- إنضم
- 23 أكتوبر 2016
- المشاركات
- 1,505
- نقاط التفاعل
- 1,028
- النقاط
- 71
- محل الإقامة
- الجزائر العاصمة
- الجنس
- أنثى
السلام عليكم
عباد الله، لقد امتاز المنافقون بعلامات وسمات كانت لهم، ومن ذلك سمتان فظيعتان: الأولى: الإعراض عن الحكم الشرعي، وعدم تحكيمه وقبوله والصد عنه. الثانية: العصيان والامتناع عن التنفيذ، والتلكؤ والتباطؤ في العمل بحكم الله ورسوله، وعدم التسليم له والقناعة
مصيبتنا سمعنا وعصينا:
أفرد الله المنافقين بآيات كثيرة، بل سمى سورة باسمهم؛ وما ذاك إلا لعظم خطرهم على المجتمع؛ ولكي يفضحهم أمام الملأ. وقد بين سبحانه أن من أبرز علاماتهم مبدأ: (سمعنا وعصينا) الذي قد ينزلق الكثير فيه وهم لا يشعرون، وذلك من خلال شبهات يردون بها حكم الله وحكم رسوله، وقد ذكر الشيخ بعض ذلك في هذه الخطبة.
أظهر علامات النفاق:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
فيا عباد الله، لقد أُفرد ذكر المنافقين في القرآن الكريم في آيات كثيرة تنبيهاً من الله تعالى على خطرهم، وعلى سوء مبدئهم وعملهم، كما جاء ذلك في مطلع سورة البقرة في آيات فاقت في عددها ذكر المتقين والكافرين، وذلك لخفاء أمر المنافقين، وأيضاً في سور النساء، والتوبة، والنور، والأحزاب، وسورة محمد صلى الله عليه وسلم، كما أُفردت سورة لهم سميت بسورة المنافقين؛ لأجل بيان حال هؤلاء. وخطر النفاق عظيم، ويكفي أن المنافق في الدرك الأسفل من النار تحت الكافر الصريح.
عباد الله، لقد امتاز المنافقون بعلامات وسمات كانت لهم، ومن ذلك سمتان فظيعتان: الأولى: الإعراض عن الحكم الشرعي، وعدم تحكيمه وقبوله والصد عنه. الثانية: العصيان والامتناع عن التنفيذ، والتلكؤ والتباطؤ في العمل بحكم الله ورسوله، وعدم التسليم له والقناعة به، ومن جهة أخرى مبدأ: (سمعنا وعصينا). فهاتان الصفتان الفظيعتان للمنافقين كانتا من أعظم أسباب الخطر.
عدم التسليم لحكم الله:
المسألة الأولى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} [النساء:60-61].
فإذاً: لا يوجد إقرار بحكم الله ورسوله، ولا قناعة به، ولا تسليم له، بل يوجد صد وإعراض عنه، وتحاكم إلى غير شرع الله ورسوله، ولذلك قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي: من الخصومات ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65]، فليس فقط أن يحكموك في ما شجر، وإنما أيضاً لا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضيته، وليس هذا فقط بل: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]، منقادين مذعنين طائعين، مذللين أنفسهم وقلوبهم لحكم الله ورسوله {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور: 48-49]، إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم تولوا وأعرضوا؛ لأنهم لا يسلِّمون بحكم الله ورسوله، لكن إذا كان الحكم لهم في الخصومة وكان الشرع سيحكم لهم، قالوا: لا نريد إلا الشريعة، ثم جاءوا منقادين لأن الحق لهم، ولأنه وافق هواهم، ولأنه في مصلحتهم: {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:49-50] أي: فيظلمهم ويجور عليهم: {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50].
فإذاً: لقد ناقض المنافقون قاعدة الإسلام العظيمة في التسليم لله ورسوله بالحكم، وعدم الاعتراض عليه بعدم قناعتهم به، بل واستبدلوا الشريعة بقوانين الكفر واللجوء إلى الكافر واليهودي والكاهن للحكم بينهم. والمسألة الثانية أيها الإخوة: (مبدأ سمعنا وعصينا) عدم التنفيذ وعدم العمل، قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [النساء: 81]، يظهرون الطاعة، وأبطنوا المخالفة والمعصية: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} [النور: 53] أي: في الجهاد، ويطيعوا أمرك وينفذوا: {قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53]، فقد جربناكم من قبل، وبلوناكم وعرفنا أمركم من التجارب السابقة: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور: 53]، طاعة معروفة في الظاهر أما في الباطن فلا. ولذلك لما وقعت غزوة تبوك تخلفوا وما خرجوا، فقال الله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً} [التوبة: 42]، أي: غنيمة سهلة {وَسَفَراً قَاصِداً} [التوبة: 42]، أي: قريباً ليس ببعيد، {لَاتَّبَعُوكَ} [التوبة:42 ] لكن عصوا. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة: 49]، لقد برروا عدم خروجهم واعتذروا عن الخروج بالأعذار السخيفة، وقال قائلهم: إني أخاف على نفسي من نساء بني الأصفر (الروم): {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49]، أي: سقطوا في الفتنة بعدم خروجهم وتنفيذهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49].
ذرائع المخالفين لحكم الله:
عباد الله، إذا نقلنا المسألة إلى واقعنا، ووقفنا مع أنفسنا وقفة صريحة وصادقة للنناقش: هل نحن ننفذ حكم الله ورسوله فينا أم لا، فماذا سنجد؟، نحن نتعلم أشياء كثيرة: فنسمع في الخطب والأشرطة، ونقرأ في الكتب، ونُوعَظ في المجالس، ونسمع كلاماًَ كثيراً عن الأحكام الشرعية وعن الحلال والحرام، فما هو الموقف إزاء ذلك؟ وهل ننفذ ونسمع ونطيع، أم أننا نسمع ولا نطيع؟ وما هي أسباب عدم التنفيذ؟
التذرع بالجهل وعدم العلم:
قد يقول قائل: إننا لا نعلم، لكن بعد انتشار شيء من التوعية يصعب أن نصدق أن واحداً من هؤلاء لا يعلم، أي: أو ليست لديه أي فكرة عن الحلال والحرام، إنهم من خلال الخطب والدروس وما سمعوه ووعظوا به ونصحوا يعلمون، والأشياء التي لا يعلمون بها إما أنهم معذورون بالجهل فيها، أو أنهم على معصية بعدم تعلمها لإمكانهم تعلمها، فندع هذه المسألة جانباً ولنأخذ ما نعلمه وما اطلعنا على حكمه، وما تبين لنا ونُصحنا به. المعلومات كثرت، لكن أين التطبيق وأين التنفيذ؟
مما يفاجئك به بعض الناس في هذه المسألة أن يقول لك: ليس عندي قناعة بالحكم. فمثل هذا الكلام كيف يزول؟ إنه يزول ببيان الدليل والحكم الشرعي، فإذا بينت المسألة، وقامت الحجة، وذكر الدليل، وسوق كلام أهل العلم، وأورد شبهة ورددت على شبهته؛ فعند ذلك إذا قال لك: غير مقتنعٍ، فإن كلامه بعدم القناعة نفاق واضح لا لبس فيه؛ لأنه يكون حينئذٍ عدم تسليمٍ بحكم الله ورسوله، أوردت له الحكم، وبينته له، وأعطيته كتاباً حول الموضوع، وشرحاً وافياً، وجواباً عن شبهة، ماذا بقي؟ بقيت قضية واحدة لا غير، ليس هناك إلا شيء واحد: نفاق.. عدم تسليم بالحكم الشرعي.. مشاغبة على الحكم الشرعي.
وهذه مسألة يجب أن يصارح فيها الشخص نفسه إذا وقع فيها، إذا تبين له الحكم بالدليل وكلام أهل العلم ثم لم يقتنع؛ فإنه لا يكون إلا منافقاً، وليس هناك احتمال ثانٍ ألبتة، ليس إلا النفاق: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]، أي: أنه لو أقره ولكن على مضض وعن كره للحكم فهو منافق، فكيف إذا ما أقر بذلك؟
التذرع بعدم وجود البديل المباح:
وقد يتذرع بعض الناس في تلكؤهم بعدم تنفيذ الحكم بعدم وجود البديل، ويقولون: "هات البديل؟"، والحمد لله أن الله عز وجل لم يحرم شيئاً إلا وجعل من الحلال من جنسه ما هو أكثر منه ويفوقه، فعندما حرمت الشريعة الخمر أباحت من المشروبات ما لا عد له ولا حصر، وعندما حرمت لبس الحرير على الرجال ولبس الذهب، أباحت لهم من الملابس ما لا حصر له ولا عد، وأباحت خاتم الفضة للرجل مقابل خاتم الذهب المحرم؛ لأن الشارع يعلم حاجة الناس إلى التزين، وعندما حرمت الشريعة الربا أباحت البيوع بأنواعها مما لا حصر له ولا عد من وجوه المكاسب المختلفة، فبدل أن تكسب من الربا جعل لك البيع بأنواعه: المعجل والمؤجل بشروطه، وبيع السلم بشروطه، والمعاوضة، والمعاطاة، والمزاد، والأمانة، ثم من المكاسب: الإجارة، والجعالة، والوكالة بالمقابل وغير ذلك مما تأخذ عليه أجراً. فلما حرمت الشريعة وحرمت وحرمت...؛ جعلت هناك من الحلال من جنسه ما هو أكثر منه ويفوقه. ثم إن البدائل عن سائر الأشياء قد تتوفر في الواقع، وقد لا تتوفر من تقصير المسلمين وليس من قصور الشريعة.
وفي مسألة البديل يشاغب بعض الناس فيقولون في مسألة الموسيقى والألحان مثلاً: "ما هو البديل؟"، فإذا قلنا: "بديل سماع الألحان هو سماع القرآن"، فيقول: "لا، سماع القرآن ثقيل على النفس، أما سماع الألحان خفيف ولذيذ ومطرب، فليس هذا من هذا"، فنقول: "ما هو إلا الهوى والله"، وإلا فقل أيضاً: "إن الزنا له لذة، وعندما يزني بعشرات النسوة ليس كهذه الزوجة التي قد صارت مملة". فنقول: "قد لبت الشريعة ذلك بالتعدد والتسري وملك اليمين، وكون الحرام له لذة من تزيين إبليس لا يعني أن الزواج ليس بديلاً؛ لكن يعني أن الفطرة قد أصبحت منتكسة، فالبديل الذي يلبي حاجة النفس موجود في الشريعة، لكن البديل الذي يلبي هوى النفس دائماً هذا الذي يريده هؤلاء العصاة". فنقول: "هذا البديل موجود في الجنة، سماع غناء الحور العين، سماع غناء النساء في الجنة، ولبس الحرير والذهب لك في الجنة، فإن العوض سيأتي بعد قليل، اصبر: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].
وعندما يقول بعض الناس: "نريد أن نُؤَمِّن؛ لأن التأمين قد صار حاجة، والحوادث قد كثرت، فنحن مضطرون للتأمين ولا يوجد له بديل". نقول: "إن التأمين التعاوني هو البديل، وهو أن يدفع هؤلاء المشتركون مبالغ توضع في صندوق يستثمر أو لا يستثمر، ويتراضون بينهم على أن يعوض من أصيب من هذا الصندوق التعاوني، ولا يكون هذا المال في الصندوق ملكاً لشركة أو لطرف ثالثٍ يأخذه لنفسه ثم يعطيك إذا حصل لك، ويضيع مالك إذا لم يحصل لك كما هو التأمين المحرم، وهذا هو الميسر والقمار بعينه. فإذا وجد التأمين التعاوني بتعاون المسلمين فالحمد لله، وإذا لم يوجد البديل بسبب تقصير المسلمين فما هو الحل وما هو المخرج؟ الجواب: لا بد من الصبر حينئذٍ على هذا البلاء، ووفر نقودك واشتراكاتك في شركة التأمين حتى إذا حصل لك شيء تأخذ من الرصيد، وربما تكتشف أنك كنت على ربح عظيم، فإذا لم يوجد بديل من جراء تقصير المسلمين، فلا بد أن نصبر ولا نقول: نحن مضطرون لارتكاب الحرام. إن الاضطرار موضعه عندما يكره الشخص على الشيء، ولا بد له منه ولا مخرج له إلا به، ولا مندوحة عنه لديه، ولا يستطيع أن يترك القضية ولا أن يتلافاها، ويجبر عليها من الخارج، فهذه المسألة مسألة اضطرار، والله سبحانه وتعالى لا يؤاخذ عليها، كما لو كان في بلد يمنع من القيادة فيه إلا بالتأمين ويكره على ذلك، فهذه مسألة اضطرار، أما أن يختار التأمين اختياراً فليس باضطرار، ولابد أن يصبر ويؤمن بقضاء الله وقدره، ويتوكل على الله عز وجل، وإذا حصل شيء كان الرضا بالمكتوب هو المفروض أن يقع، أما أن يقال: نحتاط بالتأمين المحرم، فلا وألف لا أيها الإخوة، إن وجد الحلال أخذنا به والحمد لله، وإن لم يوجد صبرنا".
التذرع بالمشقة والتعب:
بعض الناس يقولون في سبب عدم التنفيذ: إن الحكم فيه مشقة وتعب، سواء كان فعل واجب أو ترك محرم. وهل يظن هذا أن الجنة رخيصة، وأن طريقها مفروش ومعبد وميسور لا مشقة فيه ولا عوائق؟... إذًا كيف ستحصل المجاهدة، والجهاد إنما هو جهاد النفس أولاً؟، كيف سيحصل جهاد النفس المؤدي إلى الجنة والذي يتفاوت الناس فيه، فيتفاوتون في مراتب الجنة؟، كيف سيحصل الجهاد إذا لم توجد مشقات في الأحكام؟، كيف ستحصل المجاهدة إذا لم توجد مشقة في صلاة الفجر تُبيِّن الطائع من العاصي، والمجاهد من غير المجاهد؟، أليست هي حجة المنافقين بعينها: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً} [التوبة:42]، لو كانت القضية مريحة، وغنيمة سهلة، وسفراً قصيراً {لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة: 42]، المسافة من المدينة إلى تبوك طويلة، والعدو الروم وليست قبيلة من قبائل العرب؛ ولكن الروم!!... {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة: 42]، ولذلك تخلفوا عن الذهاب لأجل المشقة، وكانت غزوة تبوك في حر شديد لذا تناصحوا بقولهم: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة: 81]، فبماذا أجابهم الله؟ {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81]. إذاً: لابد أن يكون في التكاليف مشقة، ولكن من رحمة الله أنه جعل المشقة محتملة في التكاليف، فلا تقول: أنا لا أستطيع أن أقوم لصلاة الفجر، لا. بل تستطيع، فأنت عندما لا تستطيع تنفيذ الحكم يسقطه عنك الشارع ولا يطالبك به، ولا يقول للمريض الذي لا يستطيع القيام: صلِّ قائماً، وإنما يقول له: فإن لم تستطع فصل قاعداً، هذه شريعة من الله وليست دساتير وضعية من البشر.
وبعض الناس يتعللون بعدم تنفيذ الأحكام الشرعية بأن الجو الاجتماعي والوظيفي المحيط بالشخص لا يساعد، وهذه حجة سخيفة؛ لأن معنى ذلك: أنه يُقَدم الناس على الله، وأنه يطيع الناس ويعصي الله، وأنه يرضي الناس بسخط الله، هذا معنى كلمة: الجو الاجتماعي المحيط لا يساعد على ترك هذا المنكر، والناس من حولي لا يعينونني على أداء الواجب، هذا معناه: أنه أرضى الناس بسخط الله، هذا معناه نوع من النفاق، وضعف في الإيمان، وتخاذل ومحبة للناس فوق محبة الله.
التذرع بالصعوبات والمشكلات:
وهذا يقودنا إلى نقطة أخرى هي: أن بعض الناس مستعد لتنفيذ الأحكام الشرعية ما دام لا يتعرض للمشكلات، فإذا تعرض للصعوبات والمشكلات امتنع عن التنفيذ؛ لأنه غير مستعد للتضحية في سبيل الله، وغير مستعد أن يواجه صعوبة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11] أي: حافة، {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج: 11] قال: هذه شريعة حسنة وهذا دين عظيم، وهذه أحكام بليغة: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} [الحج: 11]، ماذا يفعل إن أصابته مصيبة وشدة؟، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج: 11]، ارتد وانتكس وتولى وأعرض، ولم ينفذ الحكم، وعصى الله ورسوله: {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11].
ومما يتعلق بهذا السبب أيضاً خوف الاضطهاد: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]، وهذه الآية العظيمة تبين لنا مبدأً عظيماً، وهو: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]، ما مسه في الدنيا من سخرية، أو كلمات جارحة، أو شيء من المقاطعة أو الهجر، جعلها كعذاب الله في الآخرة، ورضخ، وأعطاهم ما يريدون، ووافقهم على معصيتهم، أما الاضطهاد الذي يكره الإنسان فإن الله لا يؤاخذ على ترك الحكم فيمن هذا حاله. وهذا الذي حصل للمسلمين بـمكة ، كان الرجل يضرب حتى لا يستطيع أن يستوي قاعداً من شدة ألم الضرب، ولا بد أن يستلقي طيلة الوقت، حتى يقولوا له: هذا الجعل إلهك، وهذا الخنفس إلهك فيقول: نعم! من شدة الضر الذي نزل به، لكن هؤلاء أكرهوا وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، ولذلك عذرهم الله تعالى واستثناهم، وقال في شأنهم: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106]، ولكن المصيبة: {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106] أي: قَبِل الكفر ورضي به، فعندما تصل المسألة إلى أذىً لا يطيقه البشر، ولا يطيقه الشخص كالضرب الشديد، والسجن الطويل، والتعذيب المؤلم، عند ذلك إذا ترك الحكم في الظاهر وقلبه مطمئن بالإيمان فعند ذلك لا حرج عليه لو تكلم بما يريدون، أما أن يترك الإنسان حكماً شرعياً لكلمة أو سخرية أو استهزاء فهذه سخافة؛ لأن هذا طريق الأنبياء، وبماذا كان الأنبياء يقابلون الاستهزاء والسخرية؟... إذاً لا يجوز مطلقاً أن نترك الأحكام لمثل هذه الأسباب الواهية التي يضخمها الشيطان ليقنعنا بأننا معذورون في ترك الحكم الشرعي. ونحن في زمن فتنة، والقابض على دينه كالقابض على الجمر، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقوي إيماننا، وأن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، اللهم ارزقنا اليقين، وتب علينا إنك أنت أرحم الراحمين، اللهم لا تؤاخذنا بما فعلنا واغفر لنا أجمعين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
التذرع بضغط الزوجة والأولاد:
الحمد لله رب العالمين؛ ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله النبي الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من اتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: ومما يتعلل به كثير من الناس في مسألة عدم تنفيذ الأحكام الشرعية، وبالذات في قضية إخراج المنكرات من البيوت: عدم الصبر على ضغط الزوجة والأولاد. فهم يتذرعون في عدم إخراج آلات اللهو، وصحون الاستقبال التي تسمم البيت، وتدخل الدياثة فيها؛ بأنهم لا يقوون على احتمال ضغط الزوجة والأولاد، وهذه ذريعة سخيفة أيضاً. وقدر يا عبد الله، ماذا ستجيب الله يوم القيامة عندما يسألك عما استرعاك، وعن هذا المنكر الذي أدخلته بيتك، فهل ستقول له يوم القيامة: ضغط الزوجة والأولاد؟، وهل يقبل الله مثل هذا العذر؟ ألم يقل لك في كتابه: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]، هل قال لك: طاوعوهم؟!، هل قال: وافقوهم؟!، هل قال: أعطوهم مطلبهم؟!، هل قال: أعطوهم ما يشتهون، وأدخلوا لهم ما يريدون؟!، أم قال: {فَاحْذَرُوهُمْ}؟!، هذا هو الوقت الذي يجب عليك أن تطبق فيه قول الله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، الناس هم شعلة النار، هم حطبها، هم وقودها وجمرها: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [سورة التحريم: 6].. {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77]. هذه حيلة، وهذا عذر غير مقبول، والواجب الآن دعوة الزوجة والأولاد وتربيتهم والاهتمام بهم؛ فإذا وجدت مجالات مباحة للترفيه -وهذه عبارة صارت في عصرنا خطيرة جداً، ولها أبعاد كثيرة (صناعة الترفيه في العالم)- وألعاب وتسليات مباحة فعند ذلك يكون البديل لهذه الأشياء المحرمة، وهناك أشياء كثيرة مباحة والحمد لله.
التذرع باختلاف المفتين:
وبعض الناس يعتذرون عن عدم الالتزام بالحكم الشرعي بتضارب الفتاوى واختلاف المفتين، ويقولون: لكن فلاناً يقول: هي حلال، لقد احترنا، نسمع من هنا أنه حرام، ومن هنا أنه حلال، ونحن في سعة ما دام هناك من يقول بالإباحة. نعم. إذا كان إبليس يقول بالإباحة؛ فهناك دائماً من يقول بالإباحة في أي محرم، وهناك من هو متساهل ومفرط، وهناك من يفتي بشبهة في الفتوى، يقول: نوسع على الناس ليدخلوا في الدين، وما هو إلا إدخالهم من باب وإخراجهم من الباب الآخر، هذا معنى التساهل في الفتوى، هؤلاء يحملون أوزارهم يوم القيامة كاملة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم: {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام: 31].. {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 13]، أي: يفترون على الله عز وجل.
والإنسان إذا عرف شخصاً أنه مفرط ومتساهل في الفتوى فبأي حجة عند الله يتبعه. ثم أليس لك عقل؟، أليس عندك ميزان؟، ألا يوجد تفكير في الأمور؟. عندما يأتي مثلاً من يحلل الربا، ويقول: هو حلال، وأنت تعلم لو فكرت بعقلك أن هذا المال الذي تضعه عند المرابي، لو كان مجرد وديعة وأمانة هل يجوز التصرف فيها؟ هل يجوز للمرابي الذي يأخذ المال الذي عنده أو يتصرف في الوديعة والأمانة، هو يتصرف ويستثمر فيها ويعمل إذاً فهو قرض، وليس أمانة ولا وديعة، وكلامه هذا كذب وحيلة واحتيال، والمال إنما هو قرض بدليل أن الأمانة لا يجوز التصرف فيها، وهذا يتصرف في المال. ثم الوديعة لو تلفت بغير تفريط من المستأمن فإنه لا يضمن في الشريعة، ويقول: احترقت مع بيتي، لكن هذا المرابي يضمن المال لو سرق ولو احترق مكانه؛ لأنه أخذه قرضاً لا وديعة، فأنت تعلم أنه قرض، ثم تأخذ عليه زيادة.. فماذا يكون؟ لا يكون إلا ربا. فلو جاء مائة وألف من المفتين وأصحاب العمائم، وأقسموا بالله جهد أيمانهم، وأنهم يتحملون المسئولية أمام الله عن هذه الفتوى وقالوا: إنه حلال، فماذا تفعل وقد عرفت الحكم؟، لو جاء من هؤلاء الأئمة المضلين من قال: إن الغناء مباح، والموسيقى إذا كانت ليست بصاخبة وكانت هادئة فهي حلال، وأنت تعلم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي سمعته مراراً وتكراراً عن أناس أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يستحلون -أي: يأخذون الحرام فيجعلونه حلالاً- الحر يعني: الزنا، والحرير: المحرم على الرجال، والمعازف، وما هي المعازف؟ أليست الأورج والبيانو، والقانون والكمنجا، والعود والطبل، أليست هي المعازف؟!، فلماذا نلف وندور؟!... أليس الشارع قد حرمها بالكلية، وما استثنى منها إلا الدف فقط للنساء في الأعراس والأعياد؟. ثم ألم تسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح: «صوتان ملعونان»، وذكر منهما مزمار عند نعمة، والملعون هل يكون مكروهاً أو مباحاً؟ الملعون لا يكون إلا محرماً، فهل تقول بعد ذلك إن المزمار مباح؟ وعندما يأتي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الكوبة) والكوبة هي: الطبل، فعندما نعلم يقيناً أيها الإخوة الحكم الشرعي والأدلة فهل بعد ذلك إذا قال فلان وفلان من الناس؛ مهما كان ارتفاع عمامته؛ وطول لحيته، وشهرته؛ إذا قال إنها مباحة فهل نسمع له ونطيع؟ وهل نقول: إن المسألة فيها اختلاف، وإنه يسعنا أن نأخذ بما نريد من أقوال المفتين وكلٌ على خير؟ ما هذا اللعب؟!... {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 -14]، هذا دين ليس بلعب.
ولذلك أيها الإخوة، لو تعارض عندك أقوال المفتين، فإذا علمت بالدليل الصحيح والحكم الشرعي فلا يسعك أن تتركه ولا أن تخالفه إلى قول أحد كائناً من كان، لأنك تطيع الله ورسوله؛ لا فلان وفلان، فإذا جاء الحكم عن الله ورسوله فعلى الرأس والعين، لابد أن نقبل به ولو قال من قال بذلك، قد يكون مجرماً منافقاً مضلاً، وقد يكون مسكيناً فمن قلة عمله والشبهة التي عنده قال بذلك. أيها الإخوة! إن التذرع باختلاف المفتين في أن ننتقي ما نريد بأهوائنا مدخل شيطاني، لكن عندما تسمع أقوالاً ولا تعرف أدلة ولا تعرف حكم الله ورسوله، وليس عندك حجة ولا بينة، ماذا تفعل؟ تقلد الأعلم، هذا هو المطلوب منك كعامي من عامة الناس أن تقلد الأعلم، إذا لم تكن طالب علم تحسن البحث وتنظر في الأدلة فتقلد الأعلم من العلماء، وقلنا تقلد الأعلم ولم نقل تقلد الأشهر، لأن هذه مصيبة في هذا العصر، أن الناس يقلدون المشهور بسبب شهرته ولا يقلدون الأعلم، وهذه فضيحة جديدة في عالم الإفتاء؛ أن يتجه الناس إلى الأشهر وليس إلى الأعلم، فكم من مشهور أقل علماً ممن هو أقل منه شهرةً.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا الهوى والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إذا أردت فتنةً بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعلِ كلمة الدين، وأقم لواء الجهاد في الأرض يا رب العالمين، اللهم اقمع أهل البدعة والمشركين، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كوسوفا و كشمير وفلسطين، اللهم أنقذ المسلمين من الفيضانات في السودان وبنجلادش إنك على كل شيء قدير، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وإنهم عراة فاكسهم، وجياع فأطعمهم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.
الشيخ/ محمد بن صالح المنجد
موقع إسلام ميديا
:regards01::regards01::regards01:
عباد الله، لقد امتاز المنافقون بعلامات وسمات كانت لهم، ومن ذلك سمتان فظيعتان: الأولى: الإعراض عن الحكم الشرعي، وعدم تحكيمه وقبوله والصد عنه. الثانية: العصيان والامتناع عن التنفيذ، والتلكؤ والتباطؤ في العمل بحكم الله ورسوله، وعدم التسليم له والقناعة
مصيبتنا سمعنا وعصينا:
أفرد الله المنافقين بآيات كثيرة، بل سمى سورة باسمهم؛ وما ذاك إلا لعظم خطرهم على المجتمع؛ ولكي يفضحهم أمام الملأ. وقد بين سبحانه أن من أبرز علاماتهم مبدأ: (سمعنا وعصينا) الذي قد ينزلق الكثير فيه وهم لا يشعرون، وذلك من خلال شبهات يردون بها حكم الله وحكم رسوله، وقد ذكر الشيخ بعض ذلك في هذه الخطبة.
أظهر علامات النفاق:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
فيا عباد الله، لقد أُفرد ذكر المنافقين في القرآن الكريم في آيات كثيرة تنبيهاً من الله تعالى على خطرهم، وعلى سوء مبدئهم وعملهم، كما جاء ذلك في مطلع سورة البقرة في آيات فاقت في عددها ذكر المتقين والكافرين، وذلك لخفاء أمر المنافقين، وأيضاً في سور النساء، والتوبة، والنور، والأحزاب، وسورة محمد صلى الله عليه وسلم، كما أُفردت سورة لهم سميت بسورة المنافقين؛ لأجل بيان حال هؤلاء. وخطر النفاق عظيم، ويكفي أن المنافق في الدرك الأسفل من النار تحت الكافر الصريح.
عباد الله، لقد امتاز المنافقون بعلامات وسمات كانت لهم، ومن ذلك سمتان فظيعتان: الأولى: الإعراض عن الحكم الشرعي، وعدم تحكيمه وقبوله والصد عنه. الثانية: العصيان والامتناع عن التنفيذ، والتلكؤ والتباطؤ في العمل بحكم الله ورسوله، وعدم التسليم له والقناعة به، ومن جهة أخرى مبدأ: (سمعنا وعصينا). فهاتان الصفتان الفظيعتان للمنافقين كانتا من أعظم أسباب الخطر.
عدم التسليم لحكم الله:
المسألة الأولى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} [النساء:60-61].
فإذاً: لا يوجد إقرار بحكم الله ورسوله، ولا قناعة به، ولا تسليم له، بل يوجد صد وإعراض عنه، وتحاكم إلى غير شرع الله ورسوله، ولذلك قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي: من الخصومات ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65]، فليس فقط أن يحكموك في ما شجر، وإنما أيضاً لا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضيته، وليس هذا فقط بل: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]، منقادين مذعنين طائعين، مذللين أنفسهم وقلوبهم لحكم الله ورسوله {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور: 48-49]، إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم تولوا وأعرضوا؛ لأنهم لا يسلِّمون بحكم الله ورسوله، لكن إذا كان الحكم لهم في الخصومة وكان الشرع سيحكم لهم، قالوا: لا نريد إلا الشريعة، ثم جاءوا منقادين لأن الحق لهم، ولأنه وافق هواهم، ولأنه في مصلحتهم: {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:49-50] أي: فيظلمهم ويجور عليهم: {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50].
فإذاً: لقد ناقض المنافقون قاعدة الإسلام العظيمة في التسليم لله ورسوله بالحكم، وعدم الاعتراض عليه بعدم قناعتهم به، بل واستبدلوا الشريعة بقوانين الكفر واللجوء إلى الكافر واليهودي والكاهن للحكم بينهم. والمسألة الثانية أيها الإخوة: (مبدأ سمعنا وعصينا) عدم التنفيذ وعدم العمل، قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [النساء: 81]، يظهرون الطاعة، وأبطنوا المخالفة والمعصية: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} [النور: 53] أي: في الجهاد، ويطيعوا أمرك وينفذوا: {قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53]، فقد جربناكم من قبل، وبلوناكم وعرفنا أمركم من التجارب السابقة: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور: 53]، طاعة معروفة في الظاهر أما في الباطن فلا. ولذلك لما وقعت غزوة تبوك تخلفوا وما خرجوا، فقال الله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً} [التوبة: 42]، أي: غنيمة سهلة {وَسَفَراً قَاصِداً} [التوبة: 42]، أي: قريباً ليس ببعيد، {لَاتَّبَعُوكَ} [التوبة:42 ] لكن عصوا. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة: 49]، لقد برروا عدم خروجهم واعتذروا عن الخروج بالأعذار السخيفة، وقال قائلهم: إني أخاف على نفسي من نساء بني الأصفر (الروم): {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49]، أي: سقطوا في الفتنة بعدم خروجهم وتنفيذهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49].
ذرائع المخالفين لحكم الله:
عباد الله، إذا نقلنا المسألة إلى واقعنا، ووقفنا مع أنفسنا وقفة صريحة وصادقة للنناقش: هل نحن ننفذ حكم الله ورسوله فينا أم لا، فماذا سنجد؟، نحن نتعلم أشياء كثيرة: فنسمع في الخطب والأشرطة، ونقرأ في الكتب، ونُوعَظ في المجالس، ونسمع كلاماًَ كثيراً عن الأحكام الشرعية وعن الحلال والحرام، فما هو الموقف إزاء ذلك؟ وهل ننفذ ونسمع ونطيع، أم أننا نسمع ولا نطيع؟ وما هي أسباب عدم التنفيذ؟
التذرع بالجهل وعدم العلم:
قد يقول قائل: إننا لا نعلم، لكن بعد انتشار شيء من التوعية يصعب أن نصدق أن واحداً من هؤلاء لا يعلم، أي: أو ليست لديه أي فكرة عن الحلال والحرام، إنهم من خلال الخطب والدروس وما سمعوه ووعظوا به ونصحوا يعلمون، والأشياء التي لا يعلمون بها إما أنهم معذورون بالجهل فيها، أو أنهم على معصية بعدم تعلمها لإمكانهم تعلمها، فندع هذه المسألة جانباً ولنأخذ ما نعلمه وما اطلعنا على حكمه، وما تبين لنا ونُصحنا به. المعلومات كثرت، لكن أين التطبيق وأين التنفيذ؟
مما يفاجئك به بعض الناس في هذه المسألة أن يقول لك: ليس عندي قناعة بالحكم. فمثل هذا الكلام كيف يزول؟ إنه يزول ببيان الدليل والحكم الشرعي، فإذا بينت المسألة، وقامت الحجة، وذكر الدليل، وسوق كلام أهل العلم، وأورد شبهة ورددت على شبهته؛ فعند ذلك إذا قال لك: غير مقتنعٍ، فإن كلامه بعدم القناعة نفاق واضح لا لبس فيه؛ لأنه يكون حينئذٍ عدم تسليمٍ بحكم الله ورسوله، أوردت له الحكم، وبينته له، وأعطيته كتاباً حول الموضوع، وشرحاً وافياً، وجواباً عن شبهة، ماذا بقي؟ بقيت قضية واحدة لا غير، ليس هناك إلا شيء واحد: نفاق.. عدم تسليم بالحكم الشرعي.. مشاغبة على الحكم الشرعي.
وهذه مسألة يجب أن يصارح فيها الشخص نفسه إذا وقع فيها، إذا تبين له الحكم بالدليل وكلام أهل العلم ثم لم يقتنع؛ فإنه لا يكون إلا منافقاً، وليس هناك احتمال ثانٍ ألبتة، ليس إلا النفاق: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]، أي: أنه لو أقره ولكن على مضض وعن كره للحكم فهو منافق، فكيف إذا ما أقر بذلك؟
التذرع بعدم وجود البديل المباح:
وقد يتذرع بعض الناس في تلكؤهم بعدم تنفيذ الحكم بعدم وجود البديل، ويقولون: "هات البديل؟"، والحمد لله أن الله عز وجل لم يحرم شيئاً إلا وجعل من الحلال من جنسه ما هو أكثر منه ويفوقه، فعندما حرمت الشريعة الخمر أباحت من المشروبات ما لا عد له ولا حصر، وعندما حرمت لبس الحرير على الرجال ولبس الذهب، أباحت لهم من الملابس ما لا حصر له ولا عد، وأباحت خاتم الفضة للرجل مقابل خاتم الذهب المحرم؛ لأن الشارع يعلم حاجة الناس إلى التزين، وعندما حرمت الشريعة الربا أباحت البيوع بأنواعها مما لا حصر له ولا عد من وجوه المكاسب المختلفة، فبدل أن تكسب من الربا جعل لك البيع بأنواعه: المعجل والمؤجل بشروطه، وبيع السلم بشروطه، والمعاوضة، والمعاطاة، والمزاد، والأمانة، ثم من المكاسب: الإجارة، والجعالة، والوكالة بالمقابل وغير ذلك مما تأخذ عليه أجراً. فلما حرمت الشريعة وحرمت وحرمت...؛ جعلت هناك من الحلال من جنسه ما هو أكثر منه ويفوقه. ثم إن البدائل عن سائر الأشياء قد تتوفر في الواقع، وقد لا تتوفر من تقصير المسلمين وليس من قصور الشريعة.
وفي مسألة البديل يشاغب بعض الناس فيقولون في مسألة الموسيقى والألحان مثلاً: "ما هو البديل؟"، فإذا قلنا: "بديل سماع الألحان هو سماع القرآن"، فيقول: "لا، سماع القرآن ثقيل على النفس، أما سماع الألحان خفيف ولذيذ ومطرب، فليس هذا من هذا"، فنقول: "ما هو إلا الهوى والله"، وإلا فقل أيضاً: "إن الزنا له لذة، وعندما يزني بعشرات النسوة ليس كهذه الزوجة التي قد صارت مملة". فنقول: "قد لبت الشريعة ذلك بالتعدد والتسري وملك اليمين، وكون الحرام له لذة من تزيين إبليس لا يعني أن الزواج ليس بديلاً؛ لكن يعني أن الفطرة قد أصبحت منتكسة، فالبديل الذي يلبي حاجة النفس موجود في الشريعة، لكن البديل الذي يلبي هوى النفس دائماً هذا الذي يريده هؤلاء العصاة". فنقول: "هذا البديل موجود في الجنة، سماع غناء الحور العين، سماع غناء النساء في الجنة، ولبس الحرير والذهب لك في الجنة، فإن العوض سيأتي بعد قليل، اصبر: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].
وعندما يقول بعض الناس: "نريد أن نُؤَمِّن؛ لأن التأمين قد صار حاجة، والحوادث قد كثرت، فنحن مضطرون للتأمين ولا يوجد له بديل". نقول: "إن التأمين التعاوني هو البديل، وهو أن يدفع هؤلاء المشتركون مبالغ توضع في صندوق يستثمر أو لا يستثمر، ويتراضون بينهم على أن يعوض من أصيب من هذا الصندوق التعاوني، ولا يكون هذا المال في الصندوق ملكاً لشركة أو لطرف ثالثٍ يأخذه لنفسه ثم يعطيك إذا حصل لك، ويضيع مالك إذا لم يحصل لك كما هو التأمين المحرم، وهذا هو الميسر والقمار بعينه. فإذا وجد التأمين التعاوني بتعاون المسلمين فالحمد لله، وإذا لم يوجد البديل بسبب تقصير المسلمين فما هو الحل وما هو المخرج؟ الجواب: لا بد من الصبر حينئذٍ على هذا البلاء، ووفر نقودك واشتراكاتك في شركة التأمين حتى إذا حصل لك شيء تأخذ من الرصيد، وربما تكتشف أنك كنت على ربح عظيم، فإذا لم يوجد بديل من جراء تقصير المسلمين، فلا بد أن نصبر ولا نقول: نحن مضطرون لارتكاب الحرام. إن الاضطرار موضعه عندما يكره الشخص على الشيء، ولا بد له منه ولا مخرج له إلا به، ولا مندوحة عنه لديه، ولا يستطيع أن يترك القضية ولا أن يتلافاها، ويجبر عليها من الخارج، فهذه المسألة مسألة اضطرار، والله سبحانه وتعالى لا يؤاخذ عليها، كما لو كان في بلد يمنع من القيادة فيه إلا بالتأمين ويكره على ذلك، فهذه مسألة اضطرار، أما أن يختار التأمين اختياراً فليس باضطرار، ولابد أن يصبر ويؤمن بقضاء الله وقدره، ويتوكل على الله عز وجل، وإذا حصل شيء كان الرضا بالمكتوب هو المفروض أن يقع، أما أن يقال: نحتاط بالتأمين المحرم، فلا وألف لا أيها الإخوة، إن وجد الحلال أخذنا به والحمد لله، وإن لم يوجد صبرنا".
التذرع بالمشقة والتعب:
بعض الناس يقولون في سبب عدم التنفيذ: إن الحكم فيه مشقة وتعب، سواء كان فعل واجب أو ترك محرم. وهل يظن هذا أن الجنة رخيصة، وأن طريقها مفروش ومعبد وميسور لا مشقة فيه ولا عوائق؟... إذًا كيف ستحصل المجاهدة، والجهاد إنما هو جهاد النفس أولاً؟، كيف سيحصل جهاد النفس المؤدي إلى الجنة والذي يتفاوت الناس فيه، فيتفاوتون في مراتب الجنة؟، كيف سيحصل الجهاد إذا لم توجد مشقات في الأحكام؟، كيف ستحصل المجاهدة إذا لم توجد مشقة في صلاة الفجر تُبيِّن الطائع من العاصي، والمجاهد من غير المجاهد؟، أليست هي حجة المنافقين بعينها: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً} [التوبة:42]، لو كانت القضية مريحة، وغنيمة سهلة، وسفراً قصيراً {لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة: 42]، المسافة من المدينة إلى تبوك طويلة، والعدو الروم وليست قبيلة من قبائل العرب؛ ولكن الروم!!... {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة: 42]، ولذلك تخلفوا عن الذهاب لأجل المشقة، وكانت غزوة تبوك في حر شديد لذا تناصحوا بقولهم: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة: 81]، فبماذا أجابهم الله؟ {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81]. إذاً: لابد أن يكون في التكاليف مشقة، ولكن من رحمة الله أنه جعل المشقة محتملة في التكاليف، فلا تقول: أنا لا أستطيع أن أقوم لصلاة الفجر، لا. بل تستطيع، فأنت عندما لا تستطيع تنفيذ الحكم يسقطه عنك الشارع ولا يطالبك به، ولا يقول للمريض الذي لا يستطيع القيام: صلِّ قائماً، وإنما يقول له: فإن لم تستطع فصل قاعداً، هذه شريعة من الله وليست دساتير وضعية من البشر.
وبعض الناس يتعللون بعدم تنفيذ الأحكام الشرعية بأن الجو الاجتماعي والوظيفي المحيط بالشخص لا يساعد، وهذه حجة سخيفة؛ لأن معنى ذلك: أنه يُقَدم الناس على الله، وأنه يطيع الناس ويعصي الله، وأنه يرضي الناس بسخط الله، هذا معنى كلمة: الجو الاجتماعي المحيط لا يساعد على ترك هذا المنكر، والناس من حولي لا يعينونني على أداء الواجب، هذا معناه: أنه أرضى الناس بسخط الله، هذا معناه نوع من النفاق، وضعف في الإيمان، وتخاذل ومحبة للناس فوق محبة الله.
التذرع بالصعوبات والمشكلات:
وهذا يقودنا إلى نقطة أخرى هي: أن بعض الناس مستعد لتنفيذ الأحكام الشرعية ما دام لا يتعرض للمشكلات، فإذا تعرض للصعوبات والمشكلات امتنع عن التنفيذ؛ لأنه غير مستعد للتضحية في سبيل الله، وغير مستعد أن يواجه صعوبة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11] أي: حافة، {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج: 11] قال: هذه شريعة حسنة وهذا دين عظيم، وهذه أحكام بليغة: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} [الحج: 11]، ماذا يفعل إن أصابته مصيبة وشدة؟، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج: 11]، ارتد وانتكس وتولى وأعرض، ولم ينفذ الحكم، وعصى الله ورسوله: {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11].
ومما يتعلق بهذا السبب أيضاً خوف الاضطهاد: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]، وهذه الآية العظيمة تبين لنا مبدأً عظيماً، وهو: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]، ما مسه في الدنيا من سخرية، أو كلمات جارحة، أو شيء من المقاطعة أو الهجر، جعلها كعذاب الله في الآخرة، ورضخ، وأعطاهم ما يريدون، ووافقهم على معصيتهم، أما الاضطهاد الذي يكره الإنسان فإن الله لا يؤاخذ على ترك الحكم فيمن هذا حاله. وهذا الذي حصل للمسلمين بـمكة ، كان الرجل يضرب حتى لا يستطيع أن يستوي قاعداً من شدة ألم الضرب، ولا بد أن يستلقي طيلة الوقت، حتى يقولوا له: هذا الجعل إلهك، وهذا الخنفس إلهك فيقول: نعم! من شدة الضر الذي نزل به، لكن هؤلاء أكرهوا وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، ولذلك عذرهم الله تعالى واستثناهم، وقال في شأنهم: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106]، ولكن المصيبة: {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106] أي: قَبِل الكفر ورضي به، فعندما تصل المسألة إلى أذىً لا يطيقه البشر، ولا يطيقه الشخص كالضرب الشديد، والسجن الطويل، والتعذيب المؤلم، عند ذلك إذا ترك الحكم في الظاهر وقلبه مطمئن بالإيمان فعند ذلك لا حرج عليه لو تكلم بما يريدون، أما أن يترك الإنسان حكماً شرعياً لكلمة أو سخرية أو استهزاء فهذه سخافة؛ لأن هذا طريق الأنبياء، وبماذا كان الأنبياء يقابلون الاستهزاء والسخرية؟... إذاً لا يجوز مطلقاً أن نترك الأحكام لمثل هذه الأسباب الواهية التي يضخمها الشيطان ليقنعنا بأننا معذورون في ترك الحكم الشرعي. ونحن في زمن فتنة، والقابض على دينه كالقابض على الجمر، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقوي إيماننا، وأن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، اللهم ارزقنا اليقين، وتب علينا إنك أنت أرحم الراحمين، اللهم لا تؤاخذنا بما فعلنا واغفر لنا أجمعين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
التذرع بضغط الزوجة والأولاد:
الحمد لله رب العالمين؛ ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله النبي الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من اتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: ومما يتعلل به كثير من الناس في مسألة عدم تنفيذ الأحكام الشرعية، وبالذات في قضية إخراج المنكرات من البيوت: عدم الصبر على ضغط الزوجة والأولاد. فهم يتذرعون في عدم إخراج آلات اللهو، وصحون الاستقبال التي تسمم البيت، وتدخل الدياثة فيها؛ بأنهم لا يقوون على احتمال ضغط الزوجة والأولاد، وهذه ذريعة سخيفة أيضاً. وقدر يا عبد الله، ماذا ستجيب الله يوم القيامة عندما يسألك عما استرعاك، وعن هذا المنكر الذي أدخلته بيتك، فهل ستقول له يوم القيامة: ضغط الزوجة والأولاد؟، وهل يقبل الله مثل هذا العذر؟ ألم يقل لك في كتابه: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]، هل قال لك: طاوعوهم؟!، هل قال: وافقوهم؟!، هل قال: أعطوهم مطلبهم؟!، هل قال: أعطوهم ما يشتهون، وأدخلوا لهم ما يريدون؟!، أم قال: {فَاحْذَرُوهُمْ}؟!، هذا هو الوقت الذي يجب عليك أن تطبق فيه قول الله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، الناس هم شعلة النار، هم حطبها، هم وقودها وجمرها: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [سورة التحريم: 6].. {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77]. هذه حيلة، وهذا عذر غير مقبول، والواجب الآن دعوة الزوجة والأولاد وتربيتهم والاهتمام بهم؛ فإذا وجدت مجالات مباحة للترفيه -وهذه عبارة صارت في عصرنا خطيرة جداً، ولها أبعاد كثيرة (صناعة الترفيه في العالم)- وألعاب وتسليات مباحة فعند ذلك يكون البديل لهذه الأشياء المحرمة، وهناك أشياء كثيرة مباحة والحمد لله.
التذرع باختلاف المفتين:
وبعض الناس يعتذرون عن عدم الالتزام بالحكم الشرعي بتضارب الفتاوى واختلاف المفتين، ويقولون: لكن فلاناً يقول: هي حلال، لقد احترنا، نسمع من هنا أنه حرام، ومن هنا أنه حلال، ونحن في سعة ما دام هناك من يقول بالإباحة. نعم. إذا كان إبليس يقول بالإباحة؛ فهناك دائماً من يقول بالإباحة في أي محرم، وهناك من هو متساهل ومفرط، وهناك من يفتي بشبهة في الفتوى، يقول: نوسع على الناس ليدخلوا في الدين، وما هو إلا إدخالهم من باب وإخراجهم من الباب الآخر، هذا معنى التساهل في الفتوى، هؤلاء يحملون أوزارهم يوم القيامة كاملة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم: {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام: 31].. {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 13]، أي: يفترون على الله عز وجل.
والإنسان إذا عرف شخصاً أنه مفرط ومتساهل في الفتوى فبأي حجة عند الله يتبعه. ثم أليس لك عقل؟، أليس عندك ميزان؟، ألا يوجد تفكير في الأمور؟. عندما يأتي مثلاً من يحلل الربا، ويقول: هو حلال، وأنت تعلم لو فكرت بعقلك أن هذا المال الذي تضعه عند المرابي، لو كان مجرد وديعة وأمانة هل يجوز التصرف فيها؟ هل يجوز للمرابي الذي يأخذ المال الذي عنده أو يتصرف في الوديعة والأمانة، هو يتصرف ويستثمر فيها ويعمل إذاً فهو قرض، وليس أمانة ولا وديعة، وكلامه هذا كذب وحيلة واحتيال، والمال إنما هو قرض بدليل أن الأمانة لا يجوز التصرف فيها، وهذا يتصرف في المال. ثم الوديعة لو تلفت بغير تفريط من المستأمن فإنه لا يضمن في الشريعة، ويقول: احترقت مع بيتي، لكن هذا المرابي يضمن المال لو سرق ولو احترق مكانه؛ لأنه أخذه قرضاً لا وديعة، فأنت تعلم أنه قرض، ثم تأخذ عليه زيادة.. فماذا يكون؟ لا يكون إلا ربا. فلو جاء مائة وألف من المفتين وأصحاب العمائم، وأقسموا بالله جهد أيمانهم، وأنهم يتحملون المسئولية أمام الله عن هذه الفتوى وقالوا: إنه حلال، فماذا تفعل وقد عرفت الحكم؟، لو جاء من هؤلاء الأئمة المضلين من قال: إن الغناء مباح، والموسيقى إذا كانت ليست بصاخبة وكانت هادئة فهي حلال، وأنت تعلم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي سمعته مراراً وتكراراً عن أناس أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يستحلون -أي: يأخذون الحرام فيجعلونه حلالاً- الحر يعني: الزنا، والحرير: المحرم على الرجال، والمعازف، وما هي المعازف؟ أليست الأورج والبيانو، والقانون والكمنجا، والعود والطبل، أليست هي المعازف؟!، فلماذا نلف وندور؟!... أليس الشارع قد حرمها بالكلية، وما استثنى منها إلا الدف فقط للنساء في الأعراس والأعياد؟. ثم ألم تسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح: «صوتان ملعونان»، وذكر منهما مزمار عند نعمة، والملعون هل يكون مكروهاً أو مباحاً؟ الملعون لا يكون إلا محرماً، فهل تقول بعد ذلك إن المزمار مباح؟ وعندما يأتي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الكوبة) والكوبة هي: الطبل، فعندما نعلم يقيناً أيها الإخوة الحكم الشرعي والأدلة فهل بعد ذلك إذا قال فلان وفلان من الناس؛ مهما كان ارتفاع عمامته؛ وطول لحيته، وشهرته؛ إذا قال إنها مباحة فهل نسمع له ونطيع؟ وهل نقول: إن المسألة فيها اختلاف، وإنه يسعنا أن نأخذ بما نريد من أقوال المفتين وكلٌ على خير؟ ما هذا اللعب؟!... {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 -14]، هذا دين ليس بلعب.
ولذلك أيها الإخوة، لو تعارض عندك أقوال المفتين، فإذا علمت بالدليل الصحيح والحكم الشرعي فلا يسعك أن تتركه ولا أن تخالفه إلى قول أحد كائناً من كان، لأنك تطيع الله ورسوله؛ لا فلان وفلان، فإذا جاء الحكم عن الله ورسوله فعلى الرأس والعين، لابد أن نقبل به ولو قال من قال بذلك، قد يكون مجرماً منافقاً مضلاً، وقد يكون مسكيناً فمن قلة عمله والشبهة التي عنده قال بذلك. أيها الإخوة! إن التذرع باختلاف المفتين في أن ننتقي ما نريد بأهوائنا مدخل شيطاني، لكن عندما تسمع أقوالاً ولا تعرف أدلة ولا تعرف حكم الله ورسوله، وليس عندك حجة ولا بينة، ماذا تفعل؟ تقلد الأعلم، هذا هو المطلوب منك كعامي من عامة الناس أن تقلد الأعلم، إذا لم تكن طالب علم تحسن البحث وتنظر في الأدلة فتقلد الأعلم من العلماء، وقلنا تقلد الأعلم ولم نقل تقلد الأشهر، لأن هذه مصيبة في هذا العصر، أن الناس يقلدون المشهور بسبب شهرته ولا يقلدون الأعلم، وهذه فضيحة جديدة في عالم الإفتاء؛ أن يتجه الناس إلى الأشهر وليس إلى الأعلم، فكم من مشهور أقل علماً ممن هو أقل منه شهرةً.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا الهوى والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إذا أردت فتنةً بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعلِ كلمة الدين، وأقم لواء الجهاد في الأرض يا رب العالمين، اللهم اقمع أهل البدعة والمشركين، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كوسوفا و كشمير وفلسطين، اللهم أنقذ المسلمين من الفيضانات في السودان وبنجلادش إنك على كل شيء قدير، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وإنهم عراة فاكسهم، وجياع فأطعمهم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.
الشيخ/ محمد بن صالح المنجد
موقع إسلام ميديا
:regards01::regards01::regards01: