السلام عليكم
تمتاز مدينة القدس ببلدتها القديمة التي تُعَدّ إحدى المدن الإسلامية القليلة التي تم الحفاظ على سلامة طابعها التاريخي، والتي يجسِّد مظهرها الأثري الحالي ليس مراحل التطور في العصور الوسطى فحسب، ولكنّه يمثل أيضًا وبشكلٍ جوهري المباني التي أنشأها السلطان العثماني سليمان الأول القانوني الذي تولّى الحكم في الفترة (926 - 974هـ / 1520 - 1566م).
سليمان القانوني ومدينة القدس:
لقد تمكّن هذا الحاكم العثماني العظيم بعد مضيّ فترة قصيرة على ضم سوريا وفلسطين إلى الدولة العثمانية عام 922هـ/1516م من إعادة تثبيت مكانة المدينة بصورةٍ نهائية كمركزٍ يشدّ المسلمون إليه رحالهم، وذلك بعد خضوعها للاحتلال الصليبي فترة طويلة امتدّت من عام 492هـ/1099م حتى 583هـ/1187م، ثمّ لفترةٍ أخرى قصيرة وهي (626 - 642هـ/ 1229 - 1244م).
وعلى الرغم من أنّ الأيوبيين الذين استردّوا المدينة المقدسة على يد الناصر صلاح الدين يوسف (564-589هـ/1169-1193م) والمماليك من بعدهم (658-922922هـ/1260-1516م) قد شيّدوا العديد من المباني الدينية إلى جانب إعادة بناء وترميم مكانيْ العبادة المركزيين، وهما قبة الصخرة والمسجد الأقصى، وساهموا بذلك في صبغ المدينة بالطابع الإسلامي، إلا أنّ القدس خضعت لأوّل مرة في عهد السلطان سليمان لبرنامج تطويرٍ منتظم وشامل.
رؤية سليمان القانوني لرسول الله في المنام:
وحول اهتمام السلطان العثماني الملفت للنظر قدم لنا الرحّالة التركي أوليا جلبي خلال وصفه لزيارةٍ قام بها إلى القدس في رمضان 1082هـ الموافق كانون الثاني يناير 1672م، الشرح التالي المفصل: (في عام 926هـ/1521م اعتلى السلطان سليمان العرش وفتح قلعة بلغراد عام 927هـ/1521م وجزيرة رودس عام 928هـ/1522م وجنى من ذلك ثروةً طائلة. وعندما غدا ملكًا مستقلًا ظهر له النبي في ليلة مباركة وقال له: "يا سليمان سوف تحقّق انتصارات عديدة، ويجب عليك أنْ تـنفق الغنائم على تزيـين مكة والمدينة وعلى تحصين قلعة القدس لتصدّ الكافرين إذا حاولوا احتلالها خلال حكم خلفائك. وعليك أيضًا أنْ تزيّن حرمها بحوضٍ للماء، وأنْ تمنح دراويشها مخصّصات مالية كلّ عام، وعليك أيضًا أنْ تزيّن صخرة الله وأنْ تعيد بناء مدينة القدس. ولما كان ذلك أمرٌ من الرسول فقد نهض سليمان خان في الحال من نومه وأرسل صرّة إلى المدينة وأخرى إلى القدس. وبالإضافة إلى المواد اللازمة أرسل كبير مهندسيه خوجا سنان إلى القدس، ونقل مصطفى باشا من ولاية مصر ليتولّى حكم ولاية الشام. ولما صدر الأمر لمصطفى باشا بترميم القدس، جمع كافة البنّائين والمهندسين والنحّاتين في القاهرة ودمشق وحلب وأرسلهم إلى القدس لإعادة بنائها ولزخرفة الصخرة المشرفة".
قد يصعب علينا التحقق تاريخيًا من صحة تفاصيل هذا السرد المفصل حول عناية سليمان الأول بتعمير مدينة القدس، لكنه يسلّط الأضواء ليس فقط على الدوافع الإجمالية التي يمكن تقصّيها من خلال المباني التي ما زالت قائمة في المدينة بعد عمليات البناء التي استمرّت على امتداد أربعة قرون، ولكنّه يقدّم أيضًا أدلةً واضحة تبيّن الدوافع التي كانت تكمن وراء كلّ إجراءٍ من إجراءات البناء على حدة.
أولًا:
مقام النبي داود:
لقد كان أول المشاريع المعمارية التي يمكن إثبات نسبتها إلى السلطان في القدس هو تحويل كنيسة العشاء الأخير خارج باب النبي داود إلى مسجد. إنّ إعادة البناء التي جرَتْ في نطاقٍ محدود جدًا وانتهت في الأول من ربيع الأول 930هـ الموافق للثامن من كانون الثاني يناير 1524م، تشير بوضوحٍ إلى الهدف الرئيسي من برنامج البناء الضخم في القدس، وهو ما تطرّق إليه أوليا جلبي، ألا وهو التأكيد على الهوية الإسلامية للمدينة المقدسة. ويؤكّد النص العربي المنقوش في المقام على أنّ مبنى الكنيسة ودير الفرنسيسكان التابع له، والذي يقع قبر الملك داود بداخله، قد تمّ تحويله إلى وضعٍ يتلاءم مع الإسلام، وبالتالي تحقّق تحريره من الكفّار.
وفيما يتعلّق بحجارة البناء الإسلامية، والتي تمّ تجديدها عدة مرات، فإنّ الأفاريز المسنّنة التي تستخدم لتزيـين إطارات الأبواب والأقواس والنوافذ تشكّل العنصر الأساسي في الزخرفة. ويشير هذا النمط من الإطارات الملفتة للنظر إلى ارتباط وثيق بالمدرسة المعمارية الحلبية، ولا سيما الكنارات المسننة المطابقة والتي اتخذت نموذجًا ثابتًا منذ أوائل القرن التاسع الهجري الموافق للقرن الخامس عشر الميلادي وحتى نهاية العصر المملوكي، ومن الأمثلة على ذلك خان القصابية.
ثانيًا:
الحرم الشريف:
لقد تمّ تكريس قسم كبير من مشاريع البناء العظيمة على ترميم وتأثيث الحرم الشريف، فهو الموقع الأقدس في هذه المدينة الإسلامية. ومن الملفت للنظر أن النقش الذي يرجع تاريخه إلى أواخر شعبان 933هـ الموافق لأيار مايو 1527م، والمكتوب على سبيل المحكمة الذي بناه قاسم باشا يصف السلطان بأنه سليمان الثاني. ويفهم هذا بالدرجة الأولى على أنّه تشابهٌ تاريخي يشير إليه اسم السلطان، لكنّه يشير أيضًا إلى دوافع هذا الحاكم العظيم في هذا الموقع بالذات، ألا وهو إعادة تفعيل الأماكن الإسلامية المقدّسة في موضع هيكل سليمان.
1- قبة الصخرة:
لقد استأثرت قبة الصخرة بأول أعمال البناء الضخمة التي أنجزها السلطان لأنّها المبنى المركزيّ المقدس. وحسب نقشٍ أزيل من موضعه في وقتٍ لاحقٍ فقد تمّ الفراغ من تجديد شبابيك هذا المبنى المثمّن الشكل، والبالغ عددها 36 والمزخرفة بقطع زجاجية، في عام 935هـ/1528م. وبما أنّ التجديد قد أمرَ به السلطان سليمان فلا يمكن أنْ يكون قد اقتصر على الشبابيك، وعليه يمكننا اعتبار ذلك العام تاريخًا للترميم الشامل الذي خضَع له أقدم مبنى تم تشييده في التاريخ الإسلاميّ. وبتكليفٍ من السلطان تمّ إنجاز الترميم خلال السنوات العشر التالية. وتمّ في مرحلةٍ لاحقة تزيـين الواجهات الخارجية بالقاشاني الملوّن على نمط الأبنية العظيمة في عواصم الدول. ولم يشتمل ذلك التزيـين على قطع فسيفساء متعددة الألوان وبلاط زجاجي ملوّن ذي حافات غير مدببة فحسب، بل استخدمت فيه أيضًا رسومات على بلاط تعلوها طبقات زجاجية شفافة. ويمكن ربط زخارف الفسيفساء تلك بالنقش الكتابي الذي يعود تاريخه إلى عام 952هـ/1545م على الجهة العلوية من السقف نصف البرميلي خارج الباب الشمالي للمسجد، والمرسوم تحت طبقة من الزجاج وعليه توقيع فنان فارسي يُدعى عبد الله التبريزي، والذي دَوّن التاريخ خطأ بعام 959هـ أي 1551م. وهي توضّح لنا المستوى الذي وصلت إليه زخرفة البلاط باهظة التكاليف. فبمساعدة أمهر مهندسي ذلك الوقت تمّ تحقيق الهدف من زخارف الفسيفساء وهو إعادة البريق القديم إلى هذا المبنى.
وفي هذا السياق يتّضح لنا السبب في حرص أوليا جلبي على ذكر الخطّاط أحمد قرة حصاري (ت 963هـ/1556م) الذي زيّن بخطّه الفسيفساء الخارجية، والذي عمل أيضًا في الجامع السليماني في إستانبول، بل وحرص أيضًا على ذكر خوجا سنان (ت 996هـ/1588م) كبير المعماريين العثمانيين ومهندس ذلك الجامع، وربط بينهما وبين التعميرات التي أمر بها السلطان في القدس. وبناءً على استخدام أنماط فنية مختلفة في تصميم البلاط يمكننا الافتراض بأنّ إنتاج هذه الفسيفساء الرائعة لم يمرّ عبر مرحلةٍ واحدة وإنّما عبر العديد من مراحل الإنتاج. ومن الأدلة الصريحة على ذلك قبة السلسلة المنتصبة شرقي قبة الصخرة، حيث يوجد فوق محرابها نقش فسيفسائي مكوّن من سطرين ويبلغ طوله حوالي ثلاثة أمتار، وينصّ على أنّ قاشاني الفسيفساء تم تجديده بأمرٍ من السلطان سليمان عام 969هـ/1562م.
ويتكوّن بلاط النقش من كتابةٍ باللون الأبيض على أرضية بنية غامقة يعلوها زجاج شفاف، وهي تطابق من الناحية الفنية فسيفساء باب قبة الصخرة الشمالي. وعليه يمكننا القول إنّ تاريخ نقش الترميم في قبة السلسلة قريب من تاريخ صنع الرسومات على بلاطٍ تحت زجاج شفاف في قبة الصخرة المجاورة. وعلى الأرجح فإنّ المرحلة الأخيرة من صناعة القاشاني قد أعقبت مراحل التطوير التي مرّ بها بناء المسجد السليماني في إستانبول في الفترة (957-964هـ/1550-1667م)، والتي تم فيها استخدام بلاطٍ عليه رسومات متعددة الألوان لأول مرة. ومن المحتمل أنْ يكون المعمل نفسه الذي قام بصناعة فسيفساء تكية السلطان سليمان في دمشق قبل ذلك بقليل، أيْ في عام 967هـ/1560م، قد تم تكليفه أيضًا بصناعة فسيفساء قبة الصخرة. وعلى ما يبدو فإنّ أعمال الترميم الجديدة في قبة الصخرة قد استكملت عام 972هـ/1564م، وذلك بعد الفراغ من تغليف الأبواب الخشبية الشرقية والغربية بالبرونز بتكليف من السلطان.
إنّ ترميم قبة الصخرة على يد السلطان سليمان الذي استغرق ما يقرب من أربعين عاما قد دفع أوليا جلبي إلى كتابة الملاحظة التالية: "ولما كان السلطان العثماني في هذا الزمان هو أكثر حكّام العالم تشريفًا واحترامًا .. فقد جعل من هذا الصرح جنّةً لا مثيل لها على الأرض .. لأنّ السلطان وحده هو القادر على أنْ يكون مالكًا لبيت الله".
2- المسجد الأقصى:
بالإضافة إلى قبة الصخرة أمر السلطان سليمان بترميم المسجد الرئيسي في الحرم، ألا وهو المسجد الأقصى. ويشهد على ذلك نصٌّ مفقود كان يقع على إحدى نوافذه من الداخل، وكان يحمل تاريخًا مغلوطًا وهو عام 996هـ/1587م، أيْ أنّ إتمام الترميم أُنجِز بعد أكثر من عشرين سنة على وفاة السلطان. وعلى ما يبدو فإنّ التاريخ الصحيح هو عام 936هـ/1529م، حيث إنّ تجديد النوافذ الزجاجية في قبة الصخرة قد تمّ في عام 935هـ/1528م. وعلى ذلك يمكننا القول إنّ النصّ الزجاجي الفنيّ المذكور في المسجد الأقصى قد تمّ إعداده مباشرةً بعد إتمام أول أعمال الترميم التي أمرَ بها السلطان في الحرم الشريف.
وحسب أوليا جلبي فقد تمّ ترميم قبة المسجد والواجهة القبلية بأمرٍ من السلطان. وأشار أوليا إلى أنّ سارخوش عبدو تولّى تجديد المحراب، وهو الذي عمل كذلك لدى السلطان سليمان في بناء المسجد السليماني في إستانبول.
3- إنشاء أبنية متفرّقة:
حسب النص المذكور الذي كان على إحدى نوافذ المسجد الأقصى، فإنّ أعمال الترميم التي أنجزها السلطان سليمان عام 936هـ/1529م على الأرجح لم تقتصرْ على المسجد فحسب، وإنّما امتدّت لتشمل كافة الحرم. وهذا ما أكّده أوليا جلبي بعبارة واضحة: "ومن المسجد الأقصى يسير المرء عبر مرجٍ أخضر فوق رصيفٍ يبلغ طوله مائتي خطوة من الحجارة الرخامية اللوحية البيضاء غير المنحوتة، والتي تمّ رصْفها بأمرٍ من السلطان سليمان العظيم. ومن ثمّ يؤدّي الطريق مباشرةً نحو حوضٍ مائي كبيرٍ مبنيّ من رخام اقتُطِع من كتلة واحدة، حسب تعليمات السلطان سليمان نفسه. إنّه مَعلَمٌ فريد لا مثيل له على الأرض. إنه رائع، ويقع في وسط الرصيف".
لقد بُني ذلك الحوض على شكل كأسٍ إلى الشمال من المسجد الأقصى، ومن المقنِع جدًا نسبته إلى السلطان، حيث إنّه يطابق الحوض الأصغر حجمًا في التكية السليمانية في دمشق والذي تمّ الفراغ من بنائه عام 967هـ/1560م. ولعلّ السلطان سليمان كان قد أمرَ أيضًا بتجديد الطريق المرصوف بين المسجد الأقصى وصحن الصخرة.
وإلى جانب الترميم الشامل للحرم فقد تمّ تشيـيد عددٍ من المنشآت المتفرقة. ومنها على سبيل المثال الدرَج الموصل إلى البائكة الغربية الشمالية ذات الأقواس الأربعة التي تؤدّي إلى صحن الصخرة. ويُنسَب ترميم هذا الحائط حسب نقشٍ كتابيّ موزّع على عدة أجزاء إلى السلطان سليمان، وهو يشبه بشكلٍ ملحوظ الإفريز المسنّن المستخدم في ترميم مقام النبي داود عام 930هـ/1524م بأمرٍ من السلطان. وهناك إفريز مسنّن مطابق يزيّن قبة الخضر الصغيرة المنتصبة على ستة أعمدة إلى الجنوب قرب الدرج الشمالي الغربي، والتي يُعتقد أنّها بُنِيَت في الوقت نفسه الذي تمّ فيه ترميم البائكة المجاورة. ويشير هذا الزخرف المقتبس من الهندسة المعمارية المملوكية إلى أعمال البناء الأولى التي قام بها السلطان سليمان في القدس. فعلى سبيل المثال هناك إطارٌ مسنّن مطابق على مئذنة مسجد القلعة التي رمّمت عام 939هـ/ 1532م وعلى بعض الأسبلة التي أمَرَ السلطان ببنائها عام 943هـ/ 1537م في طريق الواد وعند باب السلسلة وفي طريق باب الناظر. وبناءً على ذلك فإنّ هذا العنصر الزخرفيّ التابع للمدرسة المعمارية الحلبية لا يصلح بالضرورة كدليلٍ على ترميمات السلطان سليمان في القدس. وكان محمد بك، والي غزة والقدس، قد شيّد في عهد السلطان سليمان عام 945هـ/1538م محرابًا تحت قبة النبي شمال غربي قبة الصخرة وعليه إفريز مطابق، وبالتالي لم يعدْ بالإمكان اعتبار هذا العنصر علامة مميزة.
وبخلاف ذلك فإنّنا نجد أفاريز مسنّنة بشكلٍ مغاير استُخدمت في عدة مواقع في سور الحرم وخاصةً فوق وحول أبوابه، ومنها على سبيل المثال باب السلسلة وباب الحديد وباب الغوانمة، وكذلك في الباب العتم في الجهة الشمالية. فبالإمكان اعتبار هذه الأفاريز من معالم الترميم الشامل للحرم الذي قام به السلطان سليمان. إنّ هذه الزخارف التي استُخدِمت في الإطار العلوي عام 943هـ/1537م تشير إلى وجود ارتباطٍ مع زخارف التجديد الأولى لقبة الصخرة في عام 935هـ/1528م وترميم المسجد الأقصى في عام 936هـ/1529م (ظنًا).
ثالثًا:
القلعة:
حسب أقوال أوليا جلبي فقد كان تحصين مدينة القدس من أكبر هموم السلطان سليمان. وبالفعل فقد كان أوّل إجراءٍ أمرَ به السلطان بعد الفراغ من ترميم الحرم القدسي ضمن جهوده الرامية إلى إعادة تفعيل النظام الدفاعي هو تجديد بناء القلعة الواقعة في الجهة الغربية من المدينة. لقد تمّ ترميم القلعة في أوائل القرن الثامن الهجري أيْ الرابع عشر الميلادي بعد طرد الصليبيين من المدينة المقدسة بوقتٍ طويل، لكنّها خرِبَت في أوائل القرن التاسع للهجرة أيْ الخامس عشر للميلاد ولم تعُدْ صالحةً للاستخدام وأصبحت المدينة بلا قلعةٍ تدافع عنها. إلا أنّ الترميم الذي أُجرِيَ في عام 938هـ/1531م وأضيف خلاله ممرّ شرقيّ للقلعة قد أخرجها من وضعها البائس بشكلٍ نهائي. وفي إشارةٍ إلى مجدّد حصن المدينة تمّ نقش اسم السلطان (سليمان الثاني) على البوابة الجديدة، مع تمجيد هدفه من البناء، ألا هو توفير الأمن لأهل القدس.
وعلاوةً على ذلك فقد تمّتْ الإشارة في نقْشيْن آخرين إلى أنّ السلطان قد سيطرَ على ميراث المماليك من خلال هذا الترميم. ويطابق النقشان المذكوران المكوّنان من ثلاثة أسطر في الشكل والمضمون تلك الشعارات المميّزة التي كانت تطلق على سلاطين المماليك، وهي: (السلطان سليمان عز نصره) و(مولانا السلطان الملك المظفر أبو النصر سليمان شاه ابن عثمان عز نصره). وفي المرحلة الأخيرة من الترميم تمّ في عام 939هـ/1532م تشييد مسجد في الزاوية الجنوبية الغربية من القلعة، وفي مقدّمته محراب ومنبر بحيث تؤدّى فيه صلاة الجمعة أيضًا. وكعلامةٍ بارزة على سيطرة الإسلام تمّ بناء مئذنة المسجد المستديرة فوق البرج الجنوبي للقلعة. ويُستدلّ من الكنارات المسنّنة التي تزيّن المئذنة على أنّها كانت جزءًا من أعمال البناء التي بدأت في القدس عام 930هـ/1524م بأمرٍ من السلطان. ومن الملفت للنظر تلك النافذة الصغيرة المستديرة التي تُطِلّ من المئذنة على الساحة الداخلية من الجهة الشمالية، حيث يشير إطارها العريض إلى عنصرٍ من عناصر العمارة المملوكية، والذي كان سائدًا في دمشق.
رابعًا:
تزويد المدينة بالمياه:
بعد استراحةٍ قصيرة أعقبت ترميم الحرم القدسي وتجديد القلعة، أمرَ السلطان سليمان عام 943هـ/1536م بإنجاز مشروعٍ معماري هام آخر، غايته تأمين وصول المياه من بركة السلطان الواقعة جنوب غربي المدينة إلى الأسبلة الخمسة التي تمّ إنشاؤها في الحرم القدسي وحوله. وتزوّدنا النقوش المنحوتة على تلك الأسبلة بمعلوماتٍ تفصيلية عن المراحل الزمنية لتلك الأعمال. ومنها السبيل القائم في الجهة الجنوبية من بركة السلطان والتي تصبّ فيها قناة السبيل، وعليه نقشٌ يشير إلى أنّه أقيم بأمرٍ من السلطان في 10 محرم 943هـ الموافق 29 حزيران يونيه 1536م. وبعد بناءٍ استغرق نصف عامٍ فقط وصلت مياه القناة إلى الطريق الموازي للجهة الغربية من الحرم، وذلك حسب التاريخ المدوّن على نقش سبيل طريق الواد، وهو الأوّل من رجب 943هـ الموافق 14 كانون الأول ديسمبر 1536م. وبعد ثلاثة أسابيع فقط، أي في 22 رجب 943هـ الموافق 4 كانون الثاني يناير 1537م، ورد الماء إلى سبيل باب السلسلة، أحد الأبواب الرئيسية في الجهة الغربية للحرم. ومن ذلك الموقع تفرّعت قناة نحو الجنوب الشرقي باتجاه الكأس الواقع شمالي المسجد الأقصى، والذي أمرَ السلطان سليمان بتجديده ضمن جهوده لإعادة تفعيل الحرم القدسي حسب أقوال أوليا جلبي. وتفرّعت قناة ثانية في الحرم شمالًا نحو سبيل البصيري الأقدم عهدًا، والذي يُحتَمل أنْ يكون قد رمّم في تلك الأثناء، وذلك بناءً على الإفريز الدائري المسنن، ومن هناك نحو السبيل الذي تمّ إنشاؤه داخل باب العتم الواقع شمالي الحرم. وقد وصل الماء إليه في الأوّل من شعبان 943هـ الموافق 13 كانون الثاني يناير 1537م، أيْ بعد تسعة أيام فقط من افتتاح سبيل باب السلسلة.
ويوجد محرابٌ ومسطبة في الجهة الخلفية من السبيل، ويشير نقشٌ كتابي إلى أنّه قد تمّ ترميمهما في عهد السلطان سليمان. ومن هناك جرى الماء شرقًا نحو باب حطة الذي أُنشِئ على حائطه الشرقي سبيل، والذي يرجّح كناره المسنّن بشدّة إلى احتمال تعميره في عهد السلطان سليمان أيضًا. وربما تكون القناة قد صبّت في بركة بني إسرائيل خارج الزاوية الشمالية الشرقية لساحة الحرم. ومن خزان المياه المذكور تمّ تزويد السبيل الواقع داخل باب الأسباط؛ وهو باب المدينة الشرقي. وعلى الرغم من قيام البعض بإزالة نقش ذلك السبيل، فإنّنا نستطيع أنْ ننسبه إلى السلطان سليمان بناءً على أوصافه المطابقة للأسبلة المذكورة. ويدلّ سبيل طريق باب الناظر الذي يبعد حوالي 150 مترًا فقط إلى الشمال من سبيل طريق الواد، والذي تمّ إنشاؤه في الثاني من رمضان 943هـ الموافق 12 شباط 1537م، على أنّ تجديد شبكة المياه وإنشاء الأسبلة في المدينة وفي داخل الحرم قد تمّ في وقتٍ قصيرٍ مذهلٍ لا يتجاوز الشهرين.
وكما قال أوليا جلبي فقد كان الهدف الرئيسي من هذه المنشآت تزويد الحرم القدسي بالمياه. ولكن الأسبلة التي تمّ بناؤها عند تقاطعات الطرق الهامة داخل المدينة تشير إلى تطويرٍ واعٍ للبنية التحتية للمدينة على يد السلطان. ومن الإجراءات التي ساهمت في تقصير فترة البناء أيضًا إعادة استخدام حجارة بناء قديمة، كما في الأسبلة التي بُنيَت داخل تجويفات في الجدران. وكذلك فإنّ تنفيذ تلك المشاريع يندرج أيضًا ضمن الورشات التي بدأت عملها في القدس قبل ذلك بعشر سنوات بأمرٍ من السلطان سليمان. إنّ الارتباط الوثيق بالهندسة المعمارية الحلبية، والذي لوحِظ منذ أعمال البناء الأولى، لم يقتصرْ على تكرار استخدام الأفاريز المسننة فحسب، ولكنّه شمل أيضًا تجهيز الأعمدة العُقدية المستخدمة في الأسبلة التي بنيت داخل تجويفات في الجدران، كما هو الحال في سبيل باب السلسلة وسبيل طريق باب الناظر، والتي تُنسَب أيضًا إلى الزخارف التابعة للمدرسة المعمارية الحلبية منذ القرن التاسع الهجري أيْ الخامس عشر الميلادي. وقد تم استخدام الأعمدة العقدية في حلب في واجهة مبنى المولوية في وقتٍ قريبٍ أيْ في عام 937هـ/1530م وفي جامع الطواشي الذي تمّ تجديده عام 944هـ/1537م. وعلى ما يبدو فإنّ ورشة البناء التي عادت من القدس وقامت بترميم وتوسيع مسجد حلب لم تستخدمْ الميزات الإنشائية التي استخدمت في أعمال البناء السلطانية السليمانية في فترتها الأخيرة، ألا وهي الأفاريز المسننة والأعمدة العقدية.
خامسًا:
سور مدينة القدس:
بعد الفراغ من مشروع تزويد المدينة بالمياه أخذ السلطان سليمان على عاتقه مشروع بناءٍ ضخمٍ آخر، ألا وهو إعادة بناء سور المدينة، والذي تمّ فيه اختتام مرحلة حاسمة من التاريخ الإسلامي في المدينة. وكان القائد الأيوبي الناصر صلاح الدين يوسف قد جدّد سور المدينة بعد استردادها من الصليبيين عام 587هـ/1191م، ولكن تمّ تخريبه بعد حوالي 30 عامًا بحجّة تعرّض المدينة لخطر حصار صليبي، وذلك في عام 616هـ/1219م. وتعرّض لمزيدٍ من التدمير مرة أخرى في عام 624هـ/1227م. وبناءً على ذلك فقد تمكّن فريدريك الثاني من استلام المدينة المقدسة عام 626هـ/ 1229م دون أي مقاومة.
وهكذا فقد بقِيَت المدينة لأكثر من ثلاثة قرون تالية تفتقر إلى نظامٍ دفاعي فعّال، إلى أنْ أمر السلطان سليمان عام 944هـ/1537م ببناء سورٍ جديد للمدينة. وقد تمّ بناؤه في غضون أربع سنوات فقط، وبالضبط فوق أساسات البناء المتهدّم الذي كان الأيوبيون قد شيّدوه. وبناءً على ذلك يمكننا القول إنّ البناء الجديد والذي لم يكنْ هناك خطرٌ داهم يحث على بنائه، كان يرمي إلى إعادة السور إلى وضعه القديم. فالأمر هنا كما كان عند ترميم القلعة، يتعلق بمشاريع بناء تاريخية تهدف إلى منح القدس شعار الحكم الذاتي الذي فقدته زمنًا طويلًا. إنّ خطوات بناء السور البالغ طوله حوالي 4 كم والذي يشمل سور الحرم الجنوبي وزاويته الجنوبية الشرقية وسور القلعة في الجهة الغربية، يمكن تحديدها بناء على النقوش الثلاثة عشر المعروفة بالتسلسل التالي:
بدأ البناء في الجزء الشمالي الغربي حسبما تشير ثلاثة نقوش كتابية على باب العامود الواقع في الشمال الغربي وعلى البرج الأوسط وعلى برج اللقلق الواقع في الزاوية الشمالية الشرقية من السور، والتي تؤرّخ البناء في عام 944هـ/1537م. وفي هذه المرحلة الأولى تمّ أيضًا تجديد باب الساهرة. وفي العام التالي تواصل البناء نحو الجهة الشرقية، حيث تمّ تدوين العام 945هـ/1538م على نقشٍ في باب الأسباط، واستمرّ حتى الزاوية الشمالية الشرقية لساحة الحرم، إضافةً إلى الجزء الشمالي من سور المدينة الغربي الممتدّ حتى القلعة، وتشهد على ذلك أربعة نقوش كتابية مؤرّخة في عام 945هـ/1538م على البرج الشمالي والبرج الجنوبي واثنان على باب الخليل. وتمّ الفراغ من بناء السور مع إنهاء الجزء الجنوبي عام 947هـ/1540م، كما تشير إلى ذلك أربعة نقوش كتابية أخرى يقع اثنان منها على باب النبي داود وواحد على برج الكبريت عند الزاوية الجنوبية الشرقية، وواحد على باب المغاربة. ومن المحتمل أنْ يكون قد سبق ذلك بناء الشرفة البارزة في الجهة الغربية من القلعة مع جزءٍ السور المكمل لها من الناحية الجنوبية، وكذلك ترميم الواجهة الخارجية لسور الحرم. وقد ارتكز النظام الدفاعي في سور المدينة على نماذج أيوبية ومملوكية تتمثّل في بناء أبراج عند الزوايا وبوابات ذات مداخل متعرجة. ويمكن مقارنتها على سبيل المثال بسور مدينة دمشق وبدرجةٍ أكبر بسور مدينة حلب. وكذلك فإنّ الأقبية المنثـنية في باب العامود وباب الأسباط وباب الخليل تشابه مثيلاتها في أبواب حلب والقاهرة التي بُنِيت في أواخر العهد المملوكي. وبناءً على ذلك يمكننا القول إنّ الذين قاموا بتنفيذ أعمال البناء كانوا شاميّين ومصريين، ولم تأتِ فِرَقٌ من بلاد الأتراك لبناء تلك الأسوار الضخمة. ومن الواضح أنّه تمّ تطبيق أنظمة البناء الدفاعية المتبعة في العصور الوسطى بهدف إعادة بناء السور على الهيئة نفسها التي كان عليها في العهد الأيوبي. إنّ النقوش قليلة العدد الموجودة على سور المدينة لا تزوّدنا بمعلوماتٍ حول تنظيم عمليات البناء، ومع ذلك يمكننا الافتراض بأنّ محمد بيك حاكم غزة والقدس، والذي بنى محرابًا تحت قبة النبي في الحرم القدسي مؤرّخة في عام 945هـ/1538م، قد لعب دورًا هامًا في تنفيذ مشروع بناء السور الضخم، وربما كان يدير عمليات البناء بنفسه.
سادسًا:
رباط بيرم جاويش:
هناك علاقةٌ على الأرجح بين إتمام بناء سور المدينة وإتمام رباط الأمير بيرم جاويش المؤرخ في 20 ربيع الأول 947هـ الموافق 25 تموز يوليو 1540م. يقع هذا الرباط في الطريق الغربي الموازي للحرم بالقرب من سبيل طريق باب الناظر الذي تمّ بناؤه قبل ذلك بأربع سنوات, وهو يشمل أيضًا مدرسة لتعليم القرآن تمّ ترميمها عام 947هـ/1540م. وهناك نقشان تأسيسيّان باسم واقف المبنى الأمير بيرم جاويش بن مصطفى، ولكنّهما لا يحتويان على أيّ معلوماتٍ عن سيرته، ومع ذلك فبإمكاننا الاعتقاد بأنّ هذا الأمير كان قد شارك في أعمال بناء السور التي انتهت في العام المذكور نفسه. ويحمل هذا المجمّع خصائص معمارية تابعة للعصر المملوكي الأخير في القاهرة ودمشق، كالتي نجدها في سور القدس أيضًا.
فبوابة المجمّع الشمالية المنتصبة في تجويف داخل الحائط تطابق مثيلاتها في العمارة القاهرية. وكذلك فإنّ المداميك الأفقية والزخارف الحجرية المسننة تطابق أسلوب البناء الذي استخدم في الوقت نفسه في القاهرة، كما في سبيل كُتاب خسرو باشا عام 942هـ/1535م. وكذلك الأمر في العمارة الدمشقية، ومنها على سبيل المثال ضريح المحافظ أحمد باشا المتوفى عام 942هـ/1535م. وتُضاف إلى ذلك تزيـينات مدخل الرباط والغرف الداخلية التي تشبه الأقبية المقرنصة والممرات المقببة التي بنيت في القاهرة ودمشق على طراز العمارة المملوكية. هذا المجمع الغني بالزخارف يطابق في مراحل تطويره من الناحية الزمنية بناء سور المدينة. وعلى الرغم من أنّ السور يفتقر إلى الكثير من التزيـينات، وخاصةً الحجارة الملونة المتقابلة التي لم تُستخدمْ فيه على الإطلاق، بحكم الهدف من بنائه وهو الدفاع فحسب، فقد يكون البنّاؤون الذين شيّدوا السور هم أنفسهم الذين جدّدوا الرباط.
سابعًا:
تكية خاصكي سلطان:
لقد بلغ تطوير القدس ذروته النهائية بتأسيس مجمّعٍ ضخمٍ على يد خاصكي زوجة السلطان سليمان. ويقع هذا المجمّع على بعد 50م فقط غربيْ رباط بيرم جاويش على الطريق المؤدّي إلى باب الناظر، أحد أبواب الحرم الغربية. وعلى الرغم من أنّ الرباط خالٍ من النقوش الحجرية فهناك ثلاث وثائق صدرت بخصوصه في ذلك الوقت للتعريف به وبمراحل تطويره. فقد حدّدت وقفيّته المكتوبة باللغة التركية تاريخ الفراغ من تعميره في 30 جمادى الأولى 959هـ الموافق 24 أيار مايو 1552م، ووصفت ساحته الكبرى وأجنحته وبواباته وغرفه المبوبة البالغ عددها 55. وبالإضافة إلى أجنحة النّزل المخصصة لإيواء الزائرين والدراويش يضم المجمع مسجدًا ومطبخًا وفُرنًا وقاعة لتناول الطعام وغُرَفًا لتخزين المواد التموينية وخانًا ذا اصطبلات.
إنّ نُزُل الزائرين الذي تمّ الفراغ من تعميره قبل كتابة الوقفية عام 959هـ/1552م بقليل، تمّ استخدامه لإيوائهم بعد ذلك بخمس سنوات، أيْ بعد إصدار النسخة العربية الموسعة من الوقفية في 15 شعبان 964هـ الموافق 13 حزيران 1557م. وبعد ذلك أصدر السلطان سليمان فرمانًا في 28 شوال 967هـ الموافق 22 تموز 1560م أضاف فيه المزيد من الأراضي لقائمة العقارات الموقوفة على المجمّع. هذا المجمّع الضخم الذي تمّ ضمّه إلى عمارة الست طنشق المبنية في العهد المملوكي، تم إدراجه ضمن قائمة المباني التي صمّمها سنان كبير المهندسين العثمانيين. ولكنْ من الصعب التصديق بأنّ مهندس البلاط السلطاني الذي كان في الفترة 957-964هـ/1550-1567م مشغولًا في الإشراف على بناء المسجد السليماني في إستانبول أنْ يكون قد شارك بنفسه في بناء هذا المجمّع. وعلى الأرجح فقد اقتصر الأمرُ على الالتزام بمفهوم التخطيط العام المتبع في مكتب البناء الإمبراطوري تحت إشراف سنان باشا، حيث إنّ المجمّع يخلو من ملامح الهندسة المعمارية العثمانية التي سادت في الفترة نفسها في إستانبول. وعلاوةً على ذلك فإنّ البوابة الرئيسية ذات الأركان الثلاثة والإطار العقديّ الذي يزيّن أعلى البوابة تطابق فنّ العمارة القاهري في تلك الفترة، ومثالٌ على ذلك بوابة مدرسة سليمان باشا المؤرّخة في عام 950هـ/1543م. أمّا الإطار العقدي المخصص للنقش الكتابي، والذي تُرِك فارغًا فوق المدخل، فهو مطابقٌ لزخارف دمشقية تزيّن بوابة ضريح لطفي باشا المؤرّخ في عام 940هـ/1534م. إنّ الارتباط الوثيق بين هذا المجمّع الإمبراطوري وفنون العمارة في ولايتيْ مصر والشام العثمانيتين ظاهرٌ للعيان، لا سيما الفسيفساء التي تمّ تغليف قبة الصخرة بها والتي تنسجم مع فن العمارة في المباني العثمانية الرئيسية في تلك الفترة.
ثامنًا:
الخلاصة:
لقد كان البرنامج المنتظم لإعادة تفعيل مدينة القدس على يد السلطان العثماني سليمان الأول القانوني بمثابة قاعدة جديدة لمزيدٍ من خطوات التطوير لتصبح المدينة مركزًا حضريًا. وفي هذا السياق تفيدنا إحصاءات دافعي الضرائب بأنّ فترة حكم السلطان شهدت نموًا متزايدًا جدًا في عدد السكان. فبينما كان عددهم لا يتجاوز 4000 نسمة عام 932هـ/1525م ارتفع العدد إلى حوالي 12000 نسمة في عام 961هـ/1553م. إنّ ارتفاع عدد السكان إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه خلال 30 عامًا يُعَدّ مؤشّرًا على الجاذبية الجديدة للمدينة، والتي نتجت بشكلٍ رئيسيّ عن برنامج التطوير واسع النطاق الذي أمرَ به السلطان سليمان.
وكما قال أوليا جلبي فإنّ السلطان سليمان القانوني كان بالفعل مجدّد المدينة. ومن بين مشاريع البناء العديدة التي شيّدها السلطان خلال تطوير المدينة يمتاز عنصران رئيسيان بشكلٍ خاص، وهما ترميم القلعة وسور المدينة بهدف ضمان أمن السكان، وإعادة تفعيل تمديدات المياه بهدف تزويد المدينة بمياه عذبة بشكلٍ متواصل. وقد مهّدت السنوات العشر التي تمّ خلالها إنجاز ذلك البرنامج المتواصل، وهي 938-947هـ/1531-1540م الطريق أمام مراحل التطوير التالية في المدينة. فقد كانت أجزاء واسعة من المنطقة السكنية داخل سور المدينة في بداية حكم السلطان، والتي استقرّ فيها المهاجرون الجدد، خرابًا وكان لا بد من تعميرها. ومع نموّ عدد السكان لم تقتصرْ الزيادة على نشاطات البناء فحسب، بل كان من نتائجه أيضًا توسيع نطاق التجارة والصناعة، مما أدّى إلى تثبيت القدس كمركزٍ حضريّ مستقلّ. ومن ناحيةٍ أخرى فقد تمّ التأكيد على المعاني الدينيّة من خلال إجراءات ترميم متواصلة للرموز الإسلامية في المدينة. إنّ أعمال التجديد التي جرت طيلة حكم السلطان في الفترة 930-972هـ/1524-1564م، إضافةً إلى الزخارف التي تزيّنت بها أهمّ الأماكن الدينية في المدينة، ابتداءً بمقام النبي داود ثم منطقة الحرم الشريف، قد شجّعت على شدّ الرحال إلى القدس حيث ازداد عدد الزائرين باطّراد مع ازدياد عدد السكان.
إنّ هذا الاهتمام المتزايد بزيارة القدس خلال حكم السلطان سليمان قد دفع إلى تخصيص مبنيَـيْن ضخمين لإيواء الزائرين، وهما رباط الأمير بيرم جاويش عام 947هـ/1540م وتكية خاصكي سلطان قبل عام 959هـ/1552م. وكان هذا الأمر قد بلغ ذروته عند تزيـين قبة الصخرة بالفسيفساء من الخارج، ممّا أضفى على هذا المبنى المركزي المقدّس مظهرًا خارجيًا باهرًا انعكس على المنطقة بأسرها. ويؤكّد ارتفاع أعداد الزائرين وتواصل أعمال البناء والتعمير في المدينة على يد السلطان سليمان على أنّ تلك المشاريع العمرانية الكثيرة لم تنفّذْها فرَق جاءت من طرف البلاط العثماني، وإنّما قام بها مهندسون وبنّاؤون شاميون.
ولم يتأثرْ البناء في القدس على الإطلاق بفنّ العمارة العثمانية المعاصرة له في تركيا حتى منتصف القرن العاشر الهجري أي السادس عشر الميلادي. فقد خضع برنامج البناء برمّته لمدرسة العمارة المملوكية الدارجة في دمشق وحلب، والتي استخدمت في القرن السابق في عمارة القدس. وفي بعض الأماكن تمّ اقتباس فنون العمارة المملوكية المتأخّرة السائدة في العاصمة المصرية. حتى أنّ مبنى خاصكي سلطان ذاته والذي بُنِي قبل عام 959هـ/1552م والمنسوب إلى مهندس البلاط العثماني سنان (سنان باشا) قد خضع لتقاليد البناء الشامية والمصرية. إلا أنّه وفي المرحلة الأخيرة من ترميم قبة الصخرة تمّ استخدام النماذج العثمانية السلطانية في تركيب الفسيفساء على القبة. بل إنّ هذه الفسيفساء، التي يُعتقد أنّه تمّ الفراغ من تركيبها عام 952هـ/1545م، ثمّ تواصل تزيينها بشكلٍ موسّع حتى عام 969هـ/1561م، لم يقُمْ بها فنّان تركيّ، حيث وقّع عليها عبد الله التبريزي الذي يشير اسمه إلى موطنه وهو مدينة تبريز الواقعة شمال غربي إيران.
إنّ ارتباط مشاريع البناء التي قام بها السلطان سليمان بالخصائص المعمارية التقليدية في المدن الكبرى في الدولة المملوكية التي تمّ ضمّها قبل وقتٍ قصيرٍ إلى الدولة العثمانية، يُستَشفّ من العبارة التي قالها أوليا جلبي وذكرناها في بداية البحث. وعلى الرغم من أن أوليا جلبي يزعم أنّ سنان مهندس البلاط العثماني قد قام بنقل مواد البناء اللازمة من إستانبول إلى القدس بتكليفٍ من السلطان، فقد قال إنّ المتعهّدين والمهندسين والنحاتين الذين قاموا بتنفيذ البناء والترميم قد جاؤوا من القاهرة ودمشق وحلب. إنّ الاعتماد على طواقم البناء تلك يتناقض مع حقيقة أنّ التطوير المعماري في هذه المدن الثلاث، وفي عصر السلطان سليمان بالذات، قد اعتمد بشكلٍ رئيسي على أنماط البناء المتبعة في العاصمة العثمانية. ويشير هذا الوضع الخاص إلى برنامجٍ تطويري مستنير، فأعمال البناء التي أمرَ بها السلطان لم تهدفْ بالدرجة الأولى إلى تحديث القدس فحسب ولكنْ إلى تجديدها بناءً على الخصائص التقليدية المحلية التي اتّصفت بها. وقد ساهم هذا المبدأ بإضفاء مظهرٍ عام ملتزم بفنون العمارة في العصور الوسطى، والذي تجلّى بشكلٍ خاص في سور المدينة الجديد. وهكذا فإن إعادة بناء المدينة المؤرخ بشكلٍ بارز على كثيرٍ من النقوش الكتابية وفي كتاب أوليا جلبي، قد جعلت من السلطان العثماني سليمان القانوني وبحقّ المجدّد الإسلامي لهذه المدينة التي تُعَدّ مركزًا دينيًا عالميًا.
:regards01::regards01::regards01::regards01:
تمتاز مدينة القدس ببلدتها القديمة التي تُعَدّ إحدى المدن الإسلامية القليلة التي تم الحفاظ على سلامة طابعها التاريخي، والتي يجسِّد مظهرها الأثري الحالي ليس مراحل التطور في العصور الوسطى فحسب، ولكنّه يمثل أيضًا وبشكلٍ جوهري المباني التي أنشأها السلطان العثماني سليمان الأول القانوني الذي تولّى الحكم في الفترة (926 - 974هـ / 1520 - 1566م).
سليمان القانوني ومدينة القدس:
لقد تمكّن هذا الحاكم العثماني العظيم بعد مضيّ فترة قصيرة على ضم سوريا وفلسطين إلى الدولة العثمانية عام 922هـ/1516م من إعادة تثبيت مكانة المدينة بصورةٍ نهائية كمركزٍ يشدّ المسلمون إليه رحالهم، وذلك بعد خضوعها للاحتلال الصليبي فترة طويلة امتدّت من عام 492هـ/1099م حتى 583هـ/1187م، ثمّ لفترةٍ أخرى قصيرة وهي (626 - 642هـ/ 1229 - 1244م).
وعلى الرغم من أنّ الأيوبيين الذين استردّوا المدينة المقدسة على يد الناصر صلاح الدين يوسف (564-589هـ/1169-1193م) والمماليك من بعدهم (658-922922هـ/1260-1516م) قد شيّدوا العديد من المباني الدينية إلى جانب إعادة بناء وترميم مكانيْ العبادة المركزيين، وهما قبة الصخرة والمسجد الأقصى، وساهموا بذلك في صبغ المدينة بالطابع الإسلامي، إلا أنّ القدس خضعت لأوّل مرة في عهد السلطان سليمان لبرنامج تطويرٍ منتظم وشامل.
رؤية سليمان القانوني لرسول الله في المنام:
وحول اهتمام السلطان العثماني الملفت للنظر قدم لنا الرحّالة التركي أوليا جلبي خلال وصفه لزيارةٍ قام بها إلى القدس في رمضان 1082هـ الموافق كانون الثاني يناير 1672م، الشرح التالي المفصل: (في عام 926هـ/1521م اعتلى السلطان سليمان العرش وفتح قلعة بلغراد عام 927هـ/1521م وجزيرة رودس عام 928هـ/1522م وجنى من ذلك ثروةً طائلة. وعندما غدا ملكًا مستقلًا ظهر له النبي في ليلة مباركة وقال له: "يا سليمان سوف تحقّق انتصارات عديدة، ويجب عليك أنْ تـنفق الغنائم على تزيـين مكة والمدينة وعلى تحصين قلعة القدس لتصدّ الكافرين إذا حاولوا احتلالها خلال حكم خلفائك. وعليك أيضًا أنْ تزيّن حرمها بحوضٍ للماء، وأنْ تمنح دراويشها مخصّصات مالية كلّ عام، وعليك أيضًا أنْ تزيّن صخرة الله وأنْ تعيد بناء مدينة القدس. ولما كان ذلك أمرٌ من الرسول فقد نهض سليمان خان في الحال من نومه وأرسل صرّة إلى المدينة وأخرى إلى القدس. وبالإضافة إلى المواد اللازمة أرسل كبير مهندسيه خوجا سنان إلى القدس، ونقل مصطفى باشا من ولاية مصر ليتولّى حكم ولاية الشام. ولما صدر الأمر لمصطفى باشا بترميم القدس، جمع كافة البنّائين والمهندسين والنحّاتين في القاهرة ودمشق وحلب وأرسلهم إلى القدس لإعادة بنائها ولزخرفة الصخرة المشرفة".
قد يصعب علينا التحقق تاريخيًا من صحة تفاصيل هذا السرد المفصل حول عناية سليمان الأول بتعمير مدينة القدس، لكنه يسلّط الأضواء ليس فقط على الدوافع الإجمالية التي يمكن تقصّيها من خلال المباني التي ما زالت قائمة في المدينة بعد عمليات البناء التي استمرّت على امتداد أربعة قرون، ولكنّه يقدّم أيضًا أدلةً واضحة تبيّن الدوافع التي كانت تكمن وراء كلّ إجراءٍ من إجراءات البناء على حدة.
أولًا:
مقام النبي داود:
لقد كان أول المشاريع المعمارية التي يمكن إثبات نسبتها إلى السلطان في القدس هو تحويل كنيسة العشاء الأخير خارج باب النبي داود إلى مسجد. إنّ إعادة البناء التي جرَتْ في نطاقٍ محدود جدًا وانتهت في الأول من ربيع الأول 930هـ الموافق للثامن من كانون الثاني يناير 1524م، تشير بوضوحٍ إلى الهدف الرئيسي من برنامج البناء الضخم في القدس، وهو ما تطرّق إليه أوليا جلبي، ألا وهو التأكيد على الهوية الإسلامية للمدينة المقدسة. ويؤكّد النص العربي المنقوش في المقام على أنّ مبنى الكنيسة ودير الفرنسيسكان التابع له، والذي يقع قبر الملك داود بداخله، قد تمّ تحويله إلى وضعٍ يتلاءم مع الإسلام، وبالتالي تحقّق تحريره من الكفّار.
وفيما يتعلّق بحجارة البناء الإسلامية، والتي تمّ تجديدها عدة مرات، فإنّ الأفاريز المسنّنة التي تستخدم لتزيـين إطارات الأبواب والأقواس والنوافذ تشكّل العنصر الأساسي في الزخرفة. ويشير هذا النمط من الإطارات الملفتة للنظر إلى ارتباط وثيق بالمدرسة المعمارية الحلبية، ولا سيما الكنارات المسننة المطابقة والتي اتخذت نموذجًا ثابتًا منذ أوائل القرن التاسع الهجري الموافق للقرن الخامس عشر الميلادي وحتى نهاية العصر المملوكي، ومن الأمثلة على ذلك خان القصابية.
ثانيًا:
الحرم الشريف:
لقد تمّ تكريس قسم كبير من مشاريع البناء العظيمة على ترميم وتأثيث الحرم الشريف، فهو الموقع الأقدس في هذه المدينة الإسلامية. ومن الملفت للنظر أن النقش الذي يرجع تاريخه إلى أواخر شعبان 933هـ الموافق لأيار مايو 1527م، والمكتوب على سبيل المحكمة الذي بناه قاسم باشا يصف السلطان بأنه سليمان الثاني. ويفهم هذا بالدرجة الأولى على أنّه تشابهٌ تاريخي يشير إليه اسم السلطان، لكنّه يشير أيضًا إلى دوافع هذا الحاكم العظيم في هذا الموقع بالذات، ألا وهو إعادة تفعيل الأماكن الإسلامية المقدّسة في موضع هيكل سليمان.
1- قبة الصخرة:
لقد استأثرت قبة الصخرة بأول أعمال البناء الضخمة التي أنجزها السلطان لأنّها المبنى المركزيّ المقدس. وحسب نقشٍ أزيل من موضعه في وقتٍ لاحقٍ فقد تمّ الفراغ من تجديد شبابيك هذا المبنى المثمّن الشكل، والبالغ عددها 36 والمزخرفة بقطع زجاجية، في عام 935هـ/1528م. وبما أنّ التجديد قد أمرَ به السلطان سليمان فلا يمكن أنْ يكون قد اقتصر على الشبابيك، وعليه يمكننا اعتبار ذلك العام تاريخًا للترميم الشامل الذي خضَع له أقدم مبنى تم تشييده في التاريخ الإسلاميّ. وبتكليفٍ من السلطان تمّ إنجاز الترميم خلال السنوات العشر التالية. وتمّ في مرحلةٍ لاحقة تزيـين الواجهات الخارجية بالقاشاني الملوّن على نمط الأبنية العظيمة في عواصم الدول. ولم يشتمل ذلك التزيـين على قطع فسيفساء متعددة الألوان وبلاط زجاجي ملوّن ذي حافات غير مدببة فحسب، بل استخدمت فيه أيضًا رسومات على بلاط تعلوها طبقات زجاجية شفافة. ويمكن ربط زخارف الفسيفساء تلك بالنقش الكتابي الذي يعود تاريخه إلى عام 952هـ/1545م على الجهة العلوية من السقف نصف البرميلي خارج الباب الشمالي للمسجد، والمرسوم تحت طبقة من الزجاج وعليه توقيع فنان فارسي يُدعى عبد الله التبريزي، والذي دَوّن التاريخ خطأ بعام 959هـ أي 1551م. وهي توضّح لنا المستوى الذي وصلت إليه زخرفة البلاط باهظة التكاليف. فبمساعدة أمهر مهندسي ذلك الوقت تمّ تحقيق الهدف من زخارف الفسيفساء وهو إعادة البريق القديم إلى هذا المبنى.
وفي هذا السياق يتّضح لنا السبب في حرص أوليا جلبي على ذكر الخطّاط أحمد قرة حصاري (ت 963هـ/1556م) الذي زيّن بخطّه الفسيفساء الخارجية، والذي عمل أيضًا في الجامع السليماني في إستانبول، بل وحرص أيضًا على ذكر خوجا سنان (ت 996هـ/1588م) كبير المعماريين العثمانيين ومهندس ذلك الجامع، وربط بينهما وبين التعميرات التي أمر بها السلطان في القدس. وبناءً على استخدام أنماط فنية مختلفة في تصميم البلاط يمكننا الافتراض بأنّ إنتاج هذه الفسيفساء الرائعة لم يمرّ عبر مرحلةٍ واحدة وإنّما عبر العديد من مراحل الإنتاج. ومن الأدلة الصريحة على ذلك قبة السلسلة المنتصبة شرقي قبة الصخرة، حيث يوجد فوق محرابها نقش فسيفسائي مكوّن من سطرين ويبلغ طوله حوالي ثلاثة أمتار، وينصّ على أنّ قاشاني الفسيفساء تم تجديده بأمرٍ من السلطان سليمان عام 969هـ/1562م.
ويتكوّن بلاط النقش من كتابةٍ باللون الأبيض على أرضية بنية غامقة يعلوها زجاج شفاف، وهي تطابق من الناحية الفنية فسيفساء باب قبة الصخرة الشمالي. وعليه يمكننا القول إنّ تاريخ نقش الترميم في قبة السلسلة قريب من تاريخ صنع الرسومات على بلاطٍ تحت زجاج شفاف في قبة الصخرة المجاورة. وعلى الأرجح فإنّ المرحلة الأخيرة من صناعة القاشاني قد أعقبت مراحل التطوير التي مرّ بها بناء المسجد السليماني في إستانبول في الفترة (957-964هـ/1550-1667م)، والتي تم فيها استخدام بلاطٍ عليه رسومات متعددة الألوان لأول مرة. ومن المحتمل أنْ يكون المعمل نفسه الذي قام بصناعة فسيفساء تكية السلطان سليمان في دمشق قبل ذلك بقليل، أيْ في عام 967هـ/1560م، قد تم تكليفه أيضًا بصناعة فسيفساء قبة الصخرة. وعلى ما يبدو فإنّ أعمال الترميم الجديدة في قبة الصخرة قد استكملت عام 972هـ/1564م، وذلك بعد الفراغ من تغليف الأبواب الخشبية الشرقية والغربية بالبرونز بتكليف من السلطان.
إنّ ترميم قبة الصخرة على يد السلطان سليمان الذي استغرق ما يقرب من أربعين عاما قد دفع أوليا جلبي إلى كتابة الملاحظة التالية: "ولما كان السلطان العثماني في هذا الزمان هو أكثر حكّام العالم تشريفًا واحترامًا .. فقد جعل من هذا الصرح جنّةً لا مثيل لها على الأرض .. لأنّ السلطان وحده هو القادر على أنْ يكون مالكًا لبيت الله".
2- المسجد الأقصى:
بالإضافة إلى قبة الصخرة أمر السلطان سليمان بترميم المسجد الرئيسي في الحرم، ألا وهو المسجد الأقصى. ويشهد على ذلك نصٌّ مفقود كان يقع على إحدى نوافذه من الداخل، وكان يحمل تاريخًا مغلوطًا وهو عام 996هـ/1587م، أيْ أنّ إتمام الترميم أُنجِز بعد أكثر من عشرين سنة على وفاة السلطان. وعلى ما يبدو فإنّ التاريخ الصحيح هو عام 936هـ/1529م، حيث إنّ تجديد النوافذ الزجاجية في قبة الصخرة قد تمّ في عام 935هـ/1528م. وعلى ذلك يمكننا القول إنّ النصّ الزجاجي الفنيّ المذكور في المسجد الأقصى قد تمّ إعداده مباشرةً بعد إتمام أول أعمال الترميم التي أمرَ بها السلطان في الحرم الشريف.
وحسب أوليا جلبي فقد تمّ ترميم قبة المسجد والواجهة القبلية بأمرٍ من السلطان. وأشار أوليا إلى أنّ سارخوش عبدو تولّى تجديد المحراب، وهو الذي عمل كذلك لدى السلطان سليمان في بناء المسجد السليماني في إستانبول.
3- إنشاء أبنية متفرّقة:
حسب النص المذكور الذي كان على إحدى نوافذ المسجد الأقصى، فإنّ أعمال الترميم التي أنجزها السلطان سليمان عام 936هـ/1529م على الأرجح لم تقتصرْ على المسجد فحسب، وإنّما امتدّت لتشمل كافة الحرم. وهذا ما أكّده أوليا جلبي بعبارة واضحة: "ومن المسجد الأقصى يسير المرء عبر مرجٍ أخضر فوق رصيفٍ يبلغ طوله مائتي خطوة من الحجارة الرخامية اللوحية البيضاء غير المنحوتة، والتي تمّ رصْفها بأمرٍ من السلطان سليمان العظيم. ومن ثمّ يؤدّي الطريق مباشرةً نحو حوضٍ مائي كبيرٍ مبنيّ من رخام اقتُطِع من كتلة واحدة، حسب تعليمات السلطان سليمان نفسه. إنّه مَعلَمٌ فريد لا مثيل له على الأرض. إنه رائع، ويقع في وسط الرصيف".
لقد بُني ذلك الحوض على شكل كأسٍ إلى الشمال من المسجد الأقصى، ومن المقنِع جدًا نسبته إلى السلطان، حيث إنّه يطابق الحوض الأصغر حجمًا في التكية السليمانية في دمشق والذي تمّ الفراغ من بنائه عام 967هـ/1560م. ولعلّ السلطان سليمان كان قد أمرَ أيضًا بتجديد الطريق المرصوف بين المسجد الأقصى وصحن الصخرة.
وإلى جانب الترميم الشامل للحرم فقد تمّ تشيـيد عددٍ من المنشآت المتفرقة. ومنها على سبيل المثال الدرَج الموصل إلى البائكة الغربية الشمالية ذات الأقواس الأربعة التي تؤدّي إلى صحن الصخرة. ويُنسَب ترميم هذا الحائط حسب نقشٍ كتابيّ موزّع على عدة أجزاء إلى السلطان سليمان، وهو يشبه بشكلٍ ملحوظ الإفريز المسنّن المستخدم في ترميم مقام النبي داود عام 930هـ/1524م بأمرٍ من السلطان. وهناك إفريز مسنّن مطابق يزيّن قبة الخضر الصغيرة المنتصبة على ستة أعمدة إلى الجنوب قرب الدرج الشمالي الغربي، والتي يُعتقد أنّها بُنِيَت في الوقت نفسه الذي تمّ فيه ترميم البائكة المجاورة. ويشير هذا الزخرف المقتبس من الهندسة المعمارية المملوكية إلى أعمال البناء الأولى التي قام بها السلطان سليمان في القدس. فعلى سبيل المثال هناك إطارٌ مسنّن مطابق على مئذنة مسجد القلعة التي رمّمت عام 939هـ/ 1532م وعلى بعض الأسبلة التي أمَرَ السلطان ببنائها عام 943هـ/ 1537م في طريق الواد وعند باب السلسلة وفي طريق باب الناظر. وبناءً على ذلك فإنّ هذا العنصر الزخرفيّ التابع للمدرسة المعمارية الحلبية لا يصلح بالضرورة كدليلٍ على ترميمات السلطان سليمان في القدس. وكان محمد بك، والي غزة والقدس، قد شيّد في عهد السلطان سليمان عام 945هـ/1538م محرابًا تحت قبة النبي شمال غربي قبة الصخرة وعليه إفريز مطابق، وبالتالي لم يعدْ بالإمكان اعتبار هذا العنصر علامة مميزة.
وبخلاف ذلك فإنّنا نجد أفاريز مسنّنة بشكلٍ مغاير استُخدمت في عدة مواقع في سور الحرم وخاصةً فوق وحول أبوابه، ومنها على سبيل المثال باب السلسلة وباب الحديد وباب الغوانمة، وكذلك في الباب العتم في الجهة الشمالية. فبالإمكان اعتبار هذه الأفاريز من معالم الترميم الشامل للحرم الذي قام به السلطان سليمان. إنّ هذه الزخارف التي استُخدِمت في الإطار العلوي عام 943هـ/1537م تشير إلى وجود ارتباطٍ مع زخارف التجديد الأولى لقبة الصخرة في عام 935هـ/1528م وترميم المسجد الأقصى في عام 936هـ/1529م (ظنًا).
ثالثًا:
القلعة:
حسب أقوال أوليا جلبي فقد كان تحصين مدينة القدس من أكبر هموم السلطان سليمان. وبالفعل فقد كان أوّل إجراءٍ أمرَ به السلطان بعد الفراغ من ترميم الحرم القدسي ضمن جهوده الرامية إلى إعادة تفعيل النظام الدفاعي هو تجديد بناء القلعة الواقعة في الجهة الغربية من المدينة. لقد تمّ ترميم القلعة في أوائل القرن الثامن الهجري أيْ الرابع عشر الميلادي بعد طرد الصليبيين من المدينة المقدسة بوقتٍ طويل، لكنّها خرِبَت في أوائل القرن التاسع للهجرة أيْ الخامس عشر للميلاد ولم تعُدْ صالحةً للاستخدام وأصبحت المدينة بلا قلعةٍ تدافع عنها. إلا أنّ الترميم الذي أُجرِيَ في عام 938هـ/1531م وأضيف خلاله ممرّ شرقيّ للقلعة قد أخرجها من وضعها البائس بشكلٍ نهائي. وفي إشارةٍ إلى مجدّد حصن المدينة تمّ نقش اسم السلطان (سليمان الثاني) على البوابة الجديدة، مع تمجيد هدفه من البناء، ألا هو توفير الأمن لأهل القدس.
وعلاوةً على ذلك فقد تمّتْ الإشارة في نقْشيْن آخرين إلى أنّ السلطان قد سيطرَ على ميراث المماليك من خلال هذا الترميم. ويطابق النقشان المذكوران المكوّنان من ثلاثة أسطر في الشكل والمضمون تلك الشعارات المميّزة التي كانت تطلق على سلاطين المماليك، وهي: (السلطان سليمان عز نصره) و(مولانا السلطان الملك المظفر أبو النصر سليمان شاه ابن عثمان عز نصره). وفي المرحلة الأخيرة من الترميم تمّ في عام 939هـ/1532م تشييد مسجد في الزاوية الجنوبية الغربية من القلعة، وفي مقدّمته محراب ومنبر بحيث تؤدّى فيه صلاة الجمعة أيضًا. وكعلامةٍ بارزة على سيطرة الإسلام تمّ بناء مئذنة المسجد المستديرة فوق البرج الجنوبي للقلعة. ويُستدلّ من الكنارات المسنّنة التي تزيّن المئذنة على أنّها كانت جزءًا من أعمال البناء التي بدأت في القدس عام 930هـ/1524م بأمرٍ من السلطان. ومن الملفت للنظر تلك النافذة الصغيرة المستديرة التي تُطِلّ من المئذنة على الساحة الداخلية من الجهة الشمالية، حيث يشير إطارها العريض إلى عنصرٍ من عناصر العمارة المملوكية، والذي كان سائدًا في دمشق.
رابعًا:
تزويد المدينة بالمياه:
بعد استراحةٍ قصيرة أعقبت ترميم الحرم القدسي وتجديد القلعة، أمرَ السلطان سليمان عام 943هـ/1536م بإنجاز مشروعٍ معماري هام آخر، غايته تأمين وصول المياه من بركة السلطان الواقعة جنوب غربي المدينة إلى الأسبلة الخمسة التي تمّ إنشاؤها في الحرم القدسي وحوله. وتزوّدنا النقوش المنحوتة على تلك الأسبلة بمعلوماتٍ تفصيلية عن المراحل الزمنية لتلك الأعمال. ومنها السبيل القائم في الجهة الجنوبية من بركة السلطان والتي تصبّ فيها قناة السبيل، وعليه نقشٌ يشير إلى أنّه أقيم بأمرٍ من السلطان في 10 محرم 943هـ الموافق 29 حزيران يونيه 1536م. وبعد بناءٍ استغرق نصف عامٍ فقط وصلت مياه القناة إلى الطريق الموازي للجهة الغربية من الحرم، وذلك حسب التاريخ المدوّن على نقش سبيل طريق الواد، وهو الأوّل من رجب 943هـ الموافق 14 كانون الأول ديسمبر 1536م. وبعد ثلاثة أسابيع فقط، أي في 22 رجب 943هـ الموافق 4 كانون الثاني يناير 1537م، ورد الماء إلى سبيل باب السلسلة، أحد الأبواب الرئيسية في الجهة الغربية للحرم. ومن ذلك الموقع تفرّعت قناة نحو الجنوب الشرقي باتجاه الكأس الواقع شمالي المسجد الأقصى، والذي أمرَ السلطان سليمان بتجديده ضمن جهوده لإعادة تفعيل الحرم القدسي حسب أقوال أوليا جلبي. وتفرّعت قناة ثانية في الحرم شمالًا نحو سبيل البصيري الأقدم عهدًا، والذي يُحتَمل أنْ يكون قد رمّم في تلك الأثناء، وذلك بناءً على الإفريز الدائري المسنن، ومن هناك نحو السبيل الذي تمّ إنشاؤه داخل باب العتم الواقع شمالي الحرم. وقد وصل الماء إليه في الأوّل من شعبان 943هـ الموافق 13 كانون الثاني يناير 1537م، أيْ بعد تسعة أيام فقط من افتتاح سبيل باب السلسلة.
ويوجد محرابٌ ومسطبة في الجهة الخلفية من السبيل، ويشير نقشٌ كتابي إلى أنّه قد تمّ ترميمهما في عهد السلطان سليمان. ومن هناك جرى الماء شرقًا نحو باب حطة الذي أُنشِئ على حائطه الشرقي سبيل، والذي يرجّح كناره المسنّن بشدّة إلى احتمال تعميره في عهد السلطان سليمان أيضًا. وربما تكون القناة قد صبّت في بركة بني إسرائيل خارج الزاوية الشمالية الشرقية لساحة الحرم. ومن خزان المياه المذكور تمّ تزويد السبيل الواقع داخل باب الأسباط؛ وهو باب المدينة الشرقي. وعلى الرغم من قيام البعض بإزالة نقش ذلك السبيل، فإنّنا نستطيع أنْ ننسبه إلى السلطان سليمان بناءً على أوصافه المطابقة للأسبلة المذكورة. ويدلّ سبيل طريق باب الناظر الذي يبعد حوالي 150 مترًا فقط إلى الشمال من سبيل طريق الواد، والذي تمّ إنشاؤه في الثاني من رمضان 943هـ الموافق 12 شباط 1537م، على أنّ تجديد شبكة المياه وإنشاء الأسبلة في المدينة وفي داخل الحرم قد تمّ في وقتٍ قصيرٍ مذهلٍ لا يتجاوز الشهرين.
وكما قال أوليا جلبي فقد كان الهدف الرئيسي من هذه المنشآت تزويد الحرم القدسي بالمياه. ولكن الأسبلة التي تمّ بناؤها عند تقاطعات الطرق الهامة داخل المدينة تشير إلى تطويرٍ واعٍ للبنية التحتية للمدينة على يد السلطان. ومن الإجراءات التي ساهمت في تقصير فترة البناء أيضًا إعادة استخدام حجارة بناء قديمة، كما في الأسبلة التي بُنيَت داخل تجويفات في الجدران. وكذلك فإنّ تنفيذ تلك المشاريع يندرج أيضًا ضمن الورشات التي بدأت عملها في القدس قبل ذلك بعشر سنوات بأمرٍ من السلطان سليمان. إنّ الارتباط الوثيق بالهندسة المعمارية الحلبية، والذي لوحِظ منذ أعمال البناء الأولى، لم يقتصرْ على تكرار استخدام الأفاريز المسننة فحسب، ولكنّه شمل أيضًا تجهيز الأعمدة العُقدية المستخدمة في الأسبلة التي بنيت داخل تجويفات في الجدران، كما هو الحال في سبيل باب السلسلة وسبيل طريق باب الناظر، والتي تُنسَب أيضًا إلى الزخارف التابعة للمدرسة المعمارية الحلبية منذ القرن التاسع الهجري أيْ الخامس عشر الميلادي. وقد تم استخدام الأعمدة العقدية في حلب في واجهة مبنى المولوية في وقتٍ قريبٍ أيْ في عام 937هـ/1530م وفي جامع الطواشي الذي تمّ تجديده عام 944هـ/1537م. وعلى ما يبدو فإنّ ورشة البناء التي عادت من القدس وقامت بترميم وتوسيع مسجد حلب لم تستخدمْ الميزات الإنشائية التي استخدمت في أعمال البناء السلطانية السليمانية في فترتها الأخيرة، ألا وهي الأفاريز المسننة والأعمدة العقدية.
خامسًا:
سور مدينة القدس:
بعد الفراغ من مشروع تزويد المدينة بالمياه أخذ السلطان سليمان على عاتقه مشروع بناءٍ ضخمٍ آخر، ألا وهو إعادة بناء سور المدينة، والذي تمّ فيه اختتام مرحلة حاسمة من التاريخ الإسلامي في المدينة. وكان القائد الأيوبي الناصر صلاح الدين يوسف قد جدّد سور المدينة بعد استردادها من الصليبيين عام 587هـ/1191م، ولكن تمّ تخريبه بعد حوالي 30 عامًا بحجّة تعرّض المدينة لخطر حصار صليبي، وذلك في عام 616هـ/1219م. وتعرّض لمزيدٍ من التدمير مرة أخرى في عام 624هـ/1227م. وبناءً على ذلك فقد تمكّن فريدريك الثاني من استلام المدينة المقدسة عام 626هـ/ 1229م دون أي مقاومة.
وهكذا فقد بقِيَت المدينة لأكثر من ثلاثة قرون تالية تفتقر إلى نظامٍ دفاعي فعّال، إلى أنْ أمر السلطان سليمان عام 944هـ/1537م ببناء سورٍ جديد للمدينة. وقد تمّ بناؤه في غضون أربع سنوات فقط، وبالضبط فوق أساسات البناء المتهدّم الذي كان الأيوبيون قد شيّدوه. وبناءً على ذلك يمكننا القول إنّ البناء الجديد والذي لم يكنْ هناك خطرٌ داهم يحث على بنائه، كان يرمي إلى إعادة السور إلى وضعه القديم. فالأمر هنا كما كان عند ترميم القلعة، يتعلق بمشاريع بناء تاريخية تهدف إلى منح القدس شعار الحكم الذاتي الذي فقدته زمنًا طويلًا. إنّ خطوات بناء السور البالغ طوله حوالي 4 كم والذي يشمل سور الحرم الجنوبي وزاويته الجنوبية الشرقية وسور القلعة في الجهة الغربية، يمكن تحديدها بناء على النقوش الثلاثة عشر المعروفة بالتسلسل التالي:
بدأ البناء في الجزء الشمالي الغربي حسبما تشير ثلاثة نقوش كتابية على باب العامود الواقع في الشمال الغربي وعلى البرج الأوسط وعلى برج اللقلق الواقع في الزاوية الشمالية الشرقية من السور، والتي تؤرّخ البناء في عام 944هـ/1537م. وفي هذه المرحلة الأولى تمّ أيضًا تجديد باب الساهرة. وفي العام التالي تواصل البناء نحو الجهة الشرقية، حيث تمّ تدوين العام 945هـ/1538م على نقشٍ في باب الأسباط، واستمرّ حتى الزاوية الشمالية الشرقية لساحة الحرم، إضافةً إلى الجزء الشمالي من سور المدينة الغربي الممتدّ حتى القلعة، وتشهد على ذلك أربعة نقوش كتابية مؤرّخة في عام 945هـ/1538م على البرج الشمالي والبرج الجنوبي واثنان على باب الخليل. وتمّ الفراغ من بناء السور مع إنهاء الجزء الجنوبي عام 947هـ/1540م، كما تشير إلى ذلك أربعة نقوش كتابية أخرى يقع اثنان منها على باب النبي داود وواحد على برج الكبريت عند الزاوية الجنوبية الشرقية، وواحد على باب المغاربة. ومن المحتمل أنْ يكون قد سبق ذلك بناء الشرفة البارزة في الجهة الغربية من القلعة مع جزءٍ السور المكمل لها من الناحية الجنوبية، وكذلك ترميم الواجهة الخارجية لسور الحرم. وقد ارتكز النظام الدفاعي في سور المدينة على نماذج أيوبية ومملوكية تتمثّل في بناء أبراج عند الزوايا وبوابات ذات مداخل متعرجة. ويمكن مقارنتها على سبيل المثال بسور مدينة دمشق وبدرجةٍ أكبر بسور مدينة حلب. وكذلك فإنّ الأقبية المنثـنية في باب العامود وباب الأسباط وباب الخليل تشابه مثيلاتها في أبواب حلب والقاهرة التي بُنِيت في أواخر العهد المملوكي. وبناءً على ذلك يمكننا القول إنّ الذين قاموا بتنفيذ أعمال البناء كانوا شاميّين ومصريين، ولم تأتِ فِرَقٌ من بلاد الأتراك لبناء تلك الأسوار الضخمة. ومن الواضح أنّه تمّ تطبيق أنظمة البناء الدفاعية المتبعة في العصور الوسطى بهدف إعادة بناء السور على الهيئة نفسها التي كان عليها في العهد الأيوبي. إنّ النقوش قليلة العدد الموجودة على سور المدينة لا تزوّدنا بمعلوماتٍ حول تنظيم عمليات البناء، ومع ذلك يمكننا الافتراض بأنّ محمد بيك حاكم غزة والقدس، والذي بنى محرابًا تحت قبة النبي في الحرم القدسي مؤرّخة في عام 945هـ/1538م، قد لعب دورًا هامًا في تنفيذ مشروع بناء السور الضخم، وربما كان يدير عمليات البناء بنفسه.
سادسًا:
رباط بيرم جاويش:
هناك علاقةٌ على الأرجح بين إتمام بناء سور المدينة وإتمام رباط الأمير بيرم جاويش المؤرخ في 20 ربيع الأول 947هـ الموافق 25 تموز يوليو 1540م. يقع هذا الرباط في الطريق الغربي الموازي للحرم بالقرب من سبيل طريق باب الناظر الذي تمّ بناؤه قبل ذلك بأربع سنوات, وهو يشمل أيضًا مدرسة لتعليم القرآن تمّ ترميمها عام 947هـ/1540م. وهناك نقشان تأسيسيّان باسم واقف المبنى الأمير بيرم جاويش بن مصطفى، ولكنّهما لا يحتويان على أيّ معلوماتٍ عن سيرته، ومع ذلك فبإمكاننا الاعتقاد بأنّ هذا الأمير كان قد شارك في أعمال بناء السور التي انتهت في العام المذكور نفسه. ويحمل هذا المجمّع خصائص معمارية تابعة للعصر المملوكي الأخير في القاهرة ودمشق، كالتي نجدها في سور القدس أيضًا.
فبوابة المجمّع الشمالية المنتصبة في تجويف داخل الحائط تطابق مثيلاتها في العمارة القاهرية. وكذلك فإنّ المداميك الأفقية والزخارف الحجرية المسننة تطابق أسلوب البناء الذي استخدم في الوقت نفسه في القاهرة، كما في سبيل كُتاب خسرو باشا عام 942هـ/1535م. وكذلك الأمر في العمارة الدمشقية، ومنها على سبيل المثال ضريح المحافظ أحمد باشا المتوفى عام 942هـ/1535م. وتُضاف إلى ذلك تزيـينات مدخل الرباط والغرف الداخلية التي تشبه الأقبية المقرنصة والممرات المقببة التي بنيت في القاهرة ودمشق على طراز العمارة المملوكية. هذا المجمع الغني بالزخارف يطابق في مراحل تطويره من الناحية الزمنية بناء سور المدينة. وعلى الرغم من أنّ السور يفتقر إلى الكثير من التزيـينات، وخاصةً الحجارة الملونة المتقابلة التي لم تُستخدمْ فيه على الإطلاق، بحكم الهدف من بنائه وهو الدفاع فحسب، فقد يكون البنّاؤون الذين شيّدوا السور هم أنفسهم الذين جدّدوا الرباط.
سابعًا:
تكية خاصكي سلطان:
لقد بلغ تطوير القدس ذروته النهائية بتأسيس مجمّعٍ ضخمٍ على يد خاصكي زوجة السلطان سليمان. ويقع هذا المجمّع على بعد 50م فقط غربيْ رباط بيرم جاويش على الطريق المؤدّي إلى باب الناظر، أحد أبواب الحرم الغربية. وعلى الرغم من أنّ الرباط خالٍ من النقوش الحجرية فهناك ثلاث وثائق صدرت بخصوصه في ذلك الوقت للتعريف به وبمراحل تطويره. فقد حدّدت وقفيّته المكتوبة باللغة التركية تاريخ الفراغ من تعميره في 30 جمادى الأولى 959هـ الموافق 24 أيار مايو 1552م، ووصفت ساحته الكبرى وأجنحته وبواباته وغرفه المبوبة البالغ عددها 55. وبالإضافة إلى أجنحة النّزل المخصصة لإيواء الزائرين والدراويش يضم المجمع مسجدًا ومطبخًا وفُرنًا وقاعة لتناول الطعام وغُرَفًا لتخزين المواد التموينية وخانًا ذا اصطبلات.
إنّ نُزُل الزائرين الذي تمّ الفراغ من تعميره قبل كتابة الوقفية عام 959هـ/1552م بقليل، تمّ استخدامه لإيوائهم بعد ذلك بخمس سنوات، أيْ بعد إصدار النسخة العربية الموسعة من الوقفية في 15 شعبان 964هـ الموافق 13 حزيران 1557م. وبعد ذلك أصدر السلطان سليمان فرمانًا في 28 شوال 967هـ الموافق 22 تموز 1560م أضاف فيه المزيد من الأراضي لقائمة العقارات الموقوفة على المجمّع. هذا المجمّع الضخم الذي تمّ ضمّه إلى عمارة الست طنشق المبنية في العهد المملوكي، تم إدراجه ضمن قائمة المباني التي صمّمها سنان كبير المهندسين العثمانيين. ولكنْ من الصعب التصديق بأنّ مهندس البلاط السلطاني الذي كان في الفترة 957-964هـ/1550-1567م مشغولًا في الإشراف على بناء المسجد السليماني في إستانبول أنْ يكون قد شارك بنفسه في بناء هذا المجمّع. وعلى الأرجح فقد اقتصر الأمرُ على الالتزام بمفهوم التخطيط العام المتبع في مكتب البناء الإمبراطوري تحت إشراف سنان باشا، حيث إنّ المجمّع يخلو من ملامح الهندسة المعمارية العثمانية التي سادت في الفترة نفسها في إستانبول. وعلاوةً على ذلك فإنّ البوابة الرئيسية ذات الأركان الثلاثة والإطار العقديّ الذي يزيّن أعلى البوابة تطابق فنّ العمارة القاهري في تلك الفترة، ومثالٌ على ذلك بوابة مدرسة سليمان باشا المؤرّخة في عام 950هـ/1543م. أمّا الإطار العقدي المخصص للنقش الكتابي، والذي تُرِك فارغًا فوق المدخل، فهو مطابقٌ لزخارف دمشقية تزيّن بوابة ضريح لطفي باشا المؤرّخ في عام 940هـ/1534م. إنّ الارتباط الوثيق بين هذا المجمّع الإمبراطوري وفنون العمارة في ولايتيْ مصر والشام العثمانيتين ظاهرٌ للعيان، لا سيما الفسيفساء التي تمّ تغليف قبة الصخرة بها والتي تنسجم مع فن العمارة في المباني العثمانية الرئيسية في تلك الفترة.
ثامنًا:
الخلاصة:
لقد كان البرنامج المنتظم لإعادة تفعيل مدينة القدس على يد السلطان العثماني سليمان الأول القانوني بمثابة قاعدة جديدة لمزيدٍ من خطوات التطوير لتصبح المدينة مركزًا حضريًا. وفي هذا السياق تفيدنا إحصاءات دافعي الضرائب بأنّ فترة حكم السلطان شهدت نموًا متزايدًا جدًا في عدد السكان. فبينما كان عددهم لا يتجاوز 4000 نسمة عام 932هـ/1525م ارتفع العدد إلى حوالي 12000 نسمة في عام 961هـ/1553م. إنّ ارتفاع عدد السكان إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه خلال 30 عامًا يُعَدّ مؤشّرًا على الجاذبية الجديدة للمدينة، والتي نتجت بشكلٍ رئيسيّ عن برنامج التطوير واسع النطاق الذي أمرَ به السلطان سليمان.
وكما قال أوليا جلبي فإنّ السلطان سليمان القانوني كان بالفعل مجدّد المدينة. ومن بين مشاريع البناء العديدة التي شيّدها السلطان خلال تطوير المدينة يمتاز عنصران رئيسيان بشكلٍ خاص، وهما ترميم القلعة وسور المدينة بهدف ضمان أمن السكان، وإعادة تفعيل تمديدات المياه بهدف تزويد المدينة بمياه عذبة بشكلٍ متواصل. وقد مهّدت السنوات العشر التي تمّ خلالها إنجاز ذلك البرنامج المتواصل، وهي 938-947هـ/1531-1540م الطريق أمام مراحل التطوير التالية في المدينة. فقد كانت أجزاء واسعة من المنطقة السكنية داخل سور المدينة في بداية حكم السلطان، والتي استقرّ فيها المهاجرون الجدد، خرابًا وكان لا بد من تعميرها. ومع نموّ عدد السكان لم تقتصرْ الزيادة على نشاطات البناء فحسب، بل كان من نتائجه أيضًا توسيع نطاق التجارة والصناعة، مما أدّى إلى تثبيت القدس كمركزٍ حضريّ مستقلّ. ومن ناحيةٍ أخرى فقد تمّ التأكيد على المعاني الدينيّة من خلال إجراءات ترميم متواصلة للرموز الإسلامية في المدينة. إنّ أعمال التجديد التي جرت طيلة حكم السلطان في الفترة 930-972هـ/1524-1564م، إضافةً إلى الزخارف التي تزيّنت بها أهمّ الأماكن الدينية في المدينة، ابتداءً بمقام النبي داود ثم منطقة الحرم الشريف، قد شجّعت على شدّ الرحال إلى القدس حيث ازداد عدد الزائرين باطّراد مع ازدياد عدد السكان.
إنّ هذا الاهتمام المتزايد بزيارة القدس خلال حكم السلطان سليمان قد دفع إلى تخصيص مبنيَـيْن ضخمين لإيواء الزائرين، وهما رباط الأمير بيرم جاويش عام 947هـ/1540م وتكية خاصكي سلطان قبل عام 959هـ/1552م. وكان هذا الأمر قد بلغ ذروته عند تزيـين قبة الصخرة بالفسيفساء من الخارج، ممّا أضفى على هذا المبنى المركزي المقدّس مظهرًا خارجيًا باهرًا انعكس على المنطقة بأسرها. ويؤكّد ارتفاع أعداد الزائرين وتواصل أعمال البناء والتعمير في المدينة على يد السلطان سليمان على أنّ تلك المشاريع العمرانية الكثيرة لم تنفّذْها فرَق جاءت من طرف البلاط العثماني، وإنّما قام بها مهندسون وبنّاؤون شاميون.
ولم يتأثرْ البناء في القدس على الإطلاق بفنّ العمارة العثمانية المعاصرة له في تركيا حتى منتصف القرن العاشر الهجري أي السادس عشر الميلادي. فقد خضع برنامج البناء برمّته لمدرسة العمارة المملوكية الدارجة في دمشق وحلب، والتي استخدمت في القرن السابق في عمارة القدس. وفي بعض الأماكن تمّ اقتباس فنون العمارة المملوكية المتأخّرة السائدة في العاصمة المصرية. حتى أنّ مبنى خاصكي سلطان ذاته والذي بُنِي قبل عام 959هـ/1552م والمنسوب إلى مهندس البلاط العثماني سنان (سنان باشا) قد خضع لتقاليد البناء الشامية والمصرية. إلا أنّه وفي المرحلة الأخيرة من ترميم قبة الصخرة تمّ استخدام النماذج العثمانية السلطانية في تركيب الفسيفساء على القبة. بل إنّ هذه الفسيفساء، التي يُعتقد أنّه تمّ الفراغ من تركيبها عام 952هـ/1545م، ثمّ تواصل تزيينها بشكلٍ موسّع حتى عام 969هـ/1561م، لم يقُمْ بها فنّان تركيّ، حيث وقّع عليها عبد الله التبريزي الذي يشير اسمه إلى موطنه وهو مدينة تبريز الواقعة شمال غربي إيران.
إنّ ارتباط مشاريع البناء التي قام بها السلطان سليمان بالخصائص المعمارية التقليدية في المدن الكبرى في الدولة المملوكية التي تمّ ضمّها قبل وقتٍ قصيرٍ إلى الدولة العثمانية، يُستَشفّ من العبارة التي قالها أوليا جلبي وذكرناها في بداية البحث. وعلى الرغم من أن أوليا جلبي يزعم أنّ سنان مهندس البلاط العثماني قد قام بنقل مواد البناء اللازمة من إستانبول إلى القدس بتكليفٍ من السلطان، فقد قال إنّ المتعهّدين والمهندسين والنحاتين الذين قاموا بتنفيذ البناء والترميم قد جاؤوا من القاهرة ودمشق وحلب. إنّ الاعتماد على طواقم البناء تلك يتناقض مع حقيقة أنّ التطوير المعماري في هذه المدن الثلاث، وفي عصر السلطان سليمان بالذات، قد اعتمد بشكلٍ رئيسي على أنماط البناء المتبعة في العاصمة العثمانية. ويشير هذا الوضع الخاص إلى برنامجٍ تطويري مستنير، فأعمال البناء التي أمرَ بها السلطان لم تهدفْ بالدرجة الأولى إلى تحديث القدس فحسب ولكنْ إلى تجديدها بناءً على الخصائص التقليدية المحلية التي اتّصفت بها. وقد ساهم هذا المبدأ بإضفاء مظهرٍ عام ملتزم بفنون العمارة في العصور الوسطى، والذي تجلّى بشكلٍ خاص في سور المدينة الجديد. وهكذا فإن إعادة بناء المدينة المؤرخ بشكلٍ بارز على كثيرٍ من النقوش الكتابية وفي كتاب أوليا جلبي، قد جعلت من السلطان العثماني سليمان القانوني وبحقّ المجدّد الإسلامي لهذه المدينة التي تُعَدّ مركزًا دينيًا عالميًا.
:regards01::regards01::regards01::regards01: