقبلت جحافل كثيرة من الصليبيين إلى مصر ليأخذوها، وبالفعل استطاعوا بمعاونة بعض الخائنين أن يدخلوها، فاستأذن أسد الدين شيركوه نور الدين في المسير لمصر فأذن له, فلما علم شاور بذلك راسل الفرنج فأتوا من كل مكان وذلك في سنة 562هـ.

واشتبك أسد الدين بجيشه الصغير المكون من ألفي مقاتل مع جحافل الصليب وهزمهم شر هزيمة، ثم اتجه أسد الدين إلى الإسكندرية ففتحها واستناب عليها ابن أخيه صلاح الدين، ثم اتجه للصعيد فملكه، فاستغل الصليبيون الفرصة وحاصروا صلاح الدين في الإسكندرية، فامتنع عليهم صلاح الدين جدًا، واضطر أسد الدين لمصالحتهم ليفك حصارهم، وفي هذه الأثناء أغار نور الدين على بلاد الصليبيين، فغنم وأسر وسبي وقتل.

ثم كانت الحلقة الثالثة والأخيرة في فتح مصر سنة 564هـ، عندما تحكم الصليبيون في مصر وعزموا على دخولها لاحتلالها، وعندها استغاث الخليفة العاضد العبيدي بنور الدين وأرسل له بشعور نسائه ويقول له: "أدركني واستنقذ نسائي من أيدي الفرنجة"، فأرسل نور الدين أسد الدين ومعه صلاح الدين بجيش كبير هذه المرة، فلما سمع الصليبيون بقدومهم خرجوا من الديار المصرية خوفًا من أسد الدين. وكان نور الدين قد استدعى أسد الدين من حمص إلى حلب لقيادة الجيوش، فقطع أسد الدين هذه المسافة الكبيرة في يوم واحد، ولم يتفق هذا لأحد من الناس سوى الصحابة، ففرح نور الدين بذلك جدًا واستبشر بالفتح.

وبالفعل دخل أسد الدين القاهرة في 7 ربيع الآخر سنة 564هـ، فوجد الصليبيين قد هربوا من مصر ووجد شاور الخائن نفسه قبالة أسد الدين الذي افترسه جزاءًا وفاقًا لخيانته المتكررة للإسلام وأهله، وخلع عليه الخليفة العاضد وعينه وزيرًا مكان الخائن شاور، وقبل أسد الدين ذلك كخطوة على طريق إزالة العبيديين من مصر.

وبدأ أسد الدين يعمل على إزاحة العاضد من الخلافة وإسقاط دولة بني عبيد، وبدأ في تنظيم الأمور وعين العمال وأرسل النواب وأقطع الإقطاعات، ولكن أمر الله عز وجل كان أسرع من تخطيطه، فمات رحمه الله فجأة لخنق حصل له في حلقه في 22 جمادى الآخرة سنة 564هـ، بعد أن مكث في الولاية شهرين وخمسة أيام، فجزاه الله عنا كل الأخير ورحمه الله تعالى.

ساموري توري القائد البطل

يُعد ساموري توري من الزعماء الأفارقة المسلمين الذين لعبوا دورًا مهمًا في غرب القارة قبل الاستعمار وبعده، وقد استمر يحارب الغزاة الاستعماريين حوالي سبعة عشر عاما.

نشأة ساموري توري
ولد ساموري توري عام 1835م في سانكورو في جمهورية غينيا كوناكري، وهو ينتمي إلى مجتمع الديولا التجاري، ولما بلغ سنة السابعة ذهب للعيش مع خالته على بعد عشرين ميلا في إحدى القرى المجاورة، وعندما بلغ 18 عاما أرسله أبوه إلى صديق له بدولة ساحل العاج ليتعلم تجارة السلاح، ومن خلال ذلك عرف ساموري أماكن الحصول على السلاح؛ فبدأ يفكر في بناء إمبراطوريته، ومن خلال هذه المرحلة سافر إلى عدة مناطق في غرب إفريقيا فاطلع على نظام حياة عدة مجتمعات هناك.

وفي عام 1852م أُسرت والدته من قبل ملك بيساندوغو الوثنى وعند سماعه هذا الخبر أخذ يفكر في أفضل الطرائق لإنقاذ والدته من الأسر، وقرر خدمة ذلك الملك لسبع سنوات مقابل الإفراج عن والدته، ومن خلال تلك المرحلة استطاع أن يتعلم طرق الدبلوماسية بالإضافة إلى تدربه على فن قيادة الإغارة والحروب.

كون ساموري جماعة تولى رآستها بنفسه وأقسم على بناء دولة إسلامية في تلك المنطقة ثم قام ساموري بتدريب رجاله على فنون القتال وتم تسليحهم، ومن ثم بدأ نفوذه يمتد.

في عام 1874م بدأ الغزو التدريجي لكل القرى المجاورة لعاصمته، وتحالف مع المسلمين في مدينة كانكان، وبهذا استطاع أن يهزم جماعات مهمة من القبائل، وازدادت سيطرته على كافة فوتاجالون، ونجح في تحطيم كل القوى المنافسة له، وصار أكبر قائد لإمبراطورية إسلامية عرفها شعب المالينك.

في الخامس والعشرين من يوليو سنة 1884م جمع ساموري توري أهله في احتفال وأعلن لهم أنه سيلقب نفسه بلقب الإمام، وطلب من أهله ورعاياه أن يعتنقوا الإسلام، وفي نوفمبر من العام نفسه منع الخمر شربًا وبيعًا في مملكته، ومنع العادات الوثنية، وبدأ في تطبيق الشريعة الإسلامية.

كان عامة جيش ساموري توري من المشاة وقليل منهم من الفرسان، وسلّحهم بأسلحة أوروبية حديثة كان يشتريها من البريطانيين في فريتون مقابل بيع الذهب والعاج وأسرى الحروب، وكان حرسه الشخصي مكونًا من 500 رجل، وكان لأخيه مالنكي تورو قوة خاصة تقدر بمائتي فارس وألف راجل.

كان الفرنسيون قد عزموا على الاستيلاء على كل المنطقة التي يجري فيها نهر النيجر، فأتاهم الله بهذا البطل ساموري توري الذي كبدهم من الخسائر في الأموال والرجال ما لم يتوقعوه، حتى أن بيروز peroz وهو من كبار عساكر الفرنسيين لقبه بنابليون السودان، وهذا البطل العظيم هو في الحقيقة فوق هذا اللقب بكثير، فقد دوّخ الفرنسيين بجهاد جليل دام ثلاثة عشر عامًا بالرغم من بدائية أسلحته أمام آلة الحرب الفرنسية الجبارة، لكنه الإيمان إذا وقر في القلوب فلا يقوم أمامه شيء.

دولة ساموري توري
وتفصيل إنشائه الدولة ومقاومته الجليلة -رحمه الله تعالى- للفرنسيين أنه اتخذ من بلدة بيساندوجو Bissandougou عاصمة لملكه، وأقامها على الجهاد في سبيل الله تعالى وأحكام الشريعة الإسلامية، وهذا ما أكسبه حيوية وطاقة متجددة لا تنضب، واضطر أن يهادن جيرانه من الإنجليز حتى لا يفتح عليه بابًا ثالثًا هو في غنى عنه فيكفيه أعادءه.

أنشأ ساموري توري جيشًا قويًا نسبيًا قسمه ثلاثة أقسام، على النحو التالي:
أفضلها وأعظمها قوة جعلها قائمة في وجه الفرنسيين ليمنعهم من التدخل في البلاد
والقسم الثاني جعله لحفظ الأمن في بلاده.
والقسم الثالث جعله للتوسعات والفتوحات الجديدة للقضاء على الوثنية ونشر الإسلام.

وبلغ من حرصه على جيشه أنه استطاع أن يصنع بعض الأسلحة وقطع الغيار محليًا، وباقي الأسلحة يشتريها من مدينة فريتون بسيراليون.

وقد فرض ساموري توري على زعيم كل قرية أن يأتيه بمجموعة من الشباب الصالحين للجندية، وفي أوقات السلم كانت القوات الاحتياطية تُسرّح ستة أشهر لتعمل في فلاحة الأرض وإجراء المنافع، لتعود بعد ذلك، فإن كان في حاجة لها أبقاها وإلا سرّحها مدة أخرى وهكذا.

قسم ساموري توري بلاده تقسيمًا إداريًا منضبطًا إلى اثنين وستين ومائة إقليم، في كل منه عشرون قرية على كل منها زعيم، وفوق الزعيم حاكم الإقليم، وفوق حكام الأقاليم الإمام الذي من مهامه نشر الإسلام والقضاء على الوثنية، وتقوية الدولة والمحافظة عليها.

وقد أكثر ساموري توري رحمه الله تعالى من بناء المدارس والمساجد، ونشر الوعاظ، واهتم بتحفيظ القرآن الكريم.

خيانة تيبا لـ ساموري توري
ابتُلي ساموري توري بعدو مسلم واسمه تيبا Tieba حاكم كندوجو kenedougou كدر عليه جهاده، واتفق مع عدوه ضده، وكان تيبا عدوه الأول لكنه ليس الوحيد فقد ابتلي بغيره لكن كان ذلك هو العدو اللدود الذي ساعد الفرنسيين كثيرًا في ضرب ساموري بحيث كان الفرنسيون يهجمون عليه من جهة فيهجم عليه تيبا من جهة أخرى ليصير ساموري بين المطرقة والسندان.

وما درى هؤلاء الحكام المساكين أن استعانتهم بالكفار على هذا الوجه والتنسيق معهم لضرب المسلمين هو تمزيق لعقيدة الولاء والبراء، وإذهاب لقوة المسلمين أدراج الرياح، وسرور الأعداء وشماتتهم لكن قاتل الله الحرص على الكراسي فكم جلب من المآسي، واستعصى انتزاعه على الآسي.

حروب ساموري توري مع فرنسا:
توسعت فرنسا في غرب إفريقيا لتسترد هيبتها التي فقدت عقب هزيمتها في 1870م أمام روسيا، وأيضًا استفادت من مقررات مؤتمر برلين سنة 1302/1884م الذي سمح بتنظيم الاحتلال الأوروبي للقارة السوداء، فوضعت فرنسا نصب عينها مملكة الإمام ساموري توري، ووجدت الفرصة سانحة عندما ارتمى في أحضانها عدوه تيبا المسلم حاكم كندوجو!!
فكانت فرنسا تنسق مع تيبا ليحرك قواته إذا حركت هي قواتها حتى تُضعِف من مقاومة ساموري، وما زالت فرنسا تحاربه حتى اضطر لهدنة تنجلي بموجبها قواته من الضفة اليسرى لنهر النيجر تماماً ويعترف باستيلاء فرنسا عليها وعلى مناجم الذهب في بوريه وإرغامه على التعامل مع المراكز التجارية الفرنسية، ومقابلها تعترف له فرنسا بملكيته للضفة اليمنى من النهر.

بعد المعاهدة توجه ساموري توري إلى عدوه تيبا ليقضي عليه وحاصره ستة أشهر في عاصمته سيكاسو لكنه أخفق في فتحها، ولجأ الفرنسيون إلى الحيلة ليخففوا عن حليفهم تيبا الحصار ففك الإمام حصاره عن العاصمة وعاد إلى بلاده لكن بعد أن تحمل خسائر كبيرة فقد قُتل سبعة آلاف من جنده واثنين من أشهر قواده، وثار بعض شعبه عليه في أعقاب هذه الحملة، وعارضوا مطالبه بزيادة الجند.

تولى قيادة الجيش الفرنسي في المنطقة قائد شديد العداوة للإسلام والمسلمين اسمه أرشينار، وفرض على ساموري معاهدة أخرى سنة 1307/1889م تنازل فيها ساموري توري عن بعض الأراضي وتعهد بعدم الإغارة على البلاد التي احتلتها فرنسا، وقبلها ساموري توري؛ لأنه كان في حالة ضعف ولم يشأ أن يصطدم مع الفرنسيين آنذاك.

وأراد القائد الفرنسي أن يستغل تيبا في صراعه مع الإمام مرة أخرى، خاصة أن تيبا أرسل له رسالة يقول له فيها: "إني على ثقة من حسن استقبال أهل البلاد لكم فهم لن يخافوكم، ولن يخشوا إغاراتكم، وسوف يتغير رأيهم فيكم، وتتلاشى كراهيتهم عندما يتفهمونكم ويدركون أغراضكم"!!

وهذه خيانة من تيبا لشعبه المسلم، وخيانة لحاكم مسلم آخر، ولشعب مسلم عريض؛ لكن حب الرئاسة يعمي ويصم.

وحاول أرشينار أن يستميل ساموري توري وأن يغريه بمعسول القول في رسائل عديدة أرسلها له واقتراحات اقترحها عليه لكن كان الإمام يقظًا فواجهها بالاحتقار الذي تستحقه.

وقد استطاع القائد أرشينار أن يحتل مدينتين من مدن ساموري توري، وهما: كانكان، وبيساندوجو، لكن عندما دخلها وجدهما أكوامًا من الرماد فقد أحرقهما الإمام حتى لا يستفيد منهما بشيء.

وكانت مملكة ساموري تدعوها فرنسا بالإمبراطورية المتنقلة؛ لأن ساموري كان كلما فقد جزءًا من مملكته عوضه بأجزاء أخرى من الممالك الوثنية المجاورة فكأنه لم يفقد شيئًا وإنما غير حدود مملكته بهذا.

غيرت الحكومة الفرنسية القائد أرشينار وأتت بقائد آخر اسمه بونييه Bonnerr بغية تحقيق نصر سريع بعد أن طالت مدة مقاومة ساموري، وجرد القائد الجديد حملة بقيادة مونتي Monteil لكنها منيت بهزيمة ساحقة من قوات الإمام ساموري وأسر من الجند الفرنسيين عدد كبير، ثم أرسلت فرنسا حملة أخرى فهزمت ولله الحمد كما هزمت سابقتها، فجنحت فرنسا للسلم، وأرسلت حاكم السنغال الفرنسي ليعقد معاهدة مع الإمام الذي قبلها لحاجته إلى الراحة والإعداد وللتفرغ لنشر الإسلام بين الوثنيين، لكن الفرنسيين لجأوا إلى الحيلة والخداع في هذه المعاهدة وتمكنوا على إثرها من تعقب الإمام في معركة كبيرة في يوليو سنة 1898م كسبها ساموري ضد القائد الفرنسي لارتيج Lartigue لكنه أخطأ فتحرك غرباً فدخل الغابات الاستوائية وجبال الدان في فصل الأمطار فأصابت جنده المجاعة وتشتتوا فلم يجتمعوا بعد هذا.

أراد ساموري أن يعود إلى ساننكورو لكن الفرنسيين رفضوا إلا أن يأتيهم بأبنائه رهينة ويسلم أسلحته فعظم عليه ذلك فواصل القتال حتى قبض عليه غدراً ونفي إلى جزيرة أوجويه Ougoue في سنة 1317/1898م وقيل نفي إلى الجابون، وتوفي في سنة 1319/1900 رحمه الله تعالى، واستقرت فرنسا في غرب إفريقيا عقب هذا الانتصار المفاجئ.

وقد ترك حفيدة أحمدوا سيكوتوري ليتولى المقاومة من بعده وليصبح أول رئيس لغينيا التي حصلت على استقلالها سنة 1958م.

أما عدوه تيبا فقد استولى الفرنسيون على بلاده، وهذه عاقبة كل خائن عميل.

وقد انتصرت فرنسا لثلاثة أسباب رئيسة:
• العداء بين القادة المسلمين والخيانة والعمالة من بعضهم.
• مساعدة الوثنيين لهم.
• القوة الحربية كانت لصالحهم في السلاح والعتاد.

لكن يكفي ساموري شرفًا وفخرًا أن أقام دولة نشرت الإسلام وحاربت الوثنية كل تلك المدة، ويكفيه أنه وقف أمام دولة عظمى آنذاك ثلاثة عشر عامًا أذاقها الهزيمة مرات عديدة، ووحد شعب المانديجو بعد أن كان قبائل متناثرة وعشائر متناحرة فرحمه الله ورضي عنه، وأعلى درجته في عليين.

موقف جليل في حياة ساموري توري:
هناك موقف عظيم في حياة الإمام ساموري توري رأيت أن آتي به مذيلاً سيرته حتى يبرز ولا يُنسى، وهو أن الفرنسيين اختطفوا ولده وساوموه على رده بمساومات لم يرضها فلم يقبل فأخذوه إلى فرنسا ست سنوات، واستطاعوا التأثير عليه وتغيير أفكاره ليصبح منهجه مخالفاً لمنهج أبيه تماماً وأرسلوه إلى أبيه ليقنعه بترك الجهاد، وهنا تجرد ساموري توري لله تعالى، وعظمت عنده عقيدة الولاء والبراء، وقتل ولده في مشهد عام بين الناس حتى لا يؤثر على حركة الجهاد، وهذا الصنيع العظيم يصدق فيه قول الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}[المجادلة:22] فلله در هذا الإمام العظيم.

أبو مسلم الخرساني .. أمير آل محمد
عبد الرحمن بن مسلم أحد كبار قادة الثورة العباسية ودعاتها، تضاربت الروايات حول أصله، ومما زاد في غموض الأمر عدم تصريح أبي مسلم نفسه عن أصله بقوله كما يُعزى إليه: "إنّ ديني الإسلام، وولائي لآل محمد، وأنا على الطريق الصحيح"، وقيل: إنه ادّعى النسب العربي أيضاً إلا أن هذا الادعاء جاء متأخراً، أما الرواية التي يتناقلها كثير من المؤرخين؛ فتذكر أن أبا مسلم ولد في ماه البصرة قرية قرب أصبهان لأب فارسي مسلم وأم أَمَة، اضطر والده تحت ظروف مالية قاهرة إلى بيع الأَمَة وكانت حاملاً بأبي مسلم إلى عيسى العجلي الذي كان يمتلك بعض الأراضي في ضواحي أصبهان، فوضعت طفلاً ذكراً سُمِّي إبراهيم، ونشأ مع أولاد العجلي، وبدأ يخدمهم حينما شبّ يجمع الأموال من مزارعهم المنتشرة في أصبهان والكوفة، وأصبح مولى لهم.

اتصال أبي مسلم الخرساني بإبراهيم الإمام
في الكوفة تعرَّف أبو مسلم الخرساني أول مرة على بعض الأتباع من الشيعة العلوية، وجذبه العمل من أجل أهل البيت، وظلّ ملازماً لرجل اسمه أبي موسى السرّاج يعمل معه في صناعة السروج، ويتلقى منه الآراء الشيعية والولاء لأهل البيت، وكان ممن تلقى أبو مسلم على يده أصول التشيع بكير بن ماهان كبير دعاة العباسيين.

وحينما التقى أبو مسلم الخرساني بهؤلاء الدعاة العباسيين رأوا فيه كفاءة وذكاء، فكسبوه إلى دعوتهم، وأخذوه معهم إلى إبراهيم الإمام بعد أن أذن لهم بذلك أبو موسى السرّاج، وقد رأى إبراهيم الإمام فيه الكفاءة والذكاء والقدرة، فأخبر الشيعة العباسية بأنه قد "أمل فيه شمايل الذي يقوم بهذا الأمر (أي الثورة)، فاحفظوا به…" وبدل اسمه إلى عبد الرحمن، وكنَّاه بأبي مسلم، وكـان عمره وقتــها تسع عشــرة سنة فقط.

بقي أبو مسلم في خدمة الإمام إبراهيم يستعمله في حمل رسائله إلى خراسان والكوفة حتى سنة 128هـ/745م، وحينما اختمرت الدعوة، وضعف أمر الدولة الأموية في خراسان طلب النقباء الخراسانيون من إبراهيم الإمام إرسال من ينوب عنه من أهل البيت؛ ليمثله في خراسان، فأرسل أبا مسلم، بعد أن أخفق في إقناع عدد من الرجال مثل سليمان الخزاعي وقحطبة الطائي، وإبراهيم بن سلمة.

كان أبو مسلم الخرساني على معرفة بأحوال خراسان إذ زارها عدة مرات قبل ذلك، على أن إبراهيم الإمام حين أرسل أبا مسلم هذه المرّة قال له: "أنت رجل منا أهل البيت"، تلك العبارة التي تدل على ثقته التامة به؛ والتي رفعت كثيراً من منزلته بين شخصيات خراسان العربية، وهي تُذكِّر بموقف الرسول صلى الله عليه وسلم من سلمان الفارسي رضي الله عنه الذي عدَّه من أهل بيته.

أبو مسلم الخرساني وبناء الدولة العباسية
تسلم أبو مسلم الخرساني القيادة رغم معارضة شيخ الدعوة سليمان بن كثير لذلك لحداثة سن أبي مسلم، ولكنه أظهر براعة فائقة في قيادة العمل، وكان ذو مقدرة إقناعية عالية، فاستطاع إقناع كثير من ولاة الأمويين الذين استشعروا غروب شمس الأمويين، ولما زادت قوة أبي مسلم دخل في طور العمل العلني وذلك سنة 129هـ عندما نزل قرية من قرى مرو عاصمة خراسان يقال لها سفيدنج، وجعلها قادة للدعوة إليها يلجأ الناس الراغبون في دعوتهم ووقع على حصنها راية السحاب إشعاراً بظهور الدولة العباسية، وصلى بها عيد الفطر وأمر سليمان بن كثير أن يصلي بهم وبالشيعة، وفي نفس اليوم كتب أبو مسلم لوالي خراسان نصر بن سيار يدعوه للدخول في طاعة العباسيين فأرسل له نصر جيشًا كبيرًا ولكن أبا مسلم انتصر عليه في موقعة ألين سنة 130هـ.

ونجح أبو مسلم الخرساني في وقت قصير في أن يسيطر على زمام الموقف في خراسان، وأن يهزم نصر بن سيار، وأن يستولي على مدينة مرو قاعدة خراسان سنة 131هـ، واضطر نصر بن سيار إلى الانسحاب تتبعه الجيوش العباسية، ولكنه مات في الطريق في قرية ساوة بنواحي الري ربيع الأول 131هـ/تشرين الأول 748م.

وكان هذا هو أول صدام عسكري بين العباسيين والأمويين، وبعدها زادت قوة أبي مسلم بدرجة جعلت كل القبائل العربية المتناحرة في خراسان تتحد لحرب أبي مسلم وكان موقفًا عصيباً على القائد الصغير، ولكنه أبدى صنوفًا من الثبات والدهاء والمكيدة لم تخطر على بال الإمام نفسه الذي ولاه، فأوقع القبائل العربية مرة أخرى في بعضها البعض، وهو في نفس الوقت يرسل قواده يستولون على القرى والمدن من عمال نصر ولا يجدون مقاومة تذكر، وأبو مسلم يصالح بعضهم على الآخر ويضرب هذا بذاك حتى قضى على الجميع بالمكر والغدر أحيانًا كثيرة، حتى خضعت مرو كلها له فأخذ البيعة للعباسيين فيها وصارت بلاد خراسان كلها عباسية وصارت نقطة انطلاق الجيوش العباسيين على باقي بلاد الخلافة الأموية.

وفي حين كان أبو مسلم يقوم بإتمام السيطرة على خراسان، واصلت الجيوش زحفها نحو العراق بقيادة قحطبة بن شبيب، واضطر عامل العراق يزيد بن هبيرة إلى الانسحاب والتقهقر نحو مدينة واسط جنوبي العراق والتحصن بها، وفي هذه الأثناء مات إبراهيم الإمام في سجن الأمويين، وبويع أبو العباس السفاح بالخلافة في الكوفة في ربيع الأول سنة 132هـ، وهُزم الخليفة الأموي مروان بن محمد في موقعة الزاب، ثم قتل في أواخر سنة 132هـ، وزالت الدولة الأموية، ولم يبق للأمويين من مدافع سوى يزيد بن هبيرة الفزاري، فلما قُتل مروان رأى أن لا فائدة من المقاومة، فاتفق مع أبي جعفر المنصور على التسليم مقابل التأمين على حياته.

أبو مسلم الخرساني والخليفة السفاح
كان أبو العباس السفاح يحترم أبا مسلم الخرساني جدًا ولا يقطع أمرًا من دونه خاصة أنه يرى في أبي مسلم الركن الذي أقام الدولة العباسية فلما تولى السفاح الخلافة العباسية كأول خليفة عباسي ظل أبو مسلم واليًا على خراسان وزادت قوته ونفوذه.

فقد قام سلطان ونفوذ السفاح على أكتاف ثلاثة رجال:

1- أبو مسلم الخراساني بالمشرق. 2- أبو جعفر المنصور بالجزيرة وأرمينية والعراق. 3- عبد الله بن علي بالشام ومصر، وكان بين الثلاثة شر وحقد وضغائن وفتنة، والتي ما لبثت أن طفت على السطح وظهرت بقوة بعد وفاة السفاح.

أبو مسلم الخرساني والخليفة المنصور
بلغت قوة أبي مسلم الخراساني الحد الذي جعله يشعر أنه لولاه ما كانت الدعوة العباسية قامت، ولولا جهوده وذكائه لم يكن لهم دولة، وجعلته يشعر أنه قرين الخليفة بل هو أولى منه بالأمر، وكان أبو مسلم غير معروف النسب فادعى انتسابه إلى سليط بن عبد الله بن عباس كخطوة أولى لطلبه الخلافة ثم خطب عمة المنصور آمنة بنت علي.

وكان أول الشر بين أبي مسلم والمنصور في حياة السفاح عندما كتب أبو مسلم للسفاح يطلب منه الإذن بإمرة الحج في 136هـ ، ولما علم أبو جعفر المنصور ذلك طلب الإذن من أخيه السفاح إمرة الحج فأذن لكلاهما فلما علم أبو مسلم قال "ألم يجد المنصور عاماً غير هذا يحج فيه" وحقدها عليه، وفي موسم الحج تقدم أبو مسلم في الطريق على المنصور، وكان أبو مسلم قد وزع أموالاً كثيرة، فكان الصيت له في الحج، فحقد المنصور عليه جدًا وأثناء السير جاءت الأخبار بموت السفاح وتوليه المنصور فلم يكتب أبو مسلم يهنيه بالخلافة فعرف المنصور أنه ينوي الخلاف.

إن حقد أبي جعفر المنصور على أبي مسلم الخرساني لم يمنعه بعد أن تولى الخلافة من الاستعانة به في القضاء على عمه عبد الله بن علي الذي خرج عن طاعته، وبايع لنفسه بالخلافة في مدينة حرّان بالجزيرة.

فقد رأى المنصور أن يضرب عمه عبد الله بن علي بأبي مسلم الخراساني حتى يقضي أحدهم على الآخر ثم يتفرغ لمن بقي منهما بعد أن تكون قوته قد أنهكت، وبالفعل نجحت الفكرة الذكية فقضى أبو مسلم على عبد الله بن علي، وكانت شرارة الخلاف العلني عندما أرسل المنصور رجلاً من عنده يحصي الغنائم المأخوذة من جيش عبد الله بن علي فغضب أبو مسلم، وقال : "أأكون أمينًا على الدماء ولا أكون أمينًا على الأموال"، ثم كتب المنصور لأبي مسلم كتابًا بتوليه على الشام ومصر ذلك ليصرفه عن خراسان قاعدته التي بها أنصاره، فلما علم أبو مسلم قال: "يوليني الشام ومصر، وخراسان لي".

وقرر أبو مسلم الخرساني العصيان وتوجه إلى خراسان، ودارت بينه وبين المنصور رسائل ومكاتبات لم تفد معه حتى استطاع المنصور أن يعمل الحيلة عليه، فأرسل إلى خليفة أبي مسلم في خراسان أن يعطيه ولاية خراسان طوال حياته، ثم أرسل إلى أبي مسلم رسالة تهديد قال له فيها : "إنه برئ من العباس إذا لم تأتني ولو كنت في آخر بلاد الدنيا لتجشمت الصعاب حتى آتيك ولو كنت في النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت دونك"، وزلزلت هذه الكلمات الطاغية الجبار أبو مسلم وتحير في أمره ماذا يفعل ؟! وفي هذا الوقت وصله كتاب من خليفته على خراسان والذي قد استماله المنصور يقول له فيه: "إننا لم نخرج إلا طاعة لله وأهل بيت رسول الله ولم تخرج لمخالفة خلفاءنا فأطع الخليفة فيما أمرك به"، فازداد أبو مسلم همًا وغمًا وتحير أكثر في أمره، ثم أجمع على الذهاب إلى المنصور بالمدائن.

مقتل أبي مسلم الخرساني
عندما علم أبو جعفر المنصور بأن أبا مسلم قادم عليه أمر وجوه الناس وبني هاشم أن يستقبلوه في الطريق ويبالغوا في الاحتفال به حتى يطمئن ويذهب نية الغدر من قلبه، ثم أمر أربعة من الحراس أن يقفوا وراء الستائر وإذا سمعوه يصفق بيديه يخرجوا فيقتلوه.

فلما دخل أبو مسلم على المنصور انبسط له المنصور في الحديث حتى ظن أبو مسلم أنه ناج، ثم بدأ المنصور يعاتبه في أشياء صدرت عنه مثل تقدُّمه في طريق الحج وعدم تهنئته بالخلافة وخطبته لعمته آمنة بنت علي وادعاءه أنه ولد سليط بن عبد الله بن عباس ومخالفته لأمره وعصيانه عليه بخراسان، وأبو مسلم يجيب على هذه المعاتبات بصورة جيدة حتى وصل المنصور لسؤاله عن سبب قتله لسليمان بن كثير وإبراهيم بن ميمون، وغيرهم فقال أبو مسلم: "لأنهم عصوني وخالفوا أمري" وعندها استشاط غضبًا، وقال له: "أنت تقتل إذا عصيت وأنا لا أقتلك وقد عصيتني ؟"، فقال له أبو مسلم: "استبقني لأعدائك يا أمير المؤمنين"، فقال المنصور: "وأي عدو لي أعدى منك"، ثم صفق بيديه فخرج الحراس وقتلوا أبو مسلم وقطعوه إربًا، ثم وقف المنصور عليه وهو قتيل فقال له: "رحمك الله يا أبا مسلم بايعتنا فبايعناك وعاهدتنا فعاهدناك ووفيت لنا فوفينا لك، وإنا بايعناك على ألا يخرج علينا أحد في هذه الأيام إلا قتلناه، فخرجت علينا فقتلناك وحكمنا عليك حكمك على نفسك لنا".

اضطربت خراسان لمقتل أبي مسلم، وظهرت من جرّاء ذلك فرق دينية غريبة عن الإسلام كان أصحابها يظهرون الإسلام، ويبطنون ديانتهم، فلما قُتل أبو مسلم أعلنوا الثورة، واتخذوا من مأساته وسيلة لإحياء ديانتهم القديمة وعدّوه رمزاً لحركاتهم الدينية.

هكذا انتهت حياة هذا القائد العسكري والداهية الذي أقام أساس الدولة العباسية وسفك دماء قرابة ستمائة ألف نفس من أجلها والذي عرف باسم أمير آل محمد، والذي رأى لنفسه الفضل الأكبر لتشييد الدولة وله مكانة تفوق مكانة الخلفاء فاستحقرهم واستهزئ بهم، فنهايته مثل نهاية كثير من القادة الذين قاموا بمثل ما قام به، ولكن الله عز وجل يسلط الظالمين بعضهم على بعض فأخذه الله بما كان منه من سفك الدماء وكانت نهايته على يد من سفك الدماء من أجل ملكهم.

من مآثر أبي مسلم الخرساني
سُئل عبد الله بن المبارك وقد رأى أبا مسلم وسمع منه: "أ هو خير أم الحجاج؟" فقال: "لا أقول إن أبا مسلم كان خيرًا من أحد ولكن كان الحجاج شرًا منه".

وقيل أن أبا مسلم قد تاب مما فعله من أجل العباسيين، ولا يمنع هذا أنه كان نابهًا حازمًا ذا عزيمة تفل الحديد، ولكنه كان سافكًا للدماء، ومن كلماته الشهيرة عندما سئل عن سبب تقدمه وعلو همته قال: "ارتديت الصبر وآثرت الكفاف وحالفت الأحزان والأشجان وشامخت المقادير والأحكام حتى بلغت غاية همتي وأدركت نهاية بغيتي".

وكان أبو مسلم فصيحاً بالعربية والفارسية؛ مقداماً داهية حازماً راوية للشعر، كان خافض الصوت في حديثه، قاسي القلب، سوطه سيفه. وفي الروض المعطار: "كان إذا خرج رفع أربعة آلاف أصواتهم بالتكبير، وكان بين طرفي موكبه أكثر من فرسخ". وفي البدء والتاريخ: "كان أقل الناس طمعاً، مات ليس له دار ولا عقار ولا أَمَة ولا دينار".

عبد الكريم الخطابي .. أسطورة الريف

الأمير عبد الكريم الخطابي قائد وطني، وزعيم المقاومة المغربية في الشمال الإفريقي خلال الفترة من عام 1919م إلى عام 1929م، وكان قائد حرب الريف الشهيرة، وهو قيادي بارز ضدَّ الاحتلال الفرنسي - الإسباني للمغرب.

نشأة عبد الكريم الخطابي
وُلِدَ محمد بن عبد الكريم الخطابي في بلدة أغادير بالمغرب الأقصى سنة (1300هـ= 1882م)، ونشأ في أسرة كريمة تحت كنف والده، الذي كان يتزعَّم قبيلة بني ورياغل، تلقى تعليمه في جامعة القرويين؛ حيث درس العلوم الشرعية واللغوية، وتولَّى منصب القضاء الشرعي في مدينة مليلة.

الحرب العالمية الأولى
تقاسمت إسبانيا وفرنسا النفوذ في المغرب، التي كانت تُعاني من ضعف وانقسام وصراع داخلي، واستعانة بالقوى الخارجية، وترتَّب على هذا التقسيم أن صار القسم الشمالي من مَرَّاكُش خاضعًا للسيطرة الإسبانية، وهذا الجزء ينقسم بدوره إلى قسم شرقي يُعرف ببلاد الريف، وغربي يُعرف بالجبالة، وتمتدُّ بلاد الريف بمحاذاة الساحل لمسافة تبلغ 120 ميلًا، وتمتدُّ عرضًا لمسافة 25 ميلًا، وتسكنها قبائل ينتمي معظمها إلى أصل بربري، تأتي في مقدمتها قبيلة بني ورياغل، التي ينتمي إليها الأمير الخطابي.

انخرط عبد الكريم الخطابي في النظام الحكومي الإسباني، وعُيـِّن كبير قضاة مليلة في عام (1332هـ= 1914م)، وأثناء الحرب العالمية الأولى عاقبت السلطات الإسبانية عبد الكريم لأنشطته المناهضة للاستعمار بتهمة التآمر مع القنصل الألماني د/ ڤالتر زشلن، وسـُجن في شفشاون من عام 1916م إلى عام 1917م، وبنهاية الحرب استعاد عبد الكريم الخطابي منصبه لفترة قصيرة، إلَّا أنه خوفًا من تسليمه للفرنسيين لنيل عقابه منهم، سرعان ما عاد إلى بلدته أغادير في يناير (1919م= 1337هـ)، وقد أزعجه ظهور العملاء الإسبان في منطقة بني ورياغل، وصمَّم على القتال للاستقلال، وكان ثمة سبب آخر للاستفزاز؛ وهو فقدانه راتبه واستبعاد السلطات الإسبانية له من كونسورتيوم (1) غير رسمي لحقِّ التنقيب عن المعادن، وفي العام التالي بدأ عبد الكريم مع والده وأخيه حربَ التمرُّد ضد الإسبان، وقد أصبح هدفه آنذاك توحيد كل قبائل الريف في جمهورية الريف المستقلَّة.

حرب الريف
كان الأمير الخطابي في التاسعة والثلاثين حين تولَّى مقاليد الأمور في منطقة الريف، وقد حَنَّكَتْهُ التجارِب وأصقلته الأيام، ووَحَّد هدفه، فاستكمل ما كان أبوه قد عزم عليه من مواصلة الجهاد، وإخراج الإسبانيين من البلاد.

وفي تلك الأثناء كان الجنرال سلفستر قائد قطاع مليلة يزحف نحو بلاد الريف؛ لِيُحْكِمَ السيطرة عليها، ونجح في بادئ الأمر في الاستيلاء على بعض المناطق، وحاول الأمير عبد الكريم الخطابي أن يُحَذِّرَ الجنرال سلفستر من مغبَّة الاستمرار في التقدُّم، والدخول في مناطق لا تعترف بالحماية الإسبانية الأجنبية، لكنَّ الجنرال المغرور لم يأبه لكلام الأمير، واستمرَّ في التقدُّم ممنِّيًا نفسه باحتلال بلاد الريف.

كانت قوَّات الجنرال الإسباني تتألَّف من أربعة وعشرين ألف جندي؛ مُجَهَّزِين بالأسلحة والمدفعية، ولم تُصادف هذه القوَّات في زحفها في بلاد الريف أيَّ مقاومة، واعتقد الجنرال أن الأمر سهلًا، وأعماه غرورُه عن رجال عبد الكريم الخطابي الذين يعملون على استدراج قوَّاته داخل المناطق الجبلية المرتفعة، واستمرَّت القوات الإسبانية في التقدُّم وتحقيق انتصارات صغيرة؛ حتى احتلت مدينة أنوال في (7 من رمضان 1339هـ= 15 من مايو 1921م).

معركة أنوال
بعد ذلك بدأ رجال عبد الكريم الخطابي هجومهم على كل المواقع التي احتلَّهَا الإسبانيون، وحاصروا هذه المواقع حصارًا شديدًا، وفشل الجنرال في ردِّ الهجوم، أو مساعدة المواقع المحاصَرَة، وأصبحت قوَّاته الرئيسيَّة -التي جمعها في «أنوال»- مُهَدَّدة، بعد أن حاصرها وطوَّقها رجال الريف، وحين حاول الانسحاب بقوَّاته اصطدم بقوَّات الخطابي في (16 من ذي القعدة 1339هـ= 22 من يوليو 1921م) في معركة حاسمة عُرفت بمعركة أنوال، وكانت الهزيمة الساحقة للقوات الإسبانية؛ حيث أُبيد معظم الجيش المحتلّ، وأقرَّ الإسبان بأنهم خسروا في تلك المعركة 15 ألف قتيل يتقدَّمهم الجنرال سلفستر، ووقع في الأسر 570 أسيرًا، وهذا غير الغنائم من الأسلحة التي وقعت في أيدي المجاهدين.

ما إن انتشر خبر انتصار الخطابي ورجاله في معركة أنوال، حتى هبَّت قبائل الريف تُطارد الإسبان أينما وُجدوا، ولم يمضِ أسبوعٌ إلَّا وقد انتصر الريف عليهم، وأصبح وجود الإسبان مقتصرًا على مدينة تطوان وبعض الحصون في منطقة الجبالة.

من الثورة إلى بناء الدولة
بسط الأمير عبد الكريم الخطابي سلطته على بلاد الريف بعد جلاء الإسبان عنها، واتَّجه إلى تأسيس دولة مُنَظَّمة دون أن يتنكَّر لسلطان مَرَّاكُش، أو يتطلَّع إلى عرشه؛ بدليل أنه منع أنصاره من الدعاء له في خطبة الجمعة. وأعلن الخطابي أن أهداف حكومته تتمثَّل في عدم الاعتراف بالحماية الفرنسية على المغرب، وجلاء الإسبان من المناطق التي احتلُّوها، وإقامة علاقة طَيِّبَة مع جميع الدول، والاستعانة بالخبراء الأوربيين في بناء الدولة، وقام بتحويل رجاله المقاتِلين إلى جيش نظامي على النسق الحديث، وعَمِل على تنظيم الإدارة المدنية، وقام بشقِّ الطرق، ومدِّ سلوك البرق والهاتف، وأرسل وفودًا إلى العواصم العربية للحصول على تأييدها، وطلب من بريطانيا وفرنسا والفاتيكان الاعتراف بدولته.

وفوق ذلك كله دعا إلى وضع دستور تلتزم به الحكومة، وتمَّ تشكيل مجلس عامٍّ عُرف باسم الجمعية الوطنية، كان أوَّل قراراته إعلان الاستقلال الوطني، وتأسيس حكومة دستورية لقيادة البلاد.

صدى الهزيمة في إسبانيا
كان من أثر هذه الهزيمة المدوية للإسبان أن قام انقلاب عسكري في إسبانيا بقيادة بريمودي ريفيرا سنة (1342هـ= 1923م)، لكن هذا لم يُغَيِّر من حقيقة الأوضاع بالنسبة للمغرب، فلم تُعلن الحكومة الجديدة إنهاء احتلالها للمغرب؛ هذا الذي دعا الأمير الخطابي إلى مواصلة الجهاد ضدَّها؛ فقام بهجوم سنة (1342هـ= 1924م) على مدينة تطوان، لكنها لم تسقط في يده على رغم من وصول جنوده إلى ضواحيها، واضطرت القوات الإسبانية إلى الانسحاب من المناطق الداخلية، والتمركز في مواقع حصينة على الساحل، كما أنها أخلت مواقعها في إقليم الجبالة في أواخر سنة (1343هـ= 1924م) بعد أن ثبت لها عجزها عن الاحتفاظ بهذا الإقليم أمام هجمات الأمير الخطابي.

سياسة فرنسا مع الخطابي
فُوجئ الفرنسيون بانتصار الخطابي على الإسبان، وكانوا يتمنَّوْنَ غير ذلك، كما فُجعوا بانسحاب القوات الإسبانية من إقليم الجبالة كله؛ لذا قرَّرُوا التدخُّل في القتال ضدَّ الخطابي ولمصلحة الإسبان، وكانت فرنسا تخشى من أن يكون نجاح الخطابي في ثورته عاملًا مشجِّعًا للثورات في شمال إفريقيا ضدَّها، كما أن قيام جمهورية قويَّة في الريف يدفع المغاربة إلى الثورة على الفرنسيين ورفض الحماية الفرنسية.

واستعدَّت فرنسا لمحاربة الخطابي بزيادة قوَّاتها الموجودة في مراكش، وبدأت تبحث عن مبرِّر للتدخُّل في منطقة الريف، فحاولوا إثارة الأمير الخطابي أكثر من مرَّة بالتدخُّل في منطقته، وكان الخطابي يلتزم الصمت أمام هذه الاستفزازات؛ حتى لا يُحاربَ في جبهتين، ويكتفي باستنكار العدوان على الأراضي التابعة له، ثم قام الفرنسيون بتشجيع رجال الطرق الصوفية على إثارة بعض القلاقل والاضطرابات في دولة الريف، فلمَّا تصدَّى لهم الأمير الخطابي تدخَّلت فرنسا بحجة حماية أنصارها، واندلع القتال بين الخطابي والفرنسيين في (رمضان 1343هـ= أبريل 1925م)، وفُوجئ الفرنسيون بالتنظيم الجيد الذي عليه قوَّات الأمير الخطابي، وببسالتهم في القتال، فاضطروا إلى التزام موقف الدفاع طيلة أربعة أشهر، وأُصيبت بعض مواقعهم العسكرية بخسائر فادحة.

استسلام الأمير عبد الكريم الخطابي
لم يَعُدْ أمام الدولتين الكبيرتين (فرنسا وإسبانيا) سوى أن يجتمعا على حرب الأمير عبد الكريم الخطابي، وأَعدَّتا لهذا الأمر عُدَّته بالإمدادات الهائلة لقوَّاتهما في المغرب، والإنزال البحري في مكانٍ قرب خليج الحسيمات؛ الذي يمتدُّ في قلب بلاد الريف، وأصبح على الأمير الخطابي أن يُواجه هذه الحشود الضخمة بقوَّاته التي أنهكها التعب والقتال المستمرُّ، فضلًا عن قلَّة المؤن التي أصبحت تُهَدِّدها.

وبالإضافة إلى ذلك لجأت فرنسا إلى دعم موقفها في القتال، فأغرت السلطان المغربي بأن يُعلن أن الخطابي أحد العصاة الخارجين على سلطته الشرعية؛ ففعل السلطان ما أُمر به، كما قامت بتحريض بعض قبائل المجاهدين على الاستسلام، فنجحت في ذلك.

وكان من نتيجة ذلك أن بدأت الخسائرُ تتوالى على الأمير عبد الكريم الخطابي في المعارك التي يخوضها، وتمكَّن الإسبان بصعوبة من احتلال مدينة أغادير عاصمة الأمير الخطابي، ثم تمكَّنت القوات الإسبانية والفرنسية من الاستيلاء على حصن ترجست، الذي اتخذه الأمير مقرًّا له بعد سقوط أغادير في (11 من ذي القعدة 1344هـ= 23 من مايو 1926م).

واضطر الأمير عبد الكريم الخطابي إلى تسليم نفسه إلى السلطات الفرنسية باعتباره أسير حرب؛ وذلك بعد أن شعر بعدم جدوى المقاومة، وأن القبائل قد أُنهكت، ولم تَعُدْ مستعدَّة لمواصلة القتال، وقد قامت فرنسا بنفي الأمير المجاهد إلى جزيرة نائية في المحيط الهندي.

وفي تلك الجزيرة عاش الأمير المجاهد مع أسرته وبعض أتباعه أكثر من عشرين عامًا، قضاها في الصلاة وقراءة القرآن، وفشلت محاولاته لأن يرحل إلى أية دولة عربية أو إسلامية.

الإقامة بالقاهرة
وفي سنة (1367هـ= 1947م) قرَّرت فرنسا نقله إليها على متن سفينة، فلمَّا وصلت إلى ميناء بورسعيد تمكَّن بعض شباب المغرب المقيمين في مصر من زيارته على متن السفينة، ورجَوْهُ أن يتقدَّم باللجوء إلى مصر ليُواصل مسيرة الجهاد من أجل تحرير المغرب، فوافق على هذا الرأي شريطة أن تُوافق الحكومة المصرية على طلبه، كما لاقاه وفد من جماعة الإخوان المسلمين مُرَحِّبين به.

وتمَّت الموافقة على طلبه على الرغم من احتجاج السفير الفرنسي في مصر، وبدأ الخطابي عهدًا جديدًا من النضال الوطني من أجل تحرير بلاده، وأسَّس مع أبناء المغرب العربي لجنة أطلقوا عليها «لجنة تحرير المغرب العربي»، تولَّى هو رئاستها في (25 من المحرم 1367هـ= 9 من ديسمبر 1947م
وفي أثناء إقامته توطدت الصلة بينه وبين الإمام الشهيد حسن البنا، وتكرَّرت اللقاءات بينهما في اجتماعات عامَّة وخاصَّة؛ ولما استشهد الإمام البنا، كتب الأمير عبد الكريم الخطابي: «ويح مصر! وإخوتي أهل مصر! مما يستقبلون جزاء ما اقترفوا، فقد سفكوا دم وليٍّ من أولياء الله، تُرى أين يكون الأولياء إن لم يكن منهم؟! بل في غُرَّتِهم حسن البنا، الذي لم يكن في المسلمين مثله».

وفاة عبد الكريم الخطابي
ظلَّ الأمير عبد الكريم الخطابي مقيمًا في القاهرة، يُتابع نشاط المجاهدين من أبناء المغرب العربي المقيمين في القاهرة، ويمدُّهم بنصائحه وإرشاداته، حتى لقي رَبَّه في (غرة رمضان 1382هـ= 6 من فبراير 1963م).

من أقوال عبد الكريم الخطابي
قال عبد الكريم الخطابي: «إذا تناهى إلى أسماعكم أن الاستعمار أسرني أو قتلني أو بعثر جسمي كما يُبَعثر تراب هذه الأرض، فاعلموا أنني حيٌّ وسأعود من جهة الشرق».

وتروي ابنة المجاهد السيدة عائشة الخطابي كلمة عظيمة قالها والدها –رحمه الله- قبل تحقيق النصر في معركة أنوال الخالدة؛ قال عبد الكريم الخطابي: «أنا لا أُريد أن أكون أميرًا ولا حاكمًا، وإنما أُريد أن أكون حرًّا في بلدي، ولا أطيق مَنْ سلب حريتي أو كرامتي».

أمَّا بعد الانتصار، فقال في اجتماع مع رجال الريف الذين توافدوا عليه بأعداد غفيرة يُريدون إعلانه سلطانًا: «لا أُريدها سلطنة ولا إمارة ولا جمهورية ولا محمية، وإنما أُريدها عدالة اجتماعية، ونظامًا عادلًا يستمدُّ رُوحه من تراثنا».

عز الدين القسام
هو الشيخ المجاهد الشهيد عز الدين القسام، إذا ذكرته تذكَّرت فلسطين، وإذا ذكرت فلسطين ذكرت الأبطال؛ ومنهم عز الدين القسام، الذي سطر التاريخ مجدهم، وكتبت الدواوين ترثيهم، وخاضوا معارك تُهزم بها جيوش في مواجهة قتلة الأنبياء اليهود، لقد كان القسام علمًا من أعلام الجهاد يتردَّد اسمه في بلاد فلسطين كلها.

نشأته
وُلِدَ الشيخ عز الدين القسام في (9 من المحرم 1300هـ= 20 من نوفمبر 1882م) في بلدة جبلة في محافظة اللاذقية في سورية، كان منذ صغره يميل إلى العزلة والتفكير، وتلقَّى دراسته الابتدائية في كتاتيب بلدته جبلة، ورحل في شبابه إلى مصر؛ حيث درس في الأزهر، وكان من عداد تلاميذ الشيخ محمد عبده والعالم محمد أحمد الطوخي، كما تأثَّر بقادة الحركة النشطة التي كانت تُقاوم المحتلَّ البريطاني بمصر، وفي مصر كان يصنع الحلويات ويبيعها ليعيل نفسه، وكان صديقه عز الدين التنوخي يستحي ويختبئ، فكان يقول له أنَّ المفروض أن يتباهى، وعندما جاء والد عز الدين التنوخي ليسأل عن ابنه وعرف خبره، قال له: إن عز الدين القسام علَّمك الحياة.

عاد مرَّة في شبابه من السفر إلى جبلة، فطلب منه والده أن يصطحبه ليُسَلِّم على الآغا (السيد أو الآمر أو الرئيس) فرفض بشدَّة، وقال: إن المقيم هو الذي يأتي ليُسَلِّم على القادم.

العودة إلى سورية
لمَّا عاد إلى بلاده سوريا عَمِل مدرِّسًا في جامع السلطان إبراهيم، وأقام مدرسة لتعليم القرآن واللغة العربية في مدينة جبلة، وعندما اشتعلت الثورة ضدَّ الفرنسيين شارك القسام في الثورة، فحاولت السلطة العسكرية الفرنسية شراءه وإكرامه بتوليته القضاء فرفض ذلك، وكان جزاؤه أن حَكَمَ عليه الديوانُ السوري العرفي بالإعدام.

قاد أوَّلَ مظاهرة تأييدًا لليبيين في مقاومتهم للاحتلال الإيطالي، وكوَّن سريَّة من 250 متطوعًا، وقام بحملة لجمع التبرُّعات، وقد جمع المال والسلاح لنجدة المجاهدين في طرابلس الغرب أثناء حملة الإيطاليين عليها.

ثورة جبل صهيون
باع عز الدين القسام بيته وترك قريته الساحلية، وانتقل إلى قرية الحفة الجبلية ذات الموقع الحصين؛ ليساعد عمر البيطار في ثورة جبل صهيون (1919-1920م)، وقد حَكَم عليه الاحتلال الفرنسي بالإعدام غيابيًّا، وبعد إخفاق الثورة فرَّ الشيخ القسام عام (1339هـ= 1921م) إلى فلسطين مع بعض رفاقه، واتَّخذ مسجد الاستقلال في الحيِّ القديم بحيفا مقرًّا له؛ حيث استوطن فقراء الفلاحين الحيَّ بعد أن نزحوا من قراهم، ونشط القسام بينهم يُحاول تعليمهم، ويُحارب الأُمِّيَّة المنتشرة بينهم، فكان يُعطي دروسًا ليليَّة لهم، ويُكثر من زيارتهم، وقد كان ذلك موضع تقدير الناس وتأييدهم.

رئيس جمعية الشبان المسلمين
التحق القسام بالمدرسة الإسلامية في حيفا، ثم بجمعية الشبان المسلمين هناك، وأصبح رئيسًا لها عام (1345هـ= 1926م).

كان القسام في تلك الفترة يدعو إلى التحضير والاستعداد للقيام بالجهاد ضدَّ الاستعمار البريطاني، ونشط في الدعوة العامَّة وسط جموع الفلاحين في المساجد الواقعة شمالي فلسطين.

عز الدين القسام في فلسطين
لجأ القسام إلى فلسطين واستقرَّ في قرية الياجور قرب حيفا، ولجأ معه من رفاق الجهاد الشيخ محمد الحنفي، والشيخ علي الحاج عبيد، وإلى سنة (1354هـ= 1935م) لم يكن سكان حيفا يعرفون عن عزِّ الدين القسام سوى أنه واعظ ديني، ومرشد سوري، ورئيس جمعية الشبان المسلمين في مدينة حيفا، وكان بنظرهم شيخًا محمود السيرة في تقواه وصدقه ووطنيَّته، كما كانت منطقة الشمال تعرفه إمامًا وخطيبًا بارعًا، ومأذونًا شرعيًّا في جامع الاستقلال، وهو الذي سعى في تشييده.

وفي عام (1348هـ= 1929م) أُشيع أن اليهود يُريدون أن يحرقوا مسجد الاستقلال بحيفا، فاقترح بعض الوُجهاء أن يطلبوا المساعدة من الإنجليز؛ لكنَّ الشيخ القسام رفض رفضًا قاطعًا، وقال: «إن دمنا هو الذي يحمي المسلمين ويحمي مساجد المسلمين، وليست دماء المحتلِّين». كان يرفض أيَّ حوار أو معاهدة مع الإنجليز، ويقول: «مَنْ جَرَّبَ المُجَرَّب فهو خائن». فقد جرَّب بعض العرب الإنجليز ضدَّ العثمانيين، وكانت كلُّ وعودهم كذبًا.

كان يقول للناس في خطبه: «هل أنتم مؤمنون؟» ويُجيب نفسه: «لا». ثم يقول للناس: «إن كنتم مؤمنين فلا يقعدنَّ أحدٌ منكم بلا سلاح وجهاد». وفي إحدى خطبه كان يُخَبِّئ سلاحًا تحت ثيابه فرفعه وقال: «مَنْ كان منكم يُؤمن بالله واليوم الآخر فليَقْتَنِ مثل هذا». فقُبض عليه وأُدخل مباشرةً إلى السجن، وتظاهر الناس لإخراجه، وأضربوا إضرابًا عامًّا إلى أن تمَّ الإفراج عنه، كان يُركِّز على أن الإسراف في زخرفة المساجد حرام، وأن علينا أن نشتري سلاحًا بدل أن نشتري الثريات الفاخرة، كان يَصِلُ إلى جميع الناس من خلال عمله كمأذون شرعيٍّ وكخطيبٍ، وكان يختلف كثيرًا مع الشيوخ لأنهم كانوا لا يهتمُّون سوى بأمور العبادة من صلاة وصوم؛ بينما كان اليهود يُخَطِّطُون ويشترون الأراضي، فكان يرى أنه لا فصل بين الدين والسياسة، وأمورُ السياسة كانت واضحةً بعد أن نال اليهود وعد بلفور، كما كان في شجار مع المستعجلين من أبناء تنظيمه، الذين يُريدون الثورة في حين كان القسام يُعِدُّ ويترَيَّثُ ليضرب في الوقت المناسب، فلبث سنين وهو يُعِدُّ للثورة.

اتصالات القسام
اتصل القسام بالملك فيصل في سورية طلبًا لمؤازرته في ثورته، فوعده ولم يُثمر وعده عن شيء، واتصل بالحاج أمين الحسيني -مفتي فلسطين الأكبر- وطلب منه أن يُهَيِّئَ الثورة في منطقته، فأجابه بأنه يرى أن تُحَلَّ قضية فلسطين بالطرق السلمية عن طريق المفاوضات، واتصل مع الأمير راشد بن خزاعي الفريحات من شرق الأردن للمؤازرة، وليُهَيِّئَ الثورة ضدَّ الانتداب البريطاني وأعوانه في شرق الأردن، وقد قَدَّم الأمير الخزاعي إمدادًا مباشرًا وقويًّا للشيخ القسام بالمال والسلاح، فضلًا عن توفير الحماية للثوار الفلسطينيين في جبال عجلون الحصينة من فترة لأخرى، هذا الذي استدعى من الأمير راشد وقبيلته ومعظم عشائر الشمال الأردني المواجهة المباشرة مع النظام الأردني؛ وخاصَّة مع الملك عبد الله الأول والانتداب البريطاني، الذي حاول تصفية الأمير الخزاعي بقصف مواقعه، وقَتْلِ كثيرٍ من الثوَّار الأردنيين الموالين للخزاعي في ذلك الوقت؛ وهذا ما اضطره بعدها إلى مغادرة الأراضي الأردنية إلى السعودية عام 1937م، واندلعت على إثر لجوئه ثورةٌ في جبال عجلون، امتدَّت بعدها إلى نطاق واسع في إمارة شرق الأردن.

جهاد عز الدين القسام
كشفت القوَّات البريطانية أمر القسام في (18 من شعبان 1354هـ= 15 من نوفمبر 1935م)، فتحصَّن الشيخ عزُّ الدين هو وخمسة عشر فردًا من أتباعه، فلحقت به القوَّات البريطانية في (19 من نوفمبر 1935م) فطوَّقتهم وقطعت الاتصال بينهم وبين القرى المجاورة.

علم الشعب لأوَّل مرَّة أن الشيخ عز الدين القسام كان قد اعتصم مع إخوانه في أحراش قرية يعبد، وكانوا مسلَّحين ولا يهابون خطر المجابهة مع قوَّات الانتداب البريطاني ولا عواقبها، إلَّا أنَّ قوَّات الأمن كانت قد أعدَّت قوَّة هائلة تفوق عدد الثوار بمئات المرَّات، وكانت كقطيع كبير من الجيش مصمِّمَة على القضاء على الشيخ عزِّ الدين وأتباعه، وأحاطت القوَّات بالمنطقة منذ فجر يوم (23 من شعبان 1354هـ= 20 نوفمبر سنة 1935م)، ووُضِعَت الشرطة العربية في الخطوط الهجومية الثلاثة الأولى ثم القوات البريطانية، وقبل بدء المعركة نادى أحد أفراد الشرطة العربية الثائرين طالبًا منهم الاستسلام، فردَّ عليه القسام صائحًا: «إننا لن نستسلم، إننا في موقف الجهاد في سبيل الله». ثم التفت إلى رفاقه وقال: «موتوا شهداء في سبيل الله خيرٌ لنا من الاستسلام للكفرة الفجرة».

استشهاده
قامت معركة غيرُ متكافئة بين قوات الاحتلال ورجال المقاومة دامت حوالي ساعتين؛ كان الرصاص خلالها يصمُّ الآذان، والطائرات المحلِّقة على ارتفاع قليل تكشف للمهاجمين موقع الثوار وقوَّتهم، وفي نهاية الساعتين أسفرت المجابهة عن استشهاد القسام ورفاقه؛ يوسف عبد الله الزيباري، وسعيد عطية المصري، ومحمد أبي قاسم خلف، وألقى الأمن القبض على الباقين من الجرحى والمصابين.

اكتشفت قوَّات الأمن عند نهاية المعركة مع الشيخ ذي اللحية البيضاء، والمجندل على التراب بملابسه الدينية مصحفًا وأربعة عشر جنيهًا ومسدسًا كبيرًا، وكان الشيخ نمر السعدي ما زال حيًّا جريحًا؛ حيث استطاع صحفي عربي أن ينقل عن لسانه أول الحقائق الخفية عن عصبة القسام، وكانت هذه الحقيقة دليلًا على أن المجابهة المسلحة هذه كانت بقرار بدء الثورة منهم جميعًا.

كانت العناوين البارزة في الصحف بعد المعركة «معركة هائلة بين عصبة الثائرين والبوليس»، و«حادث مريع هزَّ فلسطين من أقصاها إلى أقصاها».

انطلقت بعد المعركة العديد من الثورات المؤازرة للمقاومة الفلسطينية في العالم العربي، وكان منها ثورة عجلون في الأردن في عام 1937م.

عمر المختار .. أسد الصحراء
هو عمر المختار الملقَّب بشيخ الشهداء أو أسد الصحراء، قائد أدوار (معسكرات) السنوسية بالجبل الأخضر، مقاوم ليبي حارب قوَّات الغزو الإيطالية منذ دخولها أرض ليبيا حتى عام (1350هـ= 1931م)، حارب الإيطاليين وهو يبلغ من العمر 53 عامًا لأكثر من عشرين عامًا في أكثر من ألف معركة، واستشهد بإعدامه شنقًا عن عمر يُناهز 73 عامًا، وقد صرَّح القائد الإيطالي «أن المعارك التي حَصَلَتْ بين جيوشه وبين السيد عمر المختار 263 معركة، في مدَّة لا تتجاوز 20 شهرًا فقط».

نشأته
وُلِدَ عمر المختار في (13 من صفر 1278هـ= 20 من أغسطس 1861م) في قرية جنزور الشرقية منطقة بئر الأشهب شرق طبرق في بادية البطنان في الجهات الشرقية من برقة التي تقع شرقي ليبيا.
تربَّى يتيمًا؛ لذلك كان قد كفله حسين الغرياني، عمُّ الشارف الغرياني حيث وافت المنية والده المختار وهو في طريقه إلى مكة المكرمة.

تلقَّى تعليمه الأوَّل في زاوية جنزور على يد إمام الزاوية الشيخ العلامة عبد القادر بوديه، أحد مشايخ الحركة السنوسية، ثم سافر إلى الجغبوب ليمكث فيها ثمانية أعوام للدراسة والتحصيل من كبار علماء ومشايخ السنوسية؛ في مُقَدِّمتهم الإمام السيد المهدي السنوسي قطب الحركة السنوسية، فدرس علوم اللغة العربية والعلوم الشرعية وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، ولكنَّه لم يُكمل تعليمه كما تمنَّى.
ظهرت عليه علاماتُ النجابة ورزانة العقل، فاستحوذ على اهتمام ورعاية أستاذه السيد المهدي السنوسي؛ مما زاده رفعة وسموًّا، فتناولته الألسن بالثناء بين العلماء ومشايخ القبائل وأعيان المدن؛ حتى قال فيه السيد المهدي واصفًا إيَّاه: «لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا بهم». ولثقة السنوسيين به وَلَّوْهُ شيخًا على زاوية القصور بالجبل الأخضر.

اختاره السيد المهدي السنوسي رفيقًا له إلى تشاد عند انتقال قيادة الزاوية السنوسية إليها، فسافر سنة (1317هـ= 1899م)، وقد شارك عمر المختار فترة بقائه بتشاد في الجهاد بين صفوف المجاهدين في الحرب الليبية الفرنسية في المناطق الجنوبية بتشاد وحول واداي، وقد استقرَّ عمر المختار فترة من الزمن في قرو مناضلًا ومقاتلًا، ثم عُين شيخًا لزاوية عين كلكة ليقضي فترة من حياته مُعَلِّمًا ومُبَشِّرًا بالإسلام في تلك الأصقاع النائية، وبقي هناك إلى أن عاد إلى برقة سنة (1321هـ= 1903م)، وأُسندت إليه مشيخة زاوية القصور للمرَّة الثانية.

معلم يتحول إلى مجاهد
عاش عمر المختار حرب التحرير والجهاد منذ بدايتها يومًا بيوم، فعندما أعلنت إيطاليا الحرب على تركيا في (6 من شوال 1329هـ= 29 من سبتمبر 1911م)، وبدأت البارجات الحربية بصبِّ قذائفها على مدن الساحل الليبي؛ (درنة وطرابلس، ثم طبرق وبنغازي والخمس)، كان عمر المختار في تلك الأثناء مقيمًا في جالو بعد عودته من الكفرة؛ حيث قابل السيد أحمد الشريف، وعندما علم بالغزو الإيطالي -فيما عُرف بالحرب العثمانية الإيطالية- سارع إلى مراكز تجمُّع المجاهدين؛ حيث ساهم في تأسيس وتنظيم حركة الجهاد والمقاومة إلى أن وصل السيد أحمد الشريف قادمًا من الكفرة، وقد أعقبت انسحابَ الأتراك من ليبيا سنة 1912م وتوقيعهم معاهدة لوزان -التي بموجبها حصلت إيطاليا على ليبيا- أعظمُ المعارك في تاريخ الجهاد الليبي؛ منها على سبيل المثال معركة يوم الجمعة عند درنة في (9 من جمادى الآخرة 1331هـ= 16 من مايو 1913م)، حيث قُتل فيها للإيطاليين عشرة ضباط وستون جنديًّا وأربعمائة فرد بين جريح ومفقود، وذلك إلى جانب انسحاب الإيطاليين بلا نظام تاركين أسلحتهم ومؤنهم وذخائرهم. وغيرها عشرات المعارك الأخرى التي تكبَّدت فيها قوَّات الاحتلال الإيطالي خسائر فادحة.

وحينما عُيِّنَ أميليو حاكمًا عسكريًّا لبرقة، رأى أن يعمل على ثلاثة محاور:
الأول: قطع الإمدادات القادمة من مصر، والتصدِّي للمجاهدين في منطقة مرمريكا.
الثاني: قتال المجاهدين في العرقوب وسلنطة والمخيلي.
الثالث: قتال المجاهدين في مسوس وأجدابيا.
لكنَّ القائد الإيطالي وجد نار المجاهدين في انتظاره في معارك أم شخنب وشليظيمة والزويتينة في فبراير 1914م، لتتواصل حركة الجهاد بعد ذلك؛ حتى وصلت إلى مرحلة جديدة بقدوم الحرب العالمية الأولى.

الفاشيست والمجاهدون
بعد الانقلاب الفاشي في إيطاليا في (صفر 1341هـ= أكتوبر 1922م)، وبعد الانتصار الذي تحقَّق في تلك الحرب للجانب الذي انضمَّت إليه إيطاليا، تغيَّرت الأوضاع داخل ليبيا، واشتدَّت الضغوط على السيد محمد إدريس السنوسي، واضطر إلى ترك البلاد عاهدًا بالأعمال العسكرية والسياسية إلى عمر المختار؛ وذلك في الوقت الذي قام أخوه الرضا مقامه في الإشراف على الشئون الدينية.

وبعد أن تأكَّد للمختار النوايا الإيطالية في العدوان قصد مصر عام (1341هـ= 1923م) للتشاور مع السيد محمد إدريس السنوسي فيما يتعلَّق بأمر البلاد، وبعد عودته نَظَّم أدوار (معسكرات) المجاهدين، فجعل حسين الجويفي على دور البراعصة، ويوسف بورحيل المسماري على دور العبيدات، والفضيل بوعمر على دور الحاسة، والمجاهد المخضرم صالح الطلحي على قبيلة الوطن الشرقي الأصليين، وتولَّى هو القيادة العامة.

وبعد الغزو الإيطالي لمدينة أجدابيا مقرِّ القيادة الليبية، أصبحت كلُّ المواثيق والمعاهدات مَلْغِيَّةً، وانسحب المجاهدون من المدينة، وأخذت إيطاليا تزحف بجيوشها من مناطق عدَّة نحو الجبل الأخضر، وفي تلك الأثناء تسابقت جموع المجاهدين إلى تشكيل الأدوار (المعسكرات)، والانضواء تحت قيادة عمر المختار، كما بادر الأهالي إلى إمداد المجاهدين بالمؤن والعتاد والسلاح، وعندما ضاق الإيطاليون ذرعًا من الهزيمة على يد المجاهدين، أرادوا أن يقطعوا طريق الإمداد؛ فسَعَوْا إلى احتلال الجغبوب، ووجَّهُوا إليها حملة كبيرة في (رجب 1344هـ= 8 من فبراير 1926م)، وقد شكَّل سقوطها أعباءً ومتاعب جديدة للمجاهدين وعلى رأسهم عمر المختار، ولكنَّ الرجل حمل العبء كاملًا بعزم العظماء وتصميم الأبطال.

لاحظ الإيطاليون أن الموقف يُملي عليهم الاستيلاء على منطقة فَزَّان لقطع الإمدادات على المجاهدين، فخرجت حملة في يناير (1928م = 1346هـ)، ولم تُحَقِّق غرضها في احتلال فَزَّان بعد أن دفعت الثمن غاليًا، ورغم حصار المجاهدين وانقطاعهم عن مراكز تموينهم، فإن الأحداث لم تَنَلْ منهم وتُثَبِّطْ من عزمهم، فاشتبك معهم في معركة شديدة في (ذي القعدة 1346هـ= 22 من أبريل 1928م)؛ استمرَّت يومين كاملين، انتصر فيها المجاهدون وغنموا عتادًا كثيرًا.

مفاوضات السلام في سيدي أرحومة
توالت الانتصارات، وهذا الذي دفع إيطاليا إلى إعادة النظر في خططها، وإجراء تغييرات واسعة، فأمر موسوليني بتغيير القيادة العسكرية؛ حيث عيّن بادوليو حاكمًا عسكريًّا على ليبيا في (رجب 1347هـ= يناير 1929م)، ويُعَدُّ هذا التغيير بداية المرحلة الحاسمة بين الإيطاليين والمجاهدين.

تظاهر الحاكم الإيطالي الجديد لليبيا في رغبته للسلام؛ وذلك لإيجاد الوقت اللازم لتنفيذ خططه وتغيير أسلوب القتال لدى جنوده، وطلب مفاوضة عمر المختار، تلك المفاوضات التي بدأت في 20 أبريل 1929م.

استجاب الشيخ لنداء السلام، وحاول التفاهم معهم على صيغة ليخرجوا من دوامة الدمار، فذهب كبيرهم إلى لقاء عمر المختار ورفاقه القادة في (11 من المحرم 1348هـ= 19 من يونيو 1929م) في سيدي أرحومة، ورَأَسَ الوفدَ الإيطالي بادوليو نفسه، الرجل الثاني بعد بنيتو موسوليني، ونائبه سيشليانو، ولكن لم يكن الغرض هو التفاوض، ولكن المماطلة وشراء الوقت؛ لتلتقط قوَّاتهم أنفاسها، وقصد الغزاةُ الغدر به والدسَّ عليه، وتأليبَ أنصاره والأهالي، وفتنة الملتفِّين حوله.

عندما وجد المختار أن تلك المفاوضات تطلب منه إمَّا مغادرة البلاد إلى الحجاز أو مصر، أو البقاء في برقة وإنهاء الجهاد والاستسلام مقابل الأموال والإغراءات، رفض كل تلك العروض، وكبطل شريف ومجاهد عظيم عمد إلى الاختيار الثالث؛ وهو مواصلة الجهاد حتى النصر أو الشهادة.

تبيَّن للمختار غدر الإيطاليين وخداعهم، ففي (17 من جمادى الأولى 1348هـ= 20 من أكتوبر 1929م) وجَّه نداءً إلى أبناء وطنه طالبهم فيه بالحرص واليقظة أمام ألاعيب الغزاة، وصحَّت توقُّعات عمر المختار؛ ففي (شعبان 1348هـ= 16 من يناير 1930م) ألقت الطائرات بقذائفها على المجاهدين.

غرتسياني
دفعت مواقف عمر المختار ومنجزاته إيطاليا إلى دراسة الموقف من جديد، وتوصَّلت إلى تعيين غرتسياني؛ وهو أكثر جنرالات الجيش وحشية ودموية؛ ليقوم بتنفيذ خطَّة إفناء وإبادة لم يسبق لها مثيلٌ في التاريخ في وحشيتها وفظاعتها وعنفها، وقد تمثَّلت في عدَّة إجراءات ذكرها غرتسياني في كتابه «برقة المهدأة»:
1- قفل الحدود الليبية المصرية بالأسلاك الشائكة لمنع وصول المؤن والذخائر.
2- إنشاء المحكمة الطارئة في أبريل 1930م.
3- فتح أبواب السجون في كل مدينة وقرية، ونصب المشانق في كل جهة.
4- تخصيص مواقع العقيلة والبريقة من صحراء غرب برقة والمقرون وسلوق من أواسط برقة الحمراء لتكون مواقع الاعتقال والنفي والتشريد.
5- العمل على حصار المجاهدين في الجبل الأخضر واحتلال الكفرة.

انتهت عمليات الإيطاليين في فَزَّان باحتلال مرزق وغات في شهري يناير وفبراير 1930م، ثم عمدوا إلى الاشتباك مع المجاهدين في معارك فاصلة، وفي 26 من أغسطس 1930م ألقت الطائرات الإيطالية حوالي نصف طنٍّ من القنابل على الجوف والتاج، وفي نوفمبر اتَّفق بادوليو وغرتسياني على خطِّ الحملة من أجدابيا إلى جالو إلى بئر زيغن إلى الجوف، وفي 28 من يناير 1931م سقطت الكفرة في أيدي الغزاة، وكان لسقوط الكفرة آثار كبيرة على حركة الجهاد والمقاومة.

عمر المختار في الأسر
في معركة السانية في شهر أكتوبر عام 1930م سقطت من الشيخ عمر المختار نظارته، وعندما وجدها أحد جنود الإيطاليين أوصلها إلى قيادته، فرآها غرتسياني فقال: «الآن أصبحت لدينا النظارة، وسيتبعها الرأس يومًا ما».

وفي 28 من ربيع الآخر 1350 هـ= 11 سبتمبر 1931م، وبينما كان الشيخ عمر المختار يستطلع منطقة سلنطة في الجبل الأخضر في كوكبة من فرسانه، عرفت الحاميات الإيطالية بمكانه فأرسلت قوَّاتٍ لحصاره، ولحقها تعزيزات، واشتبك الفريقان في وادي بوطاقة ورجحت الكِفَّة للعدوِّ فأمر عمر المختار بفكِّ الطوق والتفرُّق، ولكن قُتلت فرسه تحته، وسقطت على يده ممَّا شلَّ حركته نهائيًّا، فلم يتمكَّن من تخليص نفسه، ولم يستطع تناول بندقيته ليُدَافع عن نفسه، فسرعان ما حاصره العدوُّ من كلِّ الجهات وتعرَّفُوا على شخصيَّته، فنُقل على الفور إلى مرسى سوسة في الجبل الأخضر؛ ومن ثَمَّ وُضع على طَرَّادٍ (نوع من السفن الحربية السريعة) نَقَلَهُ رأسًا إلى بنغازي، حيث أُودع السجن الكبير بمنطقة سيدي أخريبيش، ولم يستطع الطليان نقل الشيخ برًّا لخوفهم من تعرُّض المجاهدين لهم في محاولة لتخليص قائدهم.
كان لاعتقاله في صفوف العدوِّ صدًى كبيرٌ؛ حتى إن غرتسياني لم يُصَدِّق ذلك في بادئ الأمر، وكان غرتسياني في روما حينها كئيبًا حزينًا منهار الأعصاب في طريقه إلى باريس للاستجمام والراحة؛ وذلك هربًا من الساحة بعد فشله في القضاء على المجاهدين في الجبل الأخضر، حيث بدأت الأقلام اللاذعة في إيطاليا تنال منه، والانتقادات المُرَّة تأتيه من رفاقه مشكِّكَة في مقدرته على إدارة الصراع، وإذا بالقدر يلعب دوره؛ ويتلقَّى برقية مستعجلة من بنغازي؛ مفادها أن عدوَّه اللدود عمر المختار وراء القضبان. فأُصيب غرتسياني بحالة هستيرية كاد لا يُصَدِّق الخبر، فتارة يجلس على مقعده وتارة يقوم، وأخرى يخرج متمشيًا على قدميه محدِّثًا نفسه بصوتٍ عالٍ، ويُشير بيديه ويقول: «صحيح قبضوا على عمر المختار؟! ويردُّ على نفسه: لا، لا أعتقد»، ولم يسترح باله فقرَّر إلغاء إجازته واستقلَّ طائرة خاصَّة، وهبط في بنغازي في اليوم نفسه، وطلب إحضار عمر المختار إلى مكتبه لكي يراه بأمِّ عينيه.

الأسد أسيرًا
وصل غرتسياني إلى بنغازي يوم 14 من سبتمبر، وأعلن انعقاد المحكمة الخاصة يوم 15 سبتمبر 1931م، وفي صبيحة ذلك اليوم وقبل المحاكمة رغب غرتسياني في الحديث مع عمر المختار، يذكر غرتسياني في كتابه (برقة المهدأة): «وعندما حضر أمام مكتبي تهيَّأ لي أن أرى فيه شخصيَّة آلاف المرابطين، الذين التقيتُ بهم أثناء قيامي بالحروب الصحراوية؛ يداه مُكَبَّلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التي أُصيب بها أثناء المعركة، وكان وجهه مضغوطًا؛ لأنه كان مغطِّيًا رأسه (بالجَرِد (1) ، ويجرُّ نفسه بصعوبة نظرًا لتعبه أثناء السفر بالبحر، وبالإجمال يُخَيَّل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال، له منظره وهيبته؛ رغم أنه يشعر بمرارة الأسر، ها هو واقف أمام مكتبي، نسأله ويجيب بصوت هادئ وواضح».

غرتسياني: لماذا حاربت بشدَّة متواصلة الحكومة الفاشستية؟
أجاب الشيخ: من أجل ديني ووطني.
غرتسياني: ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟
فأجاب الشيخ: لا شيء إلَّا طردكم.. لأنكم مغتصبون، أمَّا الحرب فهي فرض علينا، وما النصر إلَّا من عند الله.
غرتسياني: لما لك من نفوذٍ وجاهٍ، في كم يوم يُمكنك أن تأمر الثوار بأن يخضعوا لحكمنا ويُسلموا أسلحتهم؟
فأجاب الشيخ: لا يمكنني أن أعمل أيَّ شيء، وبدون جدوى نحن الثوَّار سبق أن أقسمنا أن نموت كلُّنا الواحد بعد الآخر، ولا نُسَلِّم أو نُلقي السلاح.
ويستطرد غرتسياني حديثه: «وعندما وقف ليتهيَّأ للانصراف كان جبينه وضَّاءً؛ كأنَّ هالة من نور تُحيط به، فارتعش قلبي من جلالة الموقف، أنا الذي خاض معارك الحروب العالمية والصحراوية، ولُقِّبْتُ بأسد الصحراء، ورغم هذا فقد كانت شفتاي ترتعشان، ولم أستطع أن أنطق بحرفٍ واحدٍ، فأنهيتُ المقابلة، وأمرتُ بإرجاعه إلى السجن لتقديمه إلى المحاكمة في المساء، وعند وُقوفه حاول أن يمدَّ يده لمصافحتي؛ ولكنه لم يتمكَّن؛ لأن يديه كانت مُكَبَّلة بالحديد».

محاكمة عمر المختار
عُقدت للشيخ الشهيد محكمة هزلية صورية في مركز إدارة الحزب الفاشستي ببنغازي، مساء يوم الثلاثاء عند الساعة الخامسة والربع في 15 من سبتمبر 1931م، وبعد ساعة تحديدًا صدر منطوق الحكم بالإعدام شنقًا حتى الموت.

عندما تُرجم له الحُكْم، قال الشيخ: «إن الحكم إلَّا لله.. لا حكمكم المزيف.. إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون».

إعدام عمر المختار
في صباح اليوم التالى للمحاكمة الأربعاء (16 سبتمبر 1931م= غُرَّة جمادى الأولى 1350 هـ)، اتخذت جميع التدابير اللازمة بمركز سلوق لتنفيذ الحُكم بإحضار جميع أقسام الجيش والميليشيا والطيران، وأُحضر 20 ألفًا من الأهالي وجميع المعتقلين السياسيين خصيصًا من أماكن مختلفة؛ وذلك لمشاهدة تنفيذ الحكم في قائدهم، وأُحضر الشيخ عمر المختار مُكَبَّل الأيدي، وعلى وجهه ابتسامة الرضا بالقضاء والقدر، وبدأت الطائرات تُحَلِّق في السماء فوق المعتقلين بأزيزٍ مجلجلٍ؛ حتى لا يتمكَّن عمر المختار من مخاطبتهم.
وفي تمام الساعة التاسعة صباحًا سُلِّمَ الشيخ إلى الجلاد، وكان وجهه يتهلَّل استبشارًا بالشهادة، وكله ثبات وهدوء، فوُضع حبل المشنقة في عنقه، وقيل عن بعض الناس الذين كانوا على مقربة منه: إنه كان يُؤَذِّن في صوت خافت أذان الصلاة. والبعض قال: إنه تمتم بالآية الكريمة: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27، 28]. ليجعلها مسك ختام حياته البطولية، وبعد دقائق صَعِدَتْ رُوحه الطاهرة النقيَّة إلى ربِّها تشكو إليه عنت الظالمين وجور المستعمرين.

سبق إعدام الشيخ أوامر شديدة الحزم بتعذيب وضرب كلِّ مَنْ يُبدي الحزن أو يُظهر البكاء عند إعدام عمر المختار، فقد ضُرب جربوع عبد الجليل ضربًا مبرحًا بسبب بكائه عند إعدام عمر المختار، ولكن عَلَتْ أصوات الاحتجاج، ولم تكبحها سياط الإيطاليين، فصرخت فاطمة داروها العبارية وندبت فجيعة الوطن عندما أُعدم الشيخ، ووصفها الطليان «بالمرأة التي كسرت جدار الصمت».

أمَّا المفارقة التاريخية التي أذهلت المراقبين فقد حدثت في سبتمبر 2008م، عندما انحنى رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني -وفي حضور الزعيم الليبي معمر القذافي- أمام ابن عمر المختار معتذرًا عن المرحلة الاستعمارية وما سبَّبته إيطاليا من مآسٍ للشعب الليبي، وهي الصورة التي قُورنت بصورة تاريخية أخرى يظهر فيها عمر المختار مكبَّلًا بالأغلال قُبيل إعدامه.

آخر كلمات الشهيد عمر المختار
كانت آخر كلمات عمر المختار قبل إعدامه: «نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت.. وهذه ليست النهاية.. بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه.. أمَّا أنا.. فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي».

1- الجرد: اللباس التقليدي الشعبي الليبي.

محمد كريم ومقاومة الحملة الفرنسية

هو محمد بن عبد الرزاق محمد كريم، الذي استطاع أن يمتلك قلوب الناس، وقد كان له الأثر الكبير في إثارة الناس، وقيادة المقاومة الشعبية ضدَّ الحملة الفرنسية في مصر.

نشأة محمد كريم
وُلِدَ السيد محمد كريم بحيِّ الأنفوشي بالإسكندرية قبل منتصف القرن الثامن عشر، نشأ محمد كريم يتيمًا فكفله عمُّه، عَمِل في بداية أمره قبَّانيًّا يزن البضائع في حانوت بالثغر، كان عمُّه قد افتتحه له، وكانت لديه خفَّة في الحركة وتودُّد في المعاشرة، ولم يتلقَ محمد كريم تعليمًا كبقيَّة أقرانه بسبب وفاة والده، فتردَّد على المساجد ليتعلَّم فيها، ثم بدأ يُحَدِّث الناس مستغلًّا الندوات الشعبية، وكانت هذه الندوات طريقًا ليعرفه أهل الإسكندرية عن قرب، ويعرفوا وطنيته وشجاعته.

محمد كريم حاكم الإسكندرية
ويَسَّرت له هذه الندوات امتلاك شعبية كبيرة بين الناس، كانت سببًا في توليته حاكمًا على الإسكندرية، وقد كانت الإسكندرية بوابة مصر البحرية، وتودَّد محمد كريم إلى الناس حتى أحبُّوه -مسلمهم وغير مسلمهم- لأخلاقه التي تربَّى ونشأ عليها، وقد قام محمد كريم بأمر البلاد والعباد على أحسن وجه.

جهاد محمد كريم ضد الفرنسيين
في يوم 19 مايو 1798م أبحر الأسطول الفرنسي بقيادة نابليون قادمًا إلى مصر لينهب ثرواتها، وكان على محمد كريم أن يقف ليصدَّ هذه الهجمات، ويرُدَّها على أعقابها، ولا يُمَكِّنها من دخول بلده، لكن كانت الحملة الفرنسية مزوَّدة بأحدث الأسلحة والمدافع، بينما لم تكن مثل هذه الأسلحة بأيدي المصريين، ولمَّا بلغ أمر الحملة الفرنسية الإنجليز تحرَّك الأسطول الإنجليزي بقيادة نلسون مُتَّجِهًا إلى الإسكندرية، طالبًا من محمد كريم انتظار الأسطول الفرنسي خارج الميناء، وأن يسمح لهم أن يشتروا من المدينة ما يحتاجونه من زادٍ، لكنَّ محمد كريم رفض طلبهم قائلًا: «ليس للفرنسيين أو سواهم شيء في هذا البلد، فاذهبوا أنتم عنَّا».

ووقف أسطول نلسون منتظرًا خارج الثغر أربعًا وعشرين ساعة، ثم أقلع متجهًا إلى شواطئ الأناضول بحثًا عن غريمه الفرنسي، ولم يمضِ على رحيله غير أسبوع حتى ظهر الأسطول الفرنسي أمام شواطئ الإسكندرية، وعندئذٍ بعث السيد محمد كريم إلى القاهرة مستنجدًا بالمماليك وقوَّادهم مراد بك وإبراهيم بك، واستقرَّ الرأي على أن يسير مراد بك مع جنوده إلى الإسكندرية لصدِّ الغزاة، ويبقى إبراهيم بك في القاهرة للدفاع عنها.

وصل الأسطول الفرنسي إلى شواطئ الإسكندرية عند العجمي في أول يوليو 1798م= المحرم 1213هـ، وبادر إلى إنزال قوَّاته ليلًا إلى البرِّ، ثم سَيَّرَ قسمًا من قوَّاته إلى الإسكندرية يوم 2 من يوليو، ولم يكن عدد سكان المدينة يومها يزيد على ثمانية آلاف نسمة، ولم يكن بها من الجنود ما يكفي لصدِّ الجيش الفرنسي الكبير المزوَّد بالمعدات الحديثة.
وكان أن استعدَّ السيد محمد كريم للدفاع عن الإسكندرية بكُلِّ ما لديه من ذخيرة وعتاد، وظلَّ محمد كريم يقود المقاومة الشعبية ضد الفرنسيين؛ حتى بعد أن اقتحم الفرنسيون أسوار المدينة، ثم اعتصم محمد كريم بقلعة قايتباي ومعه فريق من الجنود، حتى فرغت ذخيرته، فكفَّ عن القتال، وتمَّ أسره هو ومَنْ معه، ودخل نابليون المدينة وأعلن بها الأمان.

أُعجب نابليون بشجاعة محمد كريم فأطلق سراحه من الأسر، وتظاهر بإكرامه، وأبقاه حاكمًا للإسكندرية، ولمَّا تمَّ لنابليون الاستيلاء على الإسكندرية رأى أن يُغادرها إلى القاهرة، وعيَّن كليبر حاكمًا عسكريًّا عليها، وزحف إلى القاهرة في 7 من يوليو عن طريق دمنهور والرحمانية.

ظنَّ نابليون أن محمد كريم سينحاز إلى جانبه بعد أن فكَّ أسره، لكن خاب ظنُّ نابليون، فلم يُمهله محمد كريم إلَّا وأعلن المقاومة الشعبية في أنحاء الإسكندرية؛ مما أرَّق الفرنسيين الذين فشلوا في استمالته معهم، فاعتقله كليبر حاكم الإسكندرية، وأرسله إلى القاهرة ليُحكم عليه بالإعدام.

إعدام محمد كريم
وجَّهت المحكمة الفرنسية -التي شكلها نابليون للحكم على المناضلين- إلى محمد كريم تهمة التحريض على المقاومة وخيانة الجمهورية الفرنسية، وأثناء المحاكمة أرسل نابليون رسالة إلى المحقِّق؛ يأمره فيها أن يعرض على محمد كريم أن يدفع فدية قدرها ثلاثون ألف ريال، يدفعها إلى خزينة الجيش ليفتدي نفسه، ورفض محمد كريم أن يدفع الفدية، ولمَّا ألحَّ عليه البعض في أن يفدي نفسه بهذه الغرامة رفض، وقال: «إذا كان مقدورًا عليَّ أن أموت فلن يعصمني من الموت أن أدفع الفدية، وإذا كان مقدورًا عليَّ أن أعيش فعلام أدفعها؟».

وفي (25 من ربيع الأول 1213هـ= 6 من سبتمبر 1798م) أصدر نابليون بونابرت أمرًا بإعدام محمد كريم ظُهْرًا في ميدان القلعة رميًا بالرصاص، فأركبوه حمارًا، وطافوا به إلى أن بلغوا الرميلة فقتلوه رميًا بالرصاص‏،‏ وقطعوا رأسه ورفعوه على نَبُّوت (عصا كبيرة)، وأخذ منادٍ يصيح‏:‏ «هذا جزاءُ مَنْ يُخالف الفرنسيين»‏.‏ وبذلك أُسدل الستار على مجاهد وطني نادر‏،‏ واستولى أتباع محمد كريم على رأسه المقطوع ودفنوه مع جثته‏، وهكذا أصبح الزعيم محمد كريم رمزًا للفداء، وأحد زعماء الوطنية البارزين في مصر،‏ وأقسم الشعب أن يثأر لشهيده‏،‏ وتحقَّق ذلك بأن تمَّ جلاء آخر جندي فرنسي عن مصر سنة (1216هـ= ‏1801م) بعد مقاومة شعبية كبيرة.

يوسف العظمة .. شهيد الحرية
هو يوسف بك بن إبراهيم بن عبد الرحمن آل العظَمة، ينتمي إلى عائلة دمشقية عريقة، استُشهد في مواجهة الجيش الفرنسي الذي جاء لاحتلال سورية ولبنان؛ حيث كان وزير الحربية للحكومة العربية في سورية بقيادة الملك فيصل الأول، وهو أول وزير حربية عربي يخوض معركة ويستشهد فيها.

نشأة يوسف العظمة
وُلِدَ الشهيد يوسف العظمة سنة (1301هـ= 1884م) في حيِّ الشاغور بدمشق لأسرة كبيرة وعريقة، ولمَّا أصبح له من العمر 6 سنوات تُوُفِّيَ والده، فكفله شقيقه عزيز.
درس العظمة في دمشق في المدرسة الرشدية العسكرية ابتداءً من عام 1893م، ثم في المدرسة الإعدادية العسكرية منذ عام 1897م، وفي عام 1900م انتقل إلى المدرسة الحربية العسكرية في إسطنبول، وفي العام التالي دخل المدرسة الحربيَّة العالية (حربية شهانه)، وتخرَّج فيها برتبة ملازم ثانٍ سنة 1903م، ورُقِّيَ إلى رتبة ملازم أول سنة 1905م، ثم إلى رتبة نقيب سنة 1907م؛ وذلك بعد أن قام بدورة أركان حرب محلِّيَّة في إسطنبول، وفي أواخر عام 1909م أُوفِدَ في بعثة دراسية إلى ألمانيا؛ حيث درس هناك في مدرسة أركان الحرب العليا لمدَّة سنتين، وبعدها عاد إلى الأستانة، وعُيِّنَ ملحقًا عسكريًّا في المفوَّضِيَّة العثمانية العليا في القاهرة.

شارك يوسف العظمة في حرب البلقان عام (1330هـ= 1912م)، وفي عام 1917م عُيِّن كمساعد لأنور باشا المفتش العامِّ للجيش العثماني، وعمل في أواخر الحرب العالمية الأولى كرئيس لأركان حرب الفيلق التركي الأول، الذي دافع عن الدردنيل حتى نهاية الحرب، وبعد الهدنة بقي يوسف العظمة في تركيا إلى أن سمع بتشكيل الحكومة العربية في دمشق، فاستقال من منصبه في الجيش التركي -رغم زواجه من سيدة تركية رُزِقَ منها بطفلته الوحيدة- والتحق بالجيش العربي.

يوسف العظمة وزير الحربية
بعد التحاقه بالجيش العربي الفيصلي، عُيِّن العظمة كضابط ارتباط في بيروت؛ حيث استخدم الشفرة لأوَّل مرَّة في مكتب الحكومة العربية هناك، وبعد إعلان المَلَكيَّة نُقل من بيروت، وعُيِّن رئيسًا لأركان حرب القوَّات العربية بعد ترقيته إلى رتبة عميد، ثمَّ عند تشكيل وزارة هاشم الأتاسي الدفاعية في (شعبان 1338هـ= 3 من مايو 1920م) أُسندت إليه وزارة الحربية، فعكف على تنظيمها وتقوية الجيش العربي اليافع؛ بل وقام بإجراء عرض عسكري في دمشق لتقوية الروح المعنوية في الجيش ولدى السكان، ولكنَّ الأقدار لم تُمهله لإكمال تنظيم وتقوية هذا الجيش.

صفات يوسف العظمة
كان يوسف العظمة رجلًا بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنًى، معتزًّا بنفسه وبعروبته اعتزازًا واضحًا، وكان يتحلَّى بكثير من الصفات الحسنة، التي شهد له بها الجميع حتَّى أعداؤه، كما كان عسكريًّا بطبعه، يؤمن أن للجيش مهمَّةً واحدةً هي أن يُقاتِلَ بصرف النظر عمَّا إذا كان سيربح أم سيخسر نتيجةً لهذا القتال، وكان يعلم أنَّه لا بُدَّ من معركة فاصلة بين السوريين وفرنسا، لَمْ يمنَعْهُ من خوضها علمه سلفًا أنه سيخسرها؛ لأنه آمن بأن دهسَ الجنودِ الفرنسيين لأجسادِ الشعب، واستيلاءهم على المدن المدمَّرة أفضل وأشرف ألف مرَّة من فتح أبواب البلاد للجيش الفرنسي يدخلها بكل سهولة، ويمشي في شوارعها مستعليًا.

الاحتلال يريد سورية
عندما أخذت الحكومة الفرنسية تسعى لتنفيذ الانتداب -الذي أقرَّه مؤتمر فيرساي حسب تقسيمات اتفاقيَّة سايكس- بيكو- بشكل عملية احتلال عسكرية كاملة، عقدت فرنسا هدنة مع تركيا، وأرسلت قوَّاتٍ عديدةً إلى الشرق، وفوَّضت الجنرال غورو مفوِّضها السامي بإرسال إنذار نهائي إلى الملك فيصل، وتلقَّى الملك فيصل إنذار الجنرال غورو الفرنسي -وكان قد نزل على الساحل السوري- بوجوبِ فضِّ الجيش العربي، وتسليم السلطة الفرنسية السكك الحديدية، وقبول تداول ورق النقد الفرنسي، وغير ذلك ممَّا فيه القضاء على استقلال البلاد وثروتها، فتردَّد الملك فيصل ووزارته بين الرضا والإباء، ثم اتَّفق أكثرهم على التسليم، فأبرقوا إلى الجنرال غورو، وأوعز فيصل بفضِّ الجيش، وعارض هذا بشدَّة وزير الحربية يوسف العظمة, واضطر إلى مجاراة رفاقه في الحكومة والرضوخ لهذا القبول، رغم رأيه القائل دومًا بأن «الجيش وُجِدَ ليُقاتِل حتى لو كانت نتيجة المعركة ضدَّه».

يوسف العظمة والاستعداد للمقاومة
بينما كان الجيش العربي المرابط على الحدود يتراجع منفضًّا بأمر الملك فيصل؛ كان الجيش الفرنسي يتقدَّم بأمر الجنرال غورو، ولما سُئل هذا عن الأمر، أجاب بأن برقية فيصل بالموافقة على بنود الإنذار وصلت إليه بعد أن كانت المدَّة المضروبة 24 ساعة قد انتهت. وهكذا وجد الملك والحكومة أنه لم يَعُدْ هناك مجال لقبول هذه الشروط الجديدة، وتمَّ رفضها، وبدأت القوى الوطنية بحثِّ الناس على الخروج إلى ميسلون (تقع غرب دمشق) لصدِّ العدوِّ، وعاد فيصل يستنجد بالوطنيين السوريين لتأليف جيش أهلي يقوم مقام الجيش المنفضِّ في الدفاع عن البلاد، فتراكض جمع غفير إلى هناك مُسَلَّحِينَ بالبنادق والمسدسات القديمة والسيوف حتى بالمقاليع؛ لينضمُّوا إلى فلول الجيش، التي حاول العظمة جمعها قبل إتمام أمر تسريحها، الذي صدر سابقًا استجابة للإنذار، وتقدَّم يوسف العظمة يقود جمهور المتطوِّعين على غير نظام، وإلى جانبهم عدد يسير من الضباط والجنود, وانطلق بصحبة مرافقه إلى القصر الملكي؛ وذلك ليستأذن الملك فيصل بالذهاب إلى الجبهة.

ولم يَعُدْ هناك بُدٌّ من خوض معركة غير متكافئة بين الجيش الفرنسي المجهَّز بأحدث أسلحة العصر، والبالغ عدد أفراده 9 آلاف جندي بقيادة الجنرال غوابيه، وهو حفيد أحد القادة الصليبيين، الذين جاءوا لغزو بلادنا في الحملة الصليبية الثانية عام (542هـ= 1147م)، وبين 8 آلاف من الجنود؛ نصفهم على الأقلِّ من المتطوِّعين والمسلَّحِين بأسلحة قديمة، دون دبابات أو طائرات أو تجهيزات ثقيلة، بقيادة يوسف العظمة.

معركة ميسلون
خرج يوسف العظمة ليتولَّى قيادة الجيش في ميسلون في يوم 23 يوليو (1920م= 1338هـ)، واجتمع بالضباط الذين لم يُتِمُّوا تنفيذ أمر تسريحهم، وأبلغهم أن الحرب لا بُدَّ قائمة، وأوعز إلى جميع القوى لتكون على أهبة الاستعداد لصدِّ العدوِّ المهاجم، وألقى على قادته فكرة -شفهيًّا- خُطَّته الدفاعية-الهجومية، والتي تتلخَّص في تنظيم خطٍّ دفاعيٍّ في وسط الجبهة على جانبي الطريق (القلب)، مع فرز وحدات خفيفة إلى يمين ويسار الجبهة لحماية الجناحين (الجناح الأيمن والجناح الأيسر)، إضافة إلى وضع ألغام محلِّيَّة الصنع على الطرق المُؤَدِّيَة إلى المنطقة.

وتمركز العظمة في مركز قيادة الجبهة في أعلى مرتفع يُشرف على الجبهة بكاملها، وبعد أن أدَّى صلاة الصبح ليوم الرابع والعشرين بدأ في الاستعداد لخوض المعركة، التي استمرَّت حتى الظهر.

في الساعة التاسعة بدأت المعركة عندما بدأت المدفعية الفرنسية في التغلُّب على المدفعية العربية، وبدأت الدبابات الفرنسية بالتقدُّم باتجاه الخطِّ الأمامي العربي في دفاع القلب، وعوّل العظمة على الألغام المدفونة لتُوقِفَ تَقَدُّم هذه الدبابات، إلَّا أنَّ الألغام لم تَقُمْ بعملها ولم تُؤَثِّر، فأسرع إليها يبحث، فإذا بأسلاكها قد قُطعت!

وتمكَّن الفرنسيون من تحقيق نصر غير شريف؛ نظرًا لكثرة عددهم وقوَّة تسليحهم، وعلى الرغم من استبسال المجاهدين في الدفاع عن الكرامة العربية.

استشهاد يوسف العظمة
وخلال معركة ميلسون وبعد نفاذ الذخائر نزل العظمة من مكمنه على جانب الطريق حيث يُوجد مدفع عربي سريع الطلقات، وأمر الرقيب سدين المدفع بإطلاق النار على الدبابات المتقدِّمة، وما كان من أحد رماتها إلَّا أن أطلق ناره باتجاه العظمة فخرَّ شهيدًا، وأسلم رُوحه الطاهرة هو ورقيب المدفع، الذي كان بجواره في الساعة العاشرة والنصف من صباح 24 يوليو 1920م، واستشهد العظمة في معركة الكرامة، التي كانت نتيجتها متوقَّعة خاضها دفاعًا عن شرفه العسكري وشرف بلاده، فانتهت حياته وحياة الدولة التي تولَّى الدفاع عنها، وانتهت المعركة بعد استشهاد 400 جندي عربي، مقابل 42 قتيلًا من الفرنسيين و154 جريحًا.

ودُفن العظمة في المكان الذي استُشهد فيه، وأصبح قبره في ميسلون إلى اليوم رمز التضحية الوطنية الخالد، تُحْمَل إليه الأكاليل كلَّ عامٍ من مختلف الديار السورية.

ولمَّا استتبَّ الأمر للفرنسيين قَدِم الجنرال غورو إلى دمشق في أوائل شهر أغسطس (1920م= 1338هـ)، وكان أول ما فعله بعد وصوله أن توجَّه إلى ضريح البطل صلاح الدين الأيوبي، وخاطبه بتهكُّم وشماتة: «يا صلاح الدين؛ أنت قلتَ لنا إبان الحروب الصليبية: إنكم خرجتم من الشرق ولن تعودوا إليه. وها نحن عدنا، فانهض لترانا في سورية!».

عبد القادر الجزائري .. الأمير المجاهد
هو عبد القادر الجزائري أو الأمير عبد القادر مُؤَسِّس الدولة الجزائرية الحديثة، عالِمُ دينٍ، شاعر، فيلسوف، سياسي ومحارب في آنٍ واحدٍ، اشتهر بمناهضته للاحتلال الفرنسي للجزائر.

نسب عبد القادر الجزائري
هو الأمير عبد القادر بن الأمير محيي الدين بن مصطفى بن محمد بن المختار بن عبد القادر بن أحمد بن محمد بن عبد القوي بن يوسف بن أحمد بن شعبان بن محمد بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر بن عبد الله (الكامل) بن الحسن (المثنى) بن الحسن (السبط) بن فاطمة بنت محمد رسول الإسلام –صلى الله عليه وسلم- وزوجة علي بن أبي طالب ابن عمِّ الرسول –صلى الله عليه وسلم، يرجع أصله إلى الأدارسة الذين حكموا المغرب في القرن التاسع.

نشأت عبد القادر الجزائري
وُلِدَ عبد القادر الجزائري في (23 من رجب 1222هـ= مايو 1807م)، وذلك بقرية القيطنة بوادي الحمام من منطقة معسكر بالجزائر، ثم انتقل والده إلى مدينة وهران.

لم يكن محيي الدين والد الأمير عبد القادر هملًا بين الناس؛ بل كان ممَّنْ لا يسكتون على الظلم، فكان من الطبيعي أن يصطدم مع الحاكم العثماني لمدينة وهران؛ وأدَّى هذا إلى تحديد إقامة الوالد في بيته، فاختار أن يخرج من الجزائر كلها في رحلة طويلة.

كان الإذن له بالخروج لفريضة الحج عام (1241هـ= 1825م)، فخرج الوالد واصطحب ابنه عبد القادر معه، فكانت رحلة الأمير عبد القادر إلى تونس ثم مصر ثم الحجاز ثم البلاد الشامية ثم بغداد، ثم إلى الحجاز، ثم العودة إلى الجزائر مارًّا بمصر وبرقة وطرابلس ثم تونس، وأخيرًا إلى الجزائر من جديد عام (1243هـ= 1828م)، فكانت رحلة تَعَلُّم ومشاهدة ومعايشة للوطن العربي في هذه الفترة من تاريخه، وما لبث الوالد وابنه أن استقرَّا في قريتهم قيطنة، ولم يمضِ وقت طويل حتى تعرَّضت الجزائر لحملة عسكرية فرنسية شرسة، وتمكَّنت فرنسا من احتلال العاصمة فعلًا في (المحرم 1246هـ= 5 من يوليو 1830م)، واستسلم الحاكم العثماني سريعًا، ولكنَّ الشعب الجزائري كان له رأي آخر.

المبايعة على الجهاد
فرَّق الشقاقُ بين الزعماءِ كلمةَ الشعب، وبحث أهالي وعلماء غريس عن زعيم يأخذ اللواء، ويبايعون على الجهاد تحت قيادته، واستقرَّ الرأي على محيي الدين الحسني، وعرضوا عليه الأمر، ولكنَّ الرجل اعتذر عن الإمارة وقَبِلَ قيادة الجهاد، فأرسلوا إلى صاحب المغرب الأقصى ليكونوا تحت إمارته، فقَبِلَ السلطان عبد الرحمن بن هشام سلطان المغرب، وأرسل ابن عمِّه علي بن سليمان ليكون أميرًا على وهران، وقَبْلَ أن تستقرَّ الأمور تدخَّلت فرنسا مُهَدِّدة السلطان بالحرب، فانسحب السلطان واستدعى ابن عمِّه؛ ليعود الوضع إلى نقطة الصفر من جديد، ولمَّا كان محيي الدين قد رضي بمسئولية القيادة العسكرية، فقد التَفَّتْ حوله الجموع من جديد، وخاصَّة أنه حقَّق عدَّة انتصارات على العدوِّ، وقد كان عبد القادر على رأس الجيش في كثير من هذه الانتصارات، فاقترح الوالد أن يتقدَّم عبدُ القادر الجزائري لهذا المنصب، فقبل الحاضرون، وقَبِلَ الشاب تحمُّل هذه المسئولية، وتمَّت البيعة، ولَقَّبه والده بـناصر الدين، واقترحوا عليه أن يكون سلطانًا، ولكنَّه اختار لقب الأمير، وبذلك خرج إلى الوجود الأمير عبد القادر ناصر الدين بن محيي الدين الحسني، وكان ذلك في (13 من رجب 1248هـ= 20 من نوفمبر 1832م).

ولتكتمل صورة الأمير عبد القادر، فقد تلقَّى الشابُّ مجموعة من العلوم؛ فقد درس الفلسفة، ودرس الفقه والحديث؛ فدرس صحيحي البخاري ومسلم، وقام بتدريسهما، كما تلقَّى الألفية في النحو، والسنوسية، والإتقان في علوم القرآن، وبهذا اكتمل للأمير العلم الشرعي، والعلم العقلي، والرحلة والمشاهدة، والخبرة العسكرية في ميدان القتال، وعلى ذلك فإنَّ الأمير الشابَّ تكاملت لديه مُؤَهِّلات تجعله كُفُؤًا لهذه المكانة، وقد وجَّه خطابه الأول إلى كافَّة العروش قائلًا: «... وقد قَبِلْتُ بيعتَهم (أي أهالي وهران وما حولها) وطاعتَهم، كما أني قَبِلْتُ هذا المنصب مع عدم ميلي إليه، مؤملًا أن يكون واسطة لجمع كلمة المسلمين، ورَفْعِ النزاع والخصام بينهم، وتأمين السبل، ومنع الأعمال المنافية للشريعة المطهَّرة، وحماية البلاد من العدوِّ، وإجراء الحقِّ والعدل نحو القويِّ والضعيف، واعلموا أن غايتي القصوى اتَّحاد الملَّة المحمدية، والقيام بالشعائر الأحمدية، وعلى الله الاتِّكال في ذلك كله».

اضطرت فرنسا إلى عقد اتفاقية هدنة مع الأمير عبد القادر؛ وهي اتفاقية «دي ميشيل» في عام (1250هـ= 1834م)، وبهذه الاتفاقية اعترفت فرنسا بدولة الأمير عبد القادر؛ وبذلك بدأ الأمير عبد القادر في الاتِّجاه إلى أحوال البلاد يُنَظِّم شئونها ويُعَمِّرها ويُطَوِّرها، وقد نجح الأمير في تأمين بلاده إلى الدرجة التي عَبَّر عنها مُؤَرِّخ فرنسي بقوله: «يستطيع الطفل أن يطوف ملكه منفردًا على رأسه تاج من ذهب، دون أن يُصيبه أذًى!!».

وعندما تولَّى عبد القادر الإمارة كان الوضع الاقتصادي والاجتماعي صعبًا، لم يكن لديه المال الكافي لإقامة دعائم الدولة، بالإضافة إلى ذلك كان له معارضون لإمارته؛ ولكنَّه لم يفقد الأمل؛ إذ كان يدعو باستمرارٍ إلى وَحْدَة الصفوف، وتَرْكِ الخلافات الداخلية، ونَبْذِ الأغراض الشخصية، وكان يعتبر منصبه تكليفًا لا تشريفًا، وفي نداء له بمسجد معسكر خطبَ قائلًا: «إذا كنتُ قد رضيتُ بالإمارة؛ فإنَّما ليكون لي حقُّ السير في الطليعة والسيرِ بكم في المعارك في سبيل الله، الإمارةُ ليست هدفي؛ فأنا مستعدٌّ لطاعة أيِّ قائد آخر تَرَوْنَهُ أجدرَ منِّي، وأقدر على قيادتكم؛ شريطة أن يلتزم خدمة الدِّينِ وتحرير الوطن».

بيان من الأمير عبد القادر
ومنذ الأيام الأولى لتولِّيه الإمارة كتب بيانًا أرسله إلى مختلف القبائل التي لم تُبايعه بعد، ومن فقرات هذا البيان: «بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده... إلى القبائل... هداكم الله وأرشدكم ووجَّهكم إلى سواء السبيل، وبعدُ... إن قبائل كثيرة قد وافقت بالإجماع على تعييني، وانتخبتني لإدارة حكومة بلادنا، وقد تَعَهَّدَتْ أن تُطيعني في السَّرَّاء والضَّرَّاء وفي الرخاء والشدَّة, وأن تُقَدِّم حياتها وحياة أبنائها وأملاكها فداءً للقضية المقدَّسة، ومن أجل ذلك تَوَلَّيْنَا هذه المسئولية الصعبة على كره شديد؛ آملين أن يكون ذلك وسيلةً لتوحيد المسلمين، ومنعِ الفُرقَة بينهم، وتوفيرِ الأمن العام إلى كل أهالي البلاد، ووَقْفِ كُلِّ الأعمال غير الشرعية، ولقبول هذه المسئولية اشترطنا على أولئك الذين منحونا السلطة المطلقة والطاعة الدائمة في كل أعمالهم التزامًا بنصوص كتاب الله وتعاليمه, والأخذ بسُنَّة نبيِّه في المساواة بين القويِّ والضعيف، الغنيِّ والفقير؛ لذلك ندعوكم للمشاركة في هذا العهد والوحدة بيننا وبينكم، وجزاؤكم على الله، إنَّ هدفي هو الإصلاح، إنَّ ثقتي في الله ومنه أرجو التوفيق».

جعل الأمير وَحْدَة الأُمَّة هي الأساس لنهضة دولته، واجتهد في تحقيق هذه الوحدة، رغم عراقيل الاستعمار والصعوبات التي تلقَّاها من بعض رؤساء القبائل، الذين لم يكن وعيهم السياسي في مستوى عظمة المهمَّة، وكانت طريقة الأمير في تحقيق الوحدة هي الاقتناع أولاً، والتذكير بمتطلَّبات الإيمان والجهاد، لقد كَلَّفَتْهُ حملات التوعية جهودًا كبيرة؛ لأن أكثر القبائل كانت قد اعتادت حياة الاستقلال، ولم تألف الخضوع لسلطة مركزية قوية، وبفضل إيمانه القوي انضمَّتْ إليه قبائل كثيرة دون أن يُطلق رصاصة واحدة لإخضاعها؛ بل كانت بلاغَتُه وحُجَّتُه كافيتين ليفهم الناس أهدافه في تحقيق الوحدة ومحاربة العدوِّ.

الأمير عبد القادر وتأسيس الدولة
كان الأمير عبد القادر عندما لا ينفع أسلوب التذكير والإقناع، يُشهر سيفه ضدَّ مَنْ يخرج عن صفوف المسلمين، أو يُساعد العدوَّ لتفكيك المسلمين، وقد استصدر الأمير فتوى من العلماء تُساعده في محاربة أعداء الدِّينِ والوطن.

كان الأمير يرمي إلى هدفين: تكوين جيش مُنَظَّم، وتأسيس دولة مُوَحَّدة. وكان مساعدوه في هذه المهمة مخلصين، ولقد بذل الأمير وأعوانه جهدًا كبيرًا لاستتباب الأمن، فبفضل نظام الشرطة -الذي أنشأه- قُضِي على قُطَّاع الطرق، الذين كانوا يهجمون على المسافرين ويتعدَّوْنَ على الحرمات، فأصبح الناس يتنقَّلُون في أمان، وانعدمت السرقات، ولقد قام الأمير بإصلاحات اجتماعية كثيرة؛ فقد حارب الفساد الخلقي بشدَّة، ومنع الخمر والميسر منعًا باتًّا, ومنع التدخين ليُبْعِدَ المجتمعَ عن التبذير، كما منع استعمال الذهب والفضة للرِّجَال؛ لأنَّه كان يكره حياة البذخ والميوعة.

قسَّم الأمير التراب الوطني إلى عدَّة وحدات: (مِلْيَانَة، معسكر، تِلِمْسَان، الأغواط، المدية، برج بو عريريج، برج حمزة (البويرة)، بِسْكِرَة، سَطِيف)، كما أنشأ مصانع للأسلحة، وبنى الحصون والقلاع؛ مثل: (تأقدمات، معسكر، سعيدة). وشَكَّل الأمير وزارته، التي كانت تتكَوَّن من خمس وزارات، وجعل مدينة معسكر مقرًّا لها، واختار أفضل الرجال ممَّنْ تُمَيِّزُهم الكفاءة العلمية والمهارة السياسية إلى جانب فضائلهم الخلقية، ونظَّم ميزانية الدولة وُفق مبدأ الزكاة لتغطية نفقات الجهاد، كما اختار رموز العلم الوطني، وكان شعار الدولة {نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}[الصف: 13].

الأمير عبد القادر والكفاح المسلح
وقبل أن يمرَّ عام على اتفاقية «دي ميشيل» نقض القائد الفرنسي الهدنة، وناصره في هذه المرَّة بعض القبائل في مواجهة الأمير عبد القادر، ونادى الأمير في قومه بالجهاد، ونَظَّم الجميع صفوف القتال، وكانت المعارك الأولى رسالة قوية لفرنسا؛ وخاصَّة موقعة «المقطع»؛ حيث نزلت بالقوات الفرنسية هزائم قضت على قوَّتها الضاربة تحت قيادة تريزيل الحاكم الفرنسي.

ولكنَّ فرنسا أرادت الانتقام؛ فأرسلت قواتٍ جديدةً وقيادةً جديدةً، واستطاعت القوات الفرنسية دخول عاصمة الأمير -وهي مدينة معسكر- وأحرقتها، ولولا مطر غزير أرسله الله في هذا اليوم ما بقي فيها حجر على حجر، ولكنَّ الأمير استطاع تحقيق مجموعة من الانتصارات دفعت فرنسا إلى تغيير القيادة من جديد؛ ليأتي القائد الفرنسي الماكر الجنرال بيجو؛ ولكنَّ الأمير نجح في إحراز نصر على القائد الجديد في منطقة وادي تافنة، أجبر القائد الفرنسي على عقد معاهدة هدنة جديدة؛ عُرفت باسم معاهد تافنة في عام (1243هـ= 1837م).

وعاد الأمير إلى إصلاح حال بلاده وترميم ما أحدثته المعارك بالحصون والقلاع، وتنظيم شئون البلاد، وفي الوقت نفسه كان القائد الفرنسي بيجو يستعدُّ بجيوش جديدة، ويُكَرِّر الفرنسيون نقض المعاهدة في عام (1255هـ= 1839م)، وبدأ القائد الفرنسي في اللجوء إلى الوحشية في هجومه على المدنيين العُزَّل؛ فقتل النساء والأطفال والشيوخ، وحرق القرى والمدن التي تُساند الأمير، واستطاع القائد الفرنسي أن يُحَقِّق عدَّة انتصارات على الأمير عبد القادر، فاضطر الأمير إلى اللجوء إلى بلاد المغرب الأقصى، فهَدَّد الفرنسيون السلطان المغربي، فلم يستجب السلطان لتهديدهم في أوَّل الأمر، وساند الأمير في حركته من أجل استرداد وطنه، ولكنَّ الفرنسيين ضربوا طنجة وموغادور بالقنابل من البحر، وتحت وطأة الهجوم الفرنسي يضطر السلطان إلى توقيع معاهدة الحماية، التي سبقت احتلال المغرب الأقصى.

بداية النهاية
يبدأ الأمير سياسة جديد في حركته؛ إذ يُسارع في تجميع مُؤَيِّديه من القبائل، ولمَّا أراد الاستعانة بشيوخ الطريقة التيجانيَّة في طرد الفرنسيين، رفضوا الانخراط في جيشه، تمشِّيًا مع رُوح صوفيَّتِهم التي تأبى التدخُّل في السياسة، فقام بعدَّة حملات على مركز التيجانيَّة في عين ماضي التي قاومت هذه الحملات.

وعندما غدر به الفرنسيُّون سنة (1251هـ= 1835م) وخرقوا معاهدة دي ميشيل، حاولوا التفريق بينه وبين رجاله، ولكنهم باءوا بالفشل، فاستخدموا أسلوب الحرب التخريبيَّة بتدمير المحاصيل الزراعيَّة، وتدمير المدن الرئيسيَّة، وأقصوه بعد أربع سنوات من النضال، إلَّا أنه لم يستسلم، والتجأ مع إخوانه إلى مَرَّاكُش سنة (1259هـ= 1843م)، ثم عاد إلى الجزائر، وقاد حركة الأنصار.

هُزم الأمير عبد القادر بالخيانة شأن كل معارك المقاومة في العالم الإسلامي، فهاجمته العساكر المراكشيَّة من خلفه، فرأى من الصواب الجنوح للسلم، وشاور أعيان المجاهدين على ذلك، وأَسَرَهُ المحتلُّون سنة (1263هـ= 1847م) وأرسلوه إلى فرنسا.

عبد القادر الجزائري الأمير الأسير
ظلَّ الأمير عبد القادر في سجون فرنسا يعاني من الإهانة والتضييق حتى عام (1268هـ= 1852م)، ثم استدعاه نابليون الثالث بعد تولِّيه الحكم، وأكرم نزله، وأقام له المآدب الفاخرة ليُقَابِلَ وزراء ووجهاء فرنسا، ويتناول الأميرُ الحديث في كافَّةَ الشئون السياسية والعسكرية والعلمية؛ ممَّا أثار إعجاب الجميع بذكائه وخبرته، ودُعي الأمير لكي يتَّخذ من فرنسا وطنًا ثانيًا له، ولكنه رفض، ورحل إلى الشرق براتب من الحكومة الفرنسية.

توقَّف في إسطنبول حيث السلطان عبد المجيد، والتقى فيها بسفراء الدول الأجنبية، ثم استقرَّ به المقام في دمشق منذ عام (1272هـ= 1856م)، وفيها أخذ مكانة بين الوجهاء والعلماء، وقام بالتدريس في المسجد الأموي، كما قام بالتدريس قبل ذلك في المدرسة الأشرفية، وفي المدرسة الحقيقية.

وفي عام (1276هـ= 1860م) تتحرَّك شرارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين في منطقة الشام، ويكون للأمير دور فعَّال في حماية أكثر من 15 ألفًا من المسيحيين؛ إذ استضافهم في منازله.

وفاة عبد القادر الجزائري
وافاه الأجل بدمشق في منتصف ليلة (19 من رجب 1300هـ= 26 مايو 1883م) عن عمر يُناهز 76 عامًا، وقد دُفن بجوار الشيخ ابن عربي بالصالحية بدمشق لوصية تركها، وبعد استقلال الجزائر نُقِلَ جثمانه إلى الجزائر عام (1385هـ= 1965م)، ودُفن في المقبرة العليا، وهي المقبرة التي لا يُدفن فيها إلَّا رؤساء البلاد.

الإمام شامل .. صقر القوقاز
الإمام شامل هو أحد أشهر المقاومين للوجود الروسي في القوقاز، كما كان قائدًا سياسيًّا ودينيًّا، قاد المقاومة ضدَّ الروس خلال حروب القوقاز، وهو ثالث أئمة الشيشان وداغستان من عام 1834م إلى عام 1859م، لُقِّبَ بأسد القفقاس وصقر الجبال، أرسلت الملكة فيكتوريا إلى شامل علمًا طُرِّزَ عليه ثلاث نجمات؛ تُمَثِّل الشركس والداغستان وجورجيا.

نشأة الإمام شامل
وُلِدَ الإمام شامل علي بن دينغو في قرية غيمري في داغستان عام (1212هـ= 1797م)، آفاري الأصل، والدته باهو ميسادوو كانت آفارية.

أُطلق عليه اسم شامل حسب العادة القفقاسية باعتباره كان كثيرَ المرضِ، وتغيير الاسم كان لإبعادِ الأرواح الشريرة؛ فلُقِّبَ بشامل أو صامويل، كان له صديق مميَّز هو كوناك، الذي اشتُهِر فيما بعد باسم الإمام غازي مولا، وهو أكبر من شامل ببضع سنين.

كان طول شامل 190سم، وكان له حصان أسود اللون ومن سلالة أصيلة، تميَّز شامل بلبس أبيض وأسود مع معطف فضفاض وعمامته حشفتها حمراء، أمَّا رايته فكانت سوداء اللون، درس شامل العربية والفلسفة والفقه والأدب العربي على يد أستاذه جمال الدين وتعمَّق في الصوفية.

وما زالت ذكرى الإمام شامل تعيش في وجدان وذاكرة الداغساتانيين، فلا يخلو مكان من صوره، ويُسَمُّون كثيرًا من أبنائهم باسمه تيمُّنًا به حتى اليوم؛ فهم يعتبرونه بطلاً قوميًّا خاض محاولة بَدَتْ مستحيلة لوقف الزحف الروسي على أراضي مسلمي القوقاز.

لم يُولَد محمد شامل لأسرة معدمة فقيرة؛ حتى يُفَسِّر البعض قتاله من أجل الحرية بأنه قتال الفقراء ضدَّ الأغنياء؛ فقد كان ملايين الفلاحين الروس يُعانون في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي في روسيا من استعباد الإقطاعيين لهم؛ بينما كان علي بن دينغو والد الإمام شامل فلاحًا من الأحرار، أمَّا أُمُّه فهي ابنة سيد الآفار.

غازي مولا
بعد أن مات الإمام منصور أشورما في الأَسر سنة (1208هـ= 1794م) لم يهدأ المسرح الشيشاني إلَّا لعَقْدَيْنِ من الزمان، بعدها كان الإمام غازي مولا قائدًا للمريدين (1) يُكمل الطريق؛ ففي عام (1244هـ= 1829م) بدأ الإمام غازي مولا في تحريك شعوب الجبال نحو حرب مقدسة لمواجهة روسيا، وإن عُرف عنه عدم مشاركته في المعارك، بل اشتُهر بقدرته في التأثير على جنوده بسحر الكلمة وبلاغتها، كما قطع شوطًا كبيرًا في إرسال الدعاة من داغستان إلى سكان الجبال الشيشانية؛ وذلك لتحويلهم من الوثنية إلى الإسلام.

وأمام تماسك قوَّة المريدين اتخذ الروس أسلوب حرق البيوت على ساكنيها؛ كي يُجبروا المقاومين على الخروج، وشنُّوا هجومًا واسعًا إلى أن سقط الإمام غازي مولا في معركة غيمري بين جثث آلاف المريدين، وفي معركة غيمري لم ينجُ إلَّا القليل، وتمكَّن اثنان منهم من الفرار، كان أحدهما شامل، الذي كان قد أُصيب إصابة بالغة كادت تقتله، إلَّا أنه تمكَّن من الاختفاء حتى شُفيت جراحه.

قيادة حمزة بك
بعد مقتل غازي مولا وبعد اعتقاد المريدين بمقتل الإمام شامل في معركة غيمري، اختير حمزة بك مِنْ قِبَلِ المريدين قائدًا بعد تزكيةٍ من كبار الشيوخ، وعَمِلَ حمزة على ترتيب الصفوف وتدعيم قوَّة الجيش، إلَّا أنه لقي الهزيمة، ثم اغتيل وهو يَؤُمُّ المُصَلِّينَ في المسجد الجامع بمعقل المقاومة في هونزا بداغستان.

قيادة الإمام شامل
اختار المريدون الإمام شامل إمامًا بعد وفاة حمزة بك في عام (1250هـ= 1834م)، أعاد شامل تنظيم جيش المريدين على نمط أعدائه الكوزاك بشكل أشبه إلى التنسيق الاتحادي الحديث، كما نظَّم العمل البريدي في دولته، ونسَّق الإنفاق على الجيش من ريع الأراضي الزراعية التي ضُمَّتْ إلى المساجد، كما نظَّم جمع الزكاة لتجهيز الجيش.

إجراءات الإمام شامل لتقوية دولته

1- تركيز أسس الدولة:
بدأ الإمام شامل في دعم ركائز نفوذه في القفقاس المعتمد على الشيشان وداغستان وحلفائهم الأديغة، وامتدَّت منطقة نفوذه من بحر قزوين شرقًا إلى البحر الأسود غربًا.

كان السعي دءوبًا للمساواة بين القوميات، بغضِّ النظر عن اللغة والعرق والطبقة، وذلك في وقت كانت العبودية ما زالت مطبَّقة في روسيا، واستمدَّ شامل من القوانين الإسلامية المنهج الذي نظَّم به الحياة الاجتماعية، وبصفة خاصة شئون القِصَاص والعقاب في الجرائم المدنية، بل إنه تشدَّد في بعض القوانين التي كان القانون -في بعض المذاهب الإسلامية- أكثر اعتدالًا؛ رغبة منه في الحفاظ على أركان دولته.

2- تنظيم الجيش:
كان يقوم تنظيم الجيش على أساس النظام العشري؛ في الأول يأتي المائة نائب وهم أعلى ضباطه رتبة، ثم النُّوَّاب ويُعرفون بالمرشدين، ويصل عددهم حوالي الألف، وكان هناك الحرس الخاصُّ، وكان المريدون يُشَكِّلُون معظم جيش شامل، ومقسَّمين إلى فرق العشرات والمئات والخمس مئات، ولكلِّ فرقة قائد، الجنود يلبسون التشركيسكا بلون بني، واللون الأسود للضباط، والبعض يضع عمامة خضراء ومعطفًا أسود، والرايات سوداء.

3-استخباراته واتصالاته مع مصر:
استفاد الإمام شامل من الأسرى من الضباط الروس ومن المرتدين عن التعاون مع الروس، وقد استفاد من خبرتهم في تطوير قدراته العسكرية على نمط أوربي حديث، وحاول شامل أن يستفيد من القوى الدولية لمساعدته، غير أن عزلة الميدان -الذي يُقاتل فيه- حالت دون تحقيق خُطَّته؛ ففي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي سعى شامل إلى فتح خطِّ اتصال بينه وبين كلٍّ من تركيا وإنجلترا وفرنسا؛ وذلك بهدف أن تُقَدِّم هذه الدول لشامل الدعم العسكري في مقابل تحالفه معها في عدائها لروسيا، وقبل ذلك وفي عام (1256هـ= 1840م) تداول المريدون في داغستان خطابًا يحمل توقيع الخاتم الملكي لمحمد علي باشا، يُفَوِّضُ فيه شامل في قيادة سكان الإقليم، ويَعِدُ بوصول الجيش المصري المتوغِّل في الأراضي التركية إليهم لتقديم العون العسكري في مواجهة الروس، غير أنَّ فشل مشروع محمد علي في تركيا بدَّد آمال المريدين في وصول مدد مصري.

4- استمراره في المقاومة:
استمرَّت المقاومة بقيادة شامل في مسلسل متوالي الحلقات بأسلوب حرب العصابات والكرِّ والفر، إلى أن نَفَّذَ شامل انسحابًا تكتيكًا إلى داخل الجبال، مغريًا الروس بالتوغُّل خلفه عبر الغابات الكثيفة، فانقضَّ عليهم المريدون من جهات مختلفة، واستخدم المقاتلون أحد قارعي الطبول الذين تمَّ أسرهم في العزف لحثِّ الجنود الروس على التوجُّه نحو شرَك أَعَدُّوه، فقتلوا فيه أكثر من نصف ضباط الحملة، وتوالت الهجمات على الجيش الروسي المرتبك؛ ففقد أربعة مدافع من خمسة، ويُقَدِّر المؤرخون نتائج معارك الغابات التي استمرَّت أربع سنوات بنحو 10 آلاف قتيل روسي.

5- استخدامه للمدافع:
تمكَّن شامل بالمدافع الأربعة التي غنمها من الروس من الهجوم عليهم في حصونهم، فأسقط آلاف القتلى، واغتنم في سنتين 14 مدفعًا إضافيًّا؛ بشكل بدا وكأنَّ جيشًا جديدًا يُبْنَى لشامل من المدافع الروسية، التي لم يكن يملكها المريدون، كتب أحد الجنرالات الروس في مذكراته مُعَلِّقًا على ما يرى: «يا لها من مصيبة مفجعة، إن الرجال الذين تناثرت أشلاؤهم هنا كان بمقدورهم فتح بلاد تمتدُّ من اليابان في الشرق إلى أوكرانيا في الغرب».

6- نظرته للغنائم:
حين كان شامل يشعر أن قوَّاته قاتلت من أجل الغنائم كان يُلْقِي الغنائم في بحيرة في الجبل، ويعتقد سكان قرية آندي أنه في مكان ما تحت مياه بركة جبلية في الجوار تُوجد صحون ذهبية، وأزرار، وأغماد سيوف ياقوتية، وأساور وخلاخل زمردية، وكاسات شراب مرجانية وكهرمانية كانت غنائم غارات قفقاسية أُلقيت إلى أسماك البركة؛ وذلك للمحافظة على وحدة الصفِّ.

مكافأة مقابل رأس شامل
حينما رصدت روسيا 45 ألف روبل للإيقاع بالإمام شامل، كتب شامل خطابًا إلى الجنرال الروسي على خط المواجهة، يقول فيه: «كم كانت سعادتي حين علمت أن رأسي تساوي هذا الثمن الضخم، ولكنك لن تكون سعيدًا حينما أُخبرك أنَّ رأسك بل رأس القيصر ذاته لا تُساوي لديَّ كوبيكًا واحدًا (الروبل يساوي 100 كوبيك)».

استراتيجية الجنرال بارياتنسكي
وقع الإمام شامل ضحية التسويات الدولية؛ ففي عام (1272هـ= 1856م) انتهت الحرب العثمانية الروسية؛ وهو ما سمح لروسيا بالتركيز بقوَّتها على الجبهة القوقازية بقوَّة 200 ألف رجل، وأوكلت المهمَّة إلى الجنرال الشاب أليكساندر إيفانوفيتش بارياتنسكي في وقت كان شامل قد تخطَّى من عمره الستين، وعكف بارياتنسكي طويلًا على دراسة الجغرافيا العسكرية لمعارك الإمام شامل، وخَلُص إلى أنَّ أهمَّ الانتصارات التي حَقَّقها شامل لم تكن في أرض مفتوحة؛ بل حينما كان يحتمي بالغابة والجبل، واختار سياسة أكثر حنكة عمَّنْ سبقوه، فتقرَّب إلى الأهالي، وأحسن معاملتهم، ومنع التعرُّض للنساء ولغير المقاتلين؛ فضمن عدم انقلابهم عليه في حربه الفاصلة مع الإمام.

ضغط الجنرال بارياتنسكي على قوات شامل حتى لجأ الأخير إلى الاحتماء بالغابات، وهنا سخَّر فرقة عسكرية بأكملها لقطع أشجار الغابات، وبعمل دءوب، وبجنود حملوا الفئوس بدلًا من السلاح أزال بارياتنسكي مساحات واسعة من غابات داغستان والشيشان، وذلك على طول الطرق بين القلاع والحصون الروسية، وفشل جيش شامل في مهاجمة القلاع الروسية، التي صارت أكثر حذرًا تحت أعين بارياتنسكي الساهرة، وبخطوات واثقة زحفت قوات بارياتنسكي على المناطق الخاضعة لشامل، واستمال الروس عشرات القبائل التي أنهكتها الحرب، وبدأت في لوم شامل على ما أصابهم من فقر وتشرُّد.

استسلام الإمام شامل
وبدأت العقلية العسكرية المُسِنَّة تقع في الخطأ القاتل؛ فركن شامل إلى توقُّع الهجوم الروسي من مصدر محدَّد في وقتٍ تمسَّك الروس فيه بسِرِّيَّة المعلومات، وحرَّكُوا جزءًا من جيشهم أوهم شامل أنهم ما زالوا في منتصف الطريق، بينما انقضُّوا عليه من اتجاه آخر بحرب خاطفة، وخدعوا الرجل الذي كان بارعًا في هذا النوع من الهجوم، وحدث ما كان متوَقَّعًا فقد أُسِرَ الإمام شامل، وتمَّ نقله في رحلة طويلة إلى موسكو في موكب بَدَا وكأَنَّه استعراض عسكري بالبطل الذي سقط أخيرًا، وطالب المحاربون القدامى على طول الطريق من ستافربول إلى موسكو بأن يتحدثوا إلى ذلك العدوِّ المهيب.

منصور أشورما .. شيخ مجاهدي الشيشان

هو المجاهد الشيشاني الشيخ منصور أشورما أو (أشورما) كما لَقَّبَهُ الروس، واسمه الحقيقي محمد، جاهد الروس طوال تسع سنوات، ثم أُسر وأُودع السجن في شليسبرغ، وهناك قُتل.

نشأة منصور أشورما
وُلِدَ منصور أشورما عام (1161هـ= 1748م) في قرية آلدي الواقعة بالقرب من نهر سنج ببلاد الشيشان، في موقع قريب من جروزني اليوم، وكان الابن الثاني في العائلة، وعمل في الصغر مهنة النبي –صلى الله عليه وسلم- فقد رعى الغنم في صغره.

أمَّا عن نشأته فقد اعتنى به والده منذ صغره؛ فحفظ القرآن في داغستان، وكان منتسبًا إلى الطريقة النقشبندية، وتلقَّى علومه الدينية في بخارى، فكان يحفظ القرآن الكريم كلَّه عن ظهر قلب، ويحفظ آلافًا من الأحاديث النبوية الشريفة، وصار له نفوذٌ وتأثيرٌ لا يُجَارى بين الشعوب الشركسية القوقازية المسلمة، وكان يُحَرِّض الناس جهارًا على الجهاد ضد الروس يدًا واحدة؛ مُبَيِّنًا لهم أهمية الاتِّحَادِ؛ ونجح أيما نجاح في إثارة الحقد على الروس.

جهاد منصور أشورما
في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي كانت الشيشان وداغستان والشركس وباقي الأراضي بين البحر الأسود وبحر قزوين تُداعب مخيلة القيصر الروسي إيفان الثالث، فاتَّفق مع قبائل الكوزاك الموالية للدولة الروسية الوليدة على الغزو التدريجي لأراضي المسلمين في إقليم القوقاز؛ وأدَّى الكوزاك المهمَّة بنجاح، فأقاموا أوَّل مخفر أماميٍّ على نهر التيريك، وصار هذا المخفر مدينة جروزني العاصمة الشيشانية فيما بعدُ، وخلال حكم إيفان الرابع أو إيفان الرهيب في منتصف القرن السادس عشر قام الكوزاك ببناء مجموعة من الحصون في شمال داغستان والشيشان؛ عاقدين تحالفات مع بعض شعوب الإقليم، ومع بداية القرن الثامن عشر كانت آلاف الأُسَر الكوزاكية قد تجمَّعت في الإقليم، وامتزجت مع القبائل المحلية، وتزاوجوا منهم، وإن احتفظوا بالمسيحية دينًا وبالروسية لغة.

شرع الإمام منصور أشورما بعد عودته إلى وطنه من داغستان، وبعد أن تلقَّى العلوم الشرعية، وبعد أن أتمَّ حفظ القرآن في تنبيه الناس إلى الخطر المحدق بهم؛ وهو تَوَسُّع الروس في البلاد القوقازية، فكان يدعو إلى الجهاد والنضال من أجل توحيد القوقاز، وكان على اتصال بالعثمانيين، الذين كانوا يحثُّونه على بذل أقصى ما يُمكن من جهد لإثارة النقمة على الروس، فدأب الشيخ منصور على التجوال في مختلف أنحاء القوقاز ليخطب في الناس، ويعظهم بترك أمور الدنيا، والتعلُّق بأهداب الفضيلة، وكان زاهدًا متقشِّفًا.

وفي عام (1199هـ= 1785م) نادى بالجهاد ضدَّ الروس، واستثار الحمية الإسلامية في نفوس القوقازيين، وكان ذلك بداية حرب جديدة، لم يألفها الروس من قبل؛ وهي حرب الجهاد المقدس، وسرعان ما تجاوبت مع الشيخ منصور شعوب داغستان، والقبارطاي، والنوغاي، بالإضافة إلى الشيشان، وتجمَّع لديه جيش ضخم، استطاع أن يُلْحِقَ بالروس هزائم متكرِّرَة في شمالي القوقاز.

ورغم أن كاترين الإمبراطورة الروسية (1729- 1796م) لم تكترث في بادئ الأمر بالشيخ منصور وحركته في بلاد الشيشان، فإن هزيمة الكولونيل بيري جذبت اهتمام كاترين لهذا الخطر، الذي ظهر فجأة في شمال القوقاز، وتمكَّن الشيشان وحلفاؤهم الداغستان من قتل الكولونيل بيري ومعه سبعة ضباط آخرين إضافة إلى ستمائة جندي، وغنموا الأسلحة التي كانت بحوزتهم، ومن ضمنها اثنا عشر مدفعًا.

وبعد توالى انتصارات الشيخ منصور في بلاد الشيشان والداغستان ازداد تعلُّق الشراكس بالشيخ، وتدافعوا للانضمام إلى حركته وجهاده، واستطاع شعب القبارطاي الشركسي الانفصال مؤقَّتًا عن الروس، ثم حاول الشيخ منصور الاستيلاء على حصن قيزيل يار، وعندها أرسلت كاترين جيشًا ضخمًا، بقيادة الكولونيل ناجل، استطاع أن يهزم الشيخ في معركة تتار توب في 30 أكتوبر (1785م= 1199هـ) على نهر التيريك، إلَّا أنها كانت هزيمة مؤقَّتة؛ لأن الشيخ منصور انسحب من المعركة عندما شعر بأنه سيخسرها نتيجة التفوُّق العددي الروسي، وعاد إلى بلاده الشيشان، ولم يُحاول الروس اللحاق به داخل بلاده، واقتصر نشاطه بعدها على غارات مُباغتة وسريعة على القلاع الروسية في القبارطاي.

وعندما بدأت بوادر الحرب تلوح بين الروس والعثمانيين عام (1787م =1201هـ)، استنجد الأتراك بالشيخ منصور فلبَّى النداء، وظهر فجأة بين الشراكسة في الغرب، الذين التفُّوا حوله وقاموا بمهاجمة القوات الروسية من الخلف، وفي الذكرى السنوية لمعركة تتار توب هاجم الشيخ ومعه الشراكسة ثلاثة أفواج من فوازق الدون وأبادوهم، وفي سبتمبر عام (1787م= 1201هـ) هاجم الروس قلعة أنابا على ساحل البحر الأسود، فقام الشيخ منصور بالهجوم على الروس من الخلف في منطقة أوبون، وقتل ثلاثة آلاف جندي روسي في هذه المعركة، وعلى إثر هذه الهزيمة عُزل الجنرال توكالي، وَحَلَّ محله بيبكوف، وأيقن الروس أن احتلال أنابا لن يتمَّ إلَّا بهزيمة الشيخ منصور أوَّلًا.

وكان الأتراك قد أرسلوا حسين باشا (بطال باشا) للدفاع عن أنابا، وكان على رأس جيش قوامه ثلاثون ألف رجل مزوَّدين بالمدافع والذخيرة والمؤن، وفور وصوله إلى أنابا قام بطال باشا بمعاملة الشيخ منصور ومتطوِّعيه من الشيشان والشراكسة بجفاء وعجرفة عندما قَدِمُوا للترحيب به، ونتيجة لهذه المعاملة غير اللائقة غادر الشيخ منصور ومتطوِّعوه أنابا بعد أن أرسلوا شكوى إلى السلطان العثماني ضدَّ تصرُّفات بطال باشا، وخوفًا من العقوبة.

ونتيجة لإلحاح السلطان العثماني والشراكسة، عاد الشيخ منصور إلى أنابا للدفاع عنها، وفشل الجنرال بيبكوف في احتلال أنابا، وتمَّ استبداله بالجنرال بيلمان، وبتنسيق مع الأتراك خرج الشيخ منصور من حصن أنابا ومعه مقاتلوه لمهاجمة قوات الجنرال جيرمانيين أحد مساعدي بيلمان، وجرت معركة كوبيروسكوي، والتي اضطر الشيخ إلى الانسحاب منها؛ لأن القوات العثمانية لم تُرْسِل التعزيزات التي كان قد اتُّفِقَ على إرسالها أثناء المعركة، ولكن عاد الشيخ منصور ثانية إلى أرض المعركة، واضطر الجنرال جيرمانيين إلى الانسحاب، وبعد مسلسل الفشل الروسي في احتلال أنابا قامت الإدارة الروسية بتعيين الجنرال غوردوفيتش لقتال العثمانيين والشيخ منصور، وأرسلت له تعزيزات كثيرة من السلاح والجنود، وبعد وصولها قام غوردوفيتش بالهجوم على أنابا في 21 يونيو (1791م= 1205هـ)، وتمكَّنَت القوات الروسية من دخولها بعد أن فاوض قائد الأتراك الروسَ، وترك أنابا مع أتباعه -ومعه جميع الأموال التي أرسلها الخليفة لدعم الدفاع عن المدينة- وانضمَّ إلى الروس، ولكن المدينة صمدت، وبعد دفاعِ أسبوعين قبلوا الاستسلام بالرغم من احتجاج الشيخ منصور ومتطوِّعيه وحثِّهم القائد العثماني الجديد على المقاومة لآخر رجل.

وفاة منصور أشورما
خلال المعارك الدائرة بينه وبين الروس سقط الشيخ منصور جريحًا، فأسره الروس، ونقلوه إلى الإمبراطورة كاترينا، التي رغبت في رؤية هذا الشيشاني، الذي كان مصدر إزعاج دائم لها منذ عام (1199هـ= 1785م)، ثم أُودع السجن في شليسبرغ، وهناك قُتل، بعد أن قتل الجندي المسئول عن حراسته، وبذلك سقط الشيخ منصور الشيشاني شهيدًا في (رمضان 1208 هـ= 13 أبريل 1794م) بعد تسع سنوات من الجهاد المتواصل.

لقي الإمام الشهيد منصور أشورما ربَّه شهيدًا بعد حياة حافلة بالعلم والجهاد، وبعد أن دفع الناس إلى الجهاد في سبيل الله تسع سنوات كاملة؛ أوقع في الروس الكثير من النكبات.

يوسف بن تاشفين .. أمير المسلمين

هو يوسف بن تاشفين بن إبراهيم بن وارتقطين، وكنيته أبو يعقوب، وهو ثاني ملوك دولة المرابطين، اتَّخذ لقب أمير المسلمين، وهو أعظم ملك مسلم في وقته، أسس أول إمبراطورية في الغرب الإسلامي من حدود تونس إلى غانا جنوبًا والأندلس شمالًا، أنقذ الأندلس من ضياع مُحَقَّق، وهو بطل معركة الزَّلَّاقَة وقائدها، كما وَحَّد وضمَّ كلَّ ملوك الطوائف في الأندلس إلى دولته بالمغرب.

نشأة يوسف بن تاشفين
ينتمي يوسف بن تاشفين إلى قبيلة لمتونة؛ وهي إحدى قبائل صنهاجة الموجودة بجبل لمتونة المشهور باسم أدرار بموريتانيا، وُلِدَ على الأرجح بصحراء موريتانيا، ونشأ في موريتانيا نشأة إيمانية جهادية، وأصله من قبائل «صنهاجة اللثام» البربرية.

عُرف يوسف بن تاشفين بالتقشُّف والزهد رغم اتساع إمبراطوريته، وقد كان شجاعًا وأسدًا جسورًا، قال الذهبي عنه في سير أعلام النبلاء: «كان ابن تاشفين كثير العفو، مقرِّبًا للعلماء، وكان أسمر نحيفًا، خفيف اللحية، دقيق الصوت، سائسًا، حازمًا، يخطب لخليفة العراق» (1).
ووصفه ابن الأثير في الكامل بقوله: «كان حليمًا كريمًا، ديِّنًا خيرًا، يُحِبُّ أهل العلم والدين، ويُحَكِّمهم في بلاده، وكان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام» (2).

يوسف بن تاشفين وقيام دولة المرابطين في المغرب
لقد كانت شخصية يوسف بن تاشفين شخصية إسلامية متميزة؛ استجمعت من خصائل الخير وجوامع الفضيلة ما ندر أن يوجد مثلها في شخص مثله، فيوسف بن تاشفين أبو يعقوب لا يقلُّ عظمة عن يوسف بن أيوب الملقَّب بـ صلاح الدين الأيوبي، وإذا كان الأخير قد ذاع صيته في المشرق الإسلامي وهو يُقارع الصليبيين ويُوَحِّد المسلمين، فإن الأول قد انتشر أمره في المغرب الإسلامي وهو يُقارع الإسبان والمارقين من الدين وملوك الطوائف، ويُوَحِّد المسلمين في زمنٍ كان المسلمون فيه أحوج ما يكونون إلى أمثاله.

كانت الظروف السياسية السائدة في زمنه غاية في التعقيد، وغلب عليها تعدُّد الولاءات وانقسام العالم الإسلامي، وسيطرة قوى متناقضة على شعوبه؛ ففي بغداد كانت الخلافة العباسية من الضعف بمكان بحيث لا تُسيطر على معظم ولاياتها، وفي مصر ساد الحكم الفاطمي، وفي بلاد الشام بدأت بواكير الحملات الصليبية بالنزول في سواحل الشام، وفي الأندلس استعرت الخصومة والخيانة، وعمَّ الفساد بين ملوك طوائفها، وأمَّا في بلاد المغرب الإسلامي -حيث نشأ وترعرع- فكانت هناك قبائل مارقة من الدين تُسيطر على الشمال المغربي، وتُحَصِّن مواقعها في المدن الساحلية كسبتة وطنجة ومليلة؛ وهي من آثار الدولة الفاطمية التي تركت آثارًا عقيدية منحرفة؛ تمثَّلت في جزء منها بإمارة تُسَمَّى الإمارة البرغواطية؛ سيطرت على شمال المغرب، وبنت أسطولًا قويًّا لها، وحَصَّنت قوَّاتها البحرية المطلَّة على مضيق جبل طارق.

وفي عام (445هـ= 1053م) أسَّس عبد اللـه بن ياسين حركة المرابطية (الرباط في سبيل الله)، وبعد عشر سنوات تَسَلَّم قيادة الحركة يوسف بن تاشفين، فبدأ بتعمير البلاد، وحَكَمَهَا بالعدل، وكان يختار رجالًا من أهل الفقه والقضاء لتطبيق شريعة الإسلام على الناس، واهتمَّ ببناء المساجد باعتبارها مراكز دعوة وانطلاق وتوحيد للمسلمين تحت إمارته، ثم بدأ يتوسَّع شرقًا وجنوبًا وشمالًا؛ فكانت المواجهة بينه وبين الإمارة البرغواطية الضالَّة أمرًا لا مفرَّ منه؛ استعان ابن تاشفين في البداية بالمعتمد بن عباد -وهو أحد أمراء الأندلس الصالحين- لمحاربة البرغواطيين؛ فأمدَّه المعتمد بقوَّة بحرية ساعدته في القضاء على الإمارة الضالَّة، وهكذا استطاع أن يُوَحِّد كل المغرب حتى مدينة الجزائر شرقًا، وغانا جنوبًا، وكان ذلك عام (476هـ= 1083م).

جهاد يوسف بن تاشفين في الأندلس
بعد أن قوي أمر يوسف بن تاشفين واستقرَّت دولته وتوسَّعت، لجأ إليه مسلمو الأندلس طالبين الغوث والنجدة؛ حيث كانت أحوال الأندلس تسوء يومًا بعد يوم، فـ ملوك الطوائف لَقَّبُوا أنفسهم بالخلفاء، وخطبوا لأنفسهم على المنابر، وضربوا النقود بأسمائهم، وصار كل واحدٍ منهم يسعى إلى الاستيلاء على ممتلكات صاحبه، لا يضرُّه الاستعانة بالإسبان النصارى أعداء المسلمين لتحقيق أهدافه، واستنابوا الفُسَّاق، واستنجدوا بالنصارى، وتنازلوا لهم عن مداخل البلاد ومخارجها، وأدرك النصارى حقيقة ضعفهم فطلبوا منهم المزيد.

ولقد استجاب ابن تاشفين لطلب المسلمين المستضعفين، وفي ذلك يقول الفقيه ابن العربي: «فلبَّاهم أمير المسلمين ومنحه اللـه النصر، وألجم الكفار السيف، واستولى على مَنْ قدر عليه من الرؤساء من البلاد والمعاقل، وبقيت طائفة من رؤساء الثغر الشرقي للأندلس تحالفوا مع النصارى، فدعاهم أمير المسلمين إلى الجهاد والدخول في بيعة الجمهور، فقالوا: لا جهاد إلَّا مع إمام من قريش ولستَ به، أو مع نائبه وما أنت ذلك. فقال: أنا خادم الإمام العباسي. فقالوا له: أظهر لنا تقديمه إليك. فقال: أَوَلَيْست الخطبة في جميع بلادي له؟ فقالوا: ذلك احتيال. ومردوا على النفاق».

وليكون ابن تاشفين أميرًا شرعيًّا أرسل إلى الخليفة العباسي يطلب منه توليته، ويقول السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء: «وفي سنة تسع وسبعين أرسل يوسف بن تاشفين صاحب سَبْتَة ومَرَّاكُش إلى المقتدي يطلب أن يُسَلْطِنَهُ، وأن يُقَلِّده ما بيده من البلاد، فبعث إليه الـخِلَعَ والأَعلام والتقليدَ، ولَقَّبه بأمير المسلمين؛ ففرح بذلك وسُرَّ به فقهاء المغرب (3).

وبعد أن زاد ضغط النصارى الإسبان القادمين من الشمال استنجد بابن تاشفين المعتمدُ بن عَبَّاد؛ ودخل ابن تاشفين الأندلس وقاد الجيوش الإسلامية، وقاتل النصارى قتالاً شديدًا، وكانت موقعة الزلاقة عام (479هـ=1086م) من أكبر المعارك التي انتصر فيها المسلمون انتصارًا كبيرًا على الإسبان، وهُزم ملكهم ألفونسو السادس هزيمة منكرة، وقد قضت هذه المعركة على آمال الإسبان الصليبيين في احتلال الأندلس بعد أن استولوا على طُلَيْطلَة، وقد وقعت المعركة في سهلٍ في الجزء الجنوبي لبلاد الأندلس، يقال له: الزلاقة. يقال: إنَّ السهل سُمِّيَ بذلك نسبة لكثرة انزلاق المتحاربين على أرض المعركة؛ بسبب كمية الدماء التي أُريقت في ذلك اليوم وملأت أرض المعركة، وتُسَمَّى لدى المؤرخين الغربيين بالاسم العربي نفسه.

كان لمعركة الزلاقة تأثيرٌ كبيرٌ في تاريخ الأندلس الإسلامي؛ إذ إنها أوقفت زحف الصليبيين المطرد في أراضي ملوك الطوائف الإسلامية، وقد أَخَّرت سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس لمدَّة تزيد عن قرنين ونصف.

دولة يوسف بن تاشفين في المغرب والأندلس
ولقد تَبَيَّن ليوسف بن تاشفين بعد ذلك أن ملوك الطوائف هؤلاء ليسوا أهلًا للبقاء في مراكز السلطة في الأندلس، وجاءته النداءات والفتاوى من العلماء كالغزالي بوجوب الاستيلاء على الأندلس؛ فاستولى على الأندلس، وأعاد إليها وَحْدَتَهَا، وطرد هؤلاء الطائفيين الذين كانوا يخشون قدومه، ويُفَضِّل بعضهم النصارى عليه‏،‏ وبذلك انتهى عهد ملوك الطوائف في الأندلس، ووَحَّد يوسف الأندلس مع المغرب في ولاية واحدة؛ لتُصْبِحَ أكبر ولاية إسلامية في دولة الخلافة.

أمير المسلمين يوسف بن تاشفين
ولمَّا كبرت مملكة يوسف بن تاشفين واتسعت عمالته، اجتمع إليه أشياع قبيلته، وأعيان دولته، وقالوا له: «أنت خليفة الله في أرضه، وحقُّكَ أكبر من أن تدعى بالأمير، بل ندعوك بأمير المؤمنين». فقال لهم: «حاشا لله أن نتسمَّى بهذا الاسم، إنما يتسمَّى به خلفاء بني العباس؛ لكونهم من تلك السلالة الكريمة، ولأنهم ملوك الحرمين مكة والمدينة، وأنا راجلهم والقائم بدعوتهم». فقالوا له: «لا بُدَّ من اسم تمتاز به». فأجاب إلى «أمير المسلمين وناصر الدين»، وخطب لهم بذلك في المنابر، وخوطب به من العُدْوَتَيْن (أي المغرب والأندلس).

ومن علامات التقوى والتمسُّك بأهداب الدين تمسَّك الأمراء والحكام بالنقد الشرعي، وفي ذلك يقول ابن الخطيب في كتابه الإحاطة: «كان درهمه فضَّةً، وديناره تبرًا محضًا، في إحدى صفحتيه «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وتحت ذلك «أمير المسلمين يوسف بن تاشفين»، وفي الدائر: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وفي الصفحة الأخرى «الإمام عبد الله أمير المؤمنين»، وفي الدائرة: تاريخ ضربه وموضع سكِّه». وعبد الله اصطلاحًا هو كنية يصلح لاسم كل خليفة عباسي.

واتخذ يوسف السواد شعارًا للمرابطين، وهو شعار الدولة العباسية نفسه، ورَفْعُ شعارِ السواد يدلُّ على التمسُّك بالسُّنَّة، والتمسُّك بالوَحْدَة، وعدم شقِّ جماعة المسلمين، إضافة إلى أن راية رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كانت سوداء.

لقد ذاع صيتُ يوسف بن بن تاشفين بين العلماء والقضاة بشكل خاصٍّ، وبين الناس بشكل عامٍّ؛ فتناقلوا أخباره وصفاته، وتواتر عنهم نقلُ صفات الجهاد والعدل والزهد والإخلاص والتمسُّك بالإسلام وبدولة المسلمين الشرعية؛ حتى أثنى عليه معظم العلماء والفقهاء.

وفاة يوسف بن تاشفين
تُوُفِّيَ يوسف بن تاشفين في شهر المحرم عام (500هـ= 1107م) عن عمر يقارب المائة عام، لقد كان يوسف بن تاشفين واحدًا من عظماء المسلمين المغاربة، الذين جدَّدُوا للأُمَّةِ أمر دينها ولم يأخذ حقَّه من الاهتمام التاريخي إلَّا قليلًا.

1- الذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/253.
2- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 8/531.
3- السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص302.
عثمان بن فودي


السلطان سليمان القانوني
هو عثمان دان فوديو أو عثمان بن فودي مجاهد إفريقي، دعا القبائل الإفريقية إلى محاربة البدع والوثنية، وهو مُؤَسِّس وسلطان خلافة سوكوتو.

الإسلام يغزو إفريقيا
تُعتبر إفريقيا أول منطقة في العالم وصلها الإسلام بعد مكة مهبط الوحي، وذلك في العام الخامس من النبوة، عندما هاجر الصحابة الأوَّلُون فارِّين بدينهم إلى الحبشة، ثم دخلوا الشمال الإفريقي كله؛ وذلك من مصر إلى المغرب الأقصى في القرن الهجري الأول، وقد وصل فاتح المغرب الأعظم عقبة بن نافع إلى أطراف الصحراء الكبرى، وقد عمل ولاة بلاد المغرب من تونس إلى المحيط على نشر الإسلام في القبائل البربرية الموغلة في الصحراء.

ويرجع الفضل في نشر الإسلام في قلب وغرب إفريقيا إلى دولة المرابطين العظيمة، وخاصة الأمير الشهيد أبي بكر بن عمر؛ الذي كان أمير المرابطين الأول، ثم ترك الإمارة لـ يوسف بن تاشفين، وتخلَّى عن الزعامة وتفرَّغ لنشر الإسلام بين الأفارقة، وظلَّ يُحارب القبائل الوثنية وينشر الإسلام بينهم حتى استُشهد سنة (480هـ= 1087م)، وقد وصل بالإسلام إلى خطِّ الاستواء؛ أي على أبواب إفريقيا الاستوائية، عند منطقة الغابات الكثيفة، وهو بذلك قد قام بخدمة عظيمة للإسلام، لا تقلُّ عما فعله يوسف بن تاشفين في المغرب والأندلس.

مأساة الممالك الإسلامية
أخذ الإسلام في الانتشار في قلب القارة الإفريقية شيئًا فشيئًا؛ بالتجارة تارة، وبالجهاد تارة، والدعاة المرابطين تارة، وبالتدريج تحوَّلت القبائل الوثنية إلى الإسلام، وقامت ممالك إسلامية في غاية القوَّة والاتساع مثل مملكة «غانا»، ومملكة «مالي» الضخمة؛ وكانت تشمل «تشاد ومالي والنيجر والسنغال»، وكانت هذه المملكة من أقوى وأعرق الممالك الإسلامية في إفريقيا، ومملكة «الصنغاي»، وغيرها من الممالك القوية، التي دفعت بالإسلام إلى الداخل الإفريقي.

ولكن -وللأسف- الشديد أصاب المسلمين هناك ما أصاب إخوانهم في الشمال وفي كل مكان؛ إذ دبَّ بينهم التفرُّق والخلاف، واقتتلوا فيما بينهم، وصارت الممالك تتقاتل فيما بينها، بدوافع قبلية ودنيوية محضة، فاقتتلت مملكة «السنغاي» مع مملكة «مالي» حتى دمَّرتها، ثم قامت مملكة المغرب أيام حُكْم المنصور السعدي بتدمير مملكة «الصنغاي»، وانهارت مملكة «غانا» بالاقتتال الداخلي؛ وهكذا أكلت هذه الممالك الإسلامية بعضها بعضًا، في الوقت نفسه الذي كان فيه أهل الكفر من الغرب والشرق يجمعون صفوفهم ويُوَحِّدُون راياتهم؛ استعدادًا للانقضاض على العالم الإسلامي.

قبائل الفولاني ونهضة الإسلام
وعلى الرغم من انهيار الممالك الإسلامية الكبيرة، فإنَّ القبائل المسلمة قامت بدورها في نشر الإسلام، واستكمال الدور الدعوي الذي كانت تقوم به الممالك، وربما بصورة أفضل؛ ومن أشهر القبائل المسلمة:
1. قبائل الماندينج؛ وتنتشر في مالي والسنغال وجامبيا وغينيا وسيراليون وساحل العاج.
2. قبائل الولوف والتوكلور في السنغال ومالي.
3. قبائل الهاوسا في النيجر وشمالي نيجيريا وبنين وتوجو.
4. الكانوري في شمال شرق نيجيريا والكاميرون.
ولكنَّ أعظم وأشهر القبائل الإفريقية وأشدَّها تحمُّسًا لنشر الإسلام وتمسُّكًا به هي قبائل الفولاني؛ وهي التي تحمَّلت مسئولية إعادة نهضة الإسلام، وإقامة الممالك الإسلامية من جديد.

دخل الفولانيون الإسلام على أيدي المرابطين في القرن الخامس الهجري، فتحمَّسُوا له واستعلوا به، وكانوا في الأصل من الرعاة الذين يتحرَّكون باستمرار سعيًا وراء الماء والكلأ، وكان موطنهم الأصلي حوض السنغال، ولكنهم انتشروا في قلب إفريقيا من السنغال إلى تشاد إلى قلب وغرب إفريقيا في 4 هجرات شهيرة؛ تفرَّعت خلالها هذه القبيلة الضخمة إلى عدَّة فروع، ولكنَّ أهمَّ هذه الفروع وأكثرَها أثرًا في نشر الدعوة الإسلامية وعودة النهضة الإسلامية إلى القلب الإفريقي هي هجرة الفولانيين إلى نيجيريا، وفي هذا الفرع ظهر صاحبنا، الذي أعاد المجد والعزَّة للإسلام بقلب إفريقيا وهو الأمير الفولاني عثمان دان فوديو.

نشأة عثمان دان فوديو
وُلِدَ عثمان في بلدة «طفل» على أطراف إقليم جوبير شمال نيجيريا الآن في سنة (1168هـ= 1754م)، وكلمة فودي تعني الفقيه، واسمه الأصلي محمد؛ فلقد كان والده مُعَلِّمَ القرآن والحديث في قريته، وينتسب عثمان إلى قبيلة الفولاني العريقة في الإسلام، درس اللغة العربية وقرأ القرآن وحفظ متون الأحاديث.

كان لهذه التربية والجوِّ الإيماني الذي نشأ فيه عثمان أثرٌ بالغ في تكوين شخصيَّته وتوجُّهاته، فقد كان مجتنِّبًا لما اعتاد عليه قومه من أساليب في الحياة بما فيها من بدع وخرافات، شديد الكره والعداء للقبائل الوثنية في إقليم جوبير الذي وُلِدَ فيه؛ لذلك قرَّر عثمان مرافقة أبيه في رحلته الطويلة إلى الحجِّ؛ وذلك وهو في سنِّ الشباب، أمَّا أهمّ أساتذته على الإطلاق فقد كان الشيخ جبريل؛ الذي قام بواجبه تجاه تلميذه مرَّتين: الأولى عندما قَدَّم لعثمان علومًا مفيدة ساهمت في تكوين شخصيَّته العلمية والسياسية، والثانية عندما كان أول مَنْ بايعه على الجهاد في سبيل نشر الإسلام في تلك المنطقة، واعترف له بالولاية وعقد له الراية. وفي المقابل لم يكن عثمان أقلَّ سموًّا من مُعَلِّمه؛ فقد كان يُرَدِّد بشكل دائم هذا البيت من الشعر: «عثمان دان فوديو إن قيل فيَّ بحسن الظنِّ ما قيلَ فموجة أنا من أمواج جبريلا».

عثمان بن فوديو .. نقطة التحول
لقد كان ذهاب عثمان بن فودي لأداء مناسك الحجِّ مع أبيه، نقطة تحوُّل كبرى في حياة البطل الهُمام؛ ذلك أنه قَدِم مكَّة المكرَّمة والدعوة السلفية للشيخ محمد بن عبد الوهاب في أَوْجِ قوَّتها وانتشارها؛ حيث كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما زال حيًّا، يُعَلِّم الناس التوحيد الخالص، ويُحارب البدع، ويرُدُّ على المبتدعة وأصحاب الأهواء، فلمَّا وصل عثمان بن فودي هناك التقى مع المشايخ والدعاة السلفيين، وسمع منهم الدعوة السلفية وأسلوب الحركة وكيف قامت؟ وكيف انطلقت من منطقة «الدرعية» لتشمل الجزيرة كلها؟ وحضر مجالس العلم للشيخ محمد بن عبد الوهاب.

قرَّر عثمان بن فودي البقاء لفترة بمكَّة للاستزادة من الدعوة السلفية وعلومها ومناهجها؛ وتأثَّر بها بشدَّة؛ ذلك لأن بلاده كانت مليئة بالبدع والخرافات، امتزج فيها الإسلام بالعادات الوثنية، وكانت العادات القبلية تحكم حياة المسلمين، بل هو نفسه كان يتديَّن بكثير من البدع والأوراد غير الصحيحة، والسبب في ذلك أن الإسلام انتشر في هذه المناطق بنشاط دعاة الطرق الصوفية، وأصبح معنى التديُّن مرادفًا لمعنى التصوُّف؛ لذلك قرَّر عثمان المكوث لتصحيح مسار حياته وعباداته.

لذلك نستطيع أن نقول: إن ذهاب عثمان بن فودي إلى الحجِّ، والتقاءه مع دعاة وعلماء الحركة السلفية، وتلقِّيَه لمبادئ وأسلوب هذه الحركة نقطةُ تحوُّل كبرى في حياة هذا الرجل، ولعلَّ هذا من رحمة الله –عز وجل- بالأُمَّة المسلمة بإفريقيا، ونصرة عظيمة للإسلام والمسلمين لما سيقوم به هذا الرجل من جهود كبيرة لخدمة الدين والأُمَّة في إفريقيا.

عثمان بن فودي .. جهاد الدعوة
عاد عثمان بن فودي إلى بلاده في إقليم جوبير في شمال نيجيريا، وفي نيَّتِه نشر الدعوة في بلاده، فأخذ في دعوة أهله وإخوانه إلى محاربة البدع والوثنية، فاستجاب لدعوته كثيرٌ من أبناء بلدته «طفل»، فأسَّس حركة دعويَّة، وأطلق عليها اسم الجماعة.

أخذت دعوته وحركتها المسماة بالجماعة تنتشر بين القبائل الإفريقية، ودخل فيها أفراد من عدَّة إمارات، ومن شعوب عدَّة منها الهاوسا، والطوارق، والكانوري والزنوج، إضافة إلى قبيلته الأصلية الفولاني؛ التي كانت أكثر القبائل انضمامًا لدعوته وحركته، ثم حقَّقت دعوة عثمان بن فودي نجاحًا كبيرًا في نشر الإسلام بين القبائل الوثنية المنتشرة في شمال وجنوب نيجيريا، ويومًا بعد يوم ازدادت جماعته قوَّة واتساعًا.

المواجهة
ضاق ملوك إقليم جوبير -وكانوا من الوثنيين- بنشاط جماعة عثمان بن فودي، وقرَّرُوا اتِّبَاع أسلوب المواجهة المسلَّحة، وأرسل هؤلاء الأمراء يتهدَّدُون الجماعة السلفية، ويتوعَّدُون زعيمها عثمان بن فودي بأشدّ أنواع الوعيد والتهديد، فعندها اجتمع المجاهد العظيم مع رفاقه، واستشارهم في كيفية مواجهة هذه التهديدات، فأشار الجميع وهو أولهم بوجوب إعلان الجهاد؛ وذلك سنة (1218هـ= 1804م)، وبمجرَّد أن أعلن الجهاد على الوثنيين حتى أتاه الكثير من المسلمين من شمال نيجيريا يبغون نصرته، وفي الوقت نفسه جاءت مساعدات كبيرة لأمراء جوبير من باقي إمارات الهاوسا غرب نيجيريا، وانتصرت الدعوة السلفية على الجماعات الوثنية، وأصبح عثمان بن فودي أميرًا على المنطقة الواقعة في شمال غرب نيجيريا، وبايعه المسلمون هناك أميرًا عليهم، وتلقَّب من يومها بالشيخ، واتخذ من مدينة سوكوتو في أقصى الطرف الشمالي الغربي لنيجيريا مركزًا لدعوته؛ وذلك سنة (1223هـ= 1809م).

فتوحات عثمان بن فودي
لم يكن عثمان بن فودي من الرجال الذين يبحثون عن زعامة أو إمارة، وبمجرَّد حصوله عليها يكفُّ عن سعيه وجهاده، ويجلس للتنعُّم بما حازه وناله؛ بل كان يبغي نصرة الإسلام ونشره بين القبائل الوثنية، يبغي الدعوة لهذا الدين في شتَّى أرجاء القارة السوداء.

لذلك قرَّر عثمان بن فودي العمل على إعادة بناء الدولة الإسلامية من جديد، وتوسيع رقعة الإسلام بالجهاد ضدَّ القبائل الوثنية؛ التي اجتمعت على حرب الإسلام ودعوته الجديدة.
قرَّر عثمان بن فودي اتباع استراتيجية الجهاد على عدَّة محاور وضمّ الشعوب الإسلامية تحت رايته؛ فضمَّ إليه عدَّة شعوب وقبائل مسلمة كانت متناثرة ومختلفة فيما بينها، وبدأ بالتوسُّع في ناحيتي الغرب والجنوب الغربي؛ حيث قبائل «اليورومبا» الكبيرة، والتي هي أصل الشعوب الساكنة في النيجر ونيجيريا، فدانت له هذه القبائل ودخلت في دعوته، وأخذت الدولة الإسلامية في الاتساع شيئًا فشيئًا؛ حتى أصبحت أقوى مملكة إسلامية في إفريقيا وقتها.

عثمان بن فودي وسياسة بناء الكوادر
لقد كان عثمان بن فودي رجل دولة من الطراز الأول، وداعية مجاهدًا مخلصًا لدينه ولأُمَّته، ولقد أدرك أن بقاء الدعوة السلفية والدولة الإسلامية التي بناها في غرب إفريقيا لن يصمد طويلًا، إذا لم تتحرك هذه الدعوة وتنتشر مبادئ السلفية بين الناس، وأيضًا إذا لم تتَّسع وتتمدَّد دولته الإسلامية التي بناها بجهاده سنين طويلة.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف السامي اتَّبع عثمان بن فودي سياسة حكيمة تقوم على بناء الكوادر؛ التي تُواصل حمل الراية ونشر الدعوة، وكان لعثمان بن فودي عين فاحصة تستطيع انتقاء النجباء والأبطال وحملة الدعوة؛ خاصَّة وأن فتوحاته التي قام بها في غرب نيجيريا قد حرَّكت الحماسة والحمية للإسلام في قلوب الكثيرين، ومن هؤلاء الكثيرين انتقى عثمان بن فودي ثلاثة نفر كان لهم أعظم الأثر والدور الكبير في خدمة الإسلام والمسلمين:
أولهم الشيخ آدم، وهو شيخ من أهل العلم من أهل الكاميرون، الذي حرَّكت فتوحات عثمان بن فودي حُبَّ الجهاد في قلبه، وبدأ يدعو الناس إليه وإلى نشر الإسلام في القبائل الوثنية، فلمَّا وصلت أخباره إلى الأمير عثمان بن فودي أرسل يستدعيه من الكاميرون سنة (1226هـ= 1811م)، فلمَّا حضر جلس معه وكلَّمه عن مبادئ الحركة وعقيدة السلف، وأقنعه بوجوب الجهاد في سبيل الله لنشر الإسلام في قلب القارة الإفريقية، فلمَّا انشرح صدر الشيخ آدم للفكرة، أعطاه عثمان رايته البيضاء؛ وهي رايته في الجهاد، وكلَّفه بمواصلة الجهاد حتى ينشر الإسلام فيما يلي نهر البنوى جنوبًا؛ وهو فرع كبير من فروع نهر النيجر العظيم، فقام الشيخ آدم بالمهمَّة على أكمل وجه، حتى أدخل بلاد الكاميرون كلها في الإسلام، وكافأه الأمير عثمان بن فودي بأن جعله أميرًا على الكاميرون، وظلَّت الإمارة فيهم حتى احتلال الإنجليز للكاميرون سنة (1319هـ= 1901م).

أمَّا الرجل الثاني فكان أحدَ جنود عثمان بن فودي واسمه حمادو بارى، وقد اشترك في معركة الجهاد الأول ضد أمراء «جوبير» الوثنيين، وبتواصل الجهاد بانت نجابته وظهرت شجاعته وإخلاصه لنشر الدين، فكلَّفه عثمان بفتح بلاد الماسنيا الواقعة في مالي الآن، ونجح حمادو في مهمَّته خير نجاح، فكافأه عثمان بأن أعطاه لقب الشيخ، وجعله أميرًا على منطقة الماسنيا، وأمره بمواصلة الجهاد لنشر الإسلام، ولقد أثبت الأمير حمادو أنه من أنجب وأفضل تلاميذ الإمام عثمان بن فودي؛ فلقد نَظَّم دولته على نسق دولة الخلافة الراشدة؛ حيث قَسَّمها إلى عدَّة ولايات، وأقام على كل ولاية واليًا وقاضيًا ومجلسًا للحُكْم، كهيئة استشارية للحكم الإسلامي على الكتاب والسُّنَّة، وعَمر البلاد فازدهرت دولته بقوَّة، ووصلت إلى بوركينافاسو وسيراليون وغينيا بيساو.

أمَّا الرجل الثالث فكان الحاج عمر، وأصله من قبائل الفولاني عشيرة عثمان بن فودي، وُلِدَ سنة (1212هـ= 1797م)؛ أي إنه كان في أوائل شبابه، والإمام عثمان بن فودي في أواخر حياته، ولكن هذا الشابَّ قُدِّرَ له أن يجتمع مع الإمام؛ وذلك أن الحاج عمر كان محبًّا للدعوة والجهاد، فلمَّا اشتدَّ عودُه قرَّر الرحيل إلى بلد الإمام عثمان ليراه ويسمع منه، وبالفعل ذهب إليه ورآه الإمام عثمان؛ فتفرَّس فيه النجابة والفطنة والشجاعة، فنصحه بأن يذهب إلى حمادو ويلتحق بخدمته، لعلَّه أن يكون خليفة حمادو بعد رحيله في قيادة المملكة الإسلامية هناك، وبالفعل نجح الحاج عمر في أن يلتحق بخدمة حمادو ويخلفه بعد رحيله، وقاد القبائل الإسلامية قيادة عظيمة، وكان جيشه يُقَدَّر بأربعين ألف مقاتل، وحارب الوثنيين والفرنسيين على حدٍّ سواء، وتولَّى أولاده من بعده قيادة المسلمين في هذه المنطقة؛ التي ابتُلِيَتْ بأشرس هجمة صليبية في تاريخ البشرية.

وبالجملة نجح الإمام المجاهد عثمان بن فودي أعظم أمراء إفريقيا في بناء قاعدة عريضة من المجاهدين والقادة والأمراء؛ الذين قادوا الأُمَّة المسلمة في قلب إفريقيا، وأقاموا أعظم الممالك الإسلامية في هذه البقعة الغامضة عن ذهن أبناء المسلمين الآن.

وفاة عثمان بن فودي
تُوُفِّيَ الإمام المجاهد الأمير عثمان بن فودي سنة (1233هـ= 1818م)، بعد أن أعاد إلى الإسلام مجده، وأدخل الدعوة السلفية المباركة إلى القلب الإفريقي، وأبقى للإسلام دولة قوية ظاهرة صامدة أمام هجمات الأعداء، حتى بعد وقوعها فريسة للاحتلال الصليبي بقيت القلوب حيَّة، مجاهدة، تُقاوم الأعداء، تُحافظ على دينها وعزَّتها، فجزى الله –عز وجل- هذا الإمام على ما قدَّمه للإسلام في إفريقيا، ورفع درجاته في علِّيِّين مع المهديين.


خير الدين بربروس .. أمير البحار
هو خير الدين بربروس قائد الأساطيل العثمانية؛ مجاهد بحريٌّ، اشتهر مع أخيه عروج بغزواته البحرية في سواحل اليونان وإسبانيا وإيطاليا، انتزع مدينة الجزائر من إسبانيا، وجعلها تحت سيادة الدولة العثمانية، كما غزا تونس سنة (941هـ= 1534م)، واستولى عليها لحساب العثمانيين، واسمه الأصلي هو خضر بن يعقوب، ولقبه خير الدين باشا، بينما عُرِفَ لدى الأوربيين ببارباروسا (ذو اللحية الحمراء).

نشأة خير الدين بربروس
وُلِدَ خير الدين بربروس في جزيرة لسبوس في اليونان، كان الأصغر في أربعة إخوة: إسحاق وعروج وإلياس ومحمد. والده هو يعقوب وهو انكشاري أو سباهي من فاردار، أمَّا والدته كاتالينا المسيحية؛ فقيل: إنها كانت أرملة قسٍّ.

وقد كان خير الدين وأخوه عروج نصرانيان، ويعملان في القرصنة البحرية، ثم هداهما الله إلى الإسلام فأسلمَا، ودخلَا في خدمة السلطان محمد الحفصي في تونس، وكانا يعترضان السفن النصرانية، ويأخذان ما فيها، ويبيعان رُكَّابها وملَّاحيها رقيقًا، وقد أرسلَا للسلطان العثماني سليم الأول إحدى السفن التي أسروها فقبلها منهما، وأجزل لهما العطاء، فقويت نفسيتهما، وعمل الإخوة الأربعة كبحَّارة ومقاتلين في البحر المتوسط ضدَّ قراصنة فرسان القديس يوحنا، المتمركزين في جزيرة رودس.

جهاد عروج بربروس
قُتِلَ إلياس في إحدى المعارك وأُسر عروج في رودس، الذي ما لبث أن فرَّ منها إلى إيطاليا ومنها إلى مصر، استطاع عروج أن يحصل على مقابلة مع السلطان قانصوه الغوري، الذي كان بصدد إعداد أسطول لإرساله إلى الهند لقتال البرتغاليين، أعطى الغوري عروج سفينة بجندها وعتادها لتحرير جزر المتوسط من القراصنة الأوربيين.

في حوالي عام 1505م استطاع عروج الاستيلاء على 3 مراكب، واتخذ من جزيرة جربة في تونس مركزًا له، ونقل عملياته إلى غرب المتوسط.

طبقت شهرة عروج الآفاق عندما استطاع بين عامي 1504 و1510م إنقاذ الآلاف من مسلمي الأندلس، ونقلهم إلى شمال إفريقيا، وفي عام 1516م استطاع تحرير الجزائر ثم تِلِمْسَان من الإسبان، وأعلن نفسه حاكمًا على الجزائر، واستطاع عروج أن يُقيم حكومة قوية في الجزائر، وأن يطرد الإسبان من السواحل التي احتلُّوها، ويُوَسِّع من نطاق دولته حتى بلغت تِلِمْسَان. وفي هذه الأثناء اتَّصل بالسلطان العثماني سليم الأول، وكان قد تمكَّن من ضمِّ مصر إلى دولته، وأعلن عروج طاعته وولاءه للدولة العثمانية، غير أن إسبانيا هالها ما يفعله عروج ورجاله، ورأت في ذلك خطرًا يُهدِّد سياستها التوسُّعِيَّة، ويقضي على أحلامها ما لم تنهض لقمع هذه الدولة الفتيَّة، فأعدَّت حملة عظيمة بلغت خمسة عشر ألف مقاتل، تمكَّنت من التوغُّل في الجزائر ومحاصرة تِلِمْسَان، ووقع عروج أسيرًا في أيديهم، وقتلوه في (شعبان 924هـ= أغسطس 1518م)، وخلفه أخوه الأصغر خير الدين.

ولاية خير الدين بربروس على الجزائر
خلف خير الدين بربروس أخاه في جهاده ضدَّ الإسبان، ولم تكن قوَّاته تكفي لمواجهة خطر الإسبان، فاستنجد بالدولة العثمانية طالبًا العون منها والمدد؛ فلبَّى السلطان سليم الأول طلبه، وبعث إليه بقوَّة من سلاح المدفعية، وأمدَّه بألفين من جنوده الانكشارية الأشداء، ثم واصل السلطان سليمان القانوني هذه السياسة، ووقف خلف خير الدين يُمِدُّه بالرجال والسلاح.

ولم يكن خير الدين أقلَّ حماسة وغَيْرة من أخيه، فواصل حركة الجهاد، وتابع عملياته البحرية؛ حتى تمكَّن من طرد الإسبان من الجيوب التي أقاموها على ساحل الجزائر، وضمَّ إلى دولته مناطق جديدة، وقادته رغبتُه الجامحة في مطاردة الإسبان إلى غزو السواحل الإسبانية، وهذا الذي أفزع الغزاة، وألقى الهلع في قلوبهم، ثم قام خير الدين بعملٍ من جلائل الأعمال؛ حيث أنقذ سبعين ألف مسلم أندلسي من قبضة الإسبان؛ الذين كانوا يسومُونهم سوء العذاب، فنقلهم في سنة (936هـ= 1529م) مستخدمًا أسطولًا من 36 سفينة؛ وذلك في سبع رحلات، ووَطَّنهم في مدينة الجزائر؛ وهذا ما حصَّنها ضدَّ الهجمات الإسبانية.

خير الدين في إسطنبول
قام السلطان سليمان القانوني باستدعاء خير الدين بربروس إليه في إسطنبول، وعهد إليه بإعادة تنظيم الأسطول، والإشراف على بناء عددٍ من سفنه، ثم وكَّل إليه مهمَّة ضمِّ تونس إلى الدولة العثمانية، قبل أن يتمكَّن السلطان الإسباني شارل الخامس من الاستيلاء عليها، وكانت ذات أهمية كبيرة لموقعها المتوسِّط في السيطرة على الملاحة في حوض البحر المتوسط.
غادر خير الدين العاصمة العثمانية على رأس ثمانين سفينة وثمانية آلاف جندي، واتَّجه إلى تونس، ونجح في القضاء على الدولة الحفصية التي كانت تحكم تونس، وأعلن تبعيَّتها للدولة العثمانية سنة (941هـ= 1534م).

أثار هذا النصر شارل الخامس وزاده حنقًا، ورأى فيه تهديدًا للمواصلات البحرية التي تربط بين إيطاليا وإسبانيا، وانتصارًا للإسلام، وتشجيعًا لمجاهدي شمال إفريقيا على مواصلة الهجوم على السواحل الإسبانية، واستنقاذ المسلمين الأندلسيين؛ ولهذا تحرَّك على الفور، وقاد حملة جرَّارة على تونس، تمكَّنت من الاستيلاء عليها في السنة نفسها، وردَّ خير الدين على هذا الانتصار بغارة مفاجئة على جزر البليار في البحر المتوسط، فأسر ستة آلاف من الإسبان، وعاد بهم إلى قاعدته في الجزائر، ووصلت أنباء هذه الغارة إلى روما وسط احتفالات البابوية بانتزاع تونس من المسلمين.

خير الدين بربروس وقيادة الأسطول العثماني
أراد السلطان سليمان القانوني مكافأة خير الدين على جهوده وخدماته للإسلام، فعيَّنه قائدًا عامًّا للأسطول العثماني، وجعل ابنه حسن باشا واليًا على الجزائر، الذي واصل جهود أبيه في مهاجمة الإسبانيين في غرب البحر المتوسط.

وقاد خير الدين بربروس عدَّة حملات بحرية مُوَفَّقة، كان من أشهرها انتصاره العظيم في معركة بروزة بالبحر المتوسط؛ فقد كانت معركة هائلة تداعت لها أوربا؛ استجابة لنداء البابا في روما، فتكوَّن تحالف صليبي من 600 سفينة، تحمل نحو ستين ألف جندي، ويقوده قائد بحري من أعظم قادة البحر في أوربا هو «أندريا دوريا»، وتألَّفت القوات العثمانية من 122 سفينة، تحمل اثنين وعشرين ألف جندي، والتقى الأسطولان في بروزة في 4 من جُمَادَى الأولى 945 هـ= 28 من سبتمبر 1538م، وفاجأ خير الدين خصمه قبل أن يأخذ أهبته للقتال، فتفرَّقت سفنه من هول الصدمة، وهرب القائد الأوربي من ميدان المعركة؛ التي لم تستمرّ أكثر من خمس ساعات، تمكَّن في نهايتها خير الدين بربروس من حسم المعركة لصالحه.

معركة بروزة - خير الدين بربروس وجهاده ضد الأسطول الأسباني

وقد أثار هذا النصرُ الفزعَ والهلعَ في أوربا، وأعاد للبحرية العثمانية هيبتها في البحر المتوسط، في الوقت الذي استقبل فيه السلطان سليمان القانوني أنباء النصر بفرحة غامرة، وأمر بإقامة الاحتفالات في جميع أنحاء دولته.

خير الدين بربروس يغزو فرنسا
كانت فرنسا ترتبط بعلاقات وثيقة مع الدولة العثمانية في عهد سليمان القانوني؛ ولذلك لم يتأخَّر السلطان عن تقديم المساعدات الحربية التي طلبها منه فرانسوا الأول ملك فرنسا؛ وذلك أثناء الحرب التي اشتعلت من جديد بينه وبين الإمبراطور شارل الخامس حول دوقية ميلان شمال إيطاليا.

كلَّف السلطان سليمان القانوني قائده الباسل خير الدين بربروس بقيادة الحملة، وكانت هذه آخر مرَّة يقود فيها إحدى حملاته المظفرة، فغادر إسطنبول في 23 من صفر 950هـ= 28 من مايو 1543م على رأس قوة بحرية كبيرة، استولت -وهي في طريقها إلى فرنسا- على مدينتي «مسينة» التابعة لصقلية، و«ريجيو» الإيطالية دون مقاومة، ثم استولت على ميناء «أوستيا» الإيطالي، وواصلت سيرها حتى دخلت ميناء طولون (قاعدة البحرية الفرنسية في البحر المتوسط)، ورفعت السفينة الفرنسية المستقبلة لهم الأعلام العثمانية، وأطلقت مدافعها تحيَّة لها، ودخل الأسطول الفرنسي المكوَّن من أربع وأربعين قطعة تحت إمرة خير الدين، وتحرَّك الأسطولان إلى ميناء «نيس»، ونجحَا في استعادة الميناء الفرنسي في (21 من جمادى الأولى 950هـ= 22 من أغسطس 1543م).

ميناء طولون قاعدة إسلامية
ونظرًا للعلاقة الحسنة التي كانت تربط السلطان سليمان القانوني بفرانسوا الأول؛ فقد تمَّ عقد معاهدة بين الدولتين بعد استعادة ميناء نيس في (16 من جمادى الآخرة 950هـ= 16 من سبتمبر 1543م)، تنازلت فيها فرنسا عن ميناء طولون الفرنسي برضاها للإدارة العثمانية، وتحوَّل الميناء الحربي لفرنسا إلى قاعدة حربية إسلامية للدولة العثمانية، التي كانت في حاجة ماسَّة إليه؛ حيث كان الأسطول العثماني يُهاجم في غير هوادة الأهداف العسكرية الإسبانية، التي كانت تُهدِّد دول المغرب الإسلامي والملاحة في البحر المتوسط.

وفي الفترة التي تمَّ فيها تسليم ميناء طولون إلى الدولة العثمانية أُخلي الثغر الفرنسي من جميع سكانه بأوامر من الحكومة الفرنسية، وتحوَّل إلى مدينة إسلامية عثمانية، رُفع عليها العلم العثماني، وارتفع الأذان في جنبات المدينة، وخلال ثمانية أشهر شنَّ العثمانيون هجمات بحرية ناجحة بقيادة خير الدين على سواحل إسبانيا وإيطاليا.

وفاة خير الدين بربروس
كانت هذه الحملة المظفَّرة هي آخر حملة يقودها خير الدين بربروس، فلم تطُلْ به الحياة بعد عودته إلى إسطنبول؛ حيث تُوُفِّيَ في 5 من جُمَادَى الأولى 953هـ= 4 من يوليو 1546م عن 65 عامًا في قصره المطلِّ على مضيق البوسفور بالآستانة، مسطِّرًا صفحة مجيدة من صفحات التضحية والفداء والإخلاص للإسلام، وردع القوى الصليبية الباغية.

السلطان محمد الفاتح
السلطان الغازي محمد الثاني الفاتح وبالتركية العثمانية: فاتح سلطان محمد خان ثاني، هو سابع سلاطين الدولة العثمانية وسلالة آل عثمان، يُلَقَّب -إلى جانب الفاتح- بأبي الفتوح وأبي الخيرات، وبعد فتح القسطنطينية أُضيف لقب قيصر إلى ألقابه وألقاب باقي السلاطين الذين تلوه.

يُعرف السلطان محمد الفاتح بأنه قضى نهائيًّا على الإمبراطورية البيزنطية بعد أن استمرَّت أكثر من أحد عشر قرنًا. وقد حَكَمَ ما يقرب من ثلاثين عامًا، وتابع السلطان محمد فيها فتوحاته في آسيا، فوحَّد ممالك الأناضول، وتوغَّل في أوربا حتى بلجراد، من أبرز أعماله الإدارية دمجه للإدارات البيزنطية القديمة في جسم الدولة العثمانية المتوسِّعة آنذاك.

مولد محمد الفاتح ونشأته
وُلد محمد الفاتح في (27 من رجب 835هـ= 30 من مارس 1432م) في مدينة أدرنة، عاصمة الدولة العثمانية آنذاك، ونشأ في كنف أبيه السلطان مراد الثاني سادس سلاطين الدولة العثمانية، الذي تعهَّده بالرعاية والتعليم؛ ليكون جديرًا بالسلطنة والنهوض بمسئولياتها؛ فأتم حفظ القرآن، وقرأ الحديث، وتعلَّم الفقه، ودرس الرياضيات والفلك وأمور الحرب، وإلى جانب ذلك تعلَّم العربية والفارسية واللاتينية واليونانية.

عهد إليه أبوه بإمارة مغنيسيا وهو صغير السن ليتدرَّب على إدارة شئون الدولة وتدبير أمورها، تحت إشراف مجموعة من كبار علماء عصره؛ مثل: الشيخ آق شمس الدين، والمُلَّا الكوراني؛ وهو ما أثَّر في تكوين شخصية الأمير الصغير، وبناء اتجاهاته الفكرية والثقافية بناءً إسلاميًّا صحيحًا.

وبرز دور الشيخ آق شمس الدين في تكوين شخصية محمد الفاتح، وبثَّ فيه منذُ صغره أمرين؛ هما: مضاعفة حركة الجهاد العثمانية، والإيحاء دومًا لمحمدٍ منذُ صغره بأنه الأمير المقصود بالحديث النبوي الذي ورد في مسند أحمد بن حنبل رحمه الله: حدَّثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، وسمعته أنا من عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، قال: حدَّثنا زيد بن الحباب، قال: حدَّثني الوليد بن المغيرة المعافريُّ، قال: حدَّثني عبد الله بن بشرٍ الخثعميُّ، عن أبيه، أنَّه سَمِعَ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الجَيْشُ ذَلِكَ الجَيْشُ»[1]. لذلك كان الفاتح يطمع أن ينطبق عليه حديث نبي الإسلام، فشبَّ طامح النفس، عالي الهمَّة، موفور الثقافة، رهيف الحسِّ والشعور، أديبًا شاعرًا، فضلًا عن إلمامه بشئون الحرب والسياسة؛ فقد اشترك مع أبيه السلطان مراد في حروبه وغزواته.

السلطان محمد الثاني وتولي الحكم
تولَّى محمد الفاتح السلطنة بعد وفاة أبيه في 5 من المحرم 855هـ= 7 من فبراير 1451م، وبدأ في التجهيز لفتح القسطنطينية، ليُحقِّق الحُلْم الذي يُراوده، وفي الوقت نفسه يُسَهِّل لدولته الفتية الفتوحات في منطقة البلقان، ويجعل بلاده متصلة لا يفصلها عدوٌّ يتربَّص بها، وليكون هو محلَّ البشارة النبوية.

استعدادات السلطان محمد الثاني لفتح القسطنطينية
استعدَّ السلطان محمد الثاني سياسيًّا وعسكريًّا لذلك الفتح؛ فمن الإجراءات السياسية أنه جدَّد المعاهدات واتفاقيات الهدنة مع جميع جيرانه، ومَنْ تربطهم عَلاقات معينة بالدولة كالبندقية وجنوة والصرب، وفرسان القديس يوحنا وغيرهم، وكان الهدف هو عزل الدولة البيزنطية عن جيرانها سياسيًّا وعسكريًّا.

ثم حشد الفاتح أكثر من ربع مليون جندي أحدقوا بالقسطنطينية من البَرِّ، واستمرَّ حصار المدينة ثلاثة وخمسين يومًا، تمَّ خلالها بناء منشآت عسكرية ضخمة، واستقدام خيرة الخبراء العسكريين، ومن بينهم الصانع المجري الشهير أوربان، والذي استطاع صُنْعَ مدافع عظيمة تقذف كرات هائلة من الحجارة والنار على أسوار القسطنطينية.

وقد بذل البيزنطيون قصارى جهدهم في الدفاع عن المدينة، واستُشهِد عدد كبير من العثمانيين في عمليات التمهيد للفتح، وكان من بين العقبات الرئيسية أمام الجيش العثماني تلك السلسلة الضخمة؛ التي وضعها البيزنطيون ليتحكَّمُوا بها في مدخل القرن الذهبي، والتي لا يمكن فتح المدينة إلَّا بتخطِّيها، وقد حاول العثمانيون تخطِّي هذه السلسلة دون جدوى؛ فنقل سبعين سفينة بعد أن مُهِّدت الأرض وسوُيت في ساعات قليلة، وتمَّ دهن الألواح الخشبية ووضعها على الطريق تمهيدًا لجرِّ السفن عليها مسافة ثلاثة أميال، وقد تمَّ كل هذا في ليلة واحدة، وبعيدًا عن أنظار العدوِّ، فتمَّ استكمال حصار المدينة من كل الجبهات.

ومن أبرز ما استعدَّ له لهذا الفتح المبارك أن صبَّ مدافع عملاقة لم تشهدها أوربا من قبل، وقام ببناء سفن جديدة في بحر مرمره؛ لكي تسدَّ طريق الدردنيل، وشيَّد على الجانب الأوربي من البوسفور قلعة كبيرة عُرفت باسم قلعة روملي حصار؛ لتتحكم في مضيق البوسفور.

فتح القسطنطينية
بعد أن أتمَّ السلطان الغازي محمد الثاني كل الوسائل التي تُعينه على فتح القسطنطينية، زحف بجيشه البالغ 265 ألف مقاتل من المشاة والفرسان، تصاحبهم المدافع الضخمة، واتَّجهوا إلى القسطنطينية، وفي فجر يوم الثلاثاء الموافق (20 من جمادى الأولى 857هـ= 29 من مايو 1453م) نجحت قوَّات محمد الفاتح في اقتحام أسوار القسطنطينية؛ وذلك في واحدة من العمليات العسكرية النادرة في التاريخ، وقد لُقِّب السلطان محمد الثاني من وقتها بمحمد الفاتح وغلب عليه، فصار لا يُعرف إلَّا به.

ولما دخل المدينة ترجَّل عن فرسه، وسجد لله شكرًا، ثم توجَّه إلى كنيسة آيا صوفيا، وأمر بتحويلها إلى مسجدٍ، وأمر بإقامة مسجد في موضع قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري، الذي كان ضمن صفوف المحاولة الأولى لفتح المدينة العريقة، وقرَّر اتخاذ القسطنطينية عاصمة لدولته، وأطلق عليها اسم إسلام بول؛ أي دار الإسلام، ثم حُرِّفت بعد ذلك واشْتُهرت بإسطنبول، وانتهج سياسة متسامحة مع سُكَّان المدينة، وكفل لهم ممارسة عباداتهم في حرية كاملة، وسمح بعودة الذين غادروا المدينة في أثناء الحصار إلى منازلهم.

السلطان محمد الفاتح واستكمال الفتوحات
بعد إتمام هذا الفتح الذي حَقَّقه محمد الثاني -وهو لا يزال شابًّا لم يتجاوز الخامسة والعشرين- اتَّجه إلى استكمال الفتوحات في بلاد البلقان، ففتح بلاد الصرب سنة (863هـ= 1459م)، وبلاد المورة باليونان عام (865هـ= 1460م)، وبلاد الأفلاق والبغدان (رومانيا) سنة (866هـ= 1462م)، وألبانيا بين عامي (867-884هـ= 1463-1479م)، وبلاد البوسنة والهرسك بين عامي (867-870هـ= 1463-1465م)، ودخل في حرب مع المجر سنة (881هـ= 1476م)، كما اتجهت أنظاره إلى آسيا الصغرى؛ ففتح طرابزون سنة (866هـ= 1461م).

وقد كان من بين أهداف محمد الفاتح أن يكون إمبراطورًا على روما، وأن يجمع فخارًا جديدًا إلى جانب فتحه القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية؛ ولكي يُحَقِّق هذا الأمل الطموح كان عليه أن يفتح إيطاليا، فأعدَّ لذلك عُدَّتَه، وجهَّز أسطولًا عظيمًا، وتمكَّن من إنزال قوَّاته وعدد كبير من مدافعه بالقرب من مدينة «أوترانت»، ونجحت تلك القوات في الاستيلاء على قلعتها، وذلك في (جمادى الأولى 885هـ= يوليو 1480م).

وعزم محمد الفاتح على أن يَتَّخذ من تلك المدينة قاعدة يزحف منها شمالًا في شبه جزيرة إيطاليا؛ حتى يصل إلى روما، لكن المنيَّة وافته في (4 من ربيع الأول 886هـ=3 من مايو 1481م).

محمد الفاتح رجل الدولة وراعي الحضارة
لم تكن ميادين الجهاد والحرب التي خاضها محمد الفاتح خلال مدَّة حكمه -التي بلغت ثلاثين عامًا- هي أبرز إنجازاته؛ حيث اتسعت الدولة العثمانية اتساعًا عظيمًا لم تشهده من قبل، وإنما كان محمد الفاتح رجل دولة من طراز رفيع، فقد استطاع بالتعاون مع الصدر الأعظم قرة مانلي محمد باشا، وكاتبه ليث زاده محمد جلبي وضع الدستور المسمَّى باسمه، وقد بقيت مبادئه الأساسية سارية المفعول في الدولة العثمانية حتى عام (1255هـ= 1839م).

واشتهر محمد الفاتح بأنه راعٍ للحضارة والأدب، وكان شاعرًا مجيدًا له ديوان شعر، وقد نشر المستشرق الألماني «ج. جاكوب» أشعاره في برلين سنة (1322هـ= 1904م)، وكان الفاتح يُدَاوم على المطالعة وقراءة الأدب والشعر، ويُصاحب العلماء والشعراء، ويصطفي بعضهم ويُوليهم مناصب الوزارة.

ومن شغفه بالشعر عهد إلى الشاعر شهدي أن يُنَظِّم ملحمة شعرية تُصَوِّر التاريخ العثماني على غرار الشاهنامة التي نظمها الفردوسي، وكان إذا سمع بعالم كبير في فنٍّ من الفنون قدَّم له يد العون والمساعدة بالمال، أو باستقدامه إلى دولته للاستفادة من علمه، مثلما فعل مع العالم الفلكي الكبير علي قوشجي السمرقندي، وكان يُرسل كلَّ عامٍ مالًا كثيرًا إلى الشاعر الهندي خواجه جيهان، والشاعر الفارسي عبد الرحمن جابي.

واستقدم محمد الفاتح رسامين من إيطاليا إلى القصر السلطاني؛ لإنجاز بعض اللوحات الفنية، وتدريب بعض العثمانيين على هذا الفنِّ.

وعلى الرغم من انشغال الفاتح بالجهاد؛ فإنه عُني بالإعمار وتشييد المباني الراقية، فعلى عهده أنشئ أكثر من ثلاثمائة مسجد؛ منها 192 مسجدًا وجامعًا في إسطنبول وحدها، بالإضافة إلى 57 مدرسة ومعهدًا، و59 حمامًا.

ومن أشهر آثاره المعمارية مسجد السلطان محمد، وجامع أبي أيوب الأنصاري، وقصر سراي طوب قبو.

لقد كان الفاتح مسلمًا ملتزمًا بأحكام الشريعة الإسلامية، تقيًّا ورعًا؛ وذلك بفضل النشأة التي نشأها وأثَّرت فيه تأثيرًا عظيمًا، أمَّا سلوكه العسكري فكان سلوكًا متحضِّرًا لم تشهده أوربا في عصورها الوسطى، ولم تعرفه شريعتها من قبلُ.

وفاة محمد الفاتح
في شهر ربيع الأول من عام (886هـ= 1481م) غادر السلطان الفاتح القسطنطينية على رأس جيش كبير، وكان السلطان محمد الفاتح قبل خروجه قد أصابته وعكة صحيَّة، إلَّا أنه لم يهتمّ بذلك لشدَّة حُبِّه للجهاد، وشوقه الدائم للغزو، وخرج بقيادة جيشه بنفسه، وقد كان من عادته أن يجد في خوض غمار المعارك شفاءً لما يُلِمُّ به من أمراض، إلَّا أن المرض تضاعف عليه هذه المرَّة، وثقلت وطأته فطلب أطباءه، غير أن القضاء عاجله؛ فلم ينفع فيه تطبيب ولا دواء، ومات السلطان الفاتح وسط جيشه يوم الخميس (4 من ربيع الأول 886هـ= 3 من مايو 1481م)، وهو في الثانية والخمسين من عمره بعد أن حكم إحدى وثلاثين عامًا.

لم يكن أحدٌ يعلم شيئًا عن الجهة التي كان سيذهب إليها السلطان الفاتح بجيشه، وذهبت ظنون الناس في ذلك مذاهب شتَّى؛ فهل كان يقصد رودس ليفتح هذه الجزيرة التي امتنعت على قائده مسيح باشا؟ أم كان يتأهَّب للَّحَاق بجيشه الظافر في جنوبي إيطاليا، ويزحف بنفسه بعد ذلك إلى روما وشمالي إيطاليا ففرنسا وإسبانيا؟

لقد ظلَّ ذلك سرًّا طواه الفاتح في صدره ولم يَبُحْ به لأحد، ثم طواه الموت بعد ذلك.
لقد كان من عادة الفاتح أن يحتفظ بالجهة التي يقصدها، ويتكتَّم أشدَّ التكتُّم، ويترك أعداءه في غفلة وحيرة من أمرهم، لا يدري أحدهم متى تنزل عليه الضربة القادمة، ثم يتبع هذا التكتُّم الشديد بالسرعة الخاطفة في التنفيذ؛ فلا يدعُ لعدوِّه مجالًا للتأهُّب والاستعداد، وذات مرَّة سأله أحد القضاة: أين تقصد بجيوشك؟ فأجابه الفاتح: «لو أن شعرة في لحيتي عرفت ذلك لنتفتُها وقذفتُ بها في النار».

لقد كانت من أهداف الفاتح أن يمضي بفتوحات الإسلام من جنوب إيطاليا إلى أقصاها في الشمال، ويستمرّ في فتوحاته بعد ذلك إلى فرنسا وإسبانيا، وما وراءها من الدول والشعوب والأمم.

ويُقال: إن السلطان محمد الفاتح قد قُتل بالسم عن طريق طبيبه الخاص يعقوب باشا بعد أن حرضه أهل البندقية على أن يقوم هو باغتياله، ولم يكن يعقوب مسلمًا عند الولادة؛ فقد وُلِدَ بإيطاليا، وقد ادَّعى الهداية وأسلم، وبدأ يعقوب يدسُّ السُّمَّ تدريجيًّا للسلطان، ولكن عندما علم بأمر الحملة زاد جرعة السمِّ؛ حتى توفي السلطان بعد أن قضى فترة حكمه في حروب متواصلة للفتح وتقوية الدولة وتعميرها، وأتمَّ في خلالها مقاصد أجداده؛ ففتح القسطنطينية وجميع ممالك وأقاليم آسيا الصغرى والصرب والبوسنة وألبانيا وبلاد المورة، وحقَّق الكثير من المنجزات الإدارية الداخلية، التي سارت بدولته على درب الازدهار، ومهَّدت الطريق أمام السلاطين اللاحقين ليُرَكِّزُوا على توسيع الدولة وفتح أقاليم جديدة.

وقد انكشف أمر يعقوب فيما بعدُ، فأعدمه حرس السلطان، ووصل خبر موت السلطان إلى البندقية بعد 16 يومًا؛ حيث جاء الخبر في رسالة البريد السياسي إلى سفارة البندقية في القسطنطينية، واحتوت الرسالة على هذه الجملة: «لقد مات النسر الكبير». انتشر الخبر في البندقية ثم إلى باقي أوربا، وراحت الكنائس في أوربا تدقُّ أجراسها لمدَّة ثلاثة أيام بأمر من البابا.

دُفن السلطان في المدفن المخصوص الذي أنشأه في أحد الجوامع التي أسسها في الأستانة، وترك وراءه سمعة مهيبة في العالمين الإسلامي والمسيحي.

وصية محمد الفاتح قبل وفاته
كانت وصية محمد الفاتح لابنه بايزيد الثاني وهو على فراش الموت تُعَبِّر أصدق التعبير عن منهجه في الحياة، وقيمه ومبادئه التي آمن بها، والتي يتمنَّى من خُلفائه من بعده أن يسيروا عليها؛ فقال فيها: «هأنذا أموت، ولكني غير آسف لأني تارك خَلَفًا مثلك؛ كن عادلًا صالحًا رحيمًا، وابسط على الرعية حمايتك بدون تمييز، واعمل على نشر الدين الإسلامي؛ فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض، قدِّم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء، ولا تفتر في المواظبة عليه، ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمُّون بأمر الدين، ولا يجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش، وجَانِب البدعَ المفسدة، وباعِدِ الذين يُحَرِّضُونك عليها، وَسِّعْ رقعة البلاد بالجهاد، واحرس أموال بيت المال من أن تَتَبَدَّد، إيَّاك أن تمدَّ يدك إلى مال أحد من رعيَّتك إلَّا بحقِّ الإسلام! واضمن للمعوزين قوتهم، وابذل إكرامك للمستحقِّين.

وبما أن العلماء هم بمثابة القوَّة المبثوثة في جسم الدولة، فعظِّم جانبهم وشجِّعهم، وإذا سمعتَ بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال.

حذار حذار لا يغرَّنَّك المال ولا الجند! وإيَّاك أن تُبعد أهل الشريعة عن بابك! وإيَّاك أن تميل إلى أيِّ عمل يُخالف أحكام الشريعة! فإن الدين غايتنا, والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا.
خذ منِّي هذه العبرة: حضرتُ هذه البلاد كنملة صغيرة، فأعطاني الله تعالى هذه النعم الجليلة، فالزم مسلكي، واحذ حذوي، واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله، ولا تصرف أموال الدولة في ترفٍ أو لهوٍ أو أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ اللزوم؛ فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك».

[1] رواه أحمد في مسنده (18977)، والحاكم في المستدرك (8300) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، والطبراني: المعجم الكبير (1217)، وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 6/229.



السلطان مراد الثاني
هو السلطان مراد الثاني السلطان الزاهد، الذي قضى على التمرُّد الداخلي، وانتصر على التحالف الصليبي في معركة فارنا، وهو السلطان الوحيد الذي تنازل عن الحكم لابنه مرَّتين ليتفرَّغ لعبادة الله –عز وجل.

نشأة السلطان مراد الثاني
وُلِدَ السلطان مراد الثاني عام (806هـ= 1404م)، ونشأ في بيت الدولة العثمانية، التي غرست في أبنائها حبَّ العلم والجهاد في سبيل الله، فنشأ السلطان مراد الثاني نشأة إسلامية صحيحة؛ وهذا ما أهَّلهُ لتولي السلطنة وعمره ثمانية عشر عامًا، كان معروفًا لدى جميع رعيته بالتقوى، والعدالة والشفقة، وكان محبًّا للجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الإسلام في ربوع أوربا.

تولي السلطانة والقضاء على التمردات الداخلية
تولَّى السلطان مراد الثاني أمر الدولة بعد وفاة أبيه محمد جلبي عام (824هـ= 1421م)، واستطاع السلطان مراد أن يقضي على حركات التمرُّد الداخلية التي قام بها عمُّه مصطفى، والتي كانت تُدعم من قِبَلِ أعداء الدولة العثمانية، وكان الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني خلف الدسائس والمؤامرات والمتاعب التي تعرَّض لها السلطان مراد، فهو الذي دعم عمَّ السلطان مراد بالمساعدات؛ حتى استطاع مصطفى أن يُحاصر مدينة غاليبولي ابتغاء انتزاعها من السلطان واتخاذها قاعدة له، إلَّا أن السلطان مراد الثاني قبض على عمِّه وقدَّمه إلى المشنقة.

ومع ذلك فقد مضى الإمبراطور مانويل الثاني يكيد للسلطان، واحتضن شقيقًا لمراد الثاني، ووضعه على رأس قوَّة استولت على مدينة نيقية في الأناضول، وسار إليه مراد واستطاع أن يقضي على قوَّاته، واضطر خصمه للاستسلام ثم قُتل؛ ومن ثَمَّ صمَّم السلطان مراد أن يُلَقِّنَ الإمبراطور درسًا عمليًّا، فأسرع باحتلال سلولنيك، فهاجمها ودخلها عَنْوة في 834هـ= مارس 1431م، وأصبحت جزءًا لا يتجزَّأ من الدولة العثمانية.

وكان السلطان مراد الثاني يُوَجِّه الضربات الموجعة لحركات التمرُّد في بلاد البلقان، وحرص على تدعيم الحكم العثماني في تلك الديار، واتَّجه الجيش العثماني نحو الشمال لإخضاع إقليم ولاشيا، وفَرَضَ عليه جزية سنوية، واضطر ملك الصرب الجديد ستيف لازار ميتش إلى الخضوع للعثمانيين، والدخول تحت حكمهم، وجدَّد ولاءه للسلطان، واتَّجه جيش عثماني نحو الجنوب؛ حيث قام بتوطيد دعائم الحكم العثماني في بلاد اليونان، ولم يلبث السلطان أن واصل جهاده الدعوي وقام بالقضاء على العوائق في كلٍّ من ألبانيا والمجر.

فتوحات مراد الثاني
استطاع العثمانيون في عهد مراد الثاني أن يفتحوا ألبانيا عام (834هـ= 1431م)، وركَّزوا هجومهم على الجزء الجنوبي من البلاد، أمَّا شمالي ألبانيا فقد خاض العثمانيون فيه جهادًا مريرًا، وتمكَّن الألبانيون الشماليون من القضاء على جيشين عثمانيين في جبال ألبانيا، كما ألحقوا الهزيمة بحملتين عثمانيتين متعاقبتين كان يقودهما السلطان مراد بنفسه، وتكبَّد العثمانيون خسائر فادحة أثناء عملية الانسحاب، ووقفت الدول النصرانية خلف الألبان لدعمهم ضدَّ العثمانيين؛ وخصوصًا من حكومة البندقية، التي كانت تُدرك خطورة الفتح العثماني لهذا الإقليم المهمِّ بشاطِئَيْه وموانيه البحرية، التي تربط البندقية بحوض البحر المتوسط والعالم الخارجي، وأن العثمانيين في استطاعتهم حجز سفن البنادقة داخل بحر مغلق هو بحر الأدرياتيك، وهكذا لم يشهد السلطان مراد الثاني استقرارًا للحكم العثماني في ألبانيا.

الدولة العثمانية في عهد مراد الثاني
وأمَّا ما يتعلَّقُ بجبهة المجر فقد استطاع مراد الثاني في عام (842هـ= 1438م) أن يهزم المجريين، ويأسر منهم سبعين ألف جندي، وأن يستولي على بعض المواقع، ثم تقدَّم لفتح بلجراد عاصمة الصرب؛ ولكنَّه أخفق في محاولته وسرعان ما تَكَوَّنَ حلفٌ صليبيٌّ كبير باركه البابا، استهدف هذا الحلف طرد العثمانيين من أوربا كلية، وشمل الحلف البابوية والمجر، وبولندا، والصرب، وبلاد الأفلاق (رومانيا)، وجنوة والبندقية، والإمبراطورية البيزنطية، ودوقية برجنديا، وانضمَّت إلى الحلف -أيضًا- كتائب من الألمان والتشيك، وأُعطيت قيادة قوات الحلف الصليبي إلى قائد مجري قدير هو يوحنا هونياد؛ وقد قاد هونياد القوات الصليبية البرية، وزحف جنوبًا، واجتاز الدانوب وأوقع بالعثمانيين هزيمتين فادحتين عام (846هـ= 1442م)، واضطر العثمانيون إلى طلب الصلح، وأُبرمت معاهدة صلح لمدَّة عشر سنوات في سيزجادن؛ وذلك في شهر يوليو عام (848هـ= 1444م) تنازل فيها عن الصرب، واعترف بجورج برانكوفيتش أميرًا عليها، كما تنازل السلطان مراد عن الأفلاق (رومانيا) للمجر، وافتدى زوج ابنته محمود شلبي -الذي كان قائدًا عامًّا للجيوش العثمانية- بمبلغ 60 ألف دوقية، وقد حُرِّرت هذه المعاهدة باللغتين العثمانية والمجرية، وأقسم لاديسلاس ملك المجر على الإنجيل كما أقسم السلطان مراد بالقرآن على أن تُراعى شروط المعاهدة بذمَّة وشرف.
التنازل عن السلطنة

تنازل مراد الثاني عن الحكم
حين فرغ مراد من عقد الهدنة مع أعدائه الأوربيين عاد إلى الأناضول، وفُجِعَ بموت ابنه الأمير علاء، واشتدَّ حزنه عليه، وزهد في الدنيا والمُلْكِ، وتنازل عن السلطنة لابنه محمد الثاني، وكان إذ ذاك في الرابعة عشر من عمره؛ ولصغر سنِّه أحاطه والده ببعض أهل الرأي والنظر من رجال دولته، ثم ذهب إلى مغنيسيا في آسيا الصغرى؛ ليقضِيَ بقيَّة حياته في عُزلة وطمأنينة، ويتفرَّغ في هذه الخلوة إلى عبادة الله –سبحانه وتعالى، والتأمُّل في ملكوته؛ وذلك بعد أن اطمأنَّ إلى استتباب الأمن والسلام في أرجاء دولته.

الصليبيون ينقضون العهد
ولم يستمتع السلطان طويلًا بهذه الخلوة والعبادة؛ حيث قام الكاردينال سيزاريني وبعض أعوانه بالدعوة إلى نقض العهود مع العثمانيين وطردهم عن أوربا؛ خاصةً وأن العرش العثماني قد تركه السلطان مراد لابنه الفتى، الذي لا خبرة له ولا خطر منه، وقد اقتنع البابا أوجين الرابع بهذه الفكرة الشيطانية، وطلب من النصارى نقض العهد ومهاجمة المسلمين، وبَيَّنَ للنصارى أن المعاهدة التي عُقدت مع المسلمين باطلة؛ لأنها عُقدت بدون إذن البابا وكيل المسيح في الأرض، وكان الكاردينال سيزاريني عظيمَ النشاط، دائمَ الحركة، لا يكلُّ عن العمل، يجِدُّ ويسعى للقضاء على العثمانيين؛ ولذلك كان يزور ملوك النصارى وزعمائهم، ويُحَرِّضهم على نقض المعاهدة مع المسلمين، ويُقنع كلَّ مَنْ يعترض عليه لنكث المعاهدة، ويقول له: «إنه باسم البابا يُبرئ ذمَّتهم من نكثها، ويُبارك جنودهم وأسلحتهم، وعليهم أن يَتَّبِعُوا طريقه؛ فإنه طريق المجد والخلاص، ومَنْ نازعه ضميرُه بعد ذلك وخشي الإثم فإنه يحمل عنه وزره وإثمه».
حصار الصليبيين لمدينة فارنا
لقد نقض الصليبيون عهودهم، وحشدوا الجيوش لمحاربة المسلمين، وحاصروا مدينة فارنا البلغارية الواقعة على ساحل البحر الأسود، والتي كانت قد تحرَّرَتْ على أيدي المسلمين. ونَقْضُ العهود هو سِمَة ظاهرة لأعداء هذا الدين؛ ولذلك أوجب الله  على المسلمين قتالهم يقول سبحانه: {وَإِنْ نَكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ مِن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة: 12]، لا عهود ولا مواثيق يرعَوْنَها، كما هو طابعهم دائمًا، إنهم لا يتورَّعُون عن مهاجمة أيِّ أُمَّة، أيّ إنسان يلمحون فيه ضعفًا، يقتلون ويذبحون.

مراد الثاني والعودة للجهاد
عندما تحرَّك النصارى وزحفوا نحو الدولة العثمانية، وسمع المسلمون في أدرنة بحركة الصليبيين وزحفهم انتابهم الفزع والرعب، وبعث رجال الدولة إلى السلطان مراد يستعجلون قدومه لمواجهة هذا الخطر، وخرج السلطان المجاهد من خلوته ليقود جيوش العثمانيين ضدَّ الخطر الصليبي، واستطاع مراد أن يَتَّفق مع الأسطول الجنوي لينقل أربعين ألفًا من الجيش العثماني من آسيا إلى أوربا تحت سمع الأسطول الصليبي وبصره في مقابل دينار لكلِّ جندي.

وأسرع السلطان مراد في السير فوصل إلى فارنا في اليوم نفسه الذي وصل فيه الصليبيون، وفي اليوم التالي نَشِبَت المعركة بين الجيشين النصراني والإسلامي، وكانت عنيفة حامية، وقد وضع السلطان مراد الثاني المعاهدة التي نقضها أعداؤه على رأس رمح؛ ليُشهدهم ويُشهد السماء والأرض على الغدر والعدوان، وليزيد حماس جنده.

واقتتل الفريقان، ودارت بينهما معركةٌ رهيبةٌ كاد يكون فيها النصر للنصارى نتيجة حميَّتِهم الدينية وحماسهم الزائد، إلَّا أنَّ تلك الحمية والحماس الزائد اصطدم بالروح الجهادية لدى العثمانيين، والتقى الملك لاديسلاس -ناقض العهود- مع السلطان مراد الوفي بالعهود وجهًا لوجه واقتتلا، ودارت بينهما معركة رهيبة في (28 من رجب 848هـ= 10 من نوفمبر 1444م)، تمكن السلطان المسلم مراد الثاني من قتل الملك المجري النصراني، فقد عاجله بضربة قوية من رمحه، أسقطته من على ظهر جواده، فأسرع بعض المجاهدين وجَزُّوا رأسه ورفعوه على رمح مُهَلِّلِينَ مُكَبِّرِينَ فرحين، وصاح أحد المجاهدين في العدوِّ: «أيها الكفار هذا رأس ملككم». وكان لذلك المنظر أثر شديد على جموع النصارى، فاستحوذ عليهم الفزع والهلع، فحمل عليهم المسلمون حملة قوية، بَدَّدَتْ شملهم، وهزموهم شرَّ هزيمة، وولَّى النصارى مدبرين، يدفع بعضهم بعضًا، ولم يُطارد السلطان مراد عدوَّه، واكتفى بهذا القدر من النصر، وإنه لنصر عظيم.

وقد أخرجت هذه المعركة بلاد المجر لعشر سنوات على الأقل من عداد الدول التي تستطيع النهوض بعمليات حربية هجومية ضدَّ العثمانيين.

العودة إلى العزلة والتعبد
لم يُفارق السلطان مراد زهده في الدنيا والمُلك، فنزل على العرش مرَّة أخرى لابنه محمد، وعاد إلى عزلته في مغنيسيا، كما يعود الأسد المنتصر إلى عرينه.

ولقد ذكر لنا التاريخ مجموعة من الملوك والحكام الذين نزلوا عن عروشهم وانقطعوا عن الناس وأُبَّهة الملك إلى العزلة، وأن بعض هؤلاء الملوك قد عادوا إلى العرش، ولكن لم يذكر لنا أحدًا منهم نزل عن العرش مرَّتين غير السلطان مراد، فإنه لم يَكَدْ يذهب إلى معتزله بآسيا الصغرى حتى ثار الانكشارية في أدرنة وشغبوا، وهاجوا وماجوا، وتمرَّدُوا، وطغوا، وأفسدوا، وكان السلطان محمد الثاني فتى يافعًا حديث السنِّ، وخشي بعض رجال الدولة أن يستفحل الأمر، ويعظم الخطر، ويتفاقم الشرُّ، وتسوء العاقبة، فبعثوا إلى السلطان مراد يستقدمونه ليتولَّى الأمر بنفسه، وجاء السلطان مراد وقبض على زمام الأمر، وخضع له الانكشارية، وأرسل ابنه محمدًا إلى مغنيسيا حاكمًا عليها بالأناضول، وبقي السلطان مراد الثاني على العرش العثماني إلى آخر يوم في حياته، وقد قضاها في الغزو والفتح.
مراد الثاني وحبه للشعراء والعلماء وفعل الخير
يقول محمد حرب: «مراد الثاني وإن كان مُقِلًّا وكان ما لدينا من شعره قليلًا، لصاحبُ فضلٍ على الأدب والشعر لا يُجْحَدُ؛ لأن نعمته حلَّتْ على الشعراء، الذين كان يدعوهم إلى مجلسه يومين في كل أسبوع ليقولوا ما عندهم، ويأخذون بأطراف الأحاديث والأسمار بينهم وبين السلطان، فيستحسن أو يستهجن، ويختار أو يطرح، وكثيرًا ما كان يسدُّ عوز المعوزين منهم بنائلة الغمر، أو بإيجاد حرفة لهم تدرُّ الرزق عليهم؛ حتى يفرغوا من هموم العيش، ويتوفروا على قول الشعر، وقد أنجب عصره كثيرًا من الشعراء».

لقد حوَّل مراد الثاني القصر الحاكم إلى نوع من الأكاديمية العلمية، ووصل به الأمر أن كان الشعراء يُرافقونه في جهاده، ومن أشعاره: «تعالوا نذكر الله لأننا لسنا بدائمين في الدنيا».

لقد كان سلطانًا عالمًا عاقلًا عادلًا شجاعًا، وكان يُرسل لأهالي الحرمين الشريفين وبيت المقدس من خاصة ماله في كل عام ثلاثة آلاف وخمسمائة دينار، وكان يعتني بشأن العلم والعلماء والمشايخ والصالحين، مَهَّد الممالك، وأمَّن السبل، وأقام الشرع والدين، وأذلَّ الكفَّار والملحدين، وقال عنه يوسف آصاف: «كان تقيًّا صالحًا، وبطلًا صنديدًا، محبًّا للخير، ميَّالًا للرأفة والإحسان».

لقد قام السلطان مراد ببناء جوامع ومدارس، وقصور وقناطر؛ فمنها جامع أدرنة ذو ثلاثة شرف، وبنى بجانب هذا الجامع مدرسة وتكية يُطعم فيها الفقراء والمساكين.

وفاته ووصيته
تُوُفِّيَ السلطان مراد الثاني في قصر أدرنة في (16 من المحرم 855هـ= 18 من فبراير 1451م) عن عمر يُناهز 47 عامًا، وبِنَاءً على وصيته –رحمه الله- دُفِنَ في جانب جامع مرادية في بورصة، ووصى بأن لا يُبْنَى على قبره شيء، وأن يُبنى أماكن في جوانب القبر يجلس فيها الحفَّاظ لقراءة القرآن الكريم، وأن يدُفن في يوم الجمعة فنُفِّذَتْ وصيَّته.

السلطان مراد الأول
السلطان مراد الأول بن السلطان أورخان، استولى العثمانيون في عهده على مدينة أدرنة (762هـ= 1360م)، وجعلها عاصمةً لدولته، وهزم التحالف البيزنطي البلغاري في معركتي مارتيزا عام (764هـ= 1363م)، كما انتصر على التحالف الصليبي في قوصوه (كوسوفا) عام (791 هـ= 1389م)، وفيها اسْتُشهد.

نشأته وتولِّي الحكم
وُلِدَ السلطان مراد الأول عام (726هـ= 1326م)، وهو العام الذي تولَّى فيه والده الحُكم؛ تولَّى الحُكم بعد وفاة أبيه أورخان بن عثمان عام (761هـ= 1360م)، وكان ابن 36 عامًا وقتها، واستمرَّ حكمه 30 سنة.

كان مراد الأول شجاعًا مجاهدًا، كريمًا متديِّنًا، وكان محبًّا للنظام متمسِّكًا به، عادلًا مع رعاياه وجنوده، مشغوفًا بالغزوات وبناء المساجد والمدارس والملاجئ، وكانت بجانبه مجموعة من خيرة القادة والخبراء والعسكريين؛ شَكَّل منهم مجلسًا لشورته، وتوسَّع في آسيا الصغرى وأوربا في وقت واحد.

فتوحات مراد الأول
في أوربا هاجم السلطان مراد الأول أملاك الدولة البيزنطية، ثم استولى على مدينة أدرنة في عام (762هـ= 1360م)، وكانت لتلك المدينة أهمية استراتيجية في البلقان، وكانت ثاني مدينة في الإمبراطورية البيزنطية بعد القسطنطينية، واتخذ مراد من هذه المدينة عاصمة للدولة العثمانية منذ عام (768هـ= 1366م).
وبذلك انتقلت العاصمة العثمانية من آسيا إلى أوربا، وأصبحت أدرنة عاصمة إسلامية، وكان هدف مراد من هذه النقلة عدَّة أمور؛ منها:
1- استغلال مناعة استحكامات أدرنة الحربية وقُرْبِها من مسرح العمليات الجهادية.
2- رغبة مراد في ضمِّ الأقاليم الأوربية التي وصلوا إليها في جهادهم وثَبَّتُوا أقدامهم فيها.
3- جمع مراد في هذه العاصمة كل مُقَوِّمات النهوض بالدولة وأصول الحُكْم؛ فتكوَّنت فيها فئاتُ الموظفين، وفِرَقُ الجيشِ، وطوائفُ رجال القانون وعلماء الدين، وأُقيمت دور المحاكم، وشُيِّدت المدارس المدنية والمعاهد العسكرية لتدريب الانكشارية.
واستمرَّت أدرنة على هذا الوضع السياسي والعسكري والإداري والثقافي والديني؛ حتى فتح العثمانيون القسطنطينية في عام (857هـ= 1453م)، فأصبحت عاصمة لدولتهم.

تحالف صليبي ضد مراد الأول
معركة مارتيزا
مضى السلطان مراد في حركة الجهاد والدعوة وفتح الأقاليم في أوربا، وانطلق جيشه يفتح مقدونيا، وكانت لانتصاراته أصداء بعيدة، فتكوَّن تحالف أوربي بلقاني صليبي باركه البابا أوربا الخامس، وضمَّ الصربيين والبلغاريين والمجريين، وسكان إقليم والاشيا. وقد استطاعت الدول الأعضاء في التحالف الصليبي أن تحشد جيشًا بلغ عدده ستين ألف جندي، تصدَّى لهم القائد العثماني (لالا شاهين) بقوَّة تقل عددًا عن القوات المتحالفة، وقابلهم على مقربة من «تشيرمن» على نهر مارتيزا، حيث وقعت معركة مروعة وانهزم الجيش المتحالف، وهرب الأميران الصربيان، ولكنهما غرقا في نهر مارتيزا، ونجا ملك المجر بأعجوبة من الموت، أمَّا السلطان مراد فكان في هذه الأثناء مشتغلًا بالقتال في بلاد آسيا الصغرى؛ حيث فتح عدَّة مدن، ثم عاد إلى مقرِّ سلطنته لتنظيم ما فتحه من الأقاليم والبُلْدَان، كما هو شأن القائد الحكيم.
وكان من نتائج انتصار العثمانيين على نهر مارتيزا أمور مهمَّة؛ منها:
1- تمَّ لهم فتح إقليم تراقيا ومقدونيا، ووصلوا إلى جنوبي بلغاريا وإلى شرقي صربيا.
2- أصبحت مدن وأملاك الدولة البيزنطية وبلغاريا وصربيا تتساقط في أيديهم كأوراق الخريف.

أول معاهدة بين الدولة العثمانية والدول المسيحية
لما اشتدَّ ساعد الدولة العثمانية خاف مجاوروها، خصوصًا الضعفاء منهم، فبادرت جمهورية راجوزه -وهي جمهورية تطلُّ على البحر الأدرياتيكي- وأرسلت إلى السلطان مراد رسلًا ليعقدوا مع السلطان مراد معاهدة ودية وتجارية؛ تعاهدوا فيها بدفع جزية سنوية قدرها 500 دوكا ذهبًا، وهذه أول معاهدة عُقدت بين الدولة العثمانية والدول المسيحية.

معركة قوصوه (كوسوفا)
كان السلطان مراد قد توغَّل في بلاد البلقان بنفسه وعن طريق قوَّاده؛ مما أثار الصرب، فحاولوا في أكثر من مرَّة استغلال غياب السلطان عن أوربا في الهجوم على الجيوش العثمانية في البلقان وما جاورها؛ ولكنهم فشلوا في تحقيق انتصارات تُذكر على العثمانيين؛ فتحالف الصرب والبوسنيون والبلغار، وأعدُّوا جيشًا أوربيًّا صليبيًّا كثيفًا لحرب السلطان، الذي كان قد وصل بجيوشه بعد إعدادها إعدادًا قويًّا إلى منطقة كوسوفو في البلقان.

ومن الأحداث التي تُذكر أن وزير السلطان مراد كان يحمل معه مصحفًا فتحه عن غير قصد، فوقع نظره على هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65]. فاستبشر بالنصر، واستبشر معه المسلمون، ولم يلبث أن نَشِبَ القتال بين الجمعين، وحمي وطيسه، واشتدَّت المعركة، وانجلت الحرب عن انتصار المسلمين انتصارًا باهرًا حاسمًا.

استشهاد السلطان مراد
بعد الانتصار في قوصوه (كوسوفا) قام السلطان مراد يتفقَّد ساحة المعركة، ويدور بنفسه بين صفوف القتلى من المسلمين ويدعو لهم، كما كان يتفقَّد الجرحى، وفي أثناء ذلك قام جندي من الصرب كان قد تظاهر بالموت وأسرع نحو السلطان، فتمكَّن الحراس من القبض عليه، ولكنه تظاهر بأنه جاء يُريد محادثة السلطان، ويُريد أن يُعلن إسلامه على يديه، وعند ذلك أشار السلطان للحرس بأن يُطلقوه، فتظاهر بأنه يُريد تقبيل يد السلطان، وقام في حركة سريعة بإخراج خنجر مسموم طعن به السلطان، فاستُشهد السلطان مراد –رحمه الله- في (15 من شعبان 791هـ=30 من يوليو 1389م)، فقتل الانكشاريةُ الجنديَّ الصربيَّ مباشرةً.

الكلمات الأخيرة للسلطان مراد
اسْتُشهد هذا السلطان العظيم بعد أن بلغ من العمر 65 عامًا، وكانت آخر كلماته: «لا يسعُنِي حين رحيلي إلَّا أن أشكر الله؛ إنه علام الغيوب المتقبِّل دعاء الفقير، أشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وليس يستحقُّ الشكر والثناء إلَّا هو، لقد أوشكتْ حياتي على النهاية، ورأيتُ نصر جند الإسلام. أطيعوا ابني يزيد، ولا تُعَذِّبُوا الأسرى، ولا تُؤذونهم، ولا تسلبوهم، وأودعكم منذ هذه اللحظة وأودع جيشنا الظافر العظيم إلى رحمة الله، فهو الذي يحفظ دولتنا من كل سوء».

لقد قاد السلطان مراد الشعب العثماني ثلاثين سنة بكلِّ حكمة ومهارة لا يضاهيه فيها أحد من ساسة عصره؛ قال المؤرِّخ البيزنطي هالكو نديلاس عن مراد الأول: «قام مراد بأعمال مهمة كثيرة، دخل 37 معركة سواء في الأناضول أو في البلقان، وخرج منها جميعًا ظافرًا، وكان يُعامل رعيته معاملة شفيقة دون النظر إلى فوارق العرق والدين».

ويقول عنه المؤرِّخ الفرنسي كرينارد: «كان مراد واحدًا من أكبر رجالات آل عثمان، وإذا قوَّمناه تقويمًا شخصيًّا، نجده في مستوى أعلى من كلِّ حُكَّام أوربا في عهده».

لقد ورث مراد الأول عن والده إمارة كبيرة بلغت 95.000 كيلو متر مربع، وعند استشهاده تَسَلَّم ابنه بايزيد هذه الإمارة العثمانية بعد أن بلغت 500.000 كيلو متر مربع؛ بمعنى أنها زادت في مدى حوالي 29 سنة أكثر من خمسة أمثال ما تركها له والده أورخان.

دعاء السلطان مراد قبل اندلاع معركة قوصوه
كان السلطان مراد يعلم أنه يُقاتل في سبيل الله، وأنَّ النصر من عنده؛ ولذلك كان كثير الدعاء والإلحاح على الله، والتضرُّع إليه، والتوكُّل عليه، ومن دعائه الخاشع نستدلُّ على معرفة السلطان مراد لربِّه، وتحقيقه لمعاني العبودية؛ يقول السلطان مراد في مناجاته لربه: «يا الله؛ يا رحيم، يا رب السموات، يا مَنْ تتقبَّلُ الدعاء لا تُخْزِني، يا رحمن، يا رحيم، استجب دعاء عبدك الفقير هذه المرَّة، أَرْسِلِ السماء علينا مدرارًا، وبدِّد سحب الظلام فنرى عدوَّنا، وما نحن سوى عبيدك المذنبين، إنك الوهاب ونحن فقراؤك. ما أنا سوى عبدك الفقير المتضرِّع، وأنت العليم يا علام الغيوب والأسرار وما تُخفي الصدور، ليس لي من غاية لنفسي ولا مصلحة ولا يحملني طلب المغنم، فأنا لا أطمع إلَّا في رضاك يا الله يا عليم يا موجود في كل الوجود، أفديك روحي فتقبَّل رجائي، ولا تجعل المسلمين يَبُؤُ بهم الخذلان أمام العدوِّ، يا الله يا أرحم الراحمين لا تجعلني سببًا في موتهم؛ بل اجعلهم المنتصرين، إن روحي أبذلها فداءً لك يا رب إني وددت وما زلت دومًا أبغي الاستشهاد من أجل جند الإسلام، فلا تُرِنِي يا إلهي محنتهم، واسمح لي يا إلهي هذه المرَّة أن أستشهد في سبيلك ومن أجل مرضاتك».

وفي رواية: «يا إلهي؛ إنني أُقسم بعزَّتك وجلالك أنني لا أبتغي من جهادي هذه الدنيا الفانية، ولكنني أبتغي رضاك، ولا شيء غير رضاك يا إلهي، إنني أُقسم بعزَّتك وجلالك أنني أُجاهد في سبيلك، فزدني تشريفًا بالموت في سبيلك».

وفي رواية: «يا إلهي ومولاي؛ تقبَّل دعائي وتضرُّعي، وأنزل علينا برحمتك غيثًا يُطفئ من حولنا غبار العواصف، واغمرنا بضياءٍ يُبَدِّد من حولنا الظلمات؛ حتى نتمكَّن من إبصار مواقع عدونا؛ فنقاتله في سبيل إعزاز دينك العزيز.
إلهي ومولاي؛ إن المُلك والقوَّة لك، تمنحها لمَنْ تشاء من عبادك، وأنا عبدك العاجز الفقير، تعلم سرِّي وجهري، أُقسم بعزَّتِك وجلالك إنني لا أبتغي من جهادي حطام هذه الدنيا الفانية، ولكني أبتغي رضاك ولا شيء غير رضاك.
إلهي ومولاي؛ أسألك بجاه وجهك الكريم، أن تجعلني فداءً للمسلمين جميعًا، ولا تجعلني سببًا في هلاك أحد من المسلمين في سبيل غير سبيلك القويم.
إلهي ومولاي؛ إن كان في استشهادي نجاة لجند المسلمين فلا تحرمني الشهادة في سبيلك؛ لأنعم بجوارك ونعم الجوار جوارك.
إلهي ومولاي؛ لقد شرَّفتني بأن هديتني إلى طريق الجهاد في سبيلك، فزدني شرفًا بالموت في سبيلك».

إنَّ هذا الدعاء الخاشع دليل على معرفة السلطان مراد بالله –عز وجل، وعلى أنه حقَّق شروطَ كلمةِ التوحيد (لا إله إلا الله)، ولقد اجتمعت شروطها في سلوكه وحياته.

لقد فهم السلطان مراد حقيقة الإيمان وكلمة التوحيد، وذاق آثارها في حياته، فنشأت في نفسه أنفة وعزَّة مستمدَّة من الإيمان بالله، فأيقن أنه لا نافع إلَّا الله –عز وجل؛ فهو المحيي والمميت، وهو صاحب الحُكْم والسلطة والسيادة؛ ومن ثَمَّ نزع من قلبه كلَّ خوفٍ إلَّا منه سبحانه، فلم يُطأطئ رأسه أمام أحد من الخلق، ولا يتضرَّع إليه، ولا يرتع من كبريائه وعظمته؛ لأنه على يقين بأن الله هو القادر العظيم، ولقد أكسبه الإيمان بالله قوَّة عظيمة من العزم والإقدام، والصبر والثبات، والتوكُّل والتطلُّع إلى معالي الأمور؛ ابتغاء مرضاته –سبحانه وتعالى، فكان في المعارك التي خاضها ثابتًا كالجبال الراسية، وكان على يقين راسخ بأن المالك الوحيد لنفسه وماله هو الله -سبحانه؛ ولذلك لم يُبَالِ بأن يُضَحِّيَ في سبيل مرضاة ربِّه بكلِّ غالٍ ورخيصٍ.
إن السلطان مرادًا عاش حقيقة الإيمان؛ ولذلك اندفع إلى ساحات الجهاد، وبذل ما يملكه من أجل دعوة الإسلام.

أورخان غازي
هو أورخان غازي بن عثمان بن أرطغرل مُؤَسِّس الجيش العثماني، ومُؤَسِّس جيش الانكشارية، ومُنهي نفوذ البيزنطيين في بلاد آسيا الصغرى، وفي عهده بدأت الفتوحات الإسلامية في الشرق الأوربي.

نشأة أورخان غازي
وُلِدَ أورخان عام (687هـ= 1288م) في السنة التي تولَّى أبوه فيها الحُكْم، وهو ثاني أبناء أبيه من حيث السنِّ، لكن يبدو أنه كان أكثرهم نباهة، وأشجعهم، فنال بذلك الملك.

نشأ أورخان في كنف أبيه السلطان عثمان الغازي مُؤَسِّس الدولة العثمانية؛ التي إليه تُنسب، وحرص أبوه على إعداده لتولِّي المسئولية ومهامِّ الحكام؛ فعهد إليه بقيادة الجيوش التي كان يُرسلها إلى حدود الدولة البيزنطية، وكان أورخان عسكريًّا من الطراز الأول.

السلطان أورخان
لم يكد أورخان ينجح في فتح مدينة بورصة حتى استدعاه والده؛ الذي كان في مرض الموت، وأوصى له بالحُكْم من بعده في (21 من رمضان 726هـ= 21 من أغسطس 1326م)، وترك له وصية سجَّلها المؤرخ العثماني عاشق الحلبي؛ جاء فيها: «يا بني؛ أحِطْ مَنْ أطاعك بالإعزاز، وأنعم على الجنود، لا يغرنَّك الشيطان بجهدك وبمالك، وإيَّاك أن تبتعد عن أهل الشريعة! يا بني؛ لسنا من هؤلاء الذين يُقيمون الحروب لشهوة حُكْم، أو سيطرة أفراد؛ فنحن بالإسلام نحيا، وللإسلام نموت، وهذا يا ولدي ما أنت أهل له. يا بني؛ إنك تعلم أنَّ غايتنا هي إرضاء ربِّ العالمين، وأنه بالجهاد يعمُّ نور ديننا كلَّ الآفاق؛ فتَحْدُث مرضاة الله –عز وجل».

وعلى الرغم من أن أورخان لم يكن أكبر أبناء عثمان الغازي؛ فإن أخاه الأكبر علاء الدين لم يُعلن العصيان أو يُعارض وصية أبيه؛ بل إنه قدَّم الصالح العامَّ للدولة على الصالح الخاص له، وجعل نفسه في خدمة أهداف الدولة العليا، وقد عَيَّن أورخان أخاه علاء الدين في الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء)؛ فقام بتدبير الأمور الداخلية، على حين تفرَّغ أورخان للفتوحات العثمانية.
فتوحات أورخان غازي في الأناضول
كان أول عمل قام به أورخان هو أن نقل عاصمة دولته إلى مدينة بورصة؛ نظرًا لموقعها الاستراتيجي، وأرسل أورخان قُوَّاد جيوشه لفتح ما تبقَّى من بلاد آسيا الصغرى الخاضعة لنفوذ البيزنطيين؛ ففتحوا أهم مدنها، وفتح السلطان بنفسه مدينة «أزميد»؛ وهي مدينة يونانية قديمة بآسيا الصغرى، ولم يَبْقَ من المدن المهمَّة بتلك المنطقة سوى مدينة «أزنيك»؛ فحاصرها وضيَّق عليها الحصار حتى دخلها بعد سنتين، وانتهى بذلك نفوذ البيزنطيين في بلاد آسيا الصغرى.

اتَّبع أورخان في البلاد المفتوحة سياسة اللين والرفق؛ وهو ما جذب إليه قلوب الأهالي، حيث لم يُعارضهم في إقامة شعائر دينهم، وسمح لهم بحُرِّيَّة الحركة والتنقُّل ونحو ذلك.

وقد أدَّتْ هذه السياسية السمحة إلى أن الغالبية العظمى من الروم البيزنطيين -الذين كانوا يسكنون هذه المناطق- دخلوا الإسلام طوعًا، وأفتى الفقهاء -الذين كان السلاطين يستشيرونهم في كلِّ ما يتَّصل بتشريعات الدولة ونظمها- بأنَّ كلَّ مَنْ أسلم بأهله من السكان صار من أهل الدولة. وهذه الفتوى سَهَّلت على العثمانيين فتح إمارة «قرة سي» الواقعة على البحر سنة (736هـ= 1336م)؛ وبهذا سيطر الأتراك العثمانيون على الركن الشمالي الغربي لآسيا الصغرى.

تسامع الأتراك في شرقي آسيا بانتصارات بني عمومتهم؛ فتوافدوا عليهم ألوفًا، وانضمُّوا إلى جيوشهم، فتضاعفت أعداد الأتراك العثمانيين مرَّات كثيرة.

أورخان الغازي .. أعمال نظامية حضارية
أمضى أورخان -بعد استيلائه على إمارة قرة سي- عشرين سنة دون أن يقوم بأيِّ حروب؛ بل قضاها في صقل النظم المدنية والعسكرية التي أوجدتها الدولة، وفي تعزيز الأمن الداخلي، وبناء المساجد ورصد الأوقاف عليها، وإقامة المنشآت العامة الشاسعة؛ مما يشهد بعظمة أورخان وتقواه، وحكمته وبُعد نظره، فإنه لم يشنّ الحرب تلو الحرب طمعًا في التوسُّع؛ وإنما حرص على تعزيز سلطانه في الأراضي التي يُتاح له ضمُّها، وحرص على طبع كل أرض جديدة بطابع الدولة المدني والعسكري والتربوي والثقافي؛ وبذلك تُصبح جزءًا لا يتجزأ من أملاكهم؛ بحيث أصبحت أملاك الدولة في آسيا الصغرى متماثلة ومستقرَّة، وهذا يدلُّ على فَهْم واستيعاب أورخان لسُنَّة التدرُّج في بناء الدول وإقامة الحضارة، وإحياء الشعوب.

ولقد اهتمَّ أورخان بتوطيد أركان دولته وبالقيام بالأعمال الإصلاحية والعمرانية، وقد نَظَّم شئون الإدارة، وقوَّى الجيش، وبنى المساجد، وأنشأ المعاهد العلمية وأشرف عليها خيرة العلماء والمعلمون، وكانوا يحظَوْنَ بقدرٍ كبيرٍ من الاحترام في الدولة، وكانت كلُّ قرية بها مدارسها، وكلُّ مدينة بها كليتها التي تُعَلِّم النحو والتراكيب اللغوية، والمنطق وفقه اللغة، وعلم الإبداع اللغوي والبلاغة، والهندسة والفلك، وبالطبع تحفيظ القرآن وتدريس علومه، والسُّنَّة والفقه والعقائد.

تأسيس الجيش العثماني الإسلامي
كان من أهمِّ أعمال أورخان تأسيسه للجيش الإسلامي، وقد حرص على إدخال نظامٍ جديد للجيش وتطويره وتحديثه؛ حتى يُؤَدِّيَ دوره على أحسن وجه؛ فقام بتقسيم الجيش إلى وَحَدَات، كل وَحْدَة تتكوَّن من عَشَرَة أشخاص، أو مائة، أو ألف، وخَصَّصَ خُمُسَ الغنائم للإنفاق منها على الجيش، وجعله جيشًا دائمًا وليس استثنائيًّا؛ فقد كان قبل ذلك لا يجتمع إلَّا وقت الحرب، كما أنشأ كذلك مراكز خاصَّةً يتمُّ فيها تدريب الجيش والارتقاء بالجنود، وتعليمُهم مهارات القتال.

لقد احتلَّ الجيش مكانة بالغة الأهمية في حياة الدولة العثمانية؛ فهو أداةٌ للحُكْم والحرب معًا؛ إذ كانت الحكومة العثمانية جيشًا قبل أي شيء آخر، وكان كبار موظَّفي الدولة هم في الوقت نفسه قادة الجيش، ومن هنا جاء القول الشائع بأن الحكومة العثمانية والجيش العثماني وجهان لعملة واحدة.

لقد استطاع أورخان أن يُؤَسِّس جيشًا إسلاميًّا نظاميًّا دائم الاستعداد للجهاد، وقد كان هذا الجيش يتكوَّن من فرسان عشيرته، ومن مجاهدي النفير الذين كانوا يُسارعون لإجابة داعي الجهاد، ومن أمراء الروم وعساكرهم الذين دخل الإسلام في قلوبهم، وحَسُن إسلامهم.

وقد عمل أورخان كذلك على زيادة عدد جيشه الجديد بعد أن ازدادت تبعات الجهاد ومحاربة البيزنطيين، فاختار عددًا من شباب الأتراك، وعددًا من شباب البيزنطيين؛ الذين أسلموا وحَسُن إسلامهم، فضمَّهم إلى الجيش، واهتمَّ بهم اهتمامًا كبيرًا، وربَّاهم تربية إسلامية جهادية، ولم يلبث الجيش الجديد أن تزايد عدده، وأصبح يضمُّ الآلاف من المجاهدين في سبيل الله، وكانت راية الجيش الجديد من قماش أحمر وسطها هلال، وتحت الهلال صورة لسيف، أطلقوا عليه اسم ذي الفقار تيمُّنًا بسيف الإمام علي بن أبي طالب –رضي الله عنه.

إنشاء جيش الانكشارية
أنشأ أورخان فرقة الانكشارية بناءً على اقتراح من أحد قادة الجيش يدعى «قرة خليل»؛ وقد كان هؤلاء الجنود يُختارون في سنٍّ صغيرة من أبناء المسلمين الذين تَرَبَّوْا تربية صوفية جهادية، أو من الأولاد الذين أُسِروا في الحروب أوِ اشْتُرُوا بالمال.

وكان هؤلاء الصغار يُرَبَّون في معسكرات خاصَّة بهم؛ يتعلَّمُون اللغة والعادات والتقاليد التركية، ومبادئ الدين الإسلامي، وفي أثناء تعليمهم يُقَسَّمون إلى ثلاث مجموعات: الأولى تُعَدُّ للعمل في القصور السلطانية، والثانية تُعَدُّ لشغل الوظائف المدنية الكبرى في الدولة، والثالثة تُعَدُّ لتشكيل فرق المشاة في الجيش العثماني، ويُطلق على أفرادها الانكشارية؛ أي: الجنود الجدد، وكانت هذه المجموعة هي أكبر المجموعات الثلاث وأكثرها عددًا. وقد كانوا فرقة من المشاة المحترفين، وكانت لهم امتيازاتهم الخاصة، وقد تلَقَّوْا تدريبًا وتعليمًا خاصًّا؛ حتى أصبحوا من أهمِّ فرق الجيش العثماني، وكانوا يقومون بخدمة السلطان بغَيْرة وحماس.

وقد اكتسبت هذه الفرقة صفة الدوام والاستمرار في عهد السلطان مراد الأول بداية من سنة (761هـ= 1360م)، وكانت قبل ذلك تُسرَّح بمجرد الانتهاء من عملها.

وامتاز الجنود الانكشاريون بالشجاعة الفائقة، والصبر في القتال، والولاء التامِّ للسلطان العثماني باعتباره إمام المسلمين.

وقد ازدادت مكانة الانكشاريين في عهد السلطان محمد الفاتح؛ فقد جعل لقائدها حقَّ التقدُّم على بقية القوَّاد، فهو يتلقَّى أوامره من الصدر الأعظم، الذي جعل له السلطان القيادة العليا للجيش.

السلطان أورخان وعبور الشاطئ الأوربي
في سنة (756هـ= 1355م) استنجد الإمبراطور البيزنطي «جان باليولوج» بالسلطان أورخان؛ طالبًا الدعم والمساعدة لصدِّ غارات ملك الصرب «إستفان دوشان»، الذي أصبح يُهَدِّد القسطنطينية نفسها، فأجاب أورخان طلب الإمبراطور البيزنطي؛ فأرسلا لدوشان جيشًا كبيرًا، لكنَّ دوشان عاجلته المنيَّة قبل وصوله بجيوشه إلى القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية فتوقَّفت حملته، وتخلَّص البيزنطيون من تهديده، وفي الوقت نفسه عاد الجيش العثماني من حيث أتى دون قتال.

غير أن العثمانيين بعد عبورهم للشاطئ الأوربي تيقَّنُوا من حالة الضعف التي حَلَّت بالإمبراطورية البيزنطية؛ وحرص السلطان أورخان على تحقيق بشارة النبي –صلى الله عليه وسلم- في فتح القسطنطينية؛ ووضع خطة استراتيجية تستهدف محاصرة العاصمة البيزنطية من الغرب والشرق في آنٍ واحدٍ، ولتحقيق ذلك بدأ أورخان يُجَهِّز الكتائب لاجتياز البحر واحتلال بعض النقاط على الشاطئ الأوربي؛ لتكون مركزًا لأعمال العثمانيين في أوربا؛ فاجتاز سليمان باشا -أكبرُ أبناء السلطان أورخان- مضيقَ الدردنيل ليلًا مع أربعين رجلًا من فرسان الإسلام سنة (758هـ= 1357م) ولمَّا أدركوا الضفة الغربية، استولَوْا على الزوارق الرومية الراسية هناك، وعادوا بها إلى الضفة الشرقية؛ إذ لم يكن للعثمانيين أسطول حينذاك؛ حيث لا تزال دولتهم في بداية تأسيسها، وفي الضفة الشرقية أمر سليمان جنوده، أن يركبوا في الزوارق حيث تنقلهم إلى الشاطئ الأوربي؛ حيث فتحوا ميناء قلعة ترنب، وغاليبولي التي فيها قلعة (جنا قلعة) و(أبسالا) و(رودستو)، وكلها تقع على مضيق الدردنيل من الجنوب إلى الشمال، وبهذا خطا هذا السلطان خطوة كبيرة استفاد بها مَنْ جاء بعده في فتح القسطنطينية؛ ولذا يُعَدُّ أورخان أول سلطان عثماني يمتدُّ ملكه إلى داخل أوربا.

ويُعَدُّ دخول الأتراك العثمانيين إلى البلقان والقارة الأوربية من الوقائع التاريخية المهمَّة؛ حيث غيَّرَتْ وجه التاريخ الأوربي ومصير الدول الأوربية، وكان ذلك بداية لتقدُّمٍ عثمانيٍّ سريع في البلقان.

وفاة أورخان غازي
تُوُفِّيَ السلطان أورخان سنة (761هـ= 1360م) بعد حُكْم دام 38 سنة، وقد بلغت مساحة الأراضي العثمانية في هذا التاريخ 95000 كم2، وهي تُمَثِّل 6 أضعاف ما كانت عليه عند جلوس السلطان أورخان على كرسي الحُكْم.


عثمان بن أرطغرل
عثمان بن أرطغرل بن سليمان شاه مُؤَسِّس الدولة العثمانية وأوَّل سلاطينها وإليه تُنسب؛ فلقد تعاقب على إمارة السلطنة العثمانية قبل أن تُعلن نفسها خلافة إسلامية سلاطين أقوياء، ويُعتبر عثمان بن أرطغرل هو مُؤَسِّس الدولة وبانيها، وكانت وصاياه لابنه دستورًا سار عليه سلاطين الدولة العثمانية بعده.

نشأة عثمان بن أرطغرل
وُلِدَ عثمان بن أرطغرل سنة (656هـ= 1258م)، وشهدت سنةُ مولده غزو المغول قيادة هولاكو لبغداد وسقوط الخلافة العباسية.

لقد كان الخطب عظيمًا والحدث جللاً، والأُمَّة ضعفت ووهنت بسبب ذنوبها ومعاصيها؛ ولذلك سَلَّط الله عز وجل المغول عليها، فهتكوا الأعراض، وسفكوا الدماء، وقتلوا الأنفس، ونهبوا الأموال، وخَرَّبُوا الديار، في تلك الظروف الصعبة والوهن المستشري في مفاصل الأُمَّة وُلِدَ عثمان مُؤَسِّس الدولة العثمانية، وهنا معنى لطيف ألَا وهو بداية الأُمَّة في التمكين هي أقصى نقطة من الضعف والانحطاط، تلك هي بداية الصعود نحو العزَّة والنصر والتمكين، إنها حكمة الله سبحانه وتعالى وإرادته ومشيئته النافذة، ولا شكَّ أن الله تعالى قادر على أن يُمكِّن لعباده المستضعفين في عشية أو ضحاها؛ بل في طرفة عين، قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل: 40].
فلا يستعجل أهل الحقِّ موعود الله –عز وجل- لهم بالنصر والتمكين، فلا بُدَّ من مراعاة السُّنَنِ الشرعية والسُّنَنِ الكونية، ولا بُدَّ من الصبر على دين الله عز وجل: {وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4]. والله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئًا هيَّأ له أسبابه، وأتى به شيئًا فشيئًا بالتدرُّج لا دفعة واحدة؛ وبدأت قصَّة التمكين للدولة العثمانية مع ظهور القائد عثمان بن أرطغرل؛ الذي وُلِدَ في عام سقوط الخلافة العباسية في بغداد.

أعمال عثمان بن أرطغرل
لقد بدأ عثمان بن أرطغرل يُوَسِّع إمارته؛ فتمكَّن من أن يضمَّ إليه عام (688هـ= 1289م) قلعة قره حصا (القلعة السوداء)، أو أفيون قرة حصار؛ فسُرَّ الملك علاء الدين سلطان السلاجقة بهذا كثيرًا، فمنحه لقب (بك)، والأراضي التي يضُمُّها إليه كافَّة، وسمح له بضرب العملة، وأن يُذكر اسمه في خطبة الجمعة.

وفي عام (699هـ= 1300م) أغار المغول على إمارة علاء الدين، ففرَّ من وجههم، والتجأ إلى إمبراطور بيزنطة، وتُوُفِّيَ هناك في العام نفسه، وإن قيل: إنَّ المغول قد تمكَّنُوا من قتله، وتولية ابنه غياث الدين مكانه. ثم إن المغول قد قتلوا غياث الدين، ففسح المجال لعثمان؛ إذ لم تَعُدْ هناك سلطة أعلى منه تُوَجِّهُه أو يرجع إليها في المهمَّات؛ فبدأ يتوسَّع، وإن عجز عن فتح أزميد (أزميت)، وأزنيق (نيقية) رغم محاصرتهما، واتخذ مدينة (يني شهر) -أي المدينة الجديدة- قاعدة له، ولقَّب نفسه باديشاه آل عثمان، واتخذ راية له وهي علم تركيا اليوم، ودعا أمراء الروم في آسيا الصغرى إلى الإسلام، فإن أَبَوْا فعليهم أن يدفعوا الجزية، فإن رفضوا فالحرب هي التي تحكم بينه وبينهم، فخشوا على أملاكهم منه، فاستعانوا بالمغول عليه، وطلبوا منهم أن يُنجدوهم منه، غير أن عثمان قد جهَّز جيشًا بإمرة ابنه أورخان، الذي قارب الثلاثين من العمر، وسيَّره إلى قتال المغول فشتَّت شملهم.

ثم عاد واتَّجه إلى مدينة (بورصة)؛ فاستطاع أن يدخلها عام (717هـ= 1317م)، وتُعَدُّ بورصة من الحصون الرومية المهمَّة في آسيا الصغرى، فأمَّن أهلها، وأحسن إليهم، فدفعوا له ثلاثين ألفًا من عملتهم الذهبية، وأسلم حاكمها أفرينوس، فمنحه عثمان لقب (بك)، وأصبح من القادة العثمانيين البارزين.

أهم الصفات القيادية في عثمان بن أرطغرل
1- الشجاعة: عندما تنادى أمراء المسيحيين البيزنطيين في بورصة ومادانوس وأدره نوس وكته وكستله في عام (700هـ= 1301م)؛ وذلك لتشكيل حلف صليبي لمحاربة عثمان، واستجابت النصارى لهذا النداء وتحالفوا -تَقَدَّم عثمان بجنوده، وخاض الحروب بنفسه، فشتَّت الجيوش الصليبية، وظهرت منه شجاعة أصبحت مضرب المثل.

2- الحكمة: لقد رأى من الحكمة أن يقف مع السلطان علاء الدين ضدَّ النصارى، وساعده في افتتاح جملةٍ من مدن منيعة، وعدَّة قلاع حصينة؛ ولذلك نال رتبة الإمارة من السلطان السلجوقي علاء الدين، وسمح له بِسَكِّ العملة باسمه، مع الدعاء له في خطبة الجمعة في المناطق التي تحت يده.

3- الإخلاص: عندما لمس سكان الأرضي القريبة من إمارة عثمان إخلاصه للدين؛ تحرَّكوا لمساندته والوقوف معه؛ وذلك لتوطيد دعائم دولة إسلامية تقف سدًّا منيعًا أمام الدول المعادية للإسلام والمسلمين.

4- الصبر: وظهرت هذه الصفة في شخصيَّته عندما شرع في فتح الحصون والبلدان؛ ففتح في سنة (707هـ= 1308م) حصن كته، وحصن لفكة، وحصن آق حصار، وحصن قوج حصار، وفي سنة (712هـ= 1312م) فتح صحن كبوه وحصن يكيجه طرا قلوا، وحصن تكرر بيكاري.. وغيرها من الحصون، وقد توَّج فتوحاته هذه بفتح مدينة بورصة في عام (717هـ= 1317م)؛ وذلك بعد حصار صعب وشديد دام عدَّة سنوات، كان من أصعب ما واجهه عثمان في فتوحاته.

5- الجاذبية الإيمانية: وتظهر هذه الصفة عندما احتكَّ به أقرينوس قائد بورصة فاعتنق الإسلام، وأعطاه السلطان عثمان لقب (بك)، وأصبح من قادة الدولة العثمانية البارزين فيما بعدُ، وقد تأثَّر كثيرٌ من القادة البيزنطيين بشخصية عثمان ومنهجه، الذي سار عليه حتى امتلأت صفوف العثمانيين منهم؛ بل إن كثيرًا من الجماعات الإسلامية انخرطت تحت لواء الدولة العثمانية؛ كجماعة غزياروم (أي غزاة الروم)، وهي جماعة إسلامية كانت تُرابط على حدود الروم وتصدُّ هجماتهم عن المسلمين منذ العصر العباسي، وجماعة الإخيان (أي الإخوان)؛ وهم جماعة من أهل الخير يُعِينُون المسلمين ويستضيفونهم، ويُصاحبون جيوشهم لخدمة الغزاة، ويتولَّوْنَ إقامة المساجد والتكايا والفنادق، وجماعة حاجيات روم (أي حجاج أرض الروم)؛ وكانت جماعة على فقهٍ بالإسلام ومعرفة دقيقة بتشريعاته، وكان هدفها معاونة المسلمين عمومًا والمجاهدين خصوصًا وغير ذلك من الجماعات.

6- عدله: تروي معظم المراجع التركية التي أرَّخت للعثمانيين أن أرطغرل عهد إلى ابنه عثمان مُؤَسِّس الدول العثمانية بولاية القضاء في مدينة قرة جه حصار؛ وذلك بعد الاستيلاء عليها من البيزنطيين في عام (684هـ= 1285م)، وأنَّ عثمانَ حَكَمَ لبيزنطيٍّ نصرانيٍّ ضدَّ مسلمٍ تركيٍّ، فاستغرب البيزنطيُّ؛ وسأل عثمان: «كيف تحكم لصالحي وأنا على غير دينك؟!» فأجابه عثمان: «بل كيف لا أحكم لصالحك، والله الذي نعبده، يقول لنا: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]». فاهتدى الرجل وقومه إلى الإسلام، لقد استخدم عثمان العدل مع رعيَّتِه وفي البلاد التي فتحها، فلم يُعامل القوم المغلوبين بالظلم أو الجوار، أو التعسُّف أو التجبر، أو الطغيان أو البطش.

7- الوفاء: كان شديد الاهتمام بالوفاء بالعهود، فعندما اشترط أميرُ قلعة أولوباد البيزنطية -حين استسلم للجيش العثماني- أن لا يمرَّ من فوق الجسر أيُّ عثمانيٍّ مسلم إلى داخل القلعة، التزم بذلك، وكذلك مَنْ جاء بعده.

8- التجرُّد: فلم تكن أعماله وفتوحاته من أجل مصالح اقتصادية أو عسكرية أو غير ذلك، بل كانت فرصة لتبليغ دعوة الله ونشر دينه؛ ولذلك وصفه المؤرِّخ أحمد رفيق في موسوعته المطبوعة باللغة التركية (التاريخ العام الكبير) بقوله: «كان عثمان متدينًا للغاية، وكان يعلم أن نشر الإسلام وتعميمه واجب مقدس، وكان مالكًا لفكر سياسي واسع متين، ولم يُؤَسِّس عثمان دولته حبًّا في السلطة؛ وإنما حبًّا في نشر الإسلام». ويقول المؤرخ التركي قادر مصر أوغلو في كتابه مأساة بني عثمان: «لقد كان عثمان بن أرطغرل يُؤمن إيمانًا عميقًا بأن وظيفته الوحيدة في الحياة هي الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وقد كان مندفعًا بكل حواسِّه وقواه نحو تحقيق هذا الهدف».

لقد كانت شخصية عثمان مُتَّزنة وخلَّابة؛ وهذا لإيمانه العظيم بالله واليوم الآخر؛ ولذلك لم تَطْغَ قوَّتُه على عدالته، ولا سلطانُه على رحمته، ولا غناه على تواضعه، وأصبح مستحقًّا لتأييد الله وعونه؛ ولذلك أكرمه الله بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة، فجعل له مكنة وقدرة على التصرُّف في آسيا الصغرى؛ وذلك من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار، لقد كانت رعاية الله له عظيمة؛ ولذلك فتح له باب التوفيق، وحقَّق ما تطلع إليه من أهداف وغاية سامية.

وفاة عثمان بن أرطغرل ووصاياه التي سار عليه العثمانيون
تُوُفِّيَ الغازي عثمان عام (726هـ= 1326م)، وقد عهد لابنه أورخان بالحُكم من بعده، وقد كانت حياة عثمان جهادًا ودعوةً في سبيل الله، وكان علماء الدين يُحيطون بالأمير، ويُشرفون على التخطيط الإداري والتنفيذ الشرعي في الإمارة.

وصية عثمان بن أرطغرل لوده أورخان
ولقد حفظ لنا التاريخ وصية عثمان لابنه أورخان وهو على فراش الموت، وكانت تلك الوصية دلالة حضارية ومنهجية شرعية سارت عليها الدولة العثمانية فيما بعدُ، يقول عثمان في وصيته: «يا بني؛ إيَّاك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله ربُّ العالمين، وإذا واجهتْكَ في الحُكْم معضلة فاتَّخذ من مشورة علماء الدين موئلاً.. يا بني؛ أحطْ مَنْ أطاعك بالإعزاز، وأَنْعِمْ على الجنود، ولا يغرَّك الشيطان بجندك (1) وبمالك، وإيَّاك أن تبتعد عن أهل الشريعة!.. يا بني؛ إنك تعلم أن غايتنا هي إرضاء الله ربِّ العالمين، وأنَّ بالجهاد يَعُمُّ نور ديننا كل الآفاق، فتَحْدُثُ مرضاة الله –عز وجل.. يا بني؛ لسنا من هؤلاء الذين يُقيمون الحروب لشهوة الحكم أو سيطرة أفراد؛ فنحن بالإسلام نحيا ونموت، وهذا يا ولدي ما أنت له أهل».

وفي كتاب (التاريخ السياسي للدولة العلية العثمانية) تجد رواية أخرى للوصية: «اعلم يا بني أن نشر الإسلام، وهداية الناس إليه، وحماية أعراض المسلمين وأموالهم أمانة في عنقك سيسألك الله عز وجل عنها».

وفي كتاب (مأساة بني عثمان) نجد عبارات أخرى من وصية عثمان لابنه أورخان؛ تقول: «يا بني؛ إنني أنتقل إلى جوار ربي، وأنا فخور بك بأنك ستكون عادلًا في الرعيَّة، مجاهدًا في سبيل الله، لنشر دين الإسلام.. يا بني؛ أُوصيك بعلماء الأُمَّة، أدم رعايتهم، وأكثر من تبجيلهم، وانزل على مشورتهم؛ فإنهم لا يأمرون إلَّا بخير.. يا بني؛ إيَّاك أن تفعل أمرًا لا يُرضي الله عز وجل! وإذا صَعُب عليك أمر فاسأل علماء الشريعة؛ فإنهم سيدلُّونك على الخير.. واعلم يا بني أن طريقنا الوحيد في هذه الدنيا هو طريق الله، وأن مقصدنا الوحيد هو نشر دين الله، وأننا لسنا طلَّاب جاهٍ ولا دنيا».

وفي (التاريخ العثماني المصور) عبارات أخرى من وصية عثمان تقول: «وصيتي لأبنائي وأصدقائي: أديموا علوَّ الدين الإسلامي الجليل بإدامةِ الجهاد في سبيل الله، أمسكوا راية الإسلام الشريفة في الأعلى بأكمل جهاد، اخدموا الإسلام دائمًا؛ لأن الله عز وجل- د وظَّف عبدًا ضعيفًا مثلي لفتح البلدان، اذهبوا بكلمة التوحيد إلى أقصى البُلْدَان بجهادكم في سبيل الله، ومَنِ انحرف من سلالتي عن الحقِّ والعدل حُرِمَ من شفاعة الرسول الأعظم يوم المحشر.. يا بني؛ ليس في الدنيا أحدٌ لا يخضع رقبته للموت، وقد اقترب أجلي بأمر الله عز وجل أُسَلِّمك هذه الدولة، وأستودعك المولى عز وجل، اعدل في جميع شئونك».

لقد كانت هذه الوصية منهجًا سار عليه العثمانيون، فاهتمُّوا بالعلم وبالمؤسسات العلمية، وبالجيش والمؤسسات العسكرية، وبالعلماء واحترامهم، وبالجهاد -الذي أوصل فتوحًا إلى أقصى مكان وصلت إليه راية جيش مسلم- وبالإمارة وبالحضارة.

ونستطيع أن نستخرج الدعائم والقواعد والأسس التي قامت الدولة العثمانية من خلال تلك الوصية.

المنصور قلاوون
هو المنصور سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي، أحدُ أشهر سلاطين المماليك البحرية، ورأسُ أسرةٍ حكمت مصر والمشرق العربي ما يزيد على قرن من الزمان، كان من رجال الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأبلى بلاءً حسنًا في معركة المنصورة، وعلا شأنه بعد ذلك، فكان من كبار الأمراء أصحاب النفوذ في دولة بيبرس، وبُويع له بالسلطنة في الحادي عشر من رجب سنة 678هـ خلفًا للملك الصغير العادل بدر الدين سلامش.

قبل الولاية
بعد وفاة الظاهر بيبرس سنة (676هـ=1278م) خلفه على الحكم اثنان من أولاده؛ هما: بركة خان، وبدر الدين سلامش؛ لكنهما لم يستمرَّا طويلًا في الحكم؛ لصغر سنِّهما وعدم أهليتهما لممارسة أعباء الحكم؛ فالأوَّل كان في السابعة عشر من عمره عندما تولَّى الحكم، وكان على النقيض من أبيه: شابًّا مستهترًا، يميل إلى اللهو والشراب، سيِّئ الرأي والتدبير، فنفر منه كبار الأمراء وقاموا بخلعه، وأمَّا الآخر فكان طفلاً حدثًا في السابعة من عمره، لا يعرف معنى السلطة، ولا يقدر على حمل شيء من تبعاتها؛ فقام الأمير قلاوون بالوصاية على السلطان الصغير وإدارة أمور الدولة نيابة عنه؛ حتى إذا أمسك زمام الأمور بيده، وصار الحُكْم طوع بنانه أقدم على ما لا بُدَّ منه، فخلع السلطان الطفل -الذي لا يعرف لماذا أُقيم على السلطنة؟ ولِمَ خُلع؟- وأعلن نفسه سلطانًا على البلاد.

تولي قلاوون الحكم
كان الأمير سيف الدين قلاوون أحدَ المماليك البحرية، اشتراه الأمير علاء الدين آق سنقر بألف دينار، فعُرف قلاوون بالألفي، ولمَّا تُوُفِّيَ الأمير علاء الدين انتقل إلى خدمة الملك الصالح أيوب، ثم أهَّلته مواهبه وملكاتُه لأن يبرز على الساحة في الفترة التي خرجت فيها دولة المماليك البحرية إلى الوجود، ولمع في عهد السلطان الظاهر بيبرس؛ الذي أولاه ثقته؛ لرجاحة عقله وشجاعته، وتصاهرا؛ حيث تزوج بركة خان ابن السلطان بيبرس من ابنة قلاوون؛ تأكيدًا على رُوح المحبَّة والصداقة بينهما.

ولما ساءت سلطنة بركة خان وفشل في القيام بأعباء الحكم لخفَّته ورعونته وسُوء تصرُّفه؛ أجبره الأمراء على خلع نفسه من الحكم، وكان لقلاوون يد ظاهرة في هذا الخلع، وتطلَّع إلى الحكم وهو به جدير، لكنه انتظر الفرصة المناسبة ليَثِبَ على الحكم دون أن يُنازعه أحدٌ، فلمَّا واتته الفرصة اقتنصها وعزل السلطان الصغير، وتولَّى هو الحكم في (رجب 678هـ = نوفمبر 1279م)، وبايعه الأمراء وأرباب الدولة، وتلقَّب بالملك المنصور.

وأجمع المؤرِّخُون على وصف السلطان قلاوون بأطيب الصفات وأنبلها، ولعلَّ من أبلغ هذه الأوصاف ما قاله بيبرس المنصوري: «كان حليمًا عفيفًا في سفك الدماء، مقتصدًا في العقاب، كارهًا للأذى».
غير أن قلاوون لم يَسْلَمْ من اعتراض كبار أمراء المماليك على تولِّيه الحُكم، وكان بعضهم يرى نفسه أحقَّ بالسلطنة منه؛ فَهُمْ على درجات متقاربة من القوَّة والنفوذ، لكنَّ قلاوون نجح -بالقوَّة أحيانًا وبالسياسة أحيانًا أخرى- في أن يُمسك بزمام الأمور، ويقضي على الثورات التي قامت في وجهه.

ونجح قلاوون في استمالة قلوب الناس إليه؛ لرأفته ولينه، وميله إلى رفع ما يزيد من معاناتهم، فألغى كثيرًا من الضرائب التي كانت تُفرض على الناس، وأبطل كثيرًا من المظالم التي عانى الشعب منها.

جهاد المنصور قلاوون ضد المغول
في السابع والعشرين من جُمَادَى الآخرة (680هـ= 1281م) وصل الخبر بقدوم منكوتمر بن هولاكو بجيشه إلى عنتاب، فخرج إليه السلطان وعسكر في حمص، واستقدم سنقر الأشقر وقوَّاته، ودخل التتار حماة فخرَّبوا فيها، ثم وصلوا إلى حمص حيث التقى الجمعان في موقعة حمص في (14 من رجب 680 هـ=30 من أكتوبر 1281م)؛ حيث اضطربت ميمنة المسلمين في البداية، ثم الميسرة، وثبت السلطان ومَنْ معه ثباتًا عظيمًا؛ مما حمل الأمراء والقادة على الانقضاض على التتار وكسروهم كسرة عظيمة، وجرحوا ملكهم، وقتلوا منهم الكثير، وكانت مقتلة تفوق الوصف، وانتهت المعركة بانتصار المسلمين انتصارًا مظفَّرًا، ودخل السلطان المنصور دمشق في أُبَّهة النصر في 22 من شعبان، وبين يديه الأسرى حاملين رءوس قتلاهم على الرماح، ثم تحسَّنت العلاقات نسبيًّا بين دولة المغول والمماليك بعد أن تولَّى الحكم تكودار بن هولاكو خلفًا لأخيه أبغا، وأعلن إسلامه، وكان شديد الرغبة في إقامة علاقات ودِّيَّة مع المماليك، لكنَّ هذا التحسُّن لم يدم طويلاً؛ فسرعان ما أطاح به وبآماله «أرغون» ابن أخيه عن حُكْم المغول، وعاد التوتُّر بين الدولتين من جديد، دون أن يحسم قلاوون أمره مع المغول، فظلُّوا خطرًا محدقًا بدولته، وإن نجح في كبح جماح هذا الخطر.

جهاد المنصور قلاوون ضد الصليبيين
لم يصبر قلاوون على انتهاء المعاهدة التي عقدها مع الصليبيين، وكانوا لا يزالون خطرًا على الدولة، يحتلُّون أجزاءً من أراضيها، ولا يحترمون عهدًا ولا ذمَّة إذا ما سنحت لهم فرصة، أو اشتدَّت بهم قوَّة، فهاجم قلاوون حصن المرقب، وهو من أمنع الحصون الصليبية في الشام؛ وذلك في سنة (684هـ= 1285م)، ونجح في الاستيلاء عليه، ولم يبقَ للصليبيين من إماراتهم سوى طرابلس التي يحكمها أمراء النورمان، وعكا التي أصبحت مقرَّ مملكة بيت المقدس، بالإضافة إلى بعض الحصون؛ مثل حصني المَرْقَب وطَرَسُوس.

ولم تكن الجبهة الصليبية متماسكة البناء؛ بل كانت الخلافات تَفْتِكُ بها، فوجد قلاوون في ذلك فرصة سانحة للانقضاض على الإمارات الصليبية المتبقِّية، فأرسل حملة عسكرية تمكَّنت من الاستيلاء على اللاذقية سنة (686هـ= 1287م)، وبعد سنتين خرج السلطانُ بنفسه إلى طرابلس على رأس قوَّة كبيرة قوامها أكثر من أربعين ألف جندي، وحاصرها أربعة وثلاثين يومًا استسلمت بعدها في ربيع الآخر 688 هـ= أبريل 1289م، وعلى إثرها سقطت المدن الأخرى المجاورة؛ مثل: بيروت، وجبلة، وانحصر الوجود الصليبي في عكا وصيدا وصور وغيليت، بعد أن كانت الممالك الصليبية تمتدُّ على طول الساحل الشامي للبحر المتوسط، وتُوُفِّيَ السلطان المنصور دون أن يتحقَّق أمله في فتح عكا آخر الإمارات الصليبية، غير أن الأقدار شاءت أن ينال ابنه خليل قلاوون شرف إنهاء الوجود الصليبي في بلاد الشام، بعد أن نجح في اقتحام أسوار عكا المنيعة في 17 من جُمَادَى الآخرة 690 هـ= 18 من مايو 1290م، وبعد عكا سقطت بقية المعاقل الصليبية في الشام، وطُوِيَتْ آخر صفحة من صفحاتها.

النشاط الحضاري
على الرغم من انشغال السلطان بمجابهة الخطر الصليبي والمغولي، وإعداد الحملات العسكرية التي استنفدت المال والجهد، فإنَّ السلطان لم يغفل عن تنشيط الحركة العلمية، ومواصلة البناء والعمارة، وإقامة المدارس والمساجد، وكانت القاهرة قد أصبحت موئلًا للعلم، ومركزًا للحضارة بعد سقوط بغداد وازدياد سقوط دول الإسلام في الأندلس على يد الإسبان، فتوافد إليها العلماء واتخذوها قبلة لهم، ووجدوا في كنف سلاطين المماليك كل رعاية واهتمام.

ويذكر التاريخ للسلطان قلاوون ما قام به من إنشاءات عظيمة ارتبطت بها نهضة علمية ونشاط وافر؛ فأقام عددًا من المدارس التي امتلأت بالشيوخ وطلبة العلم، وفي مُقَدِّمَتِهَا المدرسة المنصورية، التي أوقفها لتدريس الفقه على المذاهب الأربعة، وكان يتولَّى التدريس بها كبار الأئمة وأعيان الفقهاء والمُحَدِّثين. وتتضمَّن حُجَّة الوقف التي كتبها قلاوون إشارات كثيرة تتعلَّق بتنظيم العملية التعليمية داخل المدرسة؛ وذلك من حيث مقرِّ الدراسة، وجلوس أهل المذاهب الأربعة بها، وأماكن سكن المدرِّسين الفقهاء وأجورهم ورواتبهم.. وغير ذلك من الشروط، وتُعَدُّ المدرسة من أروع المدارس المملوكية التي شُيِّدت بالقاهرة لعمارتها الراقية، وزخارفها الرائعة.

ولم تكن القبة المنصورية التي أقامها لتكون مدفنًا له مقصورة على هذا الغرض؛ بل جعل منها مدرسة ومسجدًا، ورتَّب بها خمسين مقرئًا؛ يقرءون القرآن ليلاً ونهارًا، وخصَّص لها إمامًا للصلاة، وعالمًا لتفسير القرآن للطلاب الذين يؤمون القبة، وجعل بها خزانة للكتب، وخازنًا يقوم بأمرها، وهذه القبة من أجمل القباب الباقية بمدينة القاهرة.

ومن أفضل إنشاءات المنصور قلاوون البيمارستان الذي أقامه لتقديم الرعاية الصحية والاجتماعية للمرضى، وافتتحه السلطان في حفل كبير شارك فيه الأمراء والقضاة والعلماء، وتضمَّنَتْ حُجَّة وقف هذا الصرح الطبي أنه مفتوح طوال اليوم لتقديم العلاج للمرضى؛ دون نظر إلى طبقاتهم أو جنسياتهم، ودون مقابل أو أجر.

ولم يقتصر دور البيمارستان على تقديم العلاج، بل تعدَّاه إلى تدريس الطبِّ للطلَّاب، وهو ما يُشبه الآن المستشفيات التعليمية التابعة لكليات الطبِّ؛ حيث يُتاح للطلَّاب ممارسة الطبِّ تحت إشراف أساتذتهم.

ولم يبقَ من منشآت قلاوون الكثيرة سوى المجموعة المعمارية التي تتضمَّن القبة والمسجد والبيمارستان؛ وهي شاهدة على ما بلغته الدولة المملوكية من تقدُّم وازدهار شمل مناحي الحياة كلها.

وفاة السلطان قلاوون
كان السلطان قلاوون يرجو أن ينال شرف إنهاء الوجود الصليبي، فاستعدَّ لذلك، لكنَّ القدر لم يُمهله، فتُوُفِّيَ السلطان قلاوون بقلعة الجبل بالقاهرة في السابع والعشرين من ذي القعدة سنة 689 هـ= 11 من نوفمبر 1290م، وفيها غُسِّل وكُفِّن، ثم حُمل إلى تربته الملحقة بمدرسته العظيمة بين القصرين (شارع المعز) فدُفن فيها، ولا تزال المدرسة شامخة شاهدة على عظمة هذا السلطان وازدهار عهده.

خلف السلطان المنصور ولده السلطان الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون، الذي استكمل رحلة الجهاد، وفتح فتوحًا عظيمة؛ كان أهمّها فتحه لعكا، ومن بعده أخوه الناصر محمد بن قلاوون، وظلَّ الحكم في ولد قلاوون نحو قرنٍ من الزمان.

ركن الدين بيبرس
هو الملك الظاهر ركن الدين بيبرس العلائي البندقداري الصالحي النجمي، سلطان مصر وسورية، وقد لُقِّبَ بأبي الفتوح، وهو رابع سلاطين الدولة المملوكية ومُؤَسِّسها الحقيقي؛ بدأ مملوكًا يُباع في أسواق بغداد والشام، وانتهى به الأمر كأحد أعظم السلاطين في العصر الإسلامي الوسيط، لَقَّبَه الملك الصالح نجم الدين أيوب في دمشق بركن الدين، وبعد وصوله إلى الحكم لَقَّب نفسه بالملك الظاهر؛ حقق بيبرس العديد من الانتصارات على الصليبيين والمغول ابتداءً من معركة المنصورة وعين جالوت، وقد قضى على إمارة أنطاكية الصليبية أثناء حُكْمه.

حكم مصر بعد رجوعه من معركة عين جالوت واغتيال السلطان سيف الدين قطز؛ حيث خُطب له بالمساجد يوم الجمعة 6 ذي الحجة 658هـ= 11 نوفمبر 1260م، أحيا خلال حُكمه الخلافة العباسية في القاهرة بعدما قضى عليها المغول في بغداد، وأنشأ نظمًا إداريةً جديدة في الدولة، واشتُهر بذكائه العسكري والدبلوماسي، وكان له دور كبير في تغيير الخريطة السياسية والعسكرية في منطقة البحر المتوسط؛ حكم 17 سنة وشهرين.

بيبرس .. أصله ونشأته
مختلف في أصله، فبينما تذكر جميع المصادر العربية والمملوكية الأصلية أنه تركي من القبجاق (كازاخستان حاليًا)؛ فإن بعض الباحثين المسلمين في العصر الحديث يُشيرون إلى أن مُؤَرِّخي العصر المملوكي من عرب ومماليك كانوا يعتبرون الشركس من الترك، وأنهم كانوا ينسبون أيَّ رقيق مجلوب من مناطق القوقاز والقرم إليهم، وذكر المقريزي بأنه وصل حماة مع تاجر، وبيع إلى الملك المنصور محمد حاكم حماة، لكن لم يُعجبه وأرجعه، فذهب التاجر به إلى سوق الرقيق بدمشق وهو في الرابعة عشر من عمره، وباعه هناك بثمانمائة درهم لكن الذي اشتراه أرجعه إلى التاجر؛ لأنه كان به عيب خلقي في إحدى عينيه (مياه بيضاء)، فاشتراه الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار، ثم انتقل بعد ذلك إلى خدمة السلطان الأيوبي الملك الصالح نجم الدين أيوب بالقاهرة، وأعتقه الملك الصالح، ومنحه الإمارة؛ فصار أميرًا، كان بيبرس طويلاً، وصوته جهوري، وعيناه كانت فيها زرقة، ويُوجد بإحدى عينيه نقطة بيضاء.

بيبرس وحملة لويس التاسع
برز بيبرس عندما قاد جيش المماليك البحرية في معركة المنصورة ضدَّ الصليبيين في رمضان من عام (647 هـ= 1249م)؛ فقد شنَّ الفرنجة هجومًا مباغتًا على الجيش المصري؛ مما تسبَّب في مقتل قائد الجيش «فخر الدين بن الشيخ»، وارتبك الجيش، وكادت أن تكون كسرة؛ لولا خطَّة معركة أو مصيدة المنصورة التي رَتَّبها بيبرس القائد الجديد للمماليك الصالحية أو البحرية، وبموافقة شجر الدر الحاكمة الفعلية لمصر في تلك الفترة بعد موت زوجها سلطان مصر الصالح أيوب؛ فقد قاد الهجوم المعاكس في تلك المعركة ضدَّ الفرنج، وتسبَّب في نكبتهم الكبرى في المنصورة؛ التي تمَّ فيها أسر الملك الفرنسي لويس التاسع، وحَبَسَهُ في دار ابن لقمان.

مقتل توران شاه
وبعد وفاة السلطان الصالح أيوب استدعت شجر الدر ابنه توران شاه من حصن حيفا، ونَصَّبته سلطانًا على مصر؛ ليقود الجيش المصري ضدَّ القوات الصليبية الغازية؛ لكنْ ما إن انتهت الحرب، حتى بدأ توران شاه بمضايقة شجر الدر، وظلَّ يُطالبها بردِّ أموال ومجوهرات والده، وفي الوقت نفسه توعَّد وهدَّد مماليك أبيه، واستبعدهم من المناصب، ووضع مكانهم أصحابه الذين أَتَوْا معه من حصن حيفا؛ مما حدا بالمماليك بالإسراع في قتله قبل خروج الفرنج من دمياط، فقُتل بمشاركة بيبرس وفارس الدين أقطاي في فارسكور.

قيام دولة المماليك
وبعد مقتل توران شاه نَصَّبَ المماليك شجر الدر سلطانة باعتبارها أرملة السلطان الصالح أيوب، وأم ابنه خليل الذي مات صغيرًا، وطلبوا من أمراء الأيوبية في الشام الاعتراف بسلطنتها؛ فرفض الأيوبيون في الشام هذا التنصيب؛ لأن ذلك معناه نهاية لدولتهم في مصر، وأيضًا لم يُوافق الخليفة العباسي المستعصم بالله في بغداد؛ الذي اعترض على ولاية امرأة، فتَسَلَّم السلطنة عز الدين أيبك، الذي تزوجها لكي يتمكَّن من الحكم، ولكنَّ الأيوبيين لم يُوافقوا على ذلك، وتمَّ إرسال جيش إلى مصر بقيادة صاحب حلب ودمشق الناصر يوسف لاحتلالها وتحريرها من المماليك، ولكنَّهم هُزموا أمام المماليك، وفرُّوا هاربين إلى الشام؛ مما مكَّن المماليك من تثبيت حُكْمِهم في مصر.

صراع المماليك
بعد استتباب الأمر للمماليك في حُكْم مصر بقيادة السلطان أيبك، بدأ أمر أقطاي يستفحل، وأحسَّ السلطان عزُّ الدين أيبك بزيادة نفوذه، خاصة بعدما طلب من أيبك أن يُفْرِدَ له مكانًا في قلعة الجبل، ليسكن به مع عروسه، فقرَّر قتله بالتعاون مع مملوكه سيف الدين قطز والمماليك المعزية، فاستدرجه إلى قلعة الجبل واغتاله، وألقى برأسه إلى المماليك البحرية، الذين تجمَّعُوا تحت القلعة مطالبين بالإفراج عنه، وكان ذلك سنة (652هـ= 1254م)؛ ففر المماليك البحرية من مصر إلى سورية والكرك وسلطنة الروم السلاجقة وأماكن أخرى، وكان في مُقَدِّمَتِهم: بيبرس، وقلاوون الألفي، وبلبان الرشيدي، وسنقر الأشقر؛ الذين فَرُّوا إلى دمشق.

فرح الناصر يوسف بما حصل ورحَّب بهم، وحاول أن يستخدمهم ضدَّ أيبك، فأرسل الناصر يوسف جيشه للهجوم على مصر، وذلك بمساعدة المماليك البحرية الذين معه في هذه المرَّة، ولكن ما إن وصل حدود مصر حتى اضطر إلى أن ينسحب ويُوافق على شروط أيبك؛ التي كان من ضمنها إبعاد البحرية عن سورية؛ فرحلوا إلى الكرك، فاستقبلهم صاحب الكرك المغيث عمر أحسن استقبال، وفَرَّق فيهم الأموال، وحاول الهجوم على مصر بدعم المماليك البحرية، ولكنه مُنِيَ بهزيمة أمام أيبك، وكرَّ راجعًا وكان ذلك سنة (656هـ= 1258م)، وأثناء عودة المماليك منهزمين من مصر هاجموا غزة؛ التي كانت تُعَدُّ تابعة للناصر يوسف، فهزموا الحامية التي بها، فقوي أمرهم.

وفي أثناء تحرُّك البحرية في جنوب الشام، صادفوا في غور الأردن فرقة الشهرزورية، التي فرَّت من العراق تحت ضغط التتار، فاتفقوا معهم وتزوَّج بيبرس امرأة منهم؛ لتوثيق الاتفاق بالمصاهرة؛ وهذا ما حرَّك المخاوف عند الناصر تجاههم، فحرَّك عساكره إليهم، فهزم البحرية عسكر الشام، فركب الناصر بنفسه وبكلِّ جيشه، ففرَّت البحرية إلى الكرك والشهرزورية إلى مصر، فتابع تحرُّكه نحو الكرك وحاصرها، فأراد المغيث حلَّ القضية سلميًّا مع الناصر، فوافق الناصر على شرط تسليمه المماليك، وفي أثناء الحصار شعر بخطورة الموقف أحد مُقَدِّمِي البحرية، وربما أذكاهم وأكثرهم أهلية للقيادة -وكان هو الظاهر بيبرس- الذي يُعرف بدقَّة أين يجب أن يكون في كل ظرف، فتسلَّل من قلعة الكرك ولجأ إلى الناصر يوسف؛ الذي استقبله وعفا عنه، أمَّا باقي المماليك فقد تَسَلَّمهم الناصر من المغيث، وأودعهم سجن قلعة حلب، وبقوا فيها حتى فتح التتار حلب وأخذوهم منها.

الزحف المغولي
بعد توجُّه المغول إلى حلب واستيلائهم عليها وتدميرهم لها؛ ممَّا أثار موجة من الرعب في قلوب المسلمين وحُكَّامهم؛ فمنهم مَنْ هرب إلى مصر كما فعل صاحب حماة، ومنهم مَنْ فضَّل الاستسلام حقنًا للدماء كما فعل حاكم حمص، ولم يبقَ من المدن المهمَّة سوى دمشق؛ التي جمع حاكمها الناصر الجيوش لمواجهة المغول، ثم ما لبث أن انفضَّت تلك الجيوش من حوله؛ وذلك بأنه كان متحيِّرًا فيما يفعل تجاه المغول، فما كان من المماليك الرافضين لتصرُّفاته المتردِّدَة إلَّا أن حاولوا قتله وتولية أخيه الملك الظاهر مكانه، فاكتشف الناصر تلك المؤامرة ففرَّ ليلًا من المعسكر إلى قلعة دمشق وتحصَّن بها، فلمَّا علم مماليكه بهربه وافتضاح أمرهم ساروا نحو غزَّة برفقة بيبرس البندقداري، ومن غزَّة اتَّصل بسلطان المماليك الجديد قطز، فدعاه إلى العودة، وأقطعه قليوب، وأنزله بدار الوزارة، وعظم شأنه لديه.

بيبرس وعين جالوت
عاد بيبرس إلى مصر بعد أن ولَّاه سيف الدين قطز منصب الوزارة عام (658هـ= 1260م) ليشتركا معًا في محاربة المغول؛ الذين كانوا في طريقهم إلى مصر بعد اجتياحهم المشرق الإسلامي ثم العراق، وإسقاطهم الدولة العباسية في بغداد، وقد أرسل هولاكو رُسلًا لقطز يحملون كتابًا فيه تهديدٌ ووعيدٌ إن لم يخضعوا له، فعقد سيف الدين قطز اجتماعًا مع وُجهاء الدولة وعلمائها، وتمَّ الاتفاق على التوجُّه إلى قتال المغول؛ إذ لا مجال لمداهنتهم، وقد اختلى قطز ببيبرس البندقداري، الذي كان أمير الأمراء، واستشاره في الموضوع، فأشار عليه بأن: «اقتل الرسل، وأن نذهب إلى كتبغا متضامنين، فإن انتصرنا أو هُزمنا، فسوف نكون في كلتا الحالتين معذورين». فاستصوب قطز هذا الكلام، وقام بقتل رسل المغول؛ بعد ذلك تحرَّك الجيش لمواجهة التتار، وقام قطز بتقسيم جيشه إلى مقدِّمة بقيادة بيبرس، وبقية الجيش يختبئ بين التلال وفي الوديان المجاورة كقوات دعم، أو لتنفيذ هجوم مضادٍّ أو معاكس، وفي (25 من رمضان 658هـ= 3 من سبتمبر 1260م) بدأت المعركة، وقامت مقدِّمة الجيش بقيادة بيبرس بهجوم سريع، ثم انسحبت متظاهرة بالانهزام؛ لسحب خيالة المغول إلى الكمين، وانطلت الحيلة على كتبغا؛ فحمل بكل قوَّاته على مقدِّمة جيش المسلمين واخترقه، وبدأت المقدمة في التراجع إلى داخل الكمين، وفي تلك الأثناء خرج قطز وبقية مشاة وفرسان الجيش، وعملوا على تطويق ومحاصرة قوات كتبغا؛ فعندئذٍ اشتدَّ القتل، ولم يمضِ كثير من الوقت حتى هُزم الجيش المغولي، وقُتل معظمهم بمن فيهم قائدهم كتبغا، ولاحق قطز وبيبرس فلولَ التتار وطَهَّر المسلمون بلاد الشام بكاملها في غضون بضعة أسابيع، وعادت من جديد أرض الشام إلى ملك الإسلام والمسلمين، وفُتحت دمشق، وأعلن قطز توحيد مصر والشام من جديد في دولة واحدة تحت زعامته.

مقتل قطز[1]
أثناء عودة الجيش إلى مصر قَتَل ركنُ الدين بيبرس السلطانَ المظفر قطز؛ وذلك أن السلطان قطز قد وعد بيبرس بمنحه حُكْم حلب بعد انتهاء الحرب، وبعد ذلك فكَّر السلطان قطز في التخلِّي عن السلطنة وإكمال حياته في طريق الزهد وطَلَبِ العلم، وتَرْكِ قيادة البلاد لقائد جيوشه ركن الدين بيبرس، وبالتالي تراجع عن منح بيبرس ولاية حلب بما أنه سيُصبح ملكًا للبلاد كلها؛ فاعتقد بيبرس أن السلطان قطز قد خدعه وبدأ رفاقُه يُصَوِّرُون له ذلك ويُحَرِّضُونه على الخروج على السلطان وقتله، فلمَّا قفل قطز من استعادة دمشق من يد التتار؛ أجمع المماليك البحرية ومنهم بيبرس على أن يغتالوه في طريقهم‏ إلى مصر،‏ فلما قارب مصر ذهب في بعض أيامه يتصيَّد، وسارت الرواحل على الطريق، فاتَّبَعُوه، وتقدَّم إليه أنز الأصبهاني شفيعًا في بعض أصحابه‏، فشفَّعه فهَوَى يُقَبِّل يده فأمسكها‏، وعلاه بيبرس بالسيف فخرَّ صريعًا لليدين والفم‏،‏ ورشقه الآخرون بالسهام؛ فقتلوه وتبادروا إلى المخيم‏.
الظاهر بيبرس
وقام دون فارس الدين أقطاي على ابن المعز أيبك وسأل: مَنْ تولَّى قتله منكم؟ فقالوا: بيبرس. فبايع له واتَّبعه أهل المعسكر ولقَّبُوه بالقاهر‏، وبعثوا بالخبر إلى القلعة بمصر، فأخذ له البيعة على مَنْ هناك،‏ ووصل القاهر ودخل القلعة فجلس على كرسيه، ولكنه غيَّر لقبه إلى الظاهر، وكتب إلى الأقطار بذلك،‏ ورتَّب الوظائف وولى الأمراء، وقد عمد أولًا إلى القضاء على الاضطرابات الداخلية، وتصفية معارضيه الذين احتجُّوا على مقتل السلطان قطز، ومنهم الأمير علم الدين سنجر الحلبي؛ الذي استنابه قطز على دمشق، والذي نادى بنفسه سلطانًا على دمشق، وركب بشعار السلطنة، وأمر بالخطبة له على المنابر، وضرب السكة باسمه، وقد أرسل بيبرس حملة عسكرية إليه، وتمكَّنت من القضاء عليه وإعادة دمشق تابعة إلى مصر، ثم أرسل إلى الأمراء بحلب وحماة بوجوب طاعته.

ثورة الكوراني
تمكَّن الظاهر بيبرس -أيضًا- من القضاء على التمرُّدات الفاطمية في القاهرة، التي أثارها رجل يُدْعَى الكوراني، وهو فارسي الأصل من نيسابور، وكان يهدف إلى قلب نظام الحكم وإرجاع الفاطميين، وقد أدَّت تلك الحركة إلى إعلان العصيان على بيبرس، والمسير في شوارع القاهرة ليلًا، ثم الهجوم على مخازن السلاح والإصطبلات وأَخْذِ ما بها من السيوف والخيل، إلَّا أنَّ الظاهر بيبرس تمكَّن بقوَّاته الخاصة من الإحاطة بالمتمرِّدِينَ والقبض على جميع زعمائهم ومنهم الكوراني؛ حيث أمر السلطان بصلبه على باب زويلة بالقاهرة، وبها انتهت جميع محاولات الفاطميين بالتمرُّد والعودة إلى سُدَّة الحُكْم.

بيبرس وإحياء الخلافة العباسية
أراد بيبرس أن يُضفي على حكمه نوعًا من الزعامة والنفوذ على البلاد الإسلامية، ولكي يمنح دولته الفتية نوعًا من الشرعية عمد إلى إحياء الخلافة العباسية في القاهرة؛ ليُقِيلَهَا من الانتكاسة التي أصابتها في بغداد على يد المغول، وعليه فقد أرسل في طلب أحد أبناء البيت العباسي، فوصل إلى القاهرة القاسم أحمد في رجب 659هـ= يونيو 1261م؛ حيث قُوبل بالتكريم والاحترام، وبعدها بأيام عقد السلطان بيبرس مجلسًا عامًّا بالديوان الكبير بالقلعة، واستدعى كلَّ أعيان البلد، ثم قام السلطان أمام الجميع فبايع الخليفة على العمل بكتاب الله وسُنَّة رسوله، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الجهاد في سبيل الله. فتبعه الجميع بالمبايعة، ولقب الخليفة المستنصر بالله؛ وبذلك أُحييت الخلافة العباسية للمرَّة الثانية في القاهرة، غير أن الخلافة لم تتدخَّل في الشئون المملوكية؛ حيث إن السلطة الفعلية في يد الظاهر بيبرس والمماليك من بعده.
مدَّ بيبرس نفوذه وسلطانه إلى الحجاز؛ حيث يُوجد الحرمان الشريفان، وتخلَّص من الملك المغيث عمر بن العادل الأيوبي حاكم الكرك، الذي كان يُناوئ السلطان بيبرس، ويرى في المماليك دخلاء اغتصبوا العرش الأيوبي في مصر والشام دون وجه حقٍّ، فعمل على منازعتهم، وتطوَّر الأمر به إلى أن راسل هولاكو زعيم المغول الإيلخانيين، وحرَّضه على غزو مصر، لكنَّ بيبرس حين علم بهذه المكاتبات قبض عليه وقتله في سنة (622هـ= 1263م) واستولى على الكرك، وعيَّن بها واليًا من قِبَلِه.

بيبرس وترميم القلاع وطرق الإمداد
عمد السلطان بيبرس إلى تأمين وصول قوَّاته إلى بلاد الشام بالسيطرة على كلِّ المدن والقلاع الممتدَّة على الطريق بين مصر والشام وجعلها تابعة له، والتفت -أيضًا- إلى تحصين الأطراف والثغور وعمارة القلاع التي خَرَّبها المغول في الشام، وأخذ يُزَوِّدُها بالرجال والسلاح من مصر وبعض مدن الشام القوية، كما عمل على تقوية الأسطول والجيش، وأشرف بنفسه على بناء السفن الحربية في دور صناعتها الموجودة في الفسطاط والإسكندرية ودمياط، ولم يكتفِ بهذا العمل لتأمين وصول قوَّاته إلى الشام ومنع أيِّ التفاف حولها من الخلف؛ بل عمد -أيضًا- إلى التحالف مع بعض القوى الخارجية ليتفرَّغ للصليبيين.

بيبرس والجهاد في جبهتين
حرص بيبرس على القضاء على بقية الوجود الصليبي في الشام، فبعد أن اطمأنَّ إلى تماسك جبهته الداخلية اتَّجه ببصره إلى القوى الخارجية المتربِّصة بدولته، وتطلَّع إلى أن ينهض بمسئوليته في الدفاع عن الإسلام، ولم يكن هناك أشدّ خطرًا عليه من خطر المغول والصليبيين، وقبل أن ينهض لعمله أعدَّ العُدَّة لذلك؛ فعقد معاهدات واتفاقيات مع القوى الدولية المعاصرة له؛ حيث سعى إلى التحالف مع الإمبراطورية البيزنطية، وعقد معاهدات مع «مانفرد بن فردريك الثاني» إمبراطور الدولة الرومانية، وأقام علاقات ودية مع «ألفونسو العاشر» ملك قشتالة الإسباني؛ حتى يضمن حياد هذه القوى حين يشنُّ غاراته على الإمارات الصليبية في الشام، ويستردّ ما في أيديهم من أراضي المسلمين.

بيبرس والجهاد ضد المغول والصليبيين
واتَّبع بيبرس -أيضًا- هذه السياسة في الجبهة المغولية؛ حيث تحالف مع «بركة خان» زعيم القبيلة الذهبية المغولية؛ وكان قد اعتنق الإسلام، وقد امتدَّت بلاده من تركستان شرقًا إلى شمال البحر الأسود غربًا، وهي التي تُعرف ببلاد القبجاق. ولكي يزيد من قوَّة الرابطة بينه وبين بركة خان أمر بالدعاء له على منابر دولته، وتزوَّج من ابنته، وكان هذا الحلف مُوَجَّهًا إلى عدوِّهما المشترك المتمثِّل في دولة إيلخانات فارس، التي كان يحكمها هولاكو وأولاده، وكانت تشمل العراق وفارس.

وفي الوقت نفسه أعدَّ لتحقيق هدفه جيشًا قويًّا، وأسطولاً ضخمًا، وأعاد تحصين القلاع والحصون، وأمدَّها بالذخيرة والأقوات، وأقام سلسلة من نقاط المراقبة لرصد نشاط العدوِّ عُرفت باسم المنائر، وأفسد الطرق والوديان المؤدِّية إلى الشام؛ كي لا يجد المغول في أثناء زحفهم ما يحتاجون إليه من أقوات أو أعلاف لدوابهم.

وأثمرت هذه السياسة الحازمة عن تحقيق انتصارات باهرة على الصليبيين، منذ أن بدأت حملاته الظافرة في سنة (663 هـ= 1265م)، ففتح قيسارية، وأرسوف، وقلعة صفد، ويافا، ثم توَّج جهوده بفتح إنطاكية المدينة الحصينة؛ التي ظلَّت رهينة الأسر الصليبي أكثر من قرن ونصف من الزمان، وذلك في 5 من رمضان 666هـ= 19 من مايو 1268م، وكان سقوطها أعظم فتح حقَّقه المسلمون على الصليبيين منذ معركة حطين سنة (583هـ= 1187م)، وعلى الجبهة الأخرى نجح السلطان بيبرس في الدفاع عن بلاده أمام هجمات المغول المتتالية، وفي تحقيق عدَّة انتصارات عليهم في «الْبِيرَة» و«حرَّان»، وعلى الرغم من إخفاق مغول فارس في توسيع دولتهم على حساب دولة المماليك؛ فإنهم كانوا يُعاوِدُون الهجوم؛ حتى ألحق بهم بيبرس هزيمةً ساحقة عند بلدة «أَبُلُسْتَيْن» بآسيا الصغرى سنة (675هـ= 1277م)؛ وبذلك أمَّن بيبرس حدود دولته من الجبهتين الشرقية والشمالية.

بيبرس والنهضة المعمارية والتعليمية
شهد عهد بيبرس نهضة معمارية وتعليمية كبيرة؛ حيث اهتمَّ بتجديد الجامع الأزهر، فأعاد للأزهر رونقه، فشنَّ عليه حملات من الترميم والتجميل إلى أن عاد له جماله ومكانته مرَّة أخرى، وأعاد خطبة الجمعة والدراسة إلى الجامع الأزهر بعد أن هُجر طويلاً، ونَصَّب أربعة قضاة شرعيين، واحدًا من كل مذهب من مذاهب السُّنَّة الأربعة بعد أن كان القضاء مقتصرًا على قاضي قضاة شافعي، وعمل على إنشاء العديد من المؤسَّسَات التعليمية فأنشأ المدارس بمصر ودمشق، كما أنشأ عام (665هـ= 1267م) جامعًا عُرف باسمه إلى اليوم في مدينة القاهرة، وهو جامع الظاهر بيبرس، والذي ما زال قائمًا إلى اليوم، كما عَمِلَ بيبرس على إنشاء الجسور والقناطر والأسوار، وحفر الترع والخلجان، وأنشأ مقياسًا للنيل، وغيرها العديد من الأعمال، ونَظَّم البريد وخصَّص له الخيل، وبنى كثيرًا من العمائر، وكافح الخمر والمفاسد.

وفي خارج مصر قام بعدد من الإصلاحات في الحرم النبوي بالمدينة المنورة، وقام بتجديد مسجد إبراهيم عليه السلام في الخليل، كما قام بتجديد قبة الصخرة وبيت المقدس، وعمل على إقامة دار للعدل للفصل في القضايا والنظر في المظالم.

صفات بيبرس
أهمُّ ما كان يتَّصف به بيبرس: الشجاعة والإقدام والدهاء، والكرم، وحُبّ الخير، والإحسان إلى الفقراء، وإكرام العلماء وسماع نصائحهم، والسكوت على مخاشنتهم له في النصح، كما كان يفعل معه عزُّ الدين بن عبد السلام، والنووي.

وُصِفَ بيبرس بأنه كان يتنقَّل في ممالكه فلا يكاد يشعر به عسكره إلَّا وهو بينهم، وقيل عنه: إنه ما كان يتوقَّف عن شيء لبلوغ غايته؛ ليحمل قوى الحصون على الاستسلام له، وكان نجاحه يعتمد على تنظيمه وسرعته وشجاعته المتناهية، وكان شعار دولته الأسد، وقد نقش صورته على الدراهم.

وفاة بيبرس
تُوُفِّيَ الظاهر بيبرس يوم الخميس (27 من المحرم 676هـ= 2 من مايو 1277م) عن 54 عامًا؛ وذلك بعد رجوعه من معركة أَبُلُسْتَيْن ضد المغول سنة (675هـ= 1277م)، ودُفِنَ في المكتبة الظاهرية في دمشق بعد حُكم دام 17 سنة.

[1] الدكتور راغب السرجاني له رأي آخر في قصة مقتل قطز، حيث يرجح أن قطز لم يقتل على يد بيبرس .. للمزيد انظر هنا


سيف الدين قطز
هو الملك المظفَّر سيف الدين قطز بن عبد الله المعزي سلطان مصر المملوكي، يُعتبر أبرز ملوك دولة المماليك على الرغم أن فترة حكمة لم تدم سوى عام واحد؛ لأنه استطاع أن يُوقف زحف المغول؛ الذي كاد أن يقضي على الدولة الإسلامية، وهزمهم هزيمة منكرة في معركة عين جالوت، ولاحق فلولهم حتى حرَّر الشام.

قطز أصله ونشأته
وُلد قطز أميرًا مسلمًا في ظلِّ الدولة الخوارزمية؛ فهو محمود بن ممدود ابن أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه، وُلِدَ في بلاد خوارزم شاه لأب اسمه ممدود، وأُمُّه التي كانت أخت الملك جلال الدين بن خوارزم شاه، وكان جدُّه من أعظم ملوك خوارزم شاه، وقد دخل جدُّه في حروب طويلة مع جنكيزخان ملك التتار، إلَّا أنه هُزم وتولَّى نجم الدين الحُكْمَ، وكانت بداية حكمه رائعة، وانتصر على التتار في كثير من المعارك، إلَّا أنه بعد ذلك قام بعدَّة سقطات إلى أن وصل التتار إلى عاصمة حُكْمِه، وتمَّ اختطافه عقب انهيار الدولة الخوارزمية عام (628هـ= 1231م) على يد المغول، وحُمل هو وغيره من الأطفال إلى دمشق، وتمَّ بيعهم في سوق الرقيق، وأُطلق عليه اسم قطز، ظلَّ قطز عبدًا يُباع ويُشترى إلى أن انتهى به المطاف في يد عز الدين أيبك، أحد أمراء مماليك البيت الأيوبي بمصر.

ويروي شمس الدين الجزري في تاريخه عن سيف الدين قطز: «لمَّا كان في رِقِّ موسى بن غانم المقدسي بدمشق، ضربه سيِّده وسبَّه بأبيه وجدِّه، فبكى ولم يأكل شيئًا سائر يومه، فأمر ابن الزعيم الفرَّاش أن يترضَّاه ويُطعمه، فروى الفرَّاش أنه جاءه بالطعام، وقال له: كُلُّ هذا البكاء من لطمة؟ فقال قطز: إنما بكائي من سَبِّه لأبي وجدِّي وهما خير منه. فقلتُ: مَنْ أبوك؟ واحد كافر؟! فقال: والله! ما أنا إلَّا مسلم ابن مسلم، أنا محمود بن ممدود ابن أخت خوارزم شاه من أولاد الملوك. فسكتُّ وترضَّيْتُه».

كما يُرْوَى أنه أخبر في صغره أحدَ أقرانه أنه رأى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقد بشَّره بأنه سيملك مصر ويكسر التتار، وهذا يعني أن الرجل كان يعتبر نفسه صاحب مهمَّة، وأنه من الصلاح بحيث رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم واصطفاه الله بذلك.

ولا شكَّ أن قطز رحمه الله كان مبعوث رحمة الله ومبعوث العناية الإلهية بالأُمَّة العربية والإسلامية وبالعالم؛ كي يُخَلِّصَ العالم من شرِّ وخطر التتار إلى الأبد، وكان وصوله إلى حكم مصر من حُسن حَظِّها وحظِّ العالمَيْنِ العربي والإسلامي.

وقد وُصف قطز بأنه كان شابًّا أشقر، كثَّ اللحية، بطلًا شجاعًا عفًّا عن المحارم، مترفِّعًا عن الصغائر، مواظبًا على الصلاة والصيام وتلاوة الأذكار، تزوَّج من بني قومه، ولم يخلِّف ولدًا ذكرًا؛ بل ترك ابنتين لم يسمع عنهما الناس شيئًا بعده.

قطز ووصايته على الحكم
قام الملك عز الدين أيبك بتعيين قطز نائبًا للسلطنة، وبعد أن قُتل الملك المعز عز الدين أيبك على يد زوجته شجر الدر، وقُتلت من بعده زوجته شجر الدر على يد جواري الزوجة الأولى لأيبك، تولَّى الحكم السلطان نور الدين علي بن أيبك، وتولَّى سيف الدين قطز الوصاية على السلطان الصغير، الذي كان يبلغ من العمر 15 سنة فقط.

وأحدث صعود الطفل نور الدين إلى كرسي الحكم اضطرابات كثيرة في مصر والعالم الإسلامي، وكانت أكثر الاضطرابات تأتي من قِبَل بعض المماليك البحرية؛ الذين مكثوا في مصر، ولم يهربوا إلى الشام مع مَنْ هرب منها أيام الملك المعز عز الدين أيبك، وتزعَّم أحد هؤلاء المماليك البحرية واسمه سنجر الحلبي الثورة، وكان يرغب في الحكم لنفسه بعد مقتل عز الدين أيبك، فاضطر قطز إلى القبض عليه وحبسه، كذلك قبض قطز على بعض رءوس الثورات المختلفة، فأسرع بقية المماليك البحرية إلى الهرب إلى الشام؛ وذلك ليلحقوا بزعمائهم الذين فرُّوا قبل ذلك إلى هناك أيام الملك المعز، ولمَّا وصل المماليك البحرية إلى الشام شجَّعُوا الأمراء الأيوبيين على غزو مصر، واستجاب لهم بالفعل بعض هؤلاء الأمراء؛ ومنهم «مغيث الدين عمر» أمير الكرك، الذي تقدَّم بجيشه لغزو مصر.. ووصل مغيث الدين بالفعل بجيشه إلى مصر، وخرج له قطز فصدَّه عن دخول مصر، وذلك في ذي القعدة من سنة (655هـ= 1257م)، ثم عاد مغيث الدين تراوده الأحلام لغزو مصر من جديد، ولكن صدَّه قطز مرَّة أخرى في ربيع الآخر سنة (656 هـ= 1258م).

قطز وتوليه الحكم
كان قطز محمود بن ممدود بن خوارزم شاه يُدير الأمور فعليًّا في مصر، ولكن الذي كان يجلس على كرسي الحكم سلطان طفل، فرأى قطز أن هذا يُضعف من هيبة الحُكْمِ في مصر، ويُزَعْزع من ثقة الناس بملكهم، ويُقَوِّي من عزيمة الأعداء؛ إذ يرون الحاكم طفلًا؛ فقد كان السلطان الطفل مهتمًّا بمناقرة الديوك، ومناطحة الكباش، وتربية الحمام، وركوب الحمير في القلعة، ومعاشرة الأراذل والسوقة، تاركًا لأُمِّه ومَنْ وراءها تسيير أمور الدولة في تلك الأوقات العصيبة، وقد استمرَّ هذا الوضع الشاذُّ قُرابة ثلاث سنوات، على الرغم من تعاظم الأخطار وسقوط بغداد بيد المغول، وكان من أشدِّ المتأثِّرين بذلك والمدركين لهذه الأخطار الأمير قطز، الذي كان يحزُّ في نفسه ما كان يراه من رعونة الملك، وتحكُّم النساء في مقدرات البلاد، واستبداد الأمراء، وإيثارهم مصالحهم الخاصة على مصلحة البلاد والعباد.

هنا اتَّخذ قطز القرار الجريء، وهو عزل السلطان الطفل نور الدين علي، وتولَّى عرش مصر، حدث هذا الأمر في 24 من ذي القعدة (657هـ= 1259م)؛ أي: قبل وصول هولاكو إلى حلب بأيام، ومنذ أن صَعِد قطز إلى كرسي الحكم وهو يُعِدُّ العُدَّة للقاء التتار.

عندما تولَّى قطز الحكم كان الوضع السياسي الداخلي متأزِّمًا للغاية، فقد جلس على كرسي الحُكْم في مصر خلال عشرة أعوام تقريبًا ستة حُكَّام؛ وهم: الملك الصالح نجم الدين أيوب، ولده توران شاه، شجر الدر، الملك المعز عز الدين أيبك، السلطان نور الدين علي بن أيبك، وسيف الدين قطز. كما كان هناك الكثير من المماليك الطامعين في الحُكْم، ويقومون بالتنازُع عليه.

كما كانت هناك أزمة اقتصادية طاحنة تمرُّ بالبلاد من جرَّاء الحملات الصليبية المتكرِّرة، ومن جرَّاء الحروب التي دارت بين مصر وجيرانها من الشام، ومن جرَّاء الفتن والصراعات على المستوى الداخلي. فعمل قطز على إصلاح الوضع في مصر خلال إعداده للقاء التتار.

قطز والإعداد للقاء التتار
قطع قطز أطماع المماليك في الحُكْم عن طريق توحيدهم خلف هدف واحد، وهو وقف زحف التتار ومواجهتهم، فقام بجمع الأمراء وكبار القادة وكبار العلماء وأصحاب الرأي في مصر، وقال لهم في وضوح: «إني ما قصدت (أي ما قصدت من السيطرة على الحُكْم) إلَّا أنْ نجتمع على قتال التتر، ولا يتأتى ذلك بغير مَلِكٍ، فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدوَّ، فالأمرُ لكم، أقيموا في السلطة مَنْ شئتم». فهدأ معظم الحضور ورضوا بذلك، كما قَبِلَ قطز الصلح مع بيبرس؛ الذي أرسل الرُّسُل لقطز كي يَتَّحدا للتصدَّي لجيوش المغول؛ التي كانت قد دخلت دمشق آسرةً الناصر يوسف مَلِكَها، وعظَّم قطز من شأن بيبرس كثيرًا، وأنزله دار الوزارة، وأقطعه قليوب وما حولها من القرى، وعامله كأمير من الأمراء المُقَدَّمين، بل وجعله على مُقَدِّمَة الجيوش في معركة عين جالوت.

واستعدادًا للمعركة الفاصلة مع التتار فقد راسل قطز أمراء الشام، فاستجاب له الأمير المنصور صاحب حماة، وجاء من حماة ومعه بعض جيشه للالتحاق بجيش قطز في مصر، أمَّا المغيث عمر صاحب الكرك وبدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل فقد فضَّلَا التحالف مع المغول والخيانة، وأمَّا الملك السعيد حسن بن عبد العزيز صاحب بانياس فقد رفض التعاون مع قطز هو الآخر رفضًا قاطعًا، بل انضمَّ بجيشه إلى قوَّات التتار ليُساعدهم في محاربة المسلمين.

اقترح قطز أن تُفرض على الناس ضرائب لدعم الجيش، وهذا قرار يحتاج إلى فتوى شرعية؛ لأن المسلمين في دولة الإسلام لا يدفعون سوى الزكاة، ولا يدفعها إلَّا القادر عليها، وبشروط الزكاة المعروفة، أمَّا فرض الضرائب فوق الزكاة فهذا لا يكون إلَّا في ظروف خاصة جدًّا، ولا بُدَّ من وجود سند شرعي يُبيح ذلك؛ فاستفتى قطز الشيخ العز بن عبد السلام؛ فأفتى قائلاً: «إذا طرق العدوُّ البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم، وجاز أن يُؤخذ من الرعية ما يُستعان به على جهازهم؛ بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء، وأن تبيعوا ما لكم من الممتلكات والآلات، ويقتصر كلٌّ منكم على فرسه وسلاحه، وتتساووا في ذلك أنتم والعامَّة، وأمَّا أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا» (1).

قَبِلَ قطز كلام الشيخ العز بن عبد السلام، وبدأ بنفسه، فباع كلَّ ما يملك، وأمر الوزراء والأمراء أن يفعلوا ذلك، فانصاع الجميع، وتمَّ تجهيز الجيش كله.

وصول رسل التتار
بينما كان قطز يُعِدُّ الجيش والشعب للقاء التتار وصل رسل هولاكو يحملون رسالة تهديد لقطز؛ جاء فيها: «بسم إله السماء الواجب حقُّه، الذي مَلَّكَنا أرضه، وسلَّطنا على خلقه، الذي يعلم به الملك المظفر الذي هو من جنس المماليك، صاحب مصر وأعمالها، وسائر أمرائها وجندها وكتابها وعمالها، وباديها وحاضرها، وأكابرها وأصاغرها. إنَّا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلَّطنا على مَنْ حلَّ به غيظه، فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتَّعظوا بغيركم، وسلِّمُوا إلينا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء، ويعود عليكم الخطأ. فنحن ما نرحم مَنْ بكى، ولا نرقُّ لمن اشتكى، فتحنا البلاد، وطَهَّرنا الأرض من الفساد. فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب؛ فأيُّ أرضٍ تأويكم؟ وأيُّ بلادٍ تحميكم؟ وأيُّ ذلك ترى؟ ولنا الماء والثرى؟ فما لكم من سيوفنا خلاصٌ، ولا من أيدينا مناصٌ؛ فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق، وسهامنا لواحق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال؛ فالحصون لدينا لا تُمنع، والجيوش لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع؛ لأنكم أكلتم الحرام، وتعاظمتم عن ردِّ السلام، وخنتم الأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان؛ فأبشروا بالمذلَّة والهوان: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ} [الأحقاف:20]، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]. وقد ثبت أنا نحن الكفرة وأنتم الفجرة، وقد سلَّطنا عليكم مَنْ بيده الأمور المدبّرة، والأحكام المقدّرة. فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم لدينا ذليل، وبغير المذلَّة ما لملوككم علينا من سبيل، فلا تُطيلوا الخطاب، وأسرعوا ردَّ الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وتوري شرارها، فلا تجدون منا جاهًا ولا عزًّا، ولا كتابًا ولا حرزًا، إذ أزَّتْكُم رماحنا أزًّا، وتُدْهَوْنَ منَّا بأعظم داهية، وتُصبح بلادكم منكم خالية، وعلى عروشها خاوية، فقد أنصفناكم إذ أرسلنا إليكم، ومننَّا برسلنا عليكم» (2).

جمع قطز القادة والمستشارين وأطلعهم على الرسالة، وكان من رأي بعض القادة الاستسلام للتتار وتجنُّب ويلات الحرب، فما كان من قطز إلَّا أن قال:«أنا ألقى التتار بنفسي، يا أمراء المسلمين؛ لكم زمان تأكلون من بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجِّهٌ، فمَنِ اختار الجهاد يصحبني، ومَنْ لم يخترْ ذلك يرجع إلى بيته، وإنَّ الله مُطَّلِع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخِّرين عن القتال».

فتحمَّس القواد والأمراء لرؤيتهم قائدهم يُقَرِّر الخروج لمحاربة التتار بنفسه، بدلًا من أن يُرسل جيشًا ويبقى هو.
ثم وقف يُخاطب الأمراء وهو يبكي ويقول: «يا أمراء المسلمين؛ مَنْ للإسلام إن لم نكن نحن».

فقام الأمراء يُعلنون موافقتهم على الجهاد، وعلى مواجهة التتار مهما كان الثمن؛ وقد زاد من عزيمة المسلمين وصول رسالة من صارم الدين الأشرفي الذي وقع أسيرًا في يد المغول أثناء غزوهم الشام، ثم قبل الخدمة في صفوفهم وأوضح لهم فيها قلَّة عددهم، وشجَّعهم على قتالهم، وأن لا يخافوا منهم.

وقام قطز بقطع أعناق الرسل الذين أرسلهم إليه هولاكو بالرسالة التهديدية، وعلَّق رءوسهم في الريدانية في القاهرة، وأبقى على أحدهم ليحمل الأجساد لهولاكو. وأَرسل الرسل في الديار المصرية تُنادي بالجهاد في سبيل الله ووجوبه وفضائله، وكان العز بن عبد السلام يُنادي في الناس بنفسه فهبَّ نفرٌ كثير ليكونوا قلب وميسرة جيش المسلمين، أمَّا القوَّات النظامية من المماليك فكوَّنت الميمنة، واختبأت بَقِيَّتُها خلف التلال لتحسم المعركة.

معركة عين جالوت
التقى الفريقان في المكان المعروف باسم عين جالوت في فلسطين في 25 من رمضان 658هـ= 3 سبتمبر 1260م، وكانت الحرب ضاريةً؛ أخرج التتار فيها كلَّ إمكانياتهم، وظهر تفوُّق الميمنة التترية التي كانت تضغط على الجناح الأيسر للقوات الإسلامية، وبدأت القوات الإسلامية تتراجع تحت الضغط الرهيب للتتار، وبدأ التتار يخترقون الميسرة الإسلامية، وبدأ الشهداء يسقطون، ولو أكمل التتار اختراقهم للميسرة فسيلتفُّون حول الجيش الإسلامي.

كان قطز يقف في مكان عالٍ خلف الصفوف يُراقب الموقف بكامله، ويُوَجِّه فِرَق الجيش إلى سدِّ الثغرات، ويُخَطِّط لكلِّ كبيرة وصغيرة، وشاهد قطز المعاناة التي تعيشها ميسرة المسلمين، فدفع إليها بآخر الفرق النظامية من خلف التلال، ولكنَّ الضغط التتري استمرَّ.

فما كان من قطز إلَّا أن نزل ساحة القتال بنفسه؛ وذلك لتثبيت الجنود ورفع روحهم المعنوية، ألقى بخوذته على الأرض تعبيرًا عن اشتياقه للشهادة، وعدم خوفه من الموت، وأطلق صيحته الشهيرة: «وا إسلاماه!».

وقاتل قطز مع الجيش قتالًا شديدًا، حتى صَوَّب أحدُ التتر سهمه نحو قطز فأخطأه، ولكنه أصاب الفرس الذي كان يركب عليه قطز، فقُتل الفرسُ من ساعته، فترجَّل قطز على الأرض، وقاتل ماشيًا لا خيل له، ورآه أحد الأمراء وهو يُقاتل ماشيًا، فجاء إليه مسرعًا، وتنازل له عن فرسه، إلَّا أنَّه امتنع، وقال: «ما كنت لأحرم المسلمين نفعك!». وظلَّ يُقاتل ماشيًا إلى أن أتوه بفرس من الخيول الاحتياطية، وقد لامه بعض الأمراء على هذا الموقف وقالوا له: «لمَ لمْ تركب فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك، وهلك الإسلام بسببك».

فقال قطز: «أمَّا أنا كنت أروح إلى الجنة، وأمَّا الإسلام فله ربٌّ لا يُضيعه، وقد قُتل فلان وفلان وفلان... حتى عدَّ خلقًا من الملوك (مثل عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم) فأقام الله للإسلام مَنْ يحفظه غيرهم، ولم يضع الإسلام».

وانتصر المسلمون في عين جالوت ولاحق قطز فلولهم وطَهَّر المسلمون بلاد الشام بكاملها في غضون بضعة أسابيع، وعادت من جديد أرض الشام إلى ملك الإسلام والمسلمين، وفُتحت دمشق، وأعلن قطز توحيد مصر والشام من جديد في دولة واحدة تحت زعامته، بعد عشر سنوات من الفُرقة؛ وذلك منذ وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وخُطب لقطز رحمه الله على المنابر في كل المدن المصرية والفلسطينية والشامية، حتى خُطب له في أعالي بلاد الشام والمدن حول نهر الفرات.

وبدأ قطز يُوَزِّع الولايات الإسلامية على الأمراء المسلمين، وكان من حكمته رحمه الله أنه أرجع بعضًا من الأمراء الأيوبيين إلى مناصبهم؛ وذلك ليضمن عدم حدوث الفتنة في بلاد الشام، ولم يخشَ قطز –رحمه الله- من خيانتهم، وخاصة بعد أن تبيَّن لهم أنه لا طاقة لهم بقطز وبجنوده الأبرار.

مقتل قطز
قَتَل ركن الدين بيبرس السلطان المظفر قطز في ذو القعدة 658هـ= 24 أكتوبر 1260م أثناء عودة الجيش إلى مصر[3]، والسبب أن السلطان قطز قد وعد بيبرس بمنحه حُكْم حلب بعد انتهاء الحرب، وبعد ذلك فَكَّر السلطان قطز بالتخلِّي عن السلطنة وإكمال حياته في طريق الزهد وطلب العلم وتَرْكِ قيادة البلاد لقائد جيوشه ركن الدين بيبرس، وبالتالي تراجع عن منح بيبرس ولاية حلب؛ بما أنه سيُصبح ملكًا للبلاد كلها، فاعتقد بيبرس أن السلطان قطز قد خدعه، وبدأ رفاقُه يُصَوِّرُون له ذلك ويُحَرِّضُونه على الخروج على السلطان وقتله، فلمَّا قفل قطز من استعادة دمشق من يد التتار أجمع المماليك البحرية ومنهم بيبرس أن يغتالوه في طريقهم‏ لمصر؛‏ فلما قارب مصر ذهب في بعض أيامه يتصيَّد، وسارت الرواحل على الطريق فاتَّبَعُوه، وتقدَّم إليه أنز الأصبهاني شفيعًا في بعض أصحابه، فشفَّعه فهَوَى يُقَبِّل يده فأمسكها،‏ وعلاه بيبرس بالسيف فخرَّ صريعًا لليدين والفم‏، ورشقه الآخرون بالسهام فقتلوه، ثم حُمل قطز بعد ذلك إلى القاهرة فدُفن بها.

ويبدو للناظر في كتب التاريخ التي حفظت لنا هذه القصة أن سيف الدين قطز قد جاء لأداء مهمَّة تاريخية محدَّدة، فما أن أنجزها حتى توارى عن مسرح التاريخ؛ بعد أن جذب الانتباه والإعجاب الذي جعل دوره التاريخي -على الرغم من قِصَر فترته الزمنية- كبيرًا وباقيًا.

[1] الذهبي: تاريخ الإسلام، 48/45، والسيوطي: تاريخ الخلفاء، ص334.
[2]انظر: المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/514.
[3] د. راغب السرجاني له رأي آخر حول مقتل قطز للرجوع إليه انظر هنا

شهاب الدين الغوري
هو البطل الشجاع والأمير المُحَنَّك أبو المظفر شهاب الدين محمد بن سام الغوري، قائد القبائل الغورية ومُؤَسِّس الدولة الغورية، وهو مَنْ أعاد الدولة الإسلامية إلى هيبتها كما كانت أيام محمود بن سبكتكين، وقد جاهد وانتصر في عدَّة جبهات، إلى أن تآمر عليه أعداؤه فأوكلوا الباطنية لقتله، حتى اغتالوه وهو يُصَلِّي في المحراب.

البشتونيون والغزنويون
يرجع أصل القبائل الغورية إلى الجنس البشتوني الأفغاني، وكانت تستوطن جبال الغور، وهي بلاد واسعة وباردة وموحشة، تقع بين غزنة وهراة -وسط أفغانستان الآن- مما جعلت طبيعتهم قويَّة وصلبة، وقد دخل بعضهم الإسلام على يد السلطان محمود بن سبكتكين وذلك سنة (401هـ= 1010م)، وبعدما حاربهم وعرف قوَّتهم وشجاعتهم حرص كل الحرص على أن يكونوا من جند الإسلام، فدعاهم للدين فدخلوه أفواجًا، فأقرَّهم محمود على أملاكهم، واستعملهم لنصرة الدين، وأرسل إليهم الدعاة والمعلِّمِينَ؛ فحسُنَ إسلامهم، وكانوا من أخلص أعوان محمود بن سبكتكين، وساعدوه في كثير من الحروب ببلاد الهند، وكانت أُمُّ السلطان محمود الغزنوي -أيضًا- من قبيلة غلزاي البشتونية من منطقة زَابُل القريبة من قندهار.

سقوط الغزنويين
سُنَّة الاستبدال؛ السُّنَّة الربَّانية التي تعمل في الأمم والدول والجماعات؛ حتى الأفراد بلا محاباةٍ ولا جورٍ، فمَنْ ركبَ طريق التمكين وأخذ بأسباب البقاء والقوَّة، ظلَّ باقيًا صامدًا ظاهرًا بإذن الله –عز وجل- وحده، ومَنْ ركب طريق الفُرقة والاختلاف، وأخذ بأسباب الزوال والذهاب والفشل، حتمًا لا بُدَّ من أن يكون مصيره السقوط والنهاية، وهذا ما حدث بالفعل مع الدولة الغزنوية أو السبكتكينية؛ التي أصابها الوهن، ودبَّ الضعف وحبُّ الدنيا في قلوب ملوكها، واختلفوا فيما بينهم، واقتتلوا على الدنيا، بعدما قاموا بنصب سوق الجهاد ونشروا الإسلام في الهند لعهود طويلة؛ مما سمح لكفَّار الهند أن يرفعوا رءوسهم مرَّة أخرى، ويخلعوا الطاعة، ويطردوا المسلمين من بلادهم، ولأن الله عز وجل ناصرٌ دينه، ومظهرٌ شريعته فإنَّ من مقتضيات هذه السُّنَّة أن يتولَّى أمر الدين قومٌ آخرون؛ يحوطونه بالحماية وينشرونه، ويكونون على مستوى هذا الدين؛ لذلك لما دبَّ الضعف في الدولة الغزنوية استبدلها المولى –عز وجل- بالدولة الغورية وقائدها الأمير المظفر شهاب الدين الغوري؛ حيث ورث الغوريون الدولة التي سقطت بالكلية سنة (582هـ= 1186م).

إعادة الأمجاد
كانت الدولة الغزنوية قد بلغت أَوْجَ قوَّتها واتِّساعها في عهد سلطانها العظيم محمود بن سبكتكين، وولده مسعود، وشملت المنطقةَ الشاسعةَ من إيران وشمال الهند كله والسند والبنجاب وحوض الجانج حتى البنغال، ولمَّا أصابها الضعف والوهن أخذت أجزاءٌ كثيرة من هذه الدولة في السقوط في يد الكفَّار مرَّة أخرى ومَنْ عاونهم من الفرق الضالَّة، التي لا تقلُّ كفرًا بل تزيد بنفاقها عن الكفار الأصليين؛ أمثال: فرقة القرامطة، والشيعة الإسماعيلية، وانتزعت الكثير من أملاك الغزنويين؛ حتى بإيران مركز دولتهم.

بدأ شهاب الدين الغوري رحلته الجهادية مبكِّرًا، وبدأها كما بدأها من قبلُ محمود بن سبكتكين ومن النقطة نفسها من المُلْتَان، وكان هذا الإقليم يقع تحت قبضة القرامطة الكفَّار، وبالفعل استخلص شهاب الدين المُلْتَان من يد القرامطة سنة (570هـ= 1175م)، ثم أعقب ذلك استعادة بيشاور، وأخضع حوض السند جميعه؛ رغم الخسائر الفادحة التي تحمَّلها جيشُه على يد كفَّار الهند وشمالها إلى خليج البنغال.

التحالف الهندوسي
شعر أمراء الهند بخطورة الأمر وعودة التهديد الإسلامي من جديد بعدما ظهر أسد جديد على الساحة وهو شهاب الدين الغوري، وقرَّرُوا التحالُف فيما بينهم؛ فيما عُرِفَ بتحالُف أمراء منطقة الأنهار الكبرى في شمال شبه الجزيرة الهندية، وهذه المنطقة تُعرف باسم الهندستان؛ وفيها أخصب بلاد الهند، وهي أكثفها سكانًا، وهؤلاء الأمراء دفعهم الحقد على الإسلام وتحريض الكهنة البراهمة وخوفهم على أملاكهم وعروشهم أن يُبادروا المسلمين بالعداوة والقتال؛ مستغلِّينَ بعض الأحداث الداخلية في الدولة الغورية، وانشغال شهاب الدين بالقضاء على بعض الاضطرابات والفتن الداخلية.

جهاد شهاب الدين الغوري على كل الجبهات
كان شهاب الدين الغوري يَحْلُم بأن تكون بلاد الهند كلُّها مسلمة، وأن يستكمل الدور الرائع الذي قام به من قبل السلطان محمود بن سبكتكين؛ بل كان شهاب الدين يُحِبُّ أن يتشبَّه كثيرًا بمحمود بن سبكتكين؛ وظهر هذا جليًّا في العديد من المواقف، ولكن الأمور لم تكن مواتيةً مثلما حدث أيام محمود بن سبكتكين؛ ذلك لأن شهاب الدين الغوري قد اضطر للجهاد على العديد من الجبهات الداخلية والخارجية، وكان ينتقل من الهجوم إلى الدفاع والكرِّ والفرِّ، من الهند إلى خراسان إلى الصين إلى إيران.. وهكذا، يُقاتل كفار الهند، وكفار الترك، والباطنية الكفار، وأيضًا طُلَّاب الدنيا من المسلمين الطامعين المفسدين؛ لذلك فلقد قضى شهاب الدين الغوري حياته كلها لم يعرف بيتًا ولا راحة، ولا يُلاعب ولدًا ولا يهنأ بأسرة واستقرار؛ بل مِنْ على ظهر الخيل إلى ظهر الخيل، ومن ضرب السيف إلى رمى السهم.. وهكذا.

جهاد شهاب الدين الغوري ضد كفار الهند
كان أمراء الهندوس هم العدوَّ الأكبر والأصلي في معارك شهاب الدين الغوري، وكان لقاؤه الأول معهم في غير صالح المسلمين؛ وترك أثرًا شديدًا على شهاب الدين الغوري، وذلك سنة (596هـ= 1199م) عندما دخل المسلمون مدينة شرستي واحتلُّوها، وكانت من أغنى وأكبر مدن الهند، فهجم التحالُف الهندوسي بقيادة كبيرهم بريتي (والذي تُسَمِّيه المراجع العربية كولة) على المسلمين، ودارت رحى معركة من أشدِّ ما لاقى المسلمون من قتال في الهند، وانهزم بعض الأمراء الغوريين، وفرُّوا من أرض القتال، وظلَّ شهاب الدين يُقاتل بنفسه؛ حتى إنه من شدَّة القتال قتل عدَّة أفيال بسيفه ورمحه، ثم أُصيب إصابةً بالغةً، وتكاثر عليه الكفَّار ليأخذوه؛ فدافع عنه جنوده، وحملوه مصابًا ينزف الدم مسافة أربعين كيلو مترًا حتى خافوا موته، ولمَّا عاد إلى لاهور أخذَ أمراءَ الغورية المنهزمين من أرض المعركة وعلَّق على كل واحد منهم عليق شعير، وقال لهم: «ما أنتم بأمراء إنما أنتم دواب». وألزمهم المشي حتى غزنة (1).

ظلَّ شهاب الدين الغوري يُجهِّز لقتال الهندوس وردِّ الهزيمة، وأخذ العُدَّة اللازمة، وجهَّز جيشًا كبيرًا، وكان ما زال ناقمًا على أمراء الغورية منذُ فرارهم في المعركة السابقة، وعزم على ألَّا يصطحبهم معه في القتال ضدَّ الهندوس، فحاول بعض شيوخ القوم استرضاءه عنهم؛ فقال شهاب الدين كلماتٍ تُعَبِّر عن النفسية المؤمنة الصادقة، التي تستشعر ما عليها من واجباتٍ تجاه نصرة الدين والعمل للإسلام، وتُظهر مدى قوَّة قلب هذا البطل الشجاع وحساسيته الدافقة، قال: «اعْلَمْ أنني منذ هزمني هذا الكافر ما نمت مع زوجتي على فراش، ولا غيَّرْتُ ثياب البياض عني (أي ثياب الكفن)، وأنا سائر إلى عدوِّي معتمد على ربي –عز وجل- لا على الغورية ولا على غيرهم، فإن نصرني الله سبحانه ونصر دينه فمن فضله وكرمه، وإن انهزمنا فلا تطلبوني، فلن أنهزم ولو هلكت تحت حوافر الخيل (2).
بعد هذه الرسالة الجلية اهتزَّت قلوب الأمراء الغورية، وحلفوا جميعًا على القتال حتى الموت وعدم الانهزام؛ مهما حدث في أرض المعركة.

عاد شهاب الدين الغوري إلى الهند بجيش بلغ قوامه مائة وعشرين ألف مقاتل بعد عام واحد من الهزيمة السابقة، فبرز له ملك الهند بريتي في جيش قوامه ثلاثمائة ألف مقاتل أو يزيدون، واستخدم شهاب الدين الغوري حيلة حربية ذكية؛ حيث قَسَّم جيشه إلى جزئين وهجم على الهندوس فجأة عند الفجر، فأمضى المسلمون فيهم القتل، وحاول بريتي الفرار، فقال له أصحابه: «إنك حلفت لنا أنك لا تُخَلِّينَا وتهرب». فنزل من على فرسه وظلَّ يُقاتل حتى وقع أسيرًا في يد المسلمين، وحاول بريتي أن يفدي نفسه بأموال طائلة هائلة، ولكن شهاب الدين علم أن بقتل بريتي يسهل سقوط الهند؛ فرفض قبول الفدية وقتله، وهو يُؤَكِّد بذلك على معنى رسالة الجهاد في الإسلام؛ فهو ليس للدنيا ولا للأموال ولا للغنائم ولا لشهوة القتل والتملُّك؛ بل هو لأسمى المطالب لنشر الإسلام وتبليغ الدين، وإزاحة الطواغيت الذين يقفون على آذان الناس، ويصدُّونهم عن سماع الحقِّ.

كان هذا النصر المبين إيذانًا بانهيار سلطان الأمراء الهندوس، وبداية السلطان الحقيقي للإسلام في منطقة الهندستان؛ فلقد استولَّى شهاب الدين الغوري على مدن شرستي وكهرام وهنسى وأجمير، وحطم أصنام الهندوسية والبوذية في الهندستان، واستعمل أحجارها في بناء المساجد، وعهد الأمير شهاب الدين الغوري إلى مملوكه وقائد جيوشه قطب الدين أيبك بولاية المدن الهندية المفتوحة، وكان قطب الدين أيبك لا يقلُّ شجاعة ولا إخلاصًا عن أستاذه، فثَبَّت أقدام المسلمين هناك، واتخذ دلهي عاصمة له، وبنى الجامع الشهير قطب منار، كما تصدَّى قطب الدين لفلول التحالف الهندوسي، وانتصر عليهم في معركة حامية الوطيس في سهل جندوار سنة (591 هـ= 1195م).

في الوقت نفسه الذي كان قطب الدين أيبك يُرَسِّخ أقدام الإسلام بالهندستان، أرسل شهاب الدين الغوري بطلاً آخر من قادة جيوشه واسمه محمد بن بختيار الخَلْجي إلى ناحية الشرق؛ حيث منطقة البنغال، وهي معقل البوذية في الهند كلها، ففتحها وحطَّم معابدها، وأظهر شعائر الإسلام بها، وذلك سنة (599هـ= 1203م)، وفي نفس السنة استطاع قطب الدين أن يفتح حصن كلنجر أمنع حصون الهند، وبسقوطه لم يبقَ في الهند مكان لم يدخله الإسلام باستثناء صحراء الجنوب.

جهاد شهاب الدين الغوري ضد كفار الأتراك
الجنس التركي يشمل كل القبائل الواقعة وسط وشرق الهضبة الإيرانية حتى أقصى شرق الصين، وأيضًا بلاد القوقاز ومنغوليا، وهذه القبائل كان منها المؤمن ومنها الكافر، وأمثال القبائل المؤمنة السلاجقة والتركمان والغوريون والخوارزميون، وأمَّا القبائل التركية الكافرة الوثنية فكانت تتجمَّع تحت لواء كبير وتحت أقوى هذه القبائل؛ وهي قبائل القراخطاي، وأصلهم في غرب الصين، وكان نهرا سيحون وجيحون هما الحدَّ الفاصل بين هذه القبائل الكافرة وبلاد الإسلام.

كانت هذه القبائل شديدة البأس كثيرة الفساد؛ تؤذي جيرانها المسلمين، وتفرض عليهم الجزية، وتُكثر من الإغارة عليهم، وكان من الطبيعي أن يتصدَّى لهم بطل الإسلام المقدام في هذه البقعة من الأرض، وتَتَّجه أنظار المسلمين كلها إليه؛ وبالفعل تصدَّى لهم شهاب الدين الغوري، ومنع تقدُّمهم وعبورهم لنهر جيحون؛ ولكن الطامَّة الحقيقية والحقيقة التاريخية الثابتة والمحزنة للقلب حقًّا هي أن هذه القبائل إنما تحرَّكت لحرب شهاب الدين والمسلمين بتحريض من ملك مسلم آخر؛ وهو خوارزم شاه، وكان مُلْكُه متَّسع للهضبة الإيرانية كلها، وقد ورث الرجل ملك دولة السلاجقة العظيمة؛ ولكنه كان رجلًا لا يُبالى إلَّا بمصالحه الخاصة وأملاكه وأمواله، وكان مُلكه المتَّسع وما ورثه من أملاك السلاجقة دافعًا له لأن يطلب من الخليفة العباسي الناصر بالله منصب السلطنة والخطبة ببغداد، فأرسل الخليفة إلى شهاب الدين الغوري يطلب منه أن يمنع خوارزم شاه من التقدُّم لحرب الخليفة، وعندها خاف خوارزم شاه من قوَّة شهاب الدين الغوري، وأرسل إلى ملوك القراخطاي الكفار وأغراهم بالهجوم على الدولة الغورية، وكان شهاب الدين قد أخذ من قبل بعض بلاد القراخطاي، فقويت عزائمهم على حرب شهاب الدين والمسلمين.

استغلَّ الكفار خروج شهاب الدين الغوري للغزو في بلاد الهند وهجموا بأعداد كبيرة على بلاد الغور، وعظمت المصيبة على المسلمين لغياب شهاب الدين وضخامة العدوِّ، ولكن الله –عز وجل-الذي وعد بحفظ دينه، ونُصرة جنده- قيَّض للمسلمين عدَّة أبطال من أعوان شهاب الدين؛ مثل: الأمير محمد بن جربك، والحسين بن خرميل، وحروش الغوري، واجتمع عندهم المجاهدون والمتطوِّعون من كل مكان، وهجموا على جيش القراخطاي ليلاً، ووضعوا فيهم السيف، واشتدَّ القتال بين الفريقين، واسْتُشهد حروش الغوري، وكان شيخًا مسنًّا، فالتهبت مشاعر المسلمين، وألقَوُا السهام والرماح، وصار القتال بالسيوف والفئوس فقط، وانتصر المسلمون انتصارًا هائلاً؛ جعل عقل ملك القراخطاي يطيش وينقلب على خوارزم شاه، ويطلب منه ديةً لكلِّ قتيل كافر عشرة آلاف دينار ذهبًا؛ وهذا ما جعل خوارزم شاه يطلب العفو والصفح من شهاب الدين، الذي قبل العفو شريطة دخول خوارزم شاه في طاعة الخليفة العباسي، فوافق خوارزم الذي كان يُغَيِّر ولاءه ويقلبه حسب هواه وأطماعه، ووقعت كراهيته في قلوب كل المسلمين شرقًا وغربًا، والعجيب أن هذا الرجل النكبة عاد وحالف القراخطاي من جديد، وأغراهم بشهاب الدين، ودلَّهم على أماكن ضعفه؛ فهزموا شهاب الدين في معركة رهيبة سنة (600هـ= 1204م) كاد يُقتل فيها شهاب الدين وتنهار دولة الإسلام في الهند بسبب ذلك.

جهاد شهاب الدين الغوري ضد الزنادقة والباطنية والفرق الضالة
كانت منطقة الهضبة الإيرانية وبلاد الهند مرتعًا خصبًا وواسعًا للأفكار الضالَّة والعقائد المنحرفة؛ حيث كانت مهبط ومعدن الفلسفة والمنطق والتأمُّلات البراهمية والعقائد المجوسية والفارسية، فلا عجب أن تبقى آثار تلك العقائد الضالَّة في تلك البقاع؛ ولذلك كان السلطان العظيم محمود بن سبكتكين شديد الاهتمام بتطهير كلِّ بلدٍ يفتحه أو يملكه من آثار تلك العقائد والفرق الضالَّة، وقضى على كل المذاهب المخالفة لأهل السُّنَّة والجماعة، وسار على دربه الأمير شهاب الدين الغوري، الذي كما قُلنا من قبل شديد الشبه بمحمود بن سبكتكين، ودائم الاقتداء به؛ فقد كان شهاب الدين الغوري شافعيًّا على عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة، شديد الحبِّ والإيمان بالإسلام، يكره أهل البدع والفساد، شديدًا على الفرق الضالَّة؛ خاصة فرقة الإسماعيلية الباطنية، فقد كان يقتل مَنْ يجده منهم، ويُخَرِّب قراهم، ويُلزمهم بالدخول في الإسلام وإظهار شعائره، وكان شهاب الدين الغوري على يقين أن الملاحدة والزنادقة من أتباع الفرق الضالَّة هم الخطر الأكبر؛ الذي يُهَدِّد سلامة الأُمَّة الإسلامية، وينخر في جسدها، وأنهم يتربصون بهذه الأُمَّة الدوائر، وأن عداوتهم وكفرهم أشدُّ وطأة وأذًى على المسلمين من الكفار الأصليين.

عندما تحالف الخائن خوارزم شاه مع قبائل القراخطاي ضدَّ شهاب الدين والمسلمين ودلَّهم على عورات جيش شهاب الدين، ووقعت الهزيمة على المسلمين، سرت شائعة في البلاد أن شهاب الدين الغوري قد قُتل في المعركة، وعندها تطاول كلُّ ملحد وزنديق ومجرم ومفسد وطامع في الدنيا؛ ومن هؤلاء أحد مماليك شهاب الدين واسمه أيبك بال، الذي نَصَّب نفسه سلطانًا على المسلمين مكان شهاب الدين، وأعانه على ذلك أحدُ الزنادقة ويُدعى عمرو بن يزان، وأخذ أيبك بال في ظُلم الناس وسفك دماءهم وأخذ أموالهم، وتجمَّع حوله كلُّ اللصوص وقُطَّاع الطرق، واتَّسع المجال للزنادقة والملاحدة في نشر أفكارهم وعقائدهم، ولمَّا عاد شهاب الدين الغوري من القتال ووجد الأمر هكذا أمر بالقبض على هؤلاء المفسدين والزنادقة، وأمر بقتلهم، ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33 ].

وشنَّ شهاب الدين الغوري حملة واسعة وشاملة على قرى وبلاد الإسماعيلية؛ حتى الموجودة خارج نطاق مملكته؛ ليُطَهِّر بلاد الإسلام كلها من هذا الجنس الخبيث.

كانت الشائعة التي سرت بعد هزيمة شهاب الدين من القراخطاي عن مقتله السببَ في كشف مكنون صدور الكثيرين، وسبحان الله كما قال –عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، فقد كانت الهزيمة كريهة وأليمة على نفس المسلمين عمومًا، وشهاب الدين خاصةً؛ ولكنها كشفت حقيقة كثيرين ممَّن كانوا حول المسلمين؛ من هؤلاء كان أمير منطقة الجودي واسمه دانيال، وكان قد أسلم خوفًا من بطش شهاب الدين، فلمَّا وصلته شائعة مقتل شهاب الدين ارتدَّ عن الإسلام مرَّة أخرى، وحالف قبيلة تركية كافرة اسمها قبيلة بني كوكر ومساكنهم في جبال لاهور والمُلْتَان؛ وهي حصينة ومنيعة، وقام هذا التحالف بالإغارة على بلاد المسلمين، وقطعوا السبيل، ونهبوا قوافل التجارة، وكان شهاب الدين في هذه الفترة يُجَهِّز الجيوش لمحاربة القراخطاي وردِّ الهزيمة، فلمَّا وقف على حقيقة الوضع غَيَّر عزمه وقرَّر البدْءَ بهؤلاء المرتدِّين والكافرين في مملكته، وهذا يُوَضِّح فهم شهاب الدين لترتيب الأولويات؛ والبدء بالعدو الأقرب، الذي هو عادة أخطر.

أعدَّ شهاب الدين الغوري جيوشه بسرعة من اتجاه الشرق إلى الشمال، وهجم كالأسد الضاري على الخونة والمرتدِّين يوم الخميس 25 من ربيع الأول سنة (602هـ= 1206م)، واشتدَّت مقاومة الكفار، وكان شهاب الدين قد قَسَّم جيشه إلى جزئين: جزء يقوده هو بنفسه ويتولَّى الاصطدام المباشر مع الكفار، وجزء آخر يقوده أنجب تلاميذ شهاب الدين الأمير البطل قطب الدين أيبك؛ يكون كمينًا يظهر في اللحظة الحاسمة، وبالفعل ظهر قطب الدين بجيشه عند اشتداد القتال، وتنادَوْا بشعار الإسلام: الله أكبر. وحملوا حملة صادقة على الكفار الذين انهزموا، وأَمْعَن المسلمون فيهم القتل، وفرَّ الكفار وصعدوا إلى تلال، وهناك أضرموا فيها النار؛ فكان أحدهم يقول لصاحبه: «لا تترك المسلمين يقتلونك» (3). ثم يُلقي بنفسه في النار. فعمَّهم الفناء قتلاً وحرقًا، وغنم المسلمون غنيمة هائلة؛ حتى إنَّ كلَّ خمسة أسرى يُباعون بدينار، واشتدَّ هذا النصر المبين على كل كافر وملحد وزنديق ومرتدٍّ في هذه البقعة من الأرض.

شهيد المحراب
وجد أعداء الإسلام -على اختلاف مشاربهم وأهوائهم- أنه لا سبيل للانتصار على هذا الدين إلَّا باغتيال رأس المسلمين وبطلهم المقدم، الذي يستطيع أن يجمع الجيوش ويشحذ الهمم، ويُنافح عن دين الإسلام، ولم يجد أعداء الإسلام أفضل من الباطنيين الكفرة ليُوكلوهم في تلك المهمَّة القذرة؛ فالباطنيون خبراء في أساليب الاغتيال، وبالفعل تسلَّل نفر من الباطنية الإسماعيلية إلى جيش شهاب الدين الغوري وهو خارج لقتال قبائل القراخطاي الكافرة، وأظهر هؤلاء الباطنية أنهم من جملة الجيش حتى كانت ليلة غرَّة شعبان سنة (602هـ= 1206م)، وكان شهاب الدين في خيمته يُصَلِّي قيام الليل وحده، حيث دخل عليه الكفار، وضربوه بالسكاكين؛ حتى قتلوه شهيدًا وهو يُصَلِّي، فدخل عليه أصحابه فوجدوه على مُصَلَّاه قتيلاً وهو ساجد، فأمسكوا بهؤلاء الكفرة وقتلوهم جميعًا، وحمله أصحابه إلى غزنة حيث دفنوه بها، وهكذا كانت نهاية هذا البطل العظيم، الذي هو من أعظم أبطال الإسلام، ويا لها من حُسن خاتمة لرجل طالما تعرَّض لمواطن الشهادة، وباشر القتال بنفسه؛ حتى إنه من شدَّة قتاله كان يقتل الفيل بسيفه!
يستشهد بطلنا وهو يُصَلِّي ساجدًا قائمًا لربه –عز وجل، وهو خارج لقتال الكافرين، وهكذا تكون خاتمة الأبطال وما أروعها من خاتمة!

1- انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 10/45.
2- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 10/115، 116.
3- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 10/213.

محمود بن سبكتكين

هو السلطان الذي وَطِئَتْ خيله أماكن لم تَطَأْها خيل المسلمين من قبل، ورَفَعَ رايات الإسلام في بلاد لم يدخلها الإسلام من قبل. هو يمين الدولة وأمين الملَّة، ناصر الحقِّ ونظام الدين، وكهف الدولة، أبو القاسم محمود بن سبكتكين، محطم الصنم الأكبر، وقاهر الهند، والسلطان المجاهد العظيم.

نشأة محمود بن سبكتكين
وُلِدَ محمود بن سبكتكين في المحرم سنة (360هـ= 971م) في مدينة غزنة -وهي تقع الآن في أفغانستان- وأبوه مؤسِّس الدولة الغزنوية، فنشأ وتربَّى تربية القادة الأبطال، واشترك منذ حداثته في محاربة أعداء الإسلام من الهنود والبويهيين، وكان له أثر كبير في معركة نيسابور التي انتصر فيها والده سُبُكْتِكِين على البويهيين، وذلك كله وهو في مقتبل الشباب.

أبوه هو ناصر الدين سبكتكين مُؤَسِّس الدولة الغزنوية، الذي ولي غزنة سنة (366هـ= 976م) وكان يتمتَّع بهمة عالية، وكفاءة نادرة، وطموح عظيم، وكان عادلًا خيِّرًا، حسنَ العهد، محافظًا على الوفاء، كثيرَ الجهاد؛ فنجح في أن يبسط نفوذه على البلاد المجاورة، وشرع في غزو أطراف الهند، وسيطر على كثير من المعاقل والحصون هناك؛ حتى تمكَّن من تأسيس دولة كبيرة في جنوبي غرب آسيا, حتى توفي سنة (387هـ= 997م)، فانعقدت البيعة لابنه إسماعيل، وكان مُتَّصِفًا بسوء التدبير، وأراد أن يحرم ميراث محمود من أبيه، ولمَّا ولي إسماعيل غزنة استضعفه الجند واستولوا عليه، واشتدوا عليه في الطلب حتى أنفد خزائن أبيه؛ فقام عليه الأمير محمود، وتغلَّب عليه، واستطاع أن يأخذ غزنة لنفسه، وأعلن نفسه سلطانًا على البلاد.

محمود بن سبكتكين سلطانًا على البلاد
عندما تقلَّد محمود بن سُبُكْتِكِين مقاليد السلطنة أظهر السُّنَّةَ وقمع الرافضة والمعتزلة، ومشى في الناس بسيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فكان : يُعظِّم المشايخ ويُقَرِّبهم ولا يستغنى عن مشورتهم, وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولما كانت مملكة محمود بن سُبُكْتِكِين من أحسن ممالك بني جنسه؛ كان الإسلام والسُّنَّة في مملكته أعزَّ؛ فإنه غزا المشركين من أهل الهند، ونشر من العدل ما لم ينشره مثله، فكانت السُّنَّة في أيامه ظاهرة، والبدع في أيامه مقموعة (1).

وقد أقام السلطان محمود الخطبة للخليفة القادر بالله في بغداد، وأقرَّه الخليفة العباسي سلطانًا على ما تحته من بلاد خراسان والجبال والسند والهند وطبرستان، وأرسل له الخليفة خلعة فاخرة جدًّا لم يُرسل مثلها قط خليفة إلى أي سلطان من قبل، وخلع عليه الألقاب الكثيرة: «يمين الدولة، وأمين الملة، وناصر الحقِّ، ونظام الدين، وكهف الدولة»، وبعد قليل سيُضيف محمود بن سبكتكين إلى نفسه لقب: «قاهر الهند ومحطم الصنم الأكبر».

وكان السلطان محمود بن سبكتكين حازمًا عادلًا، لا يتجرَّأ أحدٌ على إظهار المعصية في دولته من خمر أو معازف أو أفكار المعتزلة والروافض.

وكان يُعَظِّم العلماء ويُكرمهم، فقصدوه من أقطار البلاد، وكان عادلًا في رعيَّته رفيقًا بهم محسنًا إليهم, وكان كثير الغزو والجهاد، وفتوحاته مشهورة‏.

وكان السلطان محمود بن سُبُكْتِكِين نصيرًا كبيرًا للأدب والفنون، وكان يعيش في عهده كثير من العلماء والشعراء؛ منهم: أبو ريحان البيروني (الفيزيائي والعالم الموسوعي)، وأبو الفتح البستي، والعسجدي، والبيهقي، والفرخي، والمنوجهري، والعنصري، والكسائي، والدقيقي، والغضائري.. وغيرهم.

تقوية وتثبيت الجبهة الداخلية
بدأ السلطان محمود بن سبكتكين نشاطًا جهاديًّا واسعًا؛ أثبت أنه من أعاظم الفاتحين في تاريخ الإسلام؛ حتى قال المؤرِّخُون: «إن فتوحه تعدل في المساحة فتوح الخليفة عمر بن الخطاب». وقد اتَّبع سياسة جهادية في غاية الحكمة؛ تقوم أساسًا على تقوية وتثبيت الجبهة الداخلية عسكريًّا وسياسيًّا وعقائديًّا وهو الأهم؛ فعمل على ما يلي:

1- القضاء على كل المذاهب والعقائد الضالَّة المخالفة لعقيدة أهل السُّنَّة والجماعة؛ مثل: الاعتزال، والتشيع، والجهمية، والقرامطة، والباطنية. والعمل على نشر عقيدة السلف الصالح بين البلاد الواقعة تحت حكمه.

2- قضى على الدولة البويهية الشيعية؛ والتي كانت من عوامل التفرُّق والانحلال في الأُمَّة الإسلامية كلها؛ حتى بلغ بها الأمر في التفكير بالعودة إلى العصر الساساني الفارسي، واتخاذ ألقاب المجوس؛ مثل شاهنشاه، وبالقضاء على تلك الدولة الرافضية قَدَّم السلطان محمود أعظم خدمة للإسلام.

3- أزال الدولة السامانية؛ التي بلغت حالة شديدةَ السوء من الضعف والانحلال أثَّرَتْ بشدَّة على سير الحملات الجهادية والفتوحات على الجبهة الهندية.

4- أدخل بلاد الغور في الإسلام؛ وهي في وسط أفغانستان الآن، وهي مناطق صحراوية شاسعة، وأرسل إليهم مُعَلِّمين ودعاةً وقُرَّاءً، وقضى على دولة القرامطة الصغيرة بالمُلْتَان بباكستان الآن، وكان يقودها رجل اسمه أبو الفتوح داود، وأزال عن هذه البلاد العقائد الضالَّة والفرق المنحرفة؛ مثل: الباطنية والإسماعيلية.

5- أعلن خضوع دولته الضخمة وتبعيتها لـ لخلافة العباسية ببغداد، وخطب للخليفة العباسي القادر بالله، وتصدَّى لمحاولات وإغراءات الدولة الفاطمية للسيطرة على دولته، وقام بقتل داعية الفاطميين التاهرتي، الذي جاء للتبشير بالدعوة الفاطمية ببلاد محمود بن سبكتكين، وأهدى بغلته إلى القاضي أبي منصور محمد بن محمد الأزدي وقال: «كان يركبها رأس الملحدين، فليركبها رأس الموحِّدين».

وهكذا ظلَّ السلطان محمود بن سُبُكْتِكِين يُرَتِّب للبيت من الداخل، ويُقَوِّي القاعدة إيمانيًّا وعقائديًّا وعسكريًّا، ويُكَوِّن صفًّا واحدًا استعدادًا لسلسلة الحملات الجهادية الواسعة لفتح بلاد الهند.

فتوحاته في الهند
ظلَّ فتح الهند حُلْمًا كبيرًا يُراود الخلفاء والسلاطين طيلة أربعة قرون؛ منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد أُرسلت في ذلك الحملات والجيوش لفتح تلك البلاد الشاسعة، وكانت أُولى الحملات الناجحة في عهد الوليد بن عبد الملك على يد محمد بن القاسم الثقفي؛ فتوغَّل في شمال الهند وفتح مدينة الدَّيْبُل وأقام بها مسجدًا، وترك بها حامية من أربعة آلاف جندي، وأصبحت الدَّيْبُل أول مدينة عربية في الهند.

ثم توالت الحملات؛ ولكنْ لم تكن في مثل قوَّة الحملات الأولى أيام الدولة الأموية، فضعُفَ وجودُ المسلمين في الهند، وظلَّ المسلمون في عهد الدولة العباسية محافظين على ما فتحوه، وتوسَّعُوا قليلاً في ضمِّ أجزاء أخرى إلى دولتهم، حتى سيطر المسلمون على المنطقة الواقعة بين كابل وكشمير والمُلْتَان، إلى أن يسَّر الله فتح الشمال الهندي كله، ومهَّدَ الطريق للفاتحين من بعده على يد بطلنا السلطان المجاهد محمود بن سبكتكين؛ حيث قاد محمود بن سبكتكين ست عشرة حملة عسكرية إلى شمال الهند؛ فقضى على ملوكها الواحد تلو الآخر؛ فقاد حملة ضدَّ الملك الهندي جايبال وذلك سنة (392هـ= 1001م)؛ وكان أكبر ملوك الهند على الإطلاق، وأكبر عقبة في وجه الدعوة الإسلامية، وقاد -أيضًا- حملة ضد الملك انندبال سنة (398هـ= 1007م), وواجه الملك ناكر كوت سنة (400هـ= 1009م) وألزمه بدفع الجزية, وواجه -أيضًا- الملك راجا ناندا سنة (410هـ= 1019م) وأدَّت تلك المعركة إلى انتشار واسع للإسلام في منطقة كالنجار، وكان قد قضى على ملك الكجرات بيدا سنة (409هـ= 1018م).

كانت هذه الفتوح بفضل الله أولاً ثم بفضل سلاح الفرسان الذي أنشأه محمود بن سبكتكين؛ الذي وصل عدده -في رواية بعض المؤرِّخين العرب والمستشرقين- إلى مائة ألف فارس مسلَّحِين بأحدث وأفضل الأسلحة، وسلاح الفيلة الذي كان السلاح الرئيسي في معارك المسلمين في الهند، وكان يهتمُّ السلطان محمود بن سبكتكين بهذا السلاح إلى حدٍّ كبير؛ حتى إنه لربما يُصالح بعض ملوك الهند مقابل عدد من الفيلة.

سومنات والصنم الأكبر
ظلَّ السلطان محمود منتصرًا في معاركه ضدَّ الهنود منتقلاً من نصر إلى نصر، وكان السلطان محمود الغزنوي كلَّما هدم صنمًا، قالت الهنود: «إن هذه الأصنام والبلاد قد سخط عليها الإله سومنات؛ ولو أنه راضٍ عنها لأهلك مَنْ قصدها بسوء» (2).

فسأل السلطان محمود عن سومنات هذا؟ فقيل له: «إنه أعظم أصنام الهنود». ‏وكان الهنود يحجُّون إلى هذا الصنم ليلة خسوف القمر؛ فتجتمع إليه عوالم لا تُحصى، ‏وكان الهنود يزعمون أن الأرواح بعد الموت تجتمع إليه، فيبثّها فيمَنْ يشاءُ بِنَاءً على التناسخ, وكان المدُّ والجزر عندهم هو عبادة البحر لسومنات، وكانوا يقذفون إليه كلَّ نفيسٍ، وكانت ذخائرهم كلها عنده‏، وكانت له أوقاف تزيد على عشرة آلاف ضيعة، وكان يقوم عند الصنم ألف رجل في كلِّ يوم للعبادة، وثلاثمائة لحلق رءوس الزوَّار ولحاهم، وثلاثمائة رجل وخمسمائة امرأة يُغَنُّون ويرقصون، فعزم السلطان محمود على هدم هذا الصنم، وقاد جيوشه بنفسه إلى أن وصل إلى سومنات.

السلطان يرفض الأموال والهدايا
عرض الهنود على السلطان محمود بن سبكتكين أموالًا جزيلة ليترك لهم هذا الصنم الأعظم، فأشار مَنْ أشار من الأمراء على السلطان محمود بأخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم لهم؛ للمجهود الضخم والأموال الطائلة التي أُنفقت على تلك الحملة الجهادية، فقال: «حتى أستخير الله –عز وجل». فلمَّا أصبح قال: «إني فكَّرْتُ في الأمر الذي ذُكِرَ فرأيتُ أنه إذا نُوديتُ يوم القيامة: أين محمود الذي كسر الصنم؟ أَحَبُّ إليَّ من أن يُقال: الذي ترك الصنم لأجل مال يناله من الدنيا» (3).

الله أكبر! هذه والله! هي الكرامة، وهذا منتهى العبودية لله –عز وجل؛ فقد جعل فتوحاته كلها لله، ومن أجل إعلاء كلمة الله.

وفي ذي القعدة 416هـ= يناير 1026م انتصر المسلمون على الهنود بعد مقاومة عنيفة, وقد قُتل من الهنود خمسون ألفًا كانوا يُدَافِعُون عن معبد سومنات، ودخل محمود المعبد وحطَّم الصنم الأكبر، فوجد عليه وفيه من الجواهر والذهب والجواهر النفيسة ما يزيد على ما أنفقه في الحملة بأضعاف مضاعفة, وكانت عنده خزانة فيها عدد كثير من الأصنام ذهبًا وفضة عليها ستور معلقة بالجوهر منسوجة بالذهب تزيد قيمتها على عشرين ألف ألف دينار‏ (أي عشرين مليونًا) (4)!

سبحان الله، أراد أمراء الجيش أن يتركوا الصنم مقابل أموال جزيلة، وبعدما رأوا ما بداخل هذا الصنم من أموال حمدوا الله.

وفاة السلطان محمود بن سبكتكين
ظلَّ السلطان محمود في جهاد دائم لا يَكَلُّ ولا يَمَلُّ؛ حتى لازمه مرض في البطن أواخر أيامه, وكان يزداد عليه يومًا بعد يومٍ, وكان يتحامل على نفسه أمام الناس، وكان لا يستطيع أن يُكَلِّم الناس إلَّا مُتَّكِئًا من شدَّة المرض، ومات رحمه الله في غزنة يوم الخميس 23 من ربيع الآخر (421هـ= 1030م)، وقبره بها ما زال معروفًا، وكانت مدَّة حكمه 35 سنة، وبلغت رايته الجهادية أماكن لم تبلغها راية قطُّ، كما أقام شعائر الإسلام في أقصى ربوع الأرض.

1- ابن تيمية: مجموع الفتاوى، 4/22.
2- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 7/685.
3- ابن كثير: البداية والنهاية، 12/28.
4- تاريخ ابن خلدون، 4/492.

أسد بن الفرات
نشأة أسد بن الفرات
وُلِدَ أسد بن الفرات رحمه الله بطلنا سنة (142هـ= 759م) بحَرَّان من أعمال ديار بكر بالشام ، انتقل إلى بلاد المغرب مع أبيه الفرات بن سنان سنة (144هـ= 761م)، والذي كان قائدًا للمجاهدين الذين خرجوا لنشر الإسلام في بلاد المغرب، واستقرَّ مع أبيه بـ القيروان، ونشأ أسد بن الفرات منذ صغره على حُبِّ العلم، وحفظ كتاب الله حتى أتمَّه في مرحلة الصبا، وأصبح هو نفسه معلِّمًا للقرآن وهو دون الثانية عشر.

أسد بن الفرات .. رحلته العلمية
بعدما أتمَّ أسد حفظ كتاب الله عز وجل بدأ في تحصيل العلوم الشرعية حتى برع في الفقه، وكان محبًّا للنظر والمسائل المتفرِّعة، وإعمال العقل؛ فمال ناحية مذهب أبي حنيفة، وظلَّ هكذا حتى التقى علي بن زياد، الذي يُعتبر أوَّلَ مَنْ أدخل مذهب الإمام مالك بن أنس بالمغرب، فسمع منه أسد كتاب الموطأ وتلقَّى منه أصول مذهب مالك، وبعدها قرَّر أسد أن ينتقل إلى المشرق في رحلة علمية طويلة ابتداءً من سنة (172هـ= 788م) وهو في ريعان الشباب.

دخل أسد بن الفرات المدينة النبوية لسماع الموطأ من الإمام مالك مباشرة، ثم ارتحل إلى العراق بعدما انتهى من سماع الموطأ.

وبالعراق التقى أسد مع كبار تلاميذ أبي حنيفة؛ أمثال: محمد بن الحسن وكان من كبار رواة الحديث، والقاضي أبي يوسف أخص تلاميذ أبي حنيفة وأفقههم، فتعلَّم أسد أولاً المذهب الحنفي، وأكثر من سماعِ الثقات في الحديث، واستفاد أسد من محمد بن الحسن استفادة كبرى، وكتب عنه الكثير من مسائل المذهب الحنفي المشهور.

استمرَّ أسد في رحلته إلى العراق جامعًا بين طلب الحديث والفقه إلى سنة (179هـ= 795م)، وهي السنة التي توفي فيها الإمام مالك، فارتجَّت العراق لموته، وأقبل الناس من كل مكان للسماع من تلاميذ مالك، وعندها ندم أسد على أنه لم يبقَ بجوار مالك، وقال لنفسه: «إن كان فاتني لزوم مالك فلا يفوتني لزوم أصحابه».

ارتحل أسد بن الفرات إلى مصر، وكان بها أخصُّ تلاميذ مالك وأكثرهم علمًا وورعًا أمثال ابن وهب وابن القاسم، فدخل أسد أولاً على ابن وهب، وعرض عليه كتبه التي كتبها على مذهب أبي حنيفة، وطلب منه أن يُجيب عليها على مذهب مالك، فتورَّع ابن وهب عن ذلك، فدخل أسد على ابن القاسم فأجابه على هذه المسائل، وتفرَّغ له ابن القاسم ولقَّنه المذهب كلَّه بأصوله وفروعه، ودوَّن هذه المسائل كلها في الكتاب الشهير باسم «الأسدية» وحرَّرها وضبطها، حتى صارت المرجع الأول للفقه المالكي ببلاد المغرب وقتها، وأخيرًا عاد أسد بن الفرات إلى القيروان سنة (181هـ= 797م) بعد رحلة علمية شاقَّة وحافلة بالفوائد؛ حيث تنقَّل فيها بين المدينة ومكة وبغداد والكوفة والفسطاط في طلب العلم؛ حتى صار من كبار علماء المغرب، وإمامًا من أئمة المسلمين الذين بلغوا درجة الاجتهاد، فلا يُفتي إلَّا بعد النظر والترجيح، ولا يتقيَّد بمذهبٍ معيَّنٍ.

أسد بن الفرات .. نشاطه العلمي بالمغرب
عاد أسد بن الفرات إلى القيروان -حاضرة إفريقية وقتها، ومنارة العلم الأولى في الشمال الإفريقي- بعلم جمٍّ في الحديث والفقه بمدرستيه الأوليين الحنفية والمالكية, وجلس بجامع عقبة وأقبل عليه الناس من كل مكان من المغرب والأندلس، واشتهر أمره وظهر علمه، وارتفع قدره، وانتشرت إمامته، وجاءته الأسئلة من أقصى البلاد ليُجيب عليها.

أسد بن الفرات .. محاربته للبدع
كان أسد بن الفرات على عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة عقيدة السلف الصالح؛ لذلك كان من أشدِّ علماء المغرب على أهل البدعة، معروفًا بنشر السُّنَّة حتى خارج إفريقية تونس الآن وكان يُكثر من تقريع المبتدعين، قرأ يومًا قوله سبحانه: {إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، ثم قال: «يا ويل أهل البدع! يزعمون أن الله عز وجل قد خلق كلامه، آمنتُ بالله عز وجل، وبأنه قد كَلَّم موسى تكليمًا، وأن الكلام غير مخلوق، ولكن لا أدرى كيفيته».

أسد بن الفرات .. أمير المجاهدين
لم يكن أسد بن الفرات من هذا النوع السلبي من العلماء الذين يقبعون خلف كتبهم ومصنفاتهم ومحابرهم، ولا يتحرَّكُون بعلمهم بين الناس؛ بل كان من العلماء العاملين، وأيضًا من كبار المجاهدين في سبيل الله عز وجل، فلقد ورث حُبَّ الجهاد عن أبيه، الذي كان أمير المجاهدين في حَرَّان، والذي حمل ولده الصغير «أسدًا» وخرج به مجاهدًا في سبيل الله، فشبَّ عالمًا وأيضًا جنديًّا جريئًا، وبحَّارًا مغامرًا؛ حتى إنه في سنِّ الشباب -وقبل أن يقوم برحلته العلمية المشهورة- اشترك في العديد من المعارك البحرية في مياه البحر المتوسط، ويقول العلامة ابن خلدون: إن أسد بن الفرات هو الذي افتتح جزيرة «قَوْصَرة». وهي جزيرة صغيرة تقع شرقي تونس الآن، حيث كانت إفريقية (تونس) واقعة تحت حكم دولة الأغالبة، التي استقلَّت بحكم البلاد منذ سنة (184هـ= 800م)، ولكنها كانت تابعة للدولة العباسية، وكانت هذه الدولة في بداياتها معنية بأمر الجهاد ونشر الإسلام، فاتجه ولاة هذه الدولة بأبصارهم ناحية الجزر الكبرى الواقعة في منتصف البحر المتوسط؛ مثل: جزيرة صقلية، وكورسيكا، وسَرْدَانِيَة، وغيرها؛ ولكن التركيز الأكبر كان على جزيرة صقلية.

فتح جزيرة صقلية
تُعتبر جزيرة صقلية أكبر جزر البحر المتوسط مساحة، وأغناها من حيث الموارد الاقتصادية، وأفضلها موقعًا، ولقد انتبه المسلمون لأهمية هذه الجزيرة مبكِّرًا منذ عهد الصحابة؛ حيث حاولوا فتحها في عهد عبد الله بن سعد –رضي الله عنه، ثم معاوية بن حديج –رضي الله عنه، ثم عقبة بن نافع، ثم عطاء بن رافع، وكان آخرهم عبد الرحمن بن حبيب وذلك سنة (135هـ= 753م)، ثم وقعت الفتن الداخلية ببلاد المغرب بين العرب والبربر، وانشغل المسلمون عن جهاد العدوِّ، الذي انتهز الفرصة وأغار على سواحل المغرب عند منطقة إفريقية؛ مما جعل المسلمون يتوحَّدُون ويتهيَّؤُن للردِّ على هذا العدوان البيزنطي.

في هذه الفترة وقعت العديد من الاضطرابات بجزيرة صقلية، والتي كانت تتبع الدولة البيزنطية؛ حيث وقع نزاع على حكم الجزيرة بين رجلين أحدهما اسمه يوفيميوس (وتُسَمِّيه المراجع العربية فيمي)، والآخر اسمه بلاتريوس (وتُسَمِّيه المراجع العربية بلاطه)، وانتصر بلاطه على فيمي الذي فرَّ هاربًا إلى إفريقية، واستغاث بزيادة الله ابن الأغلب حاكم إفريقية، وطلب منه العون في استعادة حكمه على الجزيرة، فرأى زيادة الله فيها فرصة سانحة لفتح الجزيرة.

استنفر زيادة الله الناس للجهاد وفتحِ صقلية، فهرعوا لتلبية النداء، وجُمِعَت السفن من مختلف السواحل، وبحث ابن الأغلب عمَّن يجعله أميرًا لتلك الحملة البحرية الكبيرة فلم يجد خيرًا ولا أفضل من البطل المقدام أسد بن الفرات؛ وذلك على الرغم من كبر سنه في هذه الفترة ربيع الأول (212هـ= 827م)؛ أي: سبعين عامًا، وكان هذا الاختيار دليلاً على فورة المشاعر الإسلامية في هذه الفترة، والأثر الكبير لعلماء الدين الربانيين على الشعب المسلم، وكان أسد بن الفرات يُبدى رغبته في هذه الغزوة كواحد من المسلمين؛ لأنه كان محبًّا للجهاد، عالمًا بمعاني ومقتضيات آيات النفرة في سبيل الله ودور العلماء في ذلك، وأيضًا كان يكره الشهرة والرياء.

ولكن ابن الأغلب أصرَّ على أن يتولَّى أسد بن الفرات قيادة الحملة العسكرية -وأيضًا- يكون قاضيًا للحملة؛ أي جمع له القيادة الميدانية والروحية؛ لعلمه بمكانة أسد بن الفرات وأثره في الناس وحبِّهم له.

أسد بن الفرات .. الجهاد حتى الممات
خرج أسد بن الفرات رحمه الله من القيروان في حملة عسكرية كبيرة قوامها عشرة آلاف من المجاهدين المشاة، وسبعمائة فارس بخيولهم في أكثر من مائة سفينة كبيرة وصغيرة، خرجت من ميناء سوسة على البحر المتوسط وسط جمع عظيم من أهل البلد، الذين خرجوا لتوديع الحملة المجاهدة.

تحرَّك الأسطول الإسلامي يوم السبت 15 ربيع الأول سنة (212هـ= 827م) متجهًا إلى جنوبي جزيرة صقلية, وبالفعل وصلت الأساطيل المسلمة إلى بلدة «مازر» في طرف الجزيرة الغربي بعد ثلاثة أيام من الإبحار؛ أي يوم الثلاثاء، ونفذ أسد بن الفرات على رأس جنده إلى شرقي الجزيرة، وهناك وجد قوَّة رومية بقيادة الثائر فيمي، الذي طلب مساعدة ابن الأغلب لاستعادة حكمه على الجزيرة، وعرض فيمى على أسد بن الفرات الاشتراك معه في القتال ضدَّ أهل صقلية، ولكنَّ القائد المسلم -العالم بأحكام شريعته، المتوكل على الله عز وجل وحده- يرفض الاستعانة بالمشركين تأسِّيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، الذي رفض الاستعانة باليهود يوم أحد.

واستولَّى أسد على العديد من القلاع أثناء سيره؛ مثل: قلعة بلوط والدب والطواويس، حتى وصل إلى أرض المعركة عند سهل بلاطه نسبة إلى حاكم صقلية، وعندها أقبل بلاطه في جيشٍ عدته مائة ألف مقاتل؛ أي عشرة أضعاف الجيش المسلم، وعندها قام أسد بن الفرات في الناس خطيبًا؛ فَذَكَّرهم بالجنة وموعود الله عز وجل لهم بالنصر والغلبة، وهو يحمل اللواء في يده، ثم أخذ يتلو آيات من القرآن، ثم اندفع للقتال والتحم مع الجيش الصقلي الجرَّار، واندفع المسلمون من ورائه، ودارت معركة طاحنة لا يُسمع منها سوى صوت قعقعة السيوف وصهيل الخيول، والتكبير الذي يخترق عنان السماء، والأسد العجوز أسد بن الفرات -الذي جاوز السبعين- يُقاتل قتال الأبطال الشجعان؛ حتى إن الدماء كانت تجري على درعه ورمحه من شدَّة القتال وكثرة مَنْ قتلهم بنفسه وهو يقرأ القرآن ويُحَمِّس الناس، وتمادت عزائم المسلمين حتى هزموا الجيش الصقلي شرَّ هزيمة، وفرَّ بلاطه من أرض المعركة، وانسحب إلى مدينة قَصْريَانِه، ثم غلبه الخوف من لقاء المسلمين ففرَّ إلى إيطاليا، وهناك قُتل على يد بني دينه؛ بسبب جُبنه وإحجامه عن قتال المسلمين.

وفاة أسد بن الفرات
بعد هذا الانتصار الحاسم واصل أسد بن الفرات زحفه حتى وصل إلى مدينة سرقوسة ومدينة بَلَرْم؛ فشدَّد عليها الحصار، وجاءته الإمدادات من إفريقية، واستطاع أسد بن الفرات أن يحرق الأسطول البيزنطي، الذي جاء لنجدة بَلَرْم، وأوشكت المدينة على السقوط، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان؛ حيث حلَّ بالمسلمين وباءٌ شديد، أغلب الظنِّ أنه الكوليرا أو الجدري؛ فهلك بسببه عدد كبير من المسلمين في مُقَدِّمتهم القائد المقدام أسد بن الفرات، فلاقى الموت مرابطًا مجاهدًا بعيدًا عن أهله وبيته وحلقات دروس العلم، مجافيًا لفراشه وداره، مُؤْثِرًا مرضاة ربه ونصرة دينه، وذلك في شعبان سنة (213هـ= 828م)، ودُفن بمدينة قصريانه؛ وهكذا جمع أسد بن الفرات بين خصال الخير كلها من علم وورع، وجهاد وشهادة، فيا ليت علماء الأُمَّة يتعلَّمُون شيئًا من سيرة هذا البطل، الذي سقط من ذاكرة المسلمين الآن.

موسى بن نصير
هو موسى بن نصير فاتح المغرب وصقلية وقبرص ورودس والأندلس، هو شيخ المجاهدين الذي قضى أعوامًا يرفع فيها راية الجهاد.

نشأة موسى بن نصير
في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وُلِدَ موسى بن نصير سنة (19هـ=640م) في قرية من قرى الخليل في شمال فلسطين، تُسَمَّى كفر مترى، فتعلَّم الكتابة، وحَفِظَ القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، ونظم الشعر، ولمَّا كان والده نصير قائدًا لحرس معاوية بن أبي سفيان ومن كبار معاونيه؛ تهيَّأت الفرصة لموسى لأن يكون قريبًا من كبار قادة الفتح، وأصحاب الرأي والسياسة، ويرى عن قرب ما يحدث في دار الخلافة.

فتوحاته في قبرص ورودس
شبَّ موسى بن نصير وهو يُشاهد جيوش المسلمين تُجاهد في سبيل الله؛ لنشر الدين الإسلامي في ربوع الأرض، ورأى والده وهو يستعدُّ لإحدى الحروب، وقد لبس خوذته، وتقلَّد سيفه، فنظر إليه وأطال النظر، وتمنَّى أن يكون مثل أبيه يُجاهد في سبيل الله ويرفع راية الإسلام، وجاءت اللحظة الموعودة لينال موسى قيادة بعض الحملات البحرية التي وجَّهها معاوية لإعادة غزو قبرص -التي سبق أن فتحها معاوية بن أبي سفيان في سنة 27هـ- فنجح في غزوها، وبنى هناك حصونًا، ثم تولَّى إمارتها، وفي سنة (53هـ= 673م) كان موسى بن نصير أحد القادة الذين خرجوا لغزو جزيرة رودس التي انتصر المسلمون فيها.

وزارة موسى بن نصير
وتمرُّ الأيام والسنون، ويتولَّى مروان بن الحكم الخلافة، ويتحيَّن موسى بن نصير الفرصة ليُحَقِّق أحلامه وطموحاته؛ ففي سنة (65هـ= 684م) أمر مروان بتجهيز الجيش للسير به نحو مصر، وزحف الجند مسرعين بقيادة ابنه عبد العزيز وصديقه موسى بن نصير، ووصل الجيش إلى مصر، واستطاع مروان أن يضمَّها تحت لواء المروانيين الأمويين، ثم غادرها إلى دمشق بعد أن عيَّن ابنه عبد العزيز واليًا عليها، وجعل موسى بن نصير وزيرًا له.

وعاش موسى مع عبد العزيز بن مروان في مصر، فكان موضع سرِّه، ووزيره الأول، يُساعده في حُكْم مصر؛ حتى ازدادت خبرة موسى في شئون السياسة والحكم، ومات مروان، وتولَّى الخلافة بعده ابنه عبد الملك، وكان عبد العزيز بن مروان يُشيد بشجاعة موسى وإخلاصه أمام الخليفة؛ مما جعله يخصُّ موسى بالحفاوة والتكريم.

وفي يوم من الأيام حمل البريد رسالة من الخليفة إلى أخيـه عبد العزيز والي مصر؛ يُخبره فيها بأنه قد عيَّن أخاه بشر بن مروان واليًا على البصرة، وجعل موسى بن نصير وزيرًا يُساعده على إدارة الولاية ورئيسًا لديوان العراق، ومكَّن الله لموسى، وثَبَّت أركان وزارته، فلم يمضِ وقت طويل، حتى عَيَّن الخليفةُ أخاه بشرًا على الكوفة، وبذلك ترك لموسى بن نصير ولاية البصرة؛ ليُدير شئونها وحده بوعي وبصيرة، ثم عَيَّنَه صديقُه عبدُ العزيز بن مروان واليًا على شمال إفريقية بدلاً من حسان بن النعمان، الذي غضب عليه عبد العزيز.

فتوحات موسى بن نصير في شمال إفريقيا
بعد تعيين موسى بن نصير –رحمه الله- واليًا على شمال إفريقية تمكَّن في زمن قصير من تجهيز جيش إسلامي قوي قادر على النصر، وسار برجاله، ووقف بينهم خطيبًا، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «إنما أنا رجل كأحدكم، فمَنْ رأى مني حسنة فليحمد الله، وليحضَّ على مثلها، ومَنْ رأى منِّي سيئة فليُنكرها، فإني أُخطئ كما تُخطئون، وأُصيب كما تُصيبون». ثم انطلق موسى بجيشه نحو المغرب؛ حيث تزعزع الأمن هناك برحيل الأمير السابق حسان بن النعمان، وقيام البربر بالعديد من الغارات على المسلمين.

واستطاع موسى بن نصير أن يهزم قبائل البربر التي خرجت عن طاعة المسلمين، ولمَّا وصل إلى مدينة القيروان، صلَّى بالجند صلاة شكرٍ لله على النصر، ثم صعد المنبر وخطب قائلاً: «وايم الله! لا أُريد هذه القلاع والجبال الممتنعة حتى يضع الله أرفعها، ويذلَّ أمنعها، ويفتحها على المسلمين بعضها أو جميعها، أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين». وانتشرت جيوش موسى بن نصير في شرق المغرب وشماله تفتح كلَّ ما يُصادفها من الحصون المنيعة؛ حتى أخضع القبائل التي لم تكن قد خضعت بعدُ للمسلمين.

وتطلَّع موسى إلى فتح طنجة التي كانت تحت سيادة الأمير الرومي يوليان، فانطلق من قاعدته في القيروان بجيش كبير تحت قيادة طارق بن زياد، حتى وصل إلى طنجة فحاصرها حصارًا طويلاً وشديدًا حتى فتحها، وأقام للمسلمين مُدنًا جديدة فيها، وأسلم أهلها، وبعث موسى لصديقه عبد العزيز يُبَشِّره بالفتح، وأن خُمس الغنائم قد بلغ ثلاثين ألفًا، وجاءت الرسل إلى الخليفة في دمشق تزفُّ إليه خبر النصر، ففرح فرحًا شديدًا لانتصارات موسى، وكافأه على انتصاراته.

وبدأ موسى بن نصير ينشر دين الله في المدن المفتوحة، ونجح في ذلك نجاحًا كبيرًا، وحكم بين أهل هذه البلاد بالعدل، لا يُفَرِّق بين عربي وأعجمي إلَّا بالتقوى والعمل الصالح؛ فأحبُّوا الإسلام، واستجابوا لدعوة الحقِّ، ودخلوا في دين الله أفواجًا، وتحوَّلوا من الشرك والكفر إلى الإسلام والتوحيد بفضل الله أولاً، ثم بجهود موسى وبطولاته.

بناء الأسطول وفتح جزر البحر المتوسط
لم يكتفِ موسى بهذه الانتصارات، بل أخذ يُجَهِّز أسطولاً بحريًّا، وأمر في الحال ببناء ترسانة بحرية في تونس، فجاء بصانعي المراكب، وأمرهم بإقامة مائة مركب.

وبعد أن تمَّ له إنشاء السفن أمر جنوده بأن يركبوا السفن وعلى رأسهم ابنه عبد الله، ثم أمره بفتح جزيرة صقلية، وسار عبد الله بن موسى بجند الحقِّ حتى وصل إلى الجزيرة فدخلها، وأخذ منها غنائم كثيرة، حتى وصل نصيب الجندي مائة دينار من الذهب، وكان عدد الجنود المسلمين ما بين التسعمائة إلى الألف، ثم عـاد عبد الله بن موسى من غزواته سالمًا غانمًا، وبعث موسى قائده عياش بن أخيل على مراكب أهل إفريقية، ففتح جزيرة صقلية للمرَّة الثانية، واستولى على مدينة من مدنها تسمي سرقوسة وعاد منتصرًا.

وفي سنة (89هـ= 708م) بعث موسى بن نصير قوَّةً لغزو سردينيا ففتحها، وفي العام نفسه جهَّز موسى ولده عبد الله بما يحتاجه من جند وعتاد، ثم سار في البحر، ففتح جزيرتي مَيُورْقَة ومَنُورقَة؛ وهما جزيرتان في البحر بين صقلية والشاطئ الأندلسي.

فتوحات موسى بن نصير في الأندلس
لما ضمن موسى بن نصير ولاء أهل المغرب واستمساكهم بدعوة الإسلام، أخذ يُعِدُّ العدَّة لغزو جديد، وبينما هو يُفَكِّر في هذا الأمر إذ جاءه رسول من قِبَل طارق بن زياد والي طَنْجَة يُخبره بأن يُوليان حاكم سبتة عرض عليه أن يتقدَّم لغزو إسبانيا، وأنه على استعداد لمعاونة العرب في ذلك، وتقديم السفن اللازمة لنقل الجنود المسلمين، وبعث موسى إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك يستشيره، فردَّ عليه الخليفة بقوله: «خضها أولًا بالسرايا -يعني بقلة من الجنود- حتى ترى وتختبر شأنها، ولا تُغَرِّر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال» (1).
فأرسل موسى رجلاً من البربر يُسَمَّى طريف بن مالك في مائة فارس وأربعمائة رجل، وركب هو وجنوده البحر في أربعة مراكب، حتى نزل ساحل الأندلس، فأصاب سبيًا كثيرًا ومالاً وفيرًا، ثم رجع إلى المغرب غانمًا سالمًا، وفي شهر رجب من عام (92هـ= 710م) جهَّز موسى جيشًا خليطًا من العرب والبربر؛ تعداده سبعة آلاف جندي بقيادة طارق بن زياد، وانطلق طارق بالجيش إلى أن وصل سبتة، وهناك خطَّط لعبور المضيق، وفي اليوم الخامس من شهر رجب سنة 92 هـ، الموافق شهر أبريل سنة 710م -وبفضل الله- كانت آخر دفعة من الجنود بقيادة طارق تعبر المضيق، الذي حمل اسم طارق بن زياد منذ ذلك الوقت.
ونزل طارق بن زياد -قائدُ جيش موسى بن نصير- أرض الأندلس، وبعد عدَّة معارك فتح الجزيرة الخضراء، وعَلِمَ الإمبراطور لُذريق بنزول المسلمين في إسبانيا من بتشو حاكم إحدى المقاطعات الجنوبية، الذي بعث إليه يقول: «أيها الملك، إنه قد نزل بأرضنا قوم لا ندري أمن السماء أم من الأرض، فالنجدة.. النجدة، والعودة على عجل».

وزحف لُذريق بجيش كبير ليُوقف المسلمين عن الزحف، فأرسل طارقٌ إلى موسى مستنجدًا، فأمدَّه بخمسة آلاف من المسلمين على رأسهم طريف بن مالك، فأصبح تعداد جيش المسلمين اثني عشر ألفًا، وكان اللقاء الحاسم بين جيش المسلمين بقيادة طارق بن زياد، وجيش الإمبراطور لذريق في (28 من رمضان 92 هـ= 18 من يوليو 711م)، واستمرَّت المعركة حوالي سبعة أيام، انتهت بانتصار المسلمين -بفضل الله- في معركة عُرِفَتْ باسم معركة وادي لكة.

واصل طارق بن زياد فتوحاته في الأندلس، وخشي موسى بن نصير من توغله في أراضيها، فعبر إليه على رأس حملة كبيرة وأخذ القائدان يتمَّان فتح ما بقي من مدن الأندلس، وظلَّ موسى يُجاهد في سبيل الله حتى أصبحت الأندلس في قبضة المسلمين.

العودة إلى دمشق
وفي أثناء فتوحات موسى في الأندلس ألحَّ عليه مغيث الرومي رسول الخليفة الوليد بن عبد الملك بالعودة إلى دار الخلافة في دمشق، فاستجاب له موسى، وبدأ يستعدُّ لمغادرة الأندلس، وواصل موسى السير، حتى وصل إلى دمشق فاستقبله الوليد وأحسن استقباله، وتحامل على نفسه وهو مريض وجلس على المنبر لمشاهدة الغنائم وموكب الأسرى، فدُهش الخليفة مما رأى وسجد لله شكرًا، ثم دعا موسى بن نصير وصبَّ عليه من العطر ثلاث مرَّات، وأنعم عليه بالجوائز.

ولم يمضِ أربعون يومًا على ذلك حتى مات الوليد بن عبد الملك، وتولَّى الخلافة أخوه سليمان بن عبد الملك، ومن يومها بدأت متاعب موسى بن نصير؛ فقد أراد سليمان أن يُعاقب موسى بن نصير لخلافٍ بينهما، فأمر به أن يظلَّ واقفًا في حرِّ الشمس المتوهِّجَة، وكان قد بلغ الثمانين من عمره، فلمَّا أصابه حرُّ الشمس وأتعبه الوقوف سقط مغشيًّا عليه، وبعدها اندفع موسى يقول في شجاعة مخلوطة بالأسى للخليفة سليمان بن عبد الملك: «أما والله يا أمير المؤمنين ما هذا بلائي ولا قدر جزائي».

وفاة موسى بن نصير
عاش موسى بن نصير في دمشق وهو راضٍ عما نزل به من قضاء الله، وندم سليمان على ما فعله في حقِّ موسى، وكان يقول: «ما ندمتُ على شيء ندمي على ما فعلته بموسى». وأراد سليمان أن يُكَفِّر عن ذنبه، فاصطحب موسى بن نصير معه إلى الحج في سنة (97هـ=715م)، وقيل: سنة (99 هـ= 718م)، لكنه لفظ أنفاسه الأخيرة في أثناء الرحلة، وفرح شيخ المجاهدين بلقاء ربه؛ بعدما قضى أعوامًا رفع فيها راية الجهاد.. فسلامٌ عليك يا شيخ المجاهدين.

1- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 4/267، والحميري: الروض المعطار، ص35، والمقري: نفح الطيب، 1/253.

محمد بن القاسم الثقفي
هو محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم الثقفي فاتح بلاد السند والبنجاب، وهي دولة باكستان الآن، التي هي من أكبر البلاد الإسلامية، وتاريخها جزء عزيز من التاريخ الإسلامي الكبير، ويُعتبر محمد بن القاسم الثقفي مؤسِّسًا لأول دولة إسلامية في الهند؛ ولذلك يبقى اسمه شامخًا في سجلِّ الفاتحين الأبطال.

نشأته
وُلِدَ محمد بن القاسم الثقفي سنة (72هـ= 691م) بمدينة الطائف في أسرة معروفة؛ فقد كان جدُّه محمد بن الحكم من كبار الثقفيين. وفي سنة (75هـ= 694م) صار الحجاج بن يوسف الثقفي واليًا عامًّا على العراق والولايات الشرقية التابعة للدولة الأموية في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، فعيَّن الحجاج عمَّه القاسم واليًّا على مدينة البصرة، فانتقل الطفل محمد بن القاسم إلى البصرة؛ حيث يحكمها والده، فنشأ محمد منذ نعومة أظفاره بين الأمراء والقادة, ثم بنى الحجاج مدينة واسط، التي صارت معسكرًا لجنده الذين يعتمد عليهم في الحروب، وامتلأت بسكانها الجدد وقوم الحجاج، وفي هذه المدينة وغيرها من مدن العراق نشأ وترعرع محمد بن القاسم الثقفي وتدرَّب على الجندية؛ حتى أصبح من القادة المعروفين وهو لم يتجاوز بعدُ 17 عامًا من العمر.

وكان محمد بن القاسم الثقفي يسمع كثيرًا عن بلاد السند، ولم تكن تلك البلاد في ذلك الحين غريبة على المسلمين؛ فقد كان لهم فيها سابقة من غزوات في عهد الخليفة عمر والخليفة عثمان ب، ثم زاد اهتمام العرب ببلاد السند حين قامت الدولة الأموية على يد الخليفة معاوية بن أبي سفيان في سنة (40هـ= 661م)، حتى نجح في فتح إقليم مهمٍّ بتلك البلاد؛ وهو إقليم مكران، الذي كان يحكمه الولاة الأمويون بعد ذلك بصفة مستمرَّة.

عدوان قراصنة السند
حدث في سنة (88هـ= 707م) أن سفينة عربية كانت قادمة من جزيرة الياقوت (بلاد سيلان) وعليها نساء مسلمات، وقد مات آباؤهنَّ، ولم يبقَ لهنَّ راعٍ هناك، فقرَّرْنَ السفر للإقامة في العراق، ورأى ملك سيلان في ذلك فرصة للتقرُّب إلى العرب فوافق على سفرهنَّ، بل حمَّل السفينة بهدايا إلى الحجاج والخليفة الوليد بن عبد الملك، وبينما كانت السفينة في طريقها إلى البصرة مارَّة بميناء الديبل ببلاد السند، خرج قراصنة من السند واستولَوْا عليها. وعندئذٍ كتب الحجاج إلى ملك السند يطلب منه الإفراج عن النساء المسلمات والسفينة، ولكنه اعتذر عن ذلك بحجَّة أن الذين خطفوا السفينة لصوص لا يقدر عليهم، فبعث الحجاج حملتين على الدَّيْبُل؛ الأولى بقيادة عبيد الله بن نبهان السلمي، والثانية بقيادة بُدَيْل البجلي، ولكنَّ الحملتين فشلتا، بل قُتل القائدان على يد جنود السند. ووصلت الأخبار إلى الحجاج أن النساء المسلمات والجنود العرب مسجونين في سجن الديبل، ولا يُريد ملك السند الإفراج عنهم عنادًا للعرب، وهنا كانت الأسباب تُلِحُّ على الحجاج في إرسال جيش كبير لفتح تلك البلاد، التي كان قراصنتها يُضايقون السفن العربية التجارية المارَّة بين مواني البلاد العربية ومواني بلاد الهند.

قيادة محمد بن القاسم وفتوحاته
فتح الديبل وبلاد السند
قرَّر الحجاج فتح بلاد السند كلها، وقد وقع اختياره على محمد بن القاسم الثقفي ليقود الجيش، وجهَّزه بكل ما يحتاج إليه في ميدان القتال، وتحرَّك البطل محمد بن القاسم بجيشه المكوَّن من ستة آلاف مقاتل من العراق إلى الشِّيراز في سنة (90هـ= 709م)، وهناك انضمَّ إليه ستة آلاف أخرى من الجند، وبعد استكمال الاستعدادات في شِيراز انطلق محمد بن القاسم ومعه اثنا عشر ألف مقاتل إلى الشرق، حتى وصل مُكْرَان، ثم توجَّـه منها إلى فنزبور، ثم إلى أَرْمَائِيل، ثم هجم المسلمون على مدينة الدَّيْبُل فاقتحموا أسوارها فدخلها ابن القاسم، وبعد فتح مدينة الديبل -أحصن مدن السند- واصل محمد بن القاسم سيره، فكان لا يمرُّ على مدينة إلَّا فتحها وهدم معابد الوثنية والبوذية بها، وأقام شعائر الإسلام، وأسكنها المسلمين، وبنى المساجد حتى غَيَّر خريطة البلاد تمامًا، وصبغها بصبغة إسلامية تامَّة.

استطاع محمد بن القاسم أن يبهر الهندوس بشخصيته القوية الحازمة، وقد تعجبوا من شجاعته وحُسن قيادته لجيش كبير وهو دون الثامنة عشر، وبالفعل أسلم عدد كبير من الزُّطِّ وهم من بدو الهنود, وانضمَّ منهم أربعة آلاف رجل يُقاتلون مع محمد بن القاسم, وكان لهم أثر كبير في القتال لخبرتهم بالبلاد ومعرفتهم بلغة الهنود.

ثم إن محمد بن القاسم سار إلى البيرون (وهي حيدر آباد حاليًا) فتلقَّاه أهلها وصالحوه كذلك، وكان لا يمرُّ بمدينة إلَّا فتحها صلحًا أو عَنوة، وتوَّج ذلك كله بالانتصار على داهر ملك السند، ومضى يستكمل فتحه، فاستولى على حصن راوَدْ، ثم برهماناباذ، والرور وبهرور، ثم اجتاز نهر بَيَاس وعبر إلى إقليم المُلْتَان، فاستولى عليه بعد قتال شديد، وغنم كميات كبيرة من الذهب.

واستمرَّ ابن القاسم في مسيره حتى وصلت فتوحاته إلى حدود كشمير؛ وبذلك استطاع محمد بن القاسم أن يُخضع السند لحكم الخلافة الإسلامية في مدَّة لم تتجاوز ثلاث سنوات فقط، واستمرَّ محمد في فتوحاته لبقية أجزاء بلاد السند حتى انتهى منها سنة (96هـ= 715م)، وبذلك قامت أول دولة عربية في بلاد السند والبنجاب، ولقد جاءته قبائل الميد والجات والزُّطِّ تقرع الأجراس فرحة هاتفة، مُرَحِّبَة به لأنه محرِّرهم من ظلم الهندوس واستعبادهم.

وقد كان محمد بن القاسم راجح الميزان في التفكير والتدبير، وفي العدل والكرم، إذا قُورن بكثير من الأبطال، وهم لا يكادون يبلغون مداه في الفروسية والبطولة، ولقد شهد له بذلك الأصدقاء والأعداء.

نهاية محزنة لمحمد بن القاسم
لما كان محمد بن القاسم الثقفي يُفَكِّر في أن يتوجَّه بجيش الفتح إلى حدود بلاد الهند، وصله أمر الخليفة الجديد سليمان بن عبد الملك بالتوجُّه إلى العراق، فرضخ الشاب المؤمن لقضاء الله، وهو يعلم أن مصيره الهلاك، لا لذنب اقترفه؛ ولكن لسوء حظٍّ وقع فيه، بسبب بعض تصرُّفات سياسية من قريبه الحجاج، واستعدَّ الفتى الحزين للسفر، فخرجت الجموع الحاشدة لتوديعه باكية حزينة، لم يكن العرب وحدهم يبكون على مصيره؛ بل أهل السند من المسلمين، حتى البرهميون والبوذيون كانوا يذرفون الدموع الغزيرة، ويرجونه أن يبقى في بلاد السند، وسوف يقفون خلفه إذا دقَّ الخطر بابه، ولكنَّ نفسه الأبية رفضت مخالفة أمر الخليفة.

ووصل محمد بن القاسم إلى العراق، فأرسله والي العراق صالح بن عبد الرحمن مقيدًا بالسلاسل إلى سجن مدينة واسط بسبب عداوته للحجاج، وهناك عذَّبه شهورًا بشتَّى أنواع التعذيب؛ حتى مات البطل الفاتح في سنة (96هـ= 715م).

إن البطل محمد بن القاسم الثقفي فاتح بلاد السند، يُعتبر من أعظم الأبطال في التاريخ الإسلامي، إنه بطل بما تحمله كلمة البطولة من معانٍ، وقد أودع الله –عز وجل- بين جنبيه نفسًا بعيدة المطامح لخدمة الإسلام.

قتيبة بن مسلم
هو قتيبة بن مسلم بن عمرو بن حصين بن الأمير أبو حفص الباهلي، قائد إسلامي شهير من كبار القادة الذين سجلهم التاريخ؛ فعلى يديه فُتحت هذه البلاد التي تُسَمَّى اليوم بالجمهوريات الإسلامية، التي انفصلت عما كان يُسَمَّى بالاتحاد السوفيتي، وتوغَّل حتى حدود الصين، وتدين كثير من هذه البلاد بدين الإسلام، قُتل سنة 96 هـ، وعمره 48 سنة.

نشأة قتيبة بن مسلم
أبوه مسلم بن عمرو من أصحاب مصعب بن الزبير والي العراق من قِبَل أخيه أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، وقاتل معه في حربه ضد عبد الملك بن مروان سنة (72هـ= 692م)، وُلِدَ قتيبة بن مسلم في بيت إمارة وقيادة سنة (49هـ= 669م) بأرض العراق، ولمَّا ترعرع تعلَّم العلم والفقه والقرآن، ثم تعلَّم الفروسية وفنون الحرب وقد نشأ قتيبة بن مسلم رضي الله عنه على ظهور الخيل رفيقًا للسيف والرمح، محبًّا للفروسية، وكانت منطقة العراق مشهورة بكثرة الفتن والثورات؛ لذلك عمل كلُّ ولاة العراق على شغل أهلها بالغزوات لاستغلال طاقاتهم الثورية في خدمة الإسلام ونشر الدعوة؛ لذلك كانت أرض العراق هي قاعدة الانطلاق للحملات الحربية على الجبهة الشرقية للدولة الإسلامية، وقد اشترك قتيبة في هذه الحملات منذ شبابه المبكِّر، وأبدى شجاعة فائقة وموهبة قيادية فذَّة، لفتت إليه الأنظار خاصة من القائد العظيم المهلب بن أبي صفرة، وكان المهلب خبيرًا في معرفة الأبطال ومعادن الرجال؛ فتفرَّس فيه أنه سيكون من أعظم أبطال الإسلام، فأوصى به لوالي العراق الشهير الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي كان يحبُّ الأبطال والشجعان، فانتدبه لبعض المهامِّ ليختبره بها ويعلم مدى صحَّة ترشيح المهلب له. ثم ولَّاه عبد الملك بن مروان مدينة الرَّيِّ، وولَّاه -أيضًا- خراسان، وقد كانت حينها من أعمال العراق يوم ذاك، وهي تحت إمرة الحجاج، فلم يعبأ بشيء سوى الجهاد، فلمَّا وصل خراسان سنة (86هـ= 705م) علا بهمَّته إلى حرب بلاد ما وراء النهر، وأقام بخراسان ثلاث عشرة سنة.

وعندما قام المسلمون الأوائل بحركة الفتح الإسلامي في الشرق، كان هناك نوعان من الأجناس البشرية تسكن هذه المنطقة؛ القبائل الساسانية أو الفارسية والقبائل التركية، وكان نهر المرغاب هو الحدّ الفاصل بين هؤلاء وهؤلاء، وقد تمَّ إدخال القبائل الفارسية في الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين، أمَّا القبائل التركية فقد كانت أكبر عددًا وأوسع انتشارًا؛ منهم: الأتراك الغزية، والأتراك القراخطاي، والأتراك القوقازيون، والأتراك الإيجور، والأتراك البلغار، والأتراك المغول. وقد كان لفتح قتيبة أثرٌ كبير في إدخال الأتراك شرقي نهر المرغاب وبلاد ما وراء النهر في الإسلام.

فتوحات قتيبة بن مسلم
بدأ قتيبة بن مسلم فتوحاته سنة (86هـ= 705م)، وذلك عندما ولَّاه الحجاج بن يوسف الثقفي ولاية خراسان؛ وهو إقليم شاسع مترامي الأطراف، لم يكن المسلمون قد واصلوا الفتح بعده، وكان المهلب بن أبي صفرة واليًا على خراسان من عام 78هـ حتى عام 86هـ، وقد رأى الحجاج أن يدفع بدماء شابة جديدة في قيادة المجاهدين هناك، فلم يجد أفضل من قتيبة بن مسلم لهذه المهمَّة.

سار قتيبة بن مسلم على الخطَّة نفسها التي سار عليها آل المهلب، وهي خطة الضربات السريعة القوية المتلاحقة على الأعداء، فلا يترك لهم وقتًا للتجمُّع أو التخطيط لردِّ الهجوم على المسلمين، ولكنَّه امتاز عن آل المهلب بأنه كان يضع لكل حملة خطَّة ثابتة لها هدف ووجهة محدَّدة، ثم يُوَجِّه كلَّ قوَّته للوصول إلى هدفه.

استعرض قتيبة بن مسلم جيشه، وابتدأ مسيرته إلى فتح الشرق كله، ففتح المدائن مثل خوارزم وسجستان، حتى وصل إلى سمرقند، فحاصرها حصارًا شديدًا حتى صالحه أهلها على أموال كثيرة جدًّا، وفطن له الصُّغْد فجمعوا له الجموع؛ فقاتلهم في شُومان قتالاً عنيفًا حتى هزمهم، وسار نحو بِيكَنْد وهي آخر مدن بُخَارَى، فجمعوا له الجموع من الصُّغْد ومَنْ وَالَاهُم فأحاطوا به من كل مكان، وكان له جواسيس من الأعداء يمدُّونه بالأخبار، فأعطاهم الأعداء أموالًا طائلة ليصدُّوا عنهم قتيبة؛ فجاءوا يُثَبِّطونه عن قتالهم فقتلهم، ثم جمع الجيش وخطبهم وحثَّهم على القتال؛ فقاتلوا أشدَّ القتال، وفتحوا الطوق وغنم منها أموالًا لا تُحصى، ثم اتَّجه ناحية الصين، فغزا المدن التي في أطرافها وانتصر عليها، وضرب عليهم الجزية، فأذعنت له بلاد ما وراء النهر كلها حتى وصل إلى أسوار الصين.

استراتيجية قتيبة بن مسلم في الغزوات
قام قتيبة بن مسلم رضي الله عنه بتقسيم أعماله إلى أربع مراحل، حقَّق في كل واحدة منها فتح ناحية واسعة فتحًا ثَبَّت فيه أقدام الدولة الأموية وما تابعها من دول إسلامية ردحًا طويلاً من الزمن؛ وهي كالآتي:

المرحلة الأولى: قام فيها قتيبة بحملته على طَخارستان السفلى فاستعادها وذلك سنة 86هـ، وطَخارستان السفلى هي الآن جزء من أفغانستان وباكستان.

المرحلة الثانية: قاد فيها حملته الكبرى على بخارى (تقع الآن في أوزبكستان) فيما بين سنتي (87- 90هـ)، وخلالها أتمَّ فتح بخارى وما حولها من القرى والحصون، وكانت أهمَّ مدن بلاد ما وراء النهر وأكثفها سكانًا وأمنعها حصونًا.

المرحلة الثالثة: وقد استمرَّت فيما بين سنتي (91- 93هـ)، وفيها تمكَّن قتيبة من نشر الإسلام وتثبيته في وادي نهر جيحون كله، وأتمَّ فتح إقليم سجستان في إيران الآن، وإقليم خوارزم، ووصلت فتوحاته إلى مدينة سمرقند في قلب آسيا، وضمَّها إلى الدولة الأموية.

المرحلة الرابعة: وقد امتدَّت فيما بين سنتي (94- 96هـ)، وفيها أتمَّ قتيبة بن مسلم فتح حوض نهر سيحون بما فيه من مدن، ثم دخل أرض الصين وأوغل فيها، ووصل مدينة كاشغر وجعلها قاعدة إسلامية، وكان هذا آخر ما وصلت إليه جيوش إسلامية في آسيا شرقًا، ولم يصل أحد من المسلمين أبعد من ذلك قط.

وفاة قتيبة بن مسلم
حارب قتيبة ثلاث عشرة سنة لم يضع فيها السلاح، وقد كان قتيبة بن مسلم من قادة الحجاج بن يوسف الثقفي؛ فقد كان يعلم مقدار كراهية سليمان بن عبد الملك للحجاج، فلمَّا ولي الخلافة خشي قتيبة من انتقامه؛ لأنه وقف إلى جانب الوليد بن عبد الملك حين أراد أن يخلع أخاه سليمان من ولاية العهد ويجعلها لابنه؛ ولذلك عزم قتيبة على الخروج على سليمان، وجمع جموعًا لذلك من رجاله وأهل بيته، لكنَّ حركته فشلت، وانتهت بقتله في بلد اسمها فرغانة سنة (96هـ= 715م) على يد وكيع بن حسان التميمي، وقيل: إنه لم يتمرَّد، ولكن وقع ضحية مؤامرة حاكها بعض الطامعين بالولاية.

islamstory.com


:regards01::regards01::regards01::regards01::regards01:
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top