تصنيف نستعرض فيه بعض الأحداث والقصص التاريخية التي اشتهرت على ألسنة الناس وألفتها أسماعهم بل ربما ترد في بعض الكتابات التاريخية، ولكنها عند البحث يكتشف أنها ليست من الحقيقة في شيء بل هي من خيال القصاصين أو من وضع الوضاعين.
حقيقة الوحشة بين صلاح الدين ونور الدين
تحدث المؤرخون عن علاقة نور الدين زنكي بصلاح الدين، فقد روى ابن الأثير وذكر أبو شامة نقلًا عن أبن أبي طي أسباب الوحشة بين نورالدين وصلاح الدين التي ابتدأت سنة 567هـ، وذلك عندما اتفقا على حصار الكرك ورجع صلاح الدين الأيوبي إلى مصر، قبل أن يلتقي بنور الدين، وأخذ عن ابن الأثير وابن أبي طي عدد من المؤرخين، وتبعهم بعض المؤلفين المعاصرين دون تمحيص، وغالوا في تعليلاتهم وتفسيراتهم لأسباب الوحشية ونتائجها، فوصفوا العلاقة بين نور الدين وصلاح الدين وكأنها علاقة عدائية، ومن ذلك أن كل واحد منهما كان يخاف صاحبه وأن صلاح الدين أصبح يسعى للتخلص من سيادة نور الدين ويحبذ أن تظل منطقة الكرك فاصلًا بينه وبين نور الدين، ونور الدين فكر في أنه أخطأ في إنفاذ أسد الدين شيركوه وصلاح الدين إلى مصر، ووصف نور الدين بأنه خصم خطير لصلاح الدين إلى ما ذلك. فما حقيقة الوحشة بين صلاح الدين ونور الدين؟
نقول: إن هذه التصورات الباطلة لا أصل لها إلا عند ابن أبي طيء وابن الأثير:
فأما ابن أبي طي: فقد حاول بما أتقنه من الدس والكذب أن يطعن في العلاقة بين الرجلين وهو متهم فيما ينسبه إلى نور الدين مما لا يليق به، فإن نور الدين كان قد أَذَلَّ الشيعة بحلب، وأبطل شعارهم وقوَّى أهل السنة، وكان والد ابن أبي طيّ كثير التحامل على نور الدين ويحاول أن يلطخ العلاقة بين الرجلين العظيمين بأكاذيبه النتنة.
وأما ابن الأثير: فهو متهم فيما يكتبه عن صلاح الدين، فهو يلتمس المناسبات أحيانًا لنقد صلاح الدين وتجريحه وخاصة عند المقارنة بينه وبين نور الدين، فمؤرخ البيت الزنكي في كتابيه "الكامل في التاريخ" و"الباهر في تاريخ الدولة الأتابكية" قد ذكر الآراء في كتابيه والتي نقلها عنه عدد من المؤرخين، وفحواها أن صلاح الدين لم يكن وفيًا لأستاذه نور الدين، بل كان يجتهد منُذ استقرار نفوذه في مصر إلى الاستقلال عنه، ومزاحمته السيادة السياسية ببلاد الشام. فكل هذه الآراء كتبها ابن الأثير بعد وفاة صلاح الدين.
واضطرار صلاح الدين إلى الخروج على رأس عساكره إلى بلاد الشام، وضم ممتلكات أستاذه نور الدين بها إلى ممتلكاته بمصر إذ أن خروج صلاح الدين إلى الشام كان من أجل إعادة الجبهة الإسلامية الموحدة، التي كان عماد الدين زنكي ثم ابنه نور الدين قد أجهد نفسيهما طويلًا في تكوينها، وكانت بعد وفاة نور الدين على وشك أن تنفصم وترجع الأوضاع إلى ما كانت عليه سابقًا من سوء وتشرذم وضعف، بعد انقسام البيت الزنكي، حزب في دمشق وحزب في حلب، ولم يستطع ابنه الطفل الصالح إسماعيل إعادة توحيد مملكة والده، ولقد كتب صلاح الدين إلى الخليفة العباسي، وإلى ابن نور الدين يخبره أن خروجه للشام، هو لتوحيد كلمة المسلمين ضد الفرنج.
وأغلب الظن أن هذه الأقوال التي رددها ابن الأثير، ونقلها عنه بعض المؤرخين بخصوص عدم ولاء صلاح الدين للبيت الزنكي، والروايات التي قيلت حول هذا الموضوع، قد صاغها المؤرخون وعلى رأسهم ابن الأثير لتعليل مسلك صلاح الدين بعد وفاة نور الدين وكان وراءها ولاء ابن الأثير للبيت الزنكي، ثم عدم تعاطفه مع صلاح الدين، الذي قضى على هذا البيت وممتلكاته من ناحية أخرى خاصة، وقد لاحظ المؤرخون المحدثون أن ابن الأثير قد تحامل على صلاح الدين في تاريخه الكامل والباهر، وتلمس له مواضع الزلل، وأسباب الخطأ.
نقد الشبهات المثارة:
وفي الحقيقة أن صلاح الدين كان نعم الجندي في السمع والطاعة لقائده نور الدين زنكي، وإليك الأدلة على ذلك:
1- قال العماد الأصفهاني أن صلاح الدين كان: لا يخرج عن أمر نور الدين، ويعمل له عمل القوي الأمين ويرجع في جميع مصالحه إلى رأيه المتين.
2- وأما أبو شامة، فقد عمد إلى تفنيد اتهامات ابن الأثير لصلاح الدين بخصوص خروجه عن طاعة نور الدين، وفي رأي أبي شامة أن نور الدين لم ينتقد على صلاح الدين إلا إسرافه في تفريق الأموال وصرفها واستبداده بذلك من غير مشاروته، ويؤكد أبو شامة رأيه بوثيقة وقف عليها بنفسه، بخط نور الدين، يقرر فيها للقاضي شرف الدين بن أبي عصرون، الذي تولى القضاء له بالشام ثم لصلاح الدين بمصر، إعجابه الشديد بما قام به صلاح الدين من نصرة المذهب السني بمصر، والقضاء على الدولة العبيدية الفاطمية والمذهب الشيعي، ويطلب من أبي عصرون مساندة صلاح الدين في هذا الأمر الجلل.
3- والواقع أن جميع الخطوات الحاسمة التي اتخذها صلاح الدين لإسقاط الدولة الفاطمية بمصر والقضاء على الدعوة الإسماعيلية بها، جاءت بأمر مباشر من نور الدين،، ولم تتم إلا بعد أن وصل نجم الدين أيوب والد صلاح الدين من طرف نور الدين إلى مصر، ليشرف بنفسه ويساعد ابنه للقضاء على الدعوة الشيعية الإسماعيلية.
4- وليس أدل على التبعية الكاملة لصلاح الدين الأيوبي تجاه نورالدين وكونه نائبًا عنه في حكم مصر من كونه كان يخطب له على المنابر في أرجاء الدولة الفاطمية إبان وزارته للخليفة الفاطمي العاضد، وإثر نقل الخطبة للعباسيين كان الخطيب بمصر وأعمالها يدعو لنور الدين بعد الخليفة، وقُرِّرت السكة باسم المستضيء بأمر الله وباسم الملك العادل نور الدين فنُقش اسم كل منهم في وجه.
5- وكان مجيء ابن القيسراني وزير نور الدين إلى مصر سنة (568 - 569هـ) لكشف البلاد وارتفاعها ومراجعة حساباتها لتقرير القطيعة أو الوظيفة السنوية التي يدفعها صلاح الدين لنور الدين، أمرًا طبيعيًا يؤكد تبعية مصر لنور الدين.
6- لقد أدركت الخلافة العباسية هذه الحقيقة الجوهرية، فميزت بوضوح بين الخِلع الخليفية لنور الدين وبين الخِلَع الخليفية لصلاح الدين وجَعلت خِلع صلاح الدين أقل من خلع نور الدين، في حين قلّدت نور الدين بالسيفين، إشارة إلى تقليده لقطري الشام ومصر، وفي نفس الوقت أرسل نور الدين من قبله خلع سيّرها من بلاد الشام إلى صلاح الدين وأهله وأمرائه بمصر، وتأكيدًا لتبعيتهم المباشرة له.
7- كان صلاح الدين يراعي التأدّب في رسوم الملك، فلا يساوي نفسه بسيده نور الدين، فقد أرسل الرُّسل من القاهرةإلى نور الدين لتخبره بلبس صلاح الدين للخلع وباستجابة صلاح الدين على مداومة إرسال ما قُرَّر عليه من مال إلى نور الدين في كل سنة.
8- وإذا كانت جميع الإجراءات التي اتخذها صلاح الدين لإسقاط الخلافة الفاطمية والخطبة لبني العباس والقضاء على الدعو الإسماعيلية بمصر قد تمَّت بتوجيه مباشر من نور الدين وبعد إرساله لنجم الدين والد صلاح الدين فإن ضمَّ صلاح الدين لليمن تّم بإذن نور الدين للقضاء على الدعوة الشيعية الإسماعيلية هناك وضم اليمن لجبهة المقاومة، بحيث أرسل نور الدين هذه الباشرة بنفسه للخليفة العباسي، وكذلك في ضم المغرب الأدنى وغزو مملكة النوبة وبشر الخليفة العباسي بقرب فتح القسطنطينية وبيت المقدس. فقد كتب نور الدين إلى الخليفة العباسي: "وقسطنطينية والقدس يجريان إلى أمَد الفتوح في مضمار المنافسة، والله تعالى بكرمه يدنى قطاف الفاتحين لأهل الإسلام ويوفق الخادم لحيازة مراضي الإمام، ومن جملة حسنات هذه الأيام الزاهرة، ما تيسر في هذه النَوْبَة من افتتاح بعض بلاد النُوبَة، والوصول إلى مواضع منها، لم تَطرُقها سنابك الخيل الإسلامية في العصور الحالية، وكذلك استولى عساكر مصر أيضًا على برقة وحصونها .. حتى بلغوا إلى حدود المغرب".
9- ومنُذ استقرار صلاح الدين بمصر، حتى وفاة نور الدين داوم صلاح الدين على إرسال تحف القصر العبيدي الفاطمي إلى سيده نور الدين رمزًا للولاء والتبعَّية، وداوم صلاح الدين على إطلاع نور الدين على كل صغيرة وكبيرة داخل مصر، فنجده مثلًا يرسل إليه كتابًا يتضمن ذكر ثورة بقايا الفاطميين والتي كان من ضمنها "عمارة اليمني"، وليس أدلّ على تعاون كل من صلاح الدين ونور الدين من تفاهمها الاستراتيجي في قتال الفرنج؛ فيروي أبو شامة أنه في سنة 568هـ/1172م تولى السلطانان نور الدين في الشام وصلاح الدين من مصر في هذه السنة جهاد الصليبيين، ولقد وصف العماد هذا الحدث بـ "جهاد السُّلطانين للفرنج"، وهذا ما أكَّده صلاح الدين في كتاب له للخليفة العباسي بقوله أنه: "كان انعقد بينه وبين نور الدين رحمه الله، في أن يتجاذبا طرفيَّ الغزاة من مصر والشام، والمملوك (أي صلاح الدين) بعسكره وبّره وبحره، ونور الدين من جانب سهل الشام ووعره".
10- ولقد أبدى صلاح الدين تبعيته لبيت نور الدين حتى بعد وفاته سنة 569هـ/1173م، بحيث خطب صلاح الدين لابنه الصالح إسماعيل، وضرب السكة باسمه، ووافى إرسال الرسائل في العزاء بنور الدين، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول: إنَّه حتى وفاة نور الدين، كانت مصر والشام قد توحدتا تحت زعامة نور الدين، وهذا ما عبر عنه العماد الأصفهاني حين امتدح نور الدين فقال:
بملك مصـــــر أهنىء مالك الأمم *** فثق وأبشر بنصر الله عــن أمم
فملك مصر وملك الشام قد نُظِمَا *** في عقد عز من الإسلام منتظم
وفي كل الأحوال لم تصل علاقة نور الدين بصلاح الدين إلى درجة العداء ولا مسوّغ لاعتبار الاختلاف في الرأي وحشة ونفرة كما يقرر ذلك عدد من المؤرخين والكتاب.
وكل ما هنالك أنّ نور الدين كان يتطلع إلى مصر على أنها مصدر للواردات وسدّ بها نفقات الجهاد ضد الصليبيين في الشام، وأنها مصدر للطاقة البشرية المجاهدة وكان صلاح الدين أكثر معرفة من نور الدين لما يجري في مصر من أخطار ناجمة عن استعداد أنصار الفاطميين للإنضمام إلى الفرنج فوجه اهتمامه إلى بناء جيش قوي، بحيث يستطيع السيطرة على مصر، ورأى أن تثبيت كيان الدولة الجديدة في مصر أولى من الانشغال بمسائل الشام، وهذا يتفق مع ما قاله نور الدين للرسول الذي بعثه صلاح الدين يعتذر عن موقفه من حصار الكرك، حيث قال: "حفظ مصر أهم عندنا من غيرها".
________________________________________
مصدر البحث:
علي الصلابي: عصر الدولة الزنكية، ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين محمود "الشهيد" في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، الناشر: مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة - مصر
الطبعة: الأولى، 1428هـ / 2007م.
مصادر ومراجع البحث:
- ابن الأثير: التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، تحقيق عبد القادر طليمات، طبعة القاهرة 1963م.
- ابن واصل: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، تحقيق د. جمال الدين الشيال.
- أبو شامة: كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى 1418هـ/1997م.
- سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان في تاريخ الأعيان، حيدرآباد الدكن 1951م.
- ابن العديم: زبدة حلب من تاريخ حلب، تحقيق سامي الدهان طبعة دمشق 1954م.
- المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق مصطفى زيادة.
- محمود فايز إبراهيم السرطاوي: نور الدين زنكي في الأدب العربي في عصر الحروب الصليبية، دار البشير، عمّان الأردن، الطبعة الأولى 1411هـ / 1990م.
- السيد عبد العزيز سالم وسحر السيد عبد العزيز سالم: دراسة في تاريخ الأيوبيين والمماليك، مؤسسة شباب الجامعة الإسكندرية طبعة سنة 1999م.
- عباس العزاوي: التعريف بالمؤرخين في عهد المغول والتركمان، طبع ببغداد، 1376هـ/1957م.
- أحمد فؤاد سيد: تاريخ مصر الإسلامية زمن سلاطين بني أيوب، مكتبة مدبولي طبعة 2002م.
من الشبهات المثارة حول أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان قتله حجر بن عدي وأصحابه، والرد على ذلك، فيما يلي:
1- إن حجر بن عدى مختلف في صحبته، والأكثرون على أنه تابعى [*]، قال الحافظ ابن حجر: "وأما البخاري، وابن أبي حاتم، عن أبيه، وخليفة بن خياط، وابن حبان فذكروه في التابعين، وكذا ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة" [1]. وعلى فرض التسليم له بالصحبة فالواجب علينا عدم الخوض فيما شجر بين الصحابة، بل الترحم عليهم، والتصديق بعدالتهم.
2- تحدثت معظم المصادر التاريخية عن مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه بين مختصر في هذا الأمر ومطول كل بحسب ميله، وكان للروايات الشيعية النصيب الأوفر في تضخيم هذا الحدث ووضع الروايات في ذلك؛ وكأنه ليس في أحداث التاريخ الإسلامي حدث غير قصة مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه.
قصة مقتل حجر بن عدي
3- ذكر ابن العربي أن الأصل في قتل الإمام، أنه قَتْلٌ بالحق فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل، ولكن حِجْرًا فيما يقال: "رأى من زياد أمورًا منكرة، حيث أن زياد بن أبيه كان في خلافة علي واليًا من ولاته، وكان حجر بن عدي من أولياء زياد وأنصاره، ولم يكن ينكر عليه شيئًا، فلما صار من ولاة معاوية صار ينكر عليه مدفوعًا بعاطفة التحزب والتشيع، وكان حجر يفعل مثل ذلك مع من تولى الكوفة لمعاوية قبل زياد.
فقام حجر وحصب زياد وهو يخطب على المنبر، حيث أن زياد قد أطال في الخطبة فقام حجر، ونادى: "الصلاة! فمضى زياد في خطبته فحصبه حجر وحصبه آخرون معه وأراد أن يقيم الخلق للفتنة، فكتب زياد إلى معاوية يشكو بغي حجر على أميره في بيت الله، وعدَّ ذلك من الفساد في الأرض، فلمعاوية العذر، وقد كلمته عائشة في أمره حين حج، فقال لها: "دعيني وحجرًا حتى نلتقي عند الله" [2]، وأنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بين يدي الله عز وجل.
قضاء معاوية في قتل حجر بن عدي
4- وأما قضاء معاوية رضي الله عنه في حجر رضي الله عنه وأصحابه، فإنه لم يقتلهم على الفور، ولم يطلب منهم البراءة من علي رضي الله عنه كما تزعم بعض الروايات الشيعية [3]، بل استخار الله سبحانه وتعالى فيهم، واستشار أهل مشورته، ثم كان حكمه فيهم.
والحجة في ذلك ما يرويه صالح بن أحمد بن حنبل بإسناد حسن عن ابن عياش قال: حدثني شرحبيل بن مسلم قال: "لما بُعِث بحجر بن عدي بن الأدبر وأصحابه من العراق إلى معاوية بن أبي سفيان، استشار الناس في قتلهم، فمنهم المشير، ومنهم الساكت. فدخل معاوية منزله، فلما صلى الظهر قام في الناس خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه، ثم جلس على منبره، فقام المنادي فنادى: أين عمرو بن الأسود العنسي، فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "ألا إنا بحصن من الله حصين لم نؤمر بتركه، وقولك يا أمير المؤمنين في أهل العراق ألا وأنت الراعي ونحن الرعية، ألا وأنت أعلمنا بدائهم، وأقدرنا على دوائهم، وإنما علينا أن نقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
فقال معاوية: "أما عمرو بن الأسود فقد تبرأ إلينا من دمائهم، ورمى بها ما بين عيني معاوية". ثم قام المنادي فنادى: أين أبو مسلم الخولاني، فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد فلا والله ما أبغضناك منذ أحببناك، ولا عصيناك منذ أطعناك، ولا فارقناك منذ جامعناك، ولا نكثنا بيعتنا منذ بايعناك، سيوفنا على عواتقنا، إن أمرتنا أطعناك، وإن دعوتنا أجبناك وإن سبقناك نظرناك"، ثم جلس. ثم قام المنادي فقال: أين عبد الله بن مِخْمَر الشرعبي، فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "وقولك يا أمير المؤمنين في هذه العصابة من أهل العراق، إن تعاقبهم فقد أصبت، وإن تعفُ فقد أحسنت".
فقام المنادي فنادى: أين عبد الله بن أسد القسري، فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا أمير المؤمنين، رعيتك وولايتك وأهل طاعتك، إن تعاقبهم فقد جنوا على أنفسهم العقوبة، وإن تعفوا فإن العفو أقرب للتقوى، يا أمير المؤمنين لا تطع فينا من كان غشومًا ظلومًا بالليل نؤومًا، عن عمل الآخرة سؤومًا، يا أمير المؤمنين إن الدنيا قد انخشعت أوتارها، ومالت بها عمادها وأحبها أصحابها، واقترب منها ميعادها"، ثم جلس. فقلت -القائل هو اسماعيل بن عياش- لشرحبيل: فكيف صنع؟ قال: "قتل بعضًا واستحيى بعضًا، وكان فيمن قتل حجر بن عدي بن الأدبر" [4].
5- مما يجدر التذكير به في هذا المقام أن معاوية رضي الله عنه لم يكن ليقضي بقتل حجر بن عدي رضي الله عنه لو أن حجرًا اقتصر في معارضته على الأقوال فقط ولم ينتقل إلى الأفعال.
وقد ذكر ابن سعد ما يدل على أن معاوية أمر بقتل حجر بن عدي رضي الله عنه لما شهد عنده الشهود بأنه ألب على عامله بالعراق، وحصبه وهو على المنبر، وخلع البيعة لمعاوية نفسه، وهو آنذاك أمير المؤمنين [5].
ولعل معاوية رضي الله عنه قد اعتمد في قضائه هذا بقتل حجر بن عدي، على قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ" (رواه مسلم). وفي رواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ" (رواه مسلم). الْهَنَات: جَمْع هَنَة، وَتُطْلَق عَلَى كُلّ شَيْء، وَالْمُرَاد بِهَا هُنَا الْفِتَن وَالْأُمُور الْحَادِثَة.
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث من صحيح مسلم: "فِيهِ الْأَمْر بِقِتَالِ مَنْ خَرَجَ عَلَى الْإِمَام، أَوْ أَرَادَ تَفْرِيق كَلِمَة الْمُسْلِمِينَ وَنَحْو ذَلِكَ، وَيُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ قُوتِلَ، وَإِنْ لَمْ يَنْدَفِع شَرّه إِلَّا بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ كَانَ هَدَرًا".
الشيعة وخذلانهم لحجر بن عدي
6- وفي القصة التي ذكرها ابن سعد ما يدل على أن الشيعة قد ألّبوه على معاوية وعامله، وأن زيادًا والى العراق قد راجعه في ذلك قبل أن يبعث بالشهود إلى معاوية رضي الله عنه فلما علم معاوية من حاله، وشهد عنده الشهود بذلك، أمر بقتله عملًا بنص هذا الحديث، خصوصًا وأن البيعة كانت قد استقرت له، والتأليب عليه مما يضر بالدولة الإسلامية آنذاك.
وقد أمرنا النبي بالسمع والطاعة ولو لعبد حبشي يقيم كتاب الله، فكيف بمن كان من صحابته الذين آزروه ونصروه، وبمن دعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهداية؟!!
إن حجرًا رضي الله عنه زيَّن له شيعة الكوفة هذه المعارضة، فأوردوه حياض الموت بخذلانهم إياه. ولا ننسى موقف شيعة الكوفة مع الحسين رضي الله عنه، حين زينوا له الخروج ثم خذلوه كما خذلوا حجرًا من قبله.
هل قُتل حجر بن عدي بحق أم بظلم ؟
7- إن قيل: قتل حجر بن عدي واختلفنا: فقائل يقول قتله ظلمًا، وقائل يقول قتله حقًا. فإن قيل: الأصل قتله ظلمًا إلا إذا ثبت عليه ما يوجب قتله: قلنا: الأصل أن قتل الإمام بالحق، فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل.
8- إن الذين يرون أن معاوية قتله بحق يقولون: ما من حكومة في الدنيا تعاقب بأقل من ذلك، من يحصب أميره وهو قائم يخطب على المنبر في المسجد الجامع، مندفعًا بعاطفة الحزبية والتشيع. والذين يعارضونهم يذكرون فضائل حجر ويقولون: كان ينبغي لمعاوية أن لا يخرج عن سجيته من الحلم وسعة الصدر لمخالفيه.
ويجيبهم الآخرون بأن معاوية يملك الحلم وسعة الصدر عند البغي عليه في شخصه، فأما البغي على الجماعة في شخص حاكمها وهو على منبر المسجد فهو ما لا يملك معاوية أن يتسامح فيه، ولا سيما في مثل الكوفة التي أخرجت العدد الأكبر من أهل الفتنة الذين بغوا على عثمان رضي الله عنه بسبب مثل هذا التسامح، فكبدوا الأمة من دمائها وسمعتها وسلامة قلوبها ومواقف جهادها تضحيات غالية كانت في غنى عنها لو أن هيبة الدولة حفظت بتأديب عدد قليل من أهل الرعونة والطيش في الوقت المناسب.
ولو سلمنا أن معاوية أخطأ في قتل حجر؛ فقد سبق هذا الخطأ في القتل أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وقصة أسامة بن زيد رضي الله عنه مع الرجل الذي نطق بالشهادتين، وقتْل أسامة له بعد نطقها، في الصحيحين البخاري ومسلم. وكل ما جرى من أسامة ناتج عن اجتهاد لا عن هوى وعصبية وظلم.
9- الغريب أن الشيعة يصيحون من أجل قتل حجر بن عدي ولا يعترضون على علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما قاتل الخارجين على خلافته في الجمل وصفين، والتي تسببت في مقتل خيار الصحابة إضافة إلى الآلاف من المسلمين، مع أنّ السبب واحد وهو الخروج على سلطة الخليفة!!!
موقف أم المؤمنين عائشة من قَتْل حجر بن عدي
10- بالغت الروايات في ذكر موقف عائشة رضي الله عنها من مقتل حجر بن عدي، حيث ذهبت بعض الروايات إلى زعم بتهديد عائشة لمعاوية رضي الله عنهما بالقتل حين زارها عام 51هـ، وكذلك التهديد بمحاربة معاوية، وهذه الروايات لم يصح منها شيء في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وأما حقيقة موقفها فعن ابن أبي مليكه: إن معاوية جاء يستأذن على عائشة، فأبت أن تأذن له، فخرج غلام لها يقال له: ذكوان، قال: ويحك أدخلني على عائشة فإنها قد غضبت علَيَّ، فلم يزل بها غلامها حتى أذنت له، وكان أطوع مني عندها، فلما دخل عليها قال: "أمّتاه فيما وجَدْتِ عليَّ [6] يرحمكِ الله؟.
قالت: "وجدت عليك في شأن حِجْر وأصحابه أنك قتلتهم". فقال لها: "وأما حِجْر وأصحابه فإني تخوفت أمرًا، وخشيت فتنة تكون، تهراق فيها الدماء، تستحل فيها المحارم، وأنت تخافيني، دعيني والله يفعل ما يشاء". قالت: "تركتك والله، تركتك والله، تركتك والله". وجاء في رواية أخرى: "لما قدم معاوية دخل على عائشة، فقالت: "أقتلت حجرًا؟". قال: "يا أم المؤمنين، إني وجدت قتل رجلٍ في صلاح الناس، خيرًا من استحيائه في فسادهم" [7].
________________________________________
[*] أبو عبد الرحمن حجر بن عدي بن معاوية بن جبلة الكندي، ابن الأدبر، المعروف بحجر الخير، وَإِنما قيل لأبيه عدي الأدبر لأنه طعن عَلَى أليته موليا فسمي الأدبر وفد على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو، وأخوه هانئ، وشهد القادسية، وكان من فضلاء الصحابة، وكان عَلَى كندة بصفين، وعلى الميسرة يَوْم النهروان، وشهد الجمل أيضًا مع علي، وكان من أعيان أصحابه.
ولما ولي زياد العراق، وأظهر من الغلظة، وسوء السيرة ما أظهر خلعه حجر، ولم يخلع معاوية، وتابعه جماعة من شيعة علي رضي اللَّه عنه، وحصبه يومًا في تأخير الصلاة هو وأصحابه، فكتب فيه زياد إِلَى معاوية، فأمره أن يبعث به وبأصحابه إليه، فبعث بهم مع وائل بْن حجر الحضرمي، ومعه جماعة.
فلما أشرف عَلَى مرج عذراء، قال: إني لأول المسلمين كبر في نواحيها، فأنزل هو وأصحابه عذراء، وهي قرية عند دمشق، فأمر معاوية بقتلهم، فشفع أصحابه في بعضهم فشفعهم، ثم قُتل حجر، وستة معه، وأطلق ستة، ولما أرادوا قتله صلى ركعتين، ثم قال: لولا أن تظنوا بي غير الذي بي لأطلتهما، وقال: لا تنزعوا عني حديدًا، ولا تغسلوا عني دمًا، فإن لاق معاوية عَلَى الجادة.
وسئل محمد بن سيرين عن الركعتين عند القتل، فقال: صلاهما خبيب وحجر، وهما فاضلان. وكان الحسن البصري يعظم قتل حجر وأصحابه.
وكان قتله سنة إحدى وخمسين، وقبره مشهور بعذراء وكان مجاب الدعوة.
انظر: ابن الأثير: أسد الغابة، تحقيق: علي محمد معوض - عادل أحمد عبد الموجود، الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1415هـ - 1994م، 1/ 697.
[1] ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 313.
[2] ابن العربي: العواصم من القواصم، ص 219 - 220.
[3] تاريخ الطبري، 5/ 256 - 257، 275.
[4] انظر الرواية في مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح، 2/ 328 ـ 331.
[5] ابن سعد: الطبقات، 6/ 151.
[6] وَجَدَ عليه: غَضِبَ، (القاموس المحيط، مادة وجد).
[7] تاريخ دمشق، 4/ 273، 274، نقلا عن مرويات معاوية، ص440.
أثيرت قضية المنافسة بين بني أمية وبني هاشم، وأرادت بعض الروايات في مصادرنا أن تثبت أن هذه المنافسة بين هاتين الأسرتين -اللتين تنتميان إلى عمومة واحدة من رجلين عظيمين من بطن بني عبد مناف بدأت منذ عهد الجاهلية، واستمرت حتى وصلت إلى زمان هاشم وحرب بن أمية.
بل صدرت بعض الروايات -التي لا يمكن تصديقها أو قبولها بحال من الأحوال- عن هذين الاثنين، وطبقًا لهذه الروايات فإن أصحابها كما يظهر يحاولون إثبات أن المنافسة التي جرت بين الاثنين هي بذاتها نفس المنافسة التي استمرت بينهما طوال فترات العهد الإسلامي، والتي جعلت بني أمية يواجهون ويعارضون بني هاشم، بل جعلتم أعداء يناصبونهم العداء على الدوام.
وهكذا قام بنو أمية -كما يدعى هؤلاء زورًا- بمعارضة الإسلام ونصبوا المؤامرات ضد الحكومة الإسلامية، وبعد أن نجحوا في خططهم تلك استولوا غصبًا على الحكم، وحين أصبحت السلطة في أيديهم أوقعوا الظلم والقهر ببني هاشم.
كل هذه الاتهامات التي لو نزلت على جبل لحطمته، ملأ بها الرواة المغرضون والمؤرخون الذين لا يمتون للتأريخ بصلة روايات مصادرنا التاريخية.
إن أساس قضية المنافسة بين بني هاشم وبني أمية يجب أن ننظر إليها أصلاً في ضوء خلفية اختلافات الفتنة الكبرى، وهي الفتنة التي أدت إلى الأمر المفجع الذي أدى بدوره إلى شهادة ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
فلم تكن هناك منافسة بصورة أساسية بين هاتين الأسرتين، لا في زمان الجاهلية، ولا في عهد الرسالة، ولا في زمان الخلافة الرشيدة بطوله.
فكلتاهما ليستا فقط من أهم أعضاء بني عبد مناف بل بينهما صلة قرابة متينة لا تنفصم عراها أبدًا، وبينهما صلة من المحبة والانسجام لا تنقطع أوصالها بأي حال من الأحوال. فابن عبد المطلب بن هاشم أبو لهب، وابنتاه أم الحكم بيضاء وصفية، هؤلاء كانوا ينتسبون إلى أسرة بني أمية. كما أن صلة المصاهرة هذه ظلت قائمة في أسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أسرة عمه أبي طالب بن عبد المطلب أيضًا.
وهكذا كان بين عقيل بن أبي طالب الهاشمي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم علاقة زواج مع الأمويين: السيدة زينب، والسيدة رقية والسيدة أم كلثوم عليهن السلام، وبعدها قام رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بالزواج من ابنة أبي سفيان السيدة أم حبيبة وظلت سلسلة المصاهرة والزواج مستمرة بين هاتين الأسرتين بل توطدت العلاقات أكثر فأكثر في زمان العهد الأموي. كما أنه لا يندر أن نجد أمثلة للزواج والمصاهرة في العهد العباسي.
وبالإضافة إلى صلة المصاهرة فإن رابطة العلاقات التجارية والاجتماعية بين الأسرتين كانت قوية، واستمرت على هذا المنوال سواء كان ذلك في العهد الجاهلي أو في العهد الإسلامي، وكانت العلاقة بين أبي سفيان بن حرب الأموي والعباس بن عبد المطلب الهاشمي تتسم بالمحبة والمودة؛ إذ كانت علاقاتهما وثيقة ومتينة.
وتحليل الصلات والعلاقات التي ربطت بين الأسرتين تحليلاً يشمل جميع جوانبها يدل على أن ما قيل عن منافسة غير ودية بينهما لا أساس له. وما ذكر في المصادر التاريخية يدلنا أيضًا على أن هذه الروايات قد صيغت أو تم تلفيقها فبولغ فيها، وجاءت هكذا بما حملته من مبالغة في مصادرنا التاريخية.
وهذه المحاولات ما هي أصلاً إلا صدى للميول العدائية لبني أمية، التي جعلت الرواة من أعداء بني أمية يسلكون هذا السبيل من أجل مسخ هذا العهد الأموي العظيم في التاريخ الإسلامي.
بالإضافة إلى أن المؤرخين الجدد (من الماركسيين وغيرهم) ممن حاولوا تفسير التاريخ على أساس فكرة الصراع بين الطبقات وجدوا في تلك الروايات مأربهم فراحوا يصبغون التاريخ الإسلامي على أساس وجهة نظرهم الشيوعية ليجعلوه تاريخ صراع بين الطبقات!!
كثير منا كان يتابع المسلسل المعروف باسم "حريم السلطان"، وأكاد أجزم بأن لا يوجد بيت خليجي عربي تركي خالي من هذا المسلسل حتى لو تم مشاهدة بعض اللقطات منه.
المسلسل هو من إنتاج تركي غربي مدبلج بالعربية، المسلسل يحكي قصة السلطان سليمان القانوني من الجانب الاجتماعي فقط، وقد صوَّر المسلسل هذه الشخصية بأبشع الصور الغير أخلاقية، على سبيل المثال: إن السلطان لم يهتم بشأن الرعية بل صب اهتمامه كله على مغازلة النساء والجواري في القصر العثماني، وكان همه الوحيد أن يغير الفراش كل ليلة وأن يحتسى الخمر مع الجواري، غير السهر واللعب واللهو في القصر والمتاعب التي سببها السلطان للشعب المسلم، غير أن المسلسل لم يظهر الجانب الحسن للسلطان سليمان بل اكتفى بأن يظهر الجانب السيئ والمظلم للسلطان .
مما لا شك فيه إن كل شخص منا لديه جانب مظلم وآخر مشرق، ولكن كان يجب على المخرج أن يظهر كلا الجانبين للسلطان، و يجب إنصاف السلطان سليمان قبل كل شيء لكي يكون العمل ذو مصداقية وأمانة، ولكن للأسف المسلسل تلاعب بالحقائق التاريخية وتعدى تعدي صارخ على حقبة حكم السلطان سليمان القانوني بصورة سلبية وقبيحة جداً، و أظهر المخرج الجانب الاجتماعي بصورة سلبية فلم يتبقى إلا أن ينعت السلطان سليمان بـ "عربيد الدولة العثمانية"، وما هو معروف ومعلوم عند الكثير ولا يمكن نكرانه بأي شكل من الأشكال هو أن السلطان سليمان القانوني كان أحد أعظم وأشرس وأذكى السلاطين العثمانيين ..
السلطان سليمان القانوني
لنأتي هُنا قليلاً ونرى لماذا سمي سليمان القانوني بهذا الاسم؟
السلطان سليمان القانوني، هو أفضل السلاطين من حيث الإنجازات والصعود بالدولة العثمانية بإجماع المؤرخين، وعرف في أوروبا بلقب سليمان الرهيب، سمي السلطان سليمان "القانوني" لأنه اهتم كثيراً بالقضاء والقوانين، ورأى أن إصلاح القضاء هو الوسيلة الوحيدة لإصلاح شؤون البلاد، فانشغل بها كثيراً حتى تم تلقيبه بسليمان القانوني أي المهتم جداً بالقانون، ولقد طبق تلك القوانين التي وضعها بكل صرامة وحزم ولم يفرق بين أحد سواء كان غنياً او فقيراً، كبيراً او صغيراً، بالإضافة أيضاً، هناك في جمهورية فرنسا "الدولة التي كنت أدرس فيها" يسمونه بـ سليمان الرائع " Soliman le Magnifique " .. "
مصادر مسلسل حريم السلطان
ما هي مصادر المسلسل المتعلقة بالحياة العاطفية لـ السلطان سليمان القانوني ؟ ومن هي كاتبة السيناريو ؟
أما عن المصادر التاريخية التي أعتمد عليها هذا المسلسل فهي ٩٩٪ من مؤرخين غربيين مستشرقين، فقد جعلت الكاتبة الكتب الأوروبية الذي كتبها أعداء الدولة العثمانية آنذاك من المستشرقين وغيرهم من المؤرخين مصدراً لكتابة السيناريو وتركت المصادر التركية والعربية الموثوقة، أما عن كاتبة السيناريو فهي ميرال اوكاي التي وُلدت في أنقرة عام ١٩٥٩م، فنانة، روائية وكاتبة وليس لها أي علاقة بالتاريخ عموماً، بالإضافة أنها ليست مؤرخة ولا علاقة لها بتاريخ آل عثمان، فهل من الممكن أن يُكتب سيناريو مصدره كُتب غربية معادية للإسلام والدولة العثمانية وسلاطينها ؟
فلا شك أن يكون الكذب والتدليس وتحريف الحقائق هو عنوان هذا المسلسل، وللعلم أن توجه الكاتبة هو التوجه العلماني وأيضاً من ساعدها على كتابة السيناريو جميعهم أتراك علمانيون، أي أنهم ضد اي شخص إسلامي الفكر والتوجه ..
غضب الشعب التركي
٧٠ إلى ٧٥ ألف شكوى ضد المسلسل وغضب الشعب التركي، في تركيا أثار المسلسل ضجة كبيرة في الأوساط التركية "الفنية-السياسية-الاجتماعية- الدينية"، وتم تقديم ٧٠ ألف شكوى ضده أرسلت للمجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون التركي ويُقال أنها ٧٥ ألف شكوى.
في هذا السياق، انتقد رئيس الوزراء التركي رجب أردوغان المسلسل بقوله: "ليس لدينا أجداد مثلما تم تصويرهم في المسلسل، ولا أعرف السلطان سليمان القانوني بالشخصية التي يظهر فيها في المسلسل أصلاً، وأضاف أردوغان أن السلطان سليمان قضى ثلاثين عاماً من عمره في الجهاد والعمل على الفتوحات الإسلامية والقيام بالدولة العثمانية.
وشهد شاهدُُ من أهله
في مقابلة تلفزيونية أجرتها الممثلة التي تقمصت شخصية الجارية في المسلسل"فريال"، قالت: "حريم السلطان أساء إلى الدولة العثمانية، ولكن أرجوا منكم عدم التطرق لحديث مثل هذا، وأوضحت فريال أنّ الفكرة صحيحة لكنّها تفضّل عدم الخوض في تفاصيل ذلك لأنّها جزء من فريق العمل ويجب أن تعطي فكرة حسنة عن المسلسل وليس العكس، وطلبت إعفاءها من الحديث عن ذلك".
السلطان سليمان القانوني تحت المجهر
هو عاشر سلاطين الدولة العثمانية وثاني خليفة للمسلمين في الدولة العثمانية،، وُلد السلطان سليمان خان الأول بن السلطان سليم الأول عام 900هـ، أبوه هو السلطان سليم الأول الذي ضم مصر والشام للدولة العثمانية، والذي تنازل له آخر خليفة عباسي في القاهرة عن الخلافة وأرسل له مفاتيح الحرمين الشريفين، وأصبح بذلك أول خليفة من الدولة العثمانية يُلقب بخادم الحرمين الشريفين.
حكم السلطان سليمان القانوني المسلمين قرابة ٤٨ عام واجتاحت دولة الخلافة في عهده قارات العالم القديم، وأصبحت الدولة العثمانية القوة العظمى في العالم بأكمله بلا منازع، حتى أنه ملك البحار والمحيطات بإذن الله.
أهم أعمال السلطان سليمان القانوني
- أنشأ كلية للطب في اسطنبول .- ازدادت مساحة الدولة العثمانية بأكثر من الضعف خلال فترة حكمه. - فتح شمال أفريقيا. - قضى على دولة المجر العظمى.- فتح بلجراد. - وصل إلى فيينا عدّة مرات وحاصرها.- اهتم جداً بالعمران.- ساعد مسلمي الأندلس أثناء القمع الإسباني عليهم.
- ضم شبه جزيرة القرم وأذربيجان. وقد توفي الخليفة سليمان عام 974هـ، وتولى بعده الحكم الخليفة سليم الثاني.
قالوا عن السلطان سليمان القانوني
يقول المؤرخ الألماني هالمر: "كان هذا السلطان أشد خطرا علينا من صلاح الدين نفسه".
وأيضاً قال المؤرخ الانجليزي هارولد: "إن يوم موته كان من أيام أعياد النصارى".
وقال أحد الشعراء عنه عندما تولى الخلافة:
قل للشياطين البغاة اخسأوا ** قد أوتى المُلك سليمانُ
وأخيراً قال عنه المؤرخون: "إنه سليمان زمانه؛ لكثرة جنده ولعظيم هيبته ولنفاذ أمره بين ملـوك الأرض".
في نهاية حديثي، أترك لكم التعليق والمجال لمعرفة حقيقة هذا السلطان الذي شوهه صورته الإعلام العلماني والأوروبي، فهل هناك صلة بين السلطان سليمان في المسلسل وفي الواقع ؟ لا أظن ذلك أبداً، فأعلم عزيزي القارئ أن ما سبَّبه السلطان سليمان القانوني من رعب وخوف لملوك أوروبا وغيرهم من الخونة داخل الدولة العثمانية والتابعين لهم هو السبب في تشويه صورة السلطان لدى الأتراك والعرب والعالم أجمع من خلال هذا المسلسل الفقير، فالحكم على شخصيات إسلامية تاريخية عن طريق المسلسلات وعدم الرجوع للمصادر والمراجع الموثوقة يعد جريمة بشعة بحق هذه الشخصيات التاريخية.
شاع بين كثير من المثقفين وطلاب العلم أن الصحابي الجليل وحشي بن حرب- رضي الله عنه- قبل إسلامه كان غلاما لهند بنت عتبة، فيقال: وحشي غلام هند بنت عتبة، كما شاع كذلك أن من حرّض وحشي بن حرب على قتل حمزة –رضي الله عنه- هند بنت عتبة، وليس الأمر كذلك، فوحشي بن حرب –رضي الله عنه- كان غلاما لجبير بن مطعم، وهو من حرّضه على قتل سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب عم الرسول –صلى الله عليه وسلم.
الصحيح في قصة وحشي بن حرب ومقتل حمزة
أخرج ابن هشام في السيرة والبخاري في صحيحه (4072) وأحمد في مسنده (16077) كلهم بطرق إلى عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله بن الفضل، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو الضمري -واللفظ للبخاري- قال: "خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار، فلما قدمنا حمص، قال لي عبيد الله بن عدي: هل لك في وحشي، نسأله عن قتل حمزة قلت: نعم، وكان وحشي يسكن حمص، فسألنا عنه، فقيل لنا: هو ذاك في ظل قصره، كأنه حميت، قال: فجئنا حتى وقفنا عليه بيسير، فسلمنا فرد السلام، قال: وعبيد الله معتجر بعمامته، ما يرى وحشي إلا عينيه ورجليه، فقال عبيد الله: يا وحشي أتعرفني؟ قال: فنظر إليه ثم قال: لا والله، إلا أني أعلم أن عدي بن الخيار تزوج امرأة يقال لها: أم قتال بنت أبي العيص، فولدت له غلامًا بمكة، فكنت أسترضع له، فحملت ذلك الغلام مع أمه فناولتها إياه، فلكأني نظرت إلى قدميك، قال: فكشف عبيد الله عن وجهه ثم قال: ألا تخبرنا بقتل حمزة؟ قال: نعم، إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ببدر، فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر، قال: فلما أن خرج الناس عام عينين - وعينين: جبل بحيال أحد بينه وبينه واد - خرجت مع الناس إلى القتال، فلما أن اصطفوا للقتال، خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ قال: فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فقال: يا سباع، يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحاد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: ثم شد عليه، فكان كأمس الذاهب، قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي، فأضعها في ثنته حتى خرجت من بين وركيه، قال: فكان ذاك العهد به، فلما رجع الناس رجعت معهم، فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولًا، فقيل لي: إنه لا يهيج الرسل، قال: فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآني قال: آنت وحشي؟ قلت: نعم، قال: أنت قتلت حمزة؟ قلت: قد كان من الأمر ما بلغك، قال: فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟ قال: فخرجت، فلما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم فخرج مسيلمة الكذاب، قلت: لأخرجن إلى مسيلمة، لعلي أقتله فأكافئ به حمزة، قال: فخرجت مع الناس، فكان من أمره ما كان، قال: فإذا رجل قائم في ثلمة جدار، كأنه جمل أورق ثائر الرأس، قال: فرميته بحربتي، فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، قال: ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته، قال: قال عبد الله بن الفضل: فأخبرني سليمان بن يسار، أنه سمع عبد الله بن عمر، يقول: فقالت جارية على ظهر بيت: وا أمير المؤمنين، قتله العبد الأسود.
قال شعيب الأرناؤوط: أخرجه البيهقي في "السنن" 9/97- 98 من طريق الإمام أحمد، بهذا الإسناد.
وأخرجه البخاري (4072) ، والبيهقي في "الدلائل" 3/241 من طريق حُجين بن المثنى، به. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (2949) من طريق أحمد بن خالد الوهبي، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، به. وأخرجه بنحوه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (483) ، والطبراني في "الكبير" (2950) من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، و (2947) ، وفي "الأوسط" (1821) من طريق محمد بن إسحاق، كلاهما عن عبد الله بن الفضل، به (1).
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: "وَالْمَحْفُوظُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ وَكَذَا أَخْرَجَهُ بن إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ جَعْفَرٍ قَالَ خَرَجْتُ أَنَا وَعُبَيْدُ الله فَذكره" (2).
________________________________________
1- البخاري: صحيح البخاري، باب قتل حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه (3844)، تحقيق: مصطفى البغا، ، الناشر : دار ابن كثير ، اليمامة – بيروت، الطبعة الثالثة ، 1407هـ – 1987م، جـ4/ 1494.
- الإمام أحمد: مسند أحمد (16077)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2001م، جـ25/ 480- 483.
- ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة: الثانية، 1375هـ - 1955م، جـ2/ 70- 73.
2- ابن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري ، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الناشر: دار المعرفة - بيروت، 1379هـ، جـ7/ 368.
عمر خديجة بنت خويلد عند زواج الرسول بها
المشهور في كتب السيرة أن عمر السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها لما تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم كان أربعين سنة، وأنها لما توفيت كانت بنت خمس وستين، فهل صح ذلك ؟ وما الصحيح في عمرها عند زواج الرسول بها ؟
روى ذلك ابن سعد في الطبقات عن الواقدي وفيه: "وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة" (1)والواقدي متروك.
بل قد رُوي خلاف ذلك، فقد روى الحاكم بسنده عن ابن إسحاق: "وكان لها يوم تزوجها ثمان وعشرون سنة (2)"، لكن ابن إسحاق لم يسند الخبر ثم ساق الحاكم بسنده عن هشام بن عروة قال: "توفيت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وهي ابنة خمس وستين سنة". قال الحاكم: "هذا قول شاذ، فإن الذي عندي أنها لم تبلغ ستين سنة (3)".
وقال البيهقي في الدلائل: "قال أبو عبد الله الحاكم قرأت بخط أبي بكر بن أبي خيثمة، قال: حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال: .. ثم بلغت خديجة خمسًا وستين سنة، ويقال خمسين سنة. وهو أصح (4)".
قال ابن كثير رحمه الله: ".. وهكذا نقل البيهقي عن الحاكم أنه كان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمسًا وعشرين سنة، وكان عمرها إذ ذاك خمسًا وثلاثين، وقيل خمسًا وعشرين سنة (5)".
وقال رحمه الله عند الحديث عن زوجاته صلى الله عليه وسلم: ".. وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: كان عمرها أربعين سنة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كان عمرها ثمانيًا وعشرين سنة. رواهما ابن عساكر (6)".
قال الدكتور أكرم العمري: "وقد أنجبت خديجة رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَكريْن وأربع إناث مما يرجِّح رواية ابن إسحاق (أي أنها في الثامنة والعشرين)، فالغالب أن المرأة تبلغ سنّ اليأس من الإنجاب قبل الخمسين" (7).
فائدة
قال الزبير بن بكار (ت 256 هـ): "هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة حملت بموسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بعد ستين سنة، وسمعت علماءنا يقولون: لا تحمل امرأة بعد ستين سنة إلا من قريش، ولا بعد خمسين إلا عربية" (8).
المصدر:كتاب: ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية
________________________________________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد، المحقق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر – بيروت، الطبعة: الأولى، 1968م، 1/ 132.
(2) 3/ 200.
(3) 3/ 200.
(4) 2/ 70.
(5) البداية والنهاية لابن كثير، طبعة: دار الفكر 1407هـ، (2/ 295) ولم أرَ ما نسبه للبيهقي في (الدلائل) في: باب ما جاء في تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بخديجة رضي الله عنها (2/ 68).
(6) البداية والنهاية (5/ 293).
(7) السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 113).
(8) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (13/ 28).
ما شاع ولم يثبت بين الرسول ووفد ثقيف
مما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية اشتراط وفد ثقيف أن يضع الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم الصلاة، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: لا خير في دين لا ركوع فيه، فما صحة هذا الخبر ؟
قال الإِمام أحمد في مسنده: حدثنا عفان قال: "حدثنا حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلهم المسجد ليكون أرقّ لقلوبهم، فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يُحشروا ولا يُعشروا ولا يُجَبُّوا، ولا يستعمل عليهم غيرهم. قال فقال: "إن لكم أن لا تحشروا ولا تعشروا ولا يستعمل عليكم غيركم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا خير في دين لا ركوع فيه (1)".
وأخرجه أبو داود، ومن طريقه البيهقي في الدلائل، قال المنذري: "وقد قيل إن الحسن البصري لم يسمع من عثمان بن أبي العاص (2)" وذكره ابن إسحاق في السيرة بدون سند (3).
وضعّفه الألباني رحمه الله، وقال عن سند الإِمام أحمد وأبي داود: "رجاله ثقات لكن الحسن مدلّس، وقد عنعنه (4)" وقال في رده على البوطي: "إسناد منقطع (5)" وقد ذكر الحافظ ابن حجر في (التهذيب) (6)، أنه لم يسمع من عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه.
قوله: (أن لا يُحشروا) قال الخطابي: "معناه الحشر في الجهاد والنفير له. (ولا يُعشروا) أي لا يؤخذ عشر أموالهم، وقيل أرادوا الصدقة الواجبة. وقوله (لا يجبُّوا) أي لا يصلُّوا، وأصل التجبية أن يكبّ الإنسان على مقدمه ويرفع مؤخره (7)".
وقد صحّ اشتراطهم أن لا صدقة عليهم ولا جهاد من طريق آخر، قال أبو داود: حدثنا الحسن بن الصبّاح أخبرنا إسماعيل ... عن وهب قال: سألت جابرًا عن شأن ثقيف إذْ بايعتْ؟ قال: اشترطتْ على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول: "سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا (8)".
والحديث سكت عنه المنذري. وأورده الألباني في الصحيحة بعد أن عزاه لأحمد عن ابن لهيعة حدثنا أبو الزبير قال: سألت جابرًا .. الحديث. وقال: "وهذا إسناد قوي، وإن كان فيه ابن لهيعة فهو ثقة في نفسه، وقد أمنا سوء حفظه بمجيء الحديث من طريق غيره، فأخرجه أبو داود .."، وذكر الحديث المتقدم ثم قال: "وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات (9)".
وحسنه شعيب الأرناؤوط في تخريجه للزاد (10) وعبد القادر الأرناؤوط في تخريجه أحاديث (جامع الأصول) (11).
المصدر:كتاب: ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية
________________________________________
(1) الفتح الرباني (21/ 207).
(2) عون المعبود (8/ 267 - 268).
(3) الروض الأنف (7/ 334).
(4) تخريج فقه السيرة (ص 417) وكذا في السلسلة الضعيفة (4319) (6/ 308).
(5) دفاع عن الحديث النبوي والسيرة، ص 37.
(6) تهذيب التهذيب (2/ 264).
(7) عون المعبود (8/ 268).
(8) عون المعبود (8/ 265 - 267).
(9) سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1888).
(10) زاد المعاد (3/ 599).
(11) (8/ 414).
مجموعة من الأخبار والروايات التي شاعت ولم تثبت في غزوة تبوك، وذلك من الناحية الحديثية، ومنها أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتحريق مسجد الضرار، وقوله: يرحم الله أبا ذر يمشي وحده .. الحديث.
1- أن قوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي}[التوبة:49] نزل في الجد بن قيس
قال ابن إسحاق -رحمه الله- في حديثه عن غزوة تبوك: "... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس أحد بني سلمة: يا جدّ، هل لك جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله أوَ تأذن لي ولا تفتنّي؟ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبًا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: قد أذنت لك. ففي الجدّ بن قيس نزلت هذه الآية: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي}.
وقد ساق ابن إسحاق سنده في أول الخبر فقال: "وقد ذكر لنا الزهري ويزيد بن رمان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن قتادة وغيرهم من علمائنا، كل حدّث في غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدّث مالًا يحدّث بعض" (1).
قال الشيخ الألباني رحمه الله: "ضعيف"، رواه ابن هشام عن ابن إسحاق مرسلًا، وكذلك رواه عنه ابن جرير" (2). أي في تاريخه (3).
وأخرجه الطبري أيضًا في تفسيره فقال: "حدثني محمَّد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي}، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغزوا تبوك تغنموا بنات بني الأصفر ونساء الروم، فقال الجدّ: ائذن لنا ولا تفتنا بالنساء" (4).
ومجاهد بن جبير تابعي فالخبر مرسل. قال يحيى بن سعيد: ابن أبي نجيح لم يسمع التفسير من مجاهد (5). قال الذهبي: "هو من أخصّ الناس بمجاهد (6)". وأخرجه البيهقي من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة (7). وفيه علتان: ضعف ابن لهيعة، والإرسال.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله: "ويقال إن الجد بن قيس كان منافقًا، وروى أبو نُعيم وابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نزل فيه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي} ورواه ابن مردويه. من حديث عائشة بسند ضعيف أيضًا، ومن حديث جابر بسند فيهم مبهم" (8).
قال ابن عبد البر -رحمه الله: "وقد قيل إنه تاب فحسنت توبته، فالله أعلم" (9).
وذكرها الهيثمي في "المجمع وقال: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه يّحيى الحمّاني، وهو ضعيف (10)"، ويحيى بن عبد الحميد الحمّاني قال عنه الذهبي: "حافظ منكر الحديث، وقد وثّقه ابن معين وغيره، وقال أحمد بن حنبل: كان يكذب جهارًا. وقال النسائي: ضعيفًا (11)" وتوسّع في ترجمته في (التهذيب) (12).
ولا ريب أن من المنافقين من اعتذر بهذا العذر، كما ذكر الله تبارك وتعالى في الآية السابقة، لكن الجزم بنزولها في الجد بن قيس صعب. نعم لو صحّ السند بذلك فلا كلام، أما وهو لم يصح فلا ينبغي ذكره إلا مع بيان ضعفه.
بل قد ذكر الحافظ في ترجمة الجدّ في (الإصابة) ما يدل على شهوده بيعة العقبة الثانية، فقال: "روى الطبراني وابن منده من طريق معاوية بن عمار الدهني عن أبيه عن أبي الزبير عن جابر قال: حملني خالي جد بن قيس وما أقدر أن أرمي بحجر في السبعين راكبًا من الأنصار الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث في بيعة العقبة، وإسناده قوي، قال ابن منده: غريب من حديث معاوية بن عمار، تفرّد به محمَّد بن عمران بن أبي ليلى (13)"، ومعاوية وأبوه عمار روى لهما مسلم، ومحمد بن عبد الله روى له البخاري في الأدب المفرد، والترمذي في سننه، ووصف ابن حجر كل واحد منهم في (التقريب) أنه صدوق.
وذكر الهيثمي حديث جابر وقال: "رواه الطبراني في الثلاثة ورجاله ثقات" وأعقبه بلفظ آخر: "قال جابر: وأخرجني خالاي ... "، وقال: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (14).
وأصل الحديث في البخاري عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: "شهد بي خالاي العقبة" قال أبو عبد الله البخاري قال ابن عيينة: "أحدهما البراء بن معرور". ثم ساقه من طريق آخر عن عطاء قال: قال جابر: "أنا وأبي وخالاي من أصحاب العقبة (15)".
قال ابن حجر: "وأقارب الأمّ يُسموّن أخوالًا مجازًا، وقدر روى ابن عساكر بإسناد حسن عن جابر قال: حملني خالي الحر (كذا) بن قيس في السبعين راكبًا الذين وفدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأنصار .."، ثم قال الحافظ: "لكن لم يذكر أحد من أهل السير الحر بن قيس في أصحاب العقبة، فكأنه لم يكن أسلم (16)"، كذا ورد اسمه هنا: الحرّ، ولعله مصحّف من: الجدّ. والله أعلم.
وصحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "منْ سيّدكم يا بني سلمة؟ قالوا: جد بن قيس، على أنا نُبخِّله، قال: وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح" رواه البخاري في (الأدب المفرد)، وصححه العراقي، والمناوي (17) بعد أن عزاه للإمام أحمد. والألباني (18)".
فبنو سلمة لم يتهموا الجدّ بالنفاق، بل بالبخل، فلم يكونوا ليسوِّدوا عليهم رجلًا من المنافقين، وحاشاهم من ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقولوا للمنافقين: سيدنا، فإنه إن يكُ سيدكم فقد أسخطتم ربكم عَزَّ وَجَلَ" أخرجه الإِمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، و أبو داود، وصححه النووي (19)، والعراقي (20)، والألباني (21)، والأرنؤوط (22).
نعم أخرج مسلم في صحيحه في بيعة الرضوان يوم الحديبية عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كنا أربع عشرة مئة، فبايعناه، وعمر أخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة، فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري، اختبأ تحت بطن بعيره (23)"، ولا ريب أن هذه منقصة له وحرمان، فإن كان قد تاب -كما ذكر ذلك ابن عبد البر بصيغة التضعيف، وسبق قوله -فالتوبة تجبّ ما قبلها، وان لم يكن فهي دلالة على ضعف إيمانه، أو نفاقه. وأخرجه مسلم في موضع آخر بلفظ: ".. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر، فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إليّ من أن يستغفر لي صاحبكم. قال: وكان رجل ينشد ضالة له (24)" وليس في هذه الرواية التصريح باسمه.
فائدة
روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما- ما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اغزوا تغنموا بنات بني الأصفر، فقال رجل من المنافقين: إنه ليفتنكم بالنساء. فأنزل الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِي}. قال الهيثمي: ".. وفيه أبو شيبة إبراهيم بن عثمان، وهو ضعيف (25)".
2 - رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده
روى ابن إسحاق في حديثه عن غزوة تبوك قال: "... وتلوّم أبو ذرّ على بعيره، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ماشيًا، ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كن أبا ذر"، فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أبا ذرّ يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده".
هكذا ذكرها ابن إسحاق، ثم أعقبها بقوله: "فحدثني بريدة بن سفيان الأسلمي، عن محمَّد بن كعب القُرظي، عن عبد الله بن مسعود قال: ... " وذكر قصة وفاة أبي ذر بالربذة، وقول ابن مسعود: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتُبعث وحدك (26)".
وقد أشار الحافظ ابن حجر في (الإصابة (27)) إلى ضعف القصة، بعد أن عزاها لابن إسحاق، وقال في (المطالب العالية): "القُرظي ما عرفته، فإن كان محمَّد بن كعب فالحديث منقطع (28)".
ورواه الحاكم من طريق ابن إسحاق، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وتعقّبه الذهبي بقوله: "فيه إرسال(29)". ولعله يقصد أن رواية محمد بن كعب القرظي عن ابن مسعود منقطعة كما ذكر ابن حجر. لكن علة الحديث الكبرى: بريدة بن سفيان شيخ ابن إسحاق، قال البخاري: فيه نظر، وقال الدارقطني: متروك، وقال العقيلي: سئل أحمد عن حديثه فقال: بليّة (30).
وضعّف الحديث الشيخ شعيب الأرنؤوط في تخريجه لسير الذهبي (31). ثم طُبع المجلد الثاني عشر من (السلسلة الضعيفة) وفيه هذا الحديث، وإعلال الشيخ الألباني -رحمه الله- الحديث ببريدة الأسلمي، أما الانقطاع بين القرظي وابن مسعود فقد قال الشيخ: "قد روى البخاري في التاريخ (1/ 216) بإسناد قوي سماع القرظي منه، فالأولى إعلاله ببريدة(32)".
والعجيب أن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أوردها في تاريخه، ثم قال: "إسناد حسن ولم يخرجوه (33)". في حين أن الإِمام ابن القيم -رحمه الله- لما ذكرها في الزاد قال: "وفي هذه القصة نظر"، ثم ذكر رواية عند ابن حبان مغايرة لها، وحسّن إسنادها الأرنؤوط (34). لكن الألباني قال: "ضعيف مضطرب السند" (35).
3 - أمره صلى الله عليه وسلم بتحريق مسجد الضرار
قال ابن إسحاق: ثم أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[من تبوك] حتى نزل بذي أوان، بلد بينه وبين المدينة ساعة نهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحبّ أن تأتينا، فتصلي لنا فيه، فقال: إني على جناح سفر، وحال شغل. أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-، ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم، فصلينا لكم فيه.
فلما نزل بذي أوان، أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدُّخشم
أخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عدي، أو أخاه عاصم بن عدي، أخا بني العجلان، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل إلى أهله، فأخذ سعفًا من النخل، فأشعل فيه نارًا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن مانزل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[التوبة: 107].
إلى آخر القصة. وكان الذين بنوه اثنى عشر رجلًا .... (36)".
قال الألباني رحمه الله: "ضعيف رواه ابن هشام عن ابن إسحاق بدون إسناد. لكن ذكره ابن كثير في التفسير عن ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمرو بن قتادة وغيرهم مرسلًا (37)".
وقال في الإرواء: "مشهور في كتب السيرة، وما أرى إسناده يصح (38)".
وابن كثير ذكرها في تفسيره (39) عن ابن إسحاق عن الزهري ومن ذُكر معه أنفًا، في حين أنها في سيرة ابن إسحاق بدون سند. أما في البداية والنهاية (40) فلم يذكر سندًا لابن إسحاق، وإنما أحال على التفسير وقد روى الطبري في تفسيره هذا الخبر فقال: "حدثني المثنى، قال: حدثنا معاوية، عن علي عن ابن عباس، قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدًا، فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم، واستعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فأتي بجند من الروم، فأُخْرِجُ محمدًا وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه، وتدعوا لنا بالبركة، فأنزل الله فيه: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(41).
وهذا الخبر على القول بحسن إسناده -مع أن فيه عبد الله بن صالح، صدوق كثير الغلط، والراوي عنه معاوية بن صالح، صدوق له أوهام، وعلي بن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس -ليس فيه التفصيل الذي في رواية ابن إسحاق "على أن ذكر أبي عامر الفاسق فيه مشكل، فإنه قد خرج إلى مكة لما هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، فلما افتتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة، خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف، خرج إلى الشام فمات بها طريدًا وحيدًا غريبًا (42)".
لكن أخرج الحاكم عن جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- قال: رأيت الدخان من مسجد الضرار حين انهار. وصححه ووافقه الذهبي (43)، فلعل المسجد انهار بأمر الله دون حرق، والله أعلم.
المصدر:كتاب: ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية
________________________________________
(1) الروض الأنف (7/ 304 - 305).
(2) تخريج أحاديث فقه السيرة، ص 406.
(3) تاريخ الطبري (2/ 181). ذكر الخبر عن غزوة تبوك.
(4) تفسير الطبري، تفسير الآية، 49 سورة التوبة.
(5) تهذيب التهذيب (6/ 54).
(6) سير أعلام النبلاء (6/ 126).
(7) دلائل النبوة (9/ 33).
(8) الإصابة (1/ 230).
(9) الاستيعاب (1/ 255) بهامش الإصابة.
(10) مجمع الزوائد (7/ 30).
(11) المغني في الضعفاء (2/ 522).
(12) (11/ 245).
(13) الإصابة (1/ 230) وبالسند نفسه أخرجه الحاكم (3/ 365) رقم (5405).
(14) مجمع الزوائد (6/ 48، 49).
(15) البخاري، مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة، وبيعة العقبة (فتح 7/ 219).
(16) فتح الباري (7/ 222).
(17) فيض القدير (6/ 360) وقد وهم الإِمام ابن كثير في غزوه للحديث إلى الصحيح. (تفسير القرآن 2/ 363).
(18) صحيح الأدب المفرد، رقم 227. وجملة: وأي داء أدوأ من البخل، قالها الصديق لجابر بن عبد الله - رضي الله عنه - لما قال له: تبخل عني؟ أخرجه البخاري، ك المغازي، باب قصة عمان والبحرين، رقم 4383 (فتح 8/ 95).
(19) الأذكار، ص 322.
(20) تخريج أحاديث الإحياء، رقم 2838.
(21) السلسة الصحيحة رقم 371.
(22) حاشية زاد المعاد (2/ 352).
(23) (13/ 3 نووي).
(24) (17/ 126 نووي).
(25) مجمع الزوائد (7/ 30).
(26) الروض الأنف (7/ 315)
(27) الإصابة (4/ 65).
(28) المطالب العالية (4/ 116) المحققة (16/ 484).
(29) المستدرك (3/ 52). وفيه تصحّف شيخ ابن إسحاق من بُريدة إلى يزيد.
(30) تهذيب التهذيب (1/ 433).
(31) سير أعلام النبلاء (2/ 57).
(32) سلسلة الأحاديث الضعيفة، رقم: 5531.
(33) البداية والنهاية (5/ 9) وفيه: بُريدة عن سفيان.
(34) زاد المعاد (3/ 534).
(35) ضعيف موارد الضمآن، ص 181.
(36) الروض الأنف (7/ 321 - 322).
(37) تخريج فقه السيرة، ص 415.
(38) إِرواء العليل (5/ 370).
(39) (2/ 389).
(40) (5/ 21).
(41) تفسير سورة التوبة، الآية: 108.
(42) انظر: زاد المعاد (3/ 548 - 549).
(43) مستدرك الحاكم (4/ 638).
قصيدة كعب بن زهير في مدح النبي صلى الله عليه و سلم
مما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية ما يعرف بقصيدة البردة للشاعر كعب بن زهير، وهيم ن أشهر قصائد مدح النبي صلى الله عليه وسلم، فهل ثبتت قصيدة البردة من طرق صحيحة ؟
قال ابن إسحاق: "ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من منصرفه عن الطائف كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى أخيه كعب بن زهير يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجلًا بمكة، ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقي من شعراء قريش، ابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا من كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فَطِرْ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقتل أحدًا جاءه تائبًا، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجاتك من الأرض، وكان كعب بن زهير قد قال:
ألا أبلغا عني بجيرًا رسالـة *** فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا؟
فبيّن لنا إن كنت لست بفاعل *** على أي شيء غير ذلك دلكا؟
على خُلق لم تُلَفِ أُمًا ولا أبًا *** عليه ولم تدرك عليه أخًا لكا
فأنت أنت لم تفعل فلست بآسف*** ولا قائل إما عثرت: لعًا لكا
ثم قال ابن إسحاق رحمه الله: "فلما بلغ كعبًا الكتاب ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان في حاضره من عَدوّه، فقالوا: هو مقتول.
فلما لم يجد من شيء بدًّا، قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وذكر فيها خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه، ثم خرج حتى قدم المدينة فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، … فذُكر لي أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إليه فوضع يده في يده وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، فقال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبًا مسلمًا، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: نعم، قال: أنا يا رسول الله - كعب بن زهير.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أنه وثب عليه رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، دعني وعدو الله أضرب عنقه، فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم: دعه عنك، فإنه قد جاء تائبًا نازعًا عما كان عليه.
قال: فغضب كعبٌ على هذا الحي من الأنصار، لما صنع به صاحبهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلاّ بخير، فقال في قصيدته التي قال حين قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
بانَتْ سُعاد فقلبي اليوم مَتْبوُلُ ... مُتَيَّمٌ إِثْرها لم يُفْدَ مَكْبُول
وذكر القصيدة إلى آخرها (1).
قال ابن كثير –رحمه الله: "وقال ابن هشام: هكذا أورد محمَّد بن إسحاق هذه القصيدة ولم يذكر لها إسنادًا" (2).
وقد أسندها الحاكم فقال: أخبرني أبو القاسم عبد الرحمن بن حسين بن أحمد حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثني الحجاج بن ذي الرقيبة عن عبد الرحمن بن كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني عن أبيه عن جده قال: "خرج كعب وبجير ابنا زهير حتى أتيا أبرق العرّاف فقال بجير لكعب: أثبت في عجل هذا المكان حتى آتي هذا الرجل -يعني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - فأسمع ما يقول، فثبت كعب وخرج بجير فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعرض عليه الإِسلام فأسلم فبلغ ذلك كعبًا فقال: ألا ابلغا عني بُجيرًا رسالة، (وذكر الأبيات المتقدمة) فلما بلغت الأبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهدر دمه فقال: من لقي كعبًا فليقتله.
فكتب بذلك بجير إلى أخيه يذكر له أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أهدر دمه ويقول له: النجا وما أراك تفلت، ثم كتب إليه بعد ذلك: اعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يأتيه أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله - إلا قبِل ذلك فإذا جاءك كتابي هذا فأَسْلِم، وأَقْبِلْ، فأسلم كعب، وقال القصيدة التي يمدح فيها رسول الله ... (3)".
ورواه البيهقي في (الدلائل (4)) من طريق الحاكم، والحجاج بن ذي الرقيبة وأبوه وجده لم أقف لهم على ترجمة.
ورواه الحاكم أيضًا مختصرًا عن الحزامي حدثني معن بن عيسى حدثني محمَّد بن عبد الرحمن الأوقص، عن ابن جُدعان قال: أنشد كعب بن زهير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد (5):
بانتْ سُعاد فقلبي اليوم مَتْبوُلُ *** مُتَيَّمٌ إِثْرها لم يُفْدَ مَكْبُول
وفي هذا السند ثلاث علل: الإرسال، وضعف علي بن زيد، وكذا الراوي عنه محمَّد بن عبد الرحمن الأوقص، قال العقيلي: يخالف في حديثه، وقال ابن عساكر: ضعيفًا. وتفرد ابن حبان فذكره في الثقات (6).
ورواه الحاكم أيضًا عن محمَّد بن فُليح عن موسى بن عقبة قال: "أنشد النبي -صلى الله عليه وسلم- كعبُ بن زهير بانت سعاد، في مسجده بالمدينة .."، والحديث مرسل. ومع ذلك قال الحاكم: "هذا حديث له أسانيد قد جمعها إبراهيم بن المنذر الحزامي. فأما حديث محمَّد بن فليح عن موسى بن عقبه، وحديث الحجاج بن ذي الرقيبة فإنهما صحيحان، وقد ذكرهما محمد بن إسحاق القرشي في المغازي مختصرًا (7)".
قال الحافظ العراقي: "وهذه القصة رويناها من طرق لا يصح منها شيء، وذكرها ابن إسحاق بسند منقطع (8)".
وذكرها الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بسنده في: (نتائج الأفكار)، من طريق إبراهيم الحزامي السابق، ثم قال: "هذا حديث غريب تفرّد به إبراهيم بن المنذر بهذا الإسناد، وقد وقع لنا من وجه آخر عنه مطولًا، وفيه سياق القصيدة بتمامها(9)".
قال ابن كثير –رحمه الله: "وقد ورد في بعض الروايات أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاه بردته حين أنشد القصيدة ... وهذا من الأمور المشهورة جدًا ولكن لم أر ذلك في شيء من هذه الكتب المشهورة بإسناد أرتضيه فالله أعلم(10)".
فائدة
قال ابن الأنباري عن ابن القاسم: "كان بندار (بن عبد الحميد الكرخي) يّحفظ سبعمئة قصيدة، أول كل قصيدة: "بانت سعاد"، قال المؤلف: وبلغني عن الشيخ الإِمام أبي محمَّد الخشاب أنه قال: أمعنتُ التفتيش والتنقير فلم أقع على أكثر من ستين قصيدة أولها: بانت سعاد (11)".
المصدر:كتاب: ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية
________________________________________
(1) الروض الأنف (7/ 255 - 258).
(2) البداية والنهاية (4/ 372).
(3) المستدرك (3/ 670).
(4) دلائل النبوة (5/ 207).
(5) المستدرك (3/ 673).
(6) لسان الميزان (5/ 252).
(7) المستدرك (3/ 673، 674).
(8) تحفة الأحوذي (2/ 276).
(9) نتائج الأفكار (1/ 221).
(10) البداية والنهاية (4/ 373).
(11) معجم الأدباء (2/ 356).
مجموعة من الأخبار والروايات التي شاعت ولم تثبت في غزوة الطائف، وذلك من الناحية الحديثية، ومنها: رمي أهل الطائف بالمنجنيق وقدوم أخته الشيماء وقدوم أم الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة.
1- رمي أهل الطائف بالمنجنيق
قال ابن هشام فيما زاده على سيرة ابن إسحاق عند الحديث عن غزوة الطائف: ".. ورماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنجنيق، حدثني من أثق به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من رمى في الإِسلام بالمنجنيق، رمى أهل الطائف (1)".
قال الزيلعي: "ذكره الترمذي في الاستئذان معضلًا، ولم يصل سنده به (2)".
وقال ابن حجر -رحمه الله: "روى أبو داود في المراسيل عن ثور عن مكحول: أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب على أهل الطائف المنجنيق. ورواه الترمذي فلم يذكر مكحولًا، ذكره معضلًا عن ثور. وروى أبو داود من مرسل يحيى بن أبي كثير قال: حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا. قال الأوزاعي: فقلت ليحيى أَبَلغك أنه رماهم بالمجانيق؟ فأنكر ذلك، وقال: ما نعرف هذا"، ثم قال ابن حجر: "ورواه ابن سعد عن قبيصة عن سفيان عن ثور عن مكحول مرسلًا، وأخرجه أبو داود أيضًا، ووصله العقيلي من وجه آخر عن علي (3)".
وروى البيهقي في سننه رميهم بالمنجنيق، وإنكار أبي قلابة ذلك (4). وقد أخرج مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه منه قال: ".. ثم انطلقنا إلى الطائف فحاصرناهم أربعين ليلة، ثم رجعنا إلى مكة (5)" وليس فيه رميهم بالمنجنيق.
فائدة
قال السهيلي: المنجنيق أعجمية عرّبها العرب، قال كراع: كل كلمة فيها جيم وقاف، أو جيم وكاف فهي أعجمية. (الروض الأنف 7/ 267).
2- قول نوفل الديلي: (ثعلب في جحر)
ومنها ما رواه الواقدي بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لما مضت خمس عشرة ليلة من حصارهم (أهل الطائف) استشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نوفل بن معاوية الديلي فقال: "يا نوفل ما تقول، أو ترى؟ " فقال نوفل: يا رسول الله، ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك شيئًا (6)". والواقدي متروك كما تقدم مرارًا. قال الشيخ الألباني -رحمه الله: "ضعيف جدًا، رواه الواقدي .. وهو متهم بالكذب (7)".
3 - قدوم أم الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة
روى البخاري في (الأدب المفرد (8))، وأبو دواد (9)، والبيهقي في (الدلائل (10)) من طريق جعفر بن يّحيى بن ثوبان قال: أنبأنا عمارة بن ثوبان أن أبا الطفيل أخبره قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقسم لحمًا بالجعرانة، قال أبو الطفيل: وأنا يومئذ غلام أحمل عظم الجزور، إذ أقبلت امرأة حتى دنت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فبسط لها رداءه فجلست عليه، فقلت: من هي؟ قالوا: هذه أُمّه التي أرضعته". رواه الحاكم وسكت عنه هو والذهبي، ورواه في موضع آخر من الطريق نفسه، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وحذفه الذهبي من التلخيص (11).
قال ابن كثير لما أورده في تاريخه: "هذا حديث غريب، ولعله يريد أخته، وقد كانت تحضنه مع أُمّه حليمة السعدية، وإن كان محفوظًا فقد عُمِّرتْ حليمة دهرًا، فإن من وقت أرضعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى وقت الجعرانة أزيد من ستين سنة، وأقل ما كان عمرها حين أرضعته -صلى الله عليه وسلم- ثلاثين سنة، ثم الله أعلم بما عاشت بعد ذلك(12)".
وجعفر بن يحيى بن ثوبان قال عنه الحافظ في (التقريب): "مقبول (13)" أي عند المتابعة، وإلا فليّن الحديث، كما نصّ الحافظ على ذلك في مقدمة التقريب. ولذا قال الذهبي في (الكاشف) (14): "فيه جهالة". وقال في (المغني في الضعفاء): لايعُرف (15)" وقد نصّ ابن المديني وابن القطان الفاسي على جهالته. وانفرد ابن حبان بذكره في الثقات(16).
وعمارة بن ثوبان ذكره ابن حبان أيضًا في الثقات، وقال ابن القطان: مجهول (17). قال الذهبي في (الكاشف): "وُثِّق، وفيه جهالة (18)". وقال الحافظ في (التقريب): "مستور (19)"، وهو وصف يطلقه الحافظ على من روى عنه أكثر من واحد ولم يوثق. كما ذكر في المقدمة (20). والحديث (قُدوم أُمّه) سكت عنه المنذري (21). وضعّفه الألباني بعلة جهالة عمارة، كما في ضعيف سنن أبي داود (22)، وضعيف الأدب المفرد (23)، وضعيف موارد الظمآن (24).
ثم روى أبو داود عن عمر بن السائب أنه بلغه "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان جالسًا يومًا فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أُمّه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأجلسه بين يديه". قال المنذري: "هذا معضل، عمر بن السائب يروي عن التابعين (25)". وقال ابن كثير في تاريخه: "وقد ورد حديث مرسل فيه أن أبويه من الرضاعة قدما عليه، والله أعلم بصحته (26)".
فائدة
اشتهر عند كثير من الناس أن حليمة هي أول من أرضع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن ليس له مرضع غيرها. ومن الثابت أن أول من أرضعه -صلى الله عليه وسلم-: ثُويْبة، مولاة أبي لهب. (أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب 20، 25، 26 وغيرها).
4 - قدوم أخته الشيماء
قال ابن إسحاق -رحمه الله- وحدثني بعض بني سعد بن بكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يومئذ (يوم حنين):إن قَدرْتم على بجاد-رجل من بني سعد بن بكر-فلا يُفْلتنكم، وكان قد أحدث حدثًا، فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله، وساقوا معه الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة، فعنّفوا عليها في (السياق، فقالت للمسلمين: تعلموا والله إني لأخت صاحبكم من الرضاعة، فلم يصدقوها حتى أتوا بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
فحدثني يزيد بن عبيد السعدي، قال: فلما انتهى بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: يا رسول الله، إني أُختك من الرضاعة، قال: وما علامة ذلك؟ قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك، قال: فعرف رسول الله العلامة فبسط لها رداءه، فأجلسها عليه، وخيّرها، وقال: إن أحببت فعندي مُحبّة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك، وترجعي إلى قومك فعلت، فقالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي ... (27)"، وشيخ ابن إسحاق (يزيد بن عبيد) ثقة لكنه تابعي لم يدرك القصة فالخبر مرسل.
وراوه البيهقي في (الدلائل (28)) من طريق الحكم بن عبد الملك عن قتادة قال: .. وذكر الخبر بنحوه. وأورده الذهبي في (المغازي) ثم قال: "الحكم ضعّفه ابن معين (29)"، وقتادة ولد عام 60 فهو مرسل.
المصدر:كتاب: ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية
________________________________________
(1) الروض الأنف (7/ 235).
(2) نصب الراية (3/ 382).
(3) التلخيص الحبير (4/ 116).
(4) السنن الكبرى (9/ 84).
(5) مسلم (7/ 154 نووي).
(6) مغازي الواقدي (3/ 927).
(7) فقه السيرة، ص 389.
(8) الأدب المفرد، باب حسن العهد، رقم 1295.
(9) عون المعبود (13/ 53).
(10) دلائل النبوة (5/ 199).
(11) المستدرك (3/ 717) رقم 6595، و (4/ 181) رقم 7294.
(12) البداية والنهاية (4/ 364).
(13) (1/ 133).
(14) (1/ 131).
(15) (1/ 214).
(16) تهذيب التهذيب (2/ 109).
(17) التهذيب (7/ 412). قال ابن حجر: "ابن حبان يذكر في كتاب الثقات كل مجهول روى عنه ثقه ولم يجرح، ولم يكن الحديث الذي يرويه منكرًا. هذه قاعدته .. " (لسان الميزان، 1/ 214).
(18) (2/ 262) قال الشيخ سلمان العودة حفظه الله: "الذهبي في الكاشف غالبًا يطلق كلمة: وُثّق على من يوثقه ابن حبان" (شرح بلوغ المرام، شريط رقم 80).
(19) (2/ 49).
(20) (1/ 5).
(21) عون المعبود (14/ 54).
(22) ص 508، رقم 5144.
(23) ص 116، رقم 1295.
(24) ص 176، رقم 2249.
(25) عون المعبود (14/ 54).
(26) البداية والنهاية (4/ 364).
(27) الروض الأُنف (7/ 182، 183).
(28) دلائل النبوة (5/ 199).
(29) المغازي ص 610.
مجموعة من الأخبار والروايات التي شاعت ولم تثبت في غزوة حنين، وذلك من الناحية الحديثية، ومنها: تخييره صفوان بن أمية، محاولة شيبة بن عثمان قتل رسول الله –صلى الله عليه وسلم، وإعطاء معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه مائة من الإبل.
1- تخييره صفوان بن أمية
أخرج الإِمام مالك رحمه الله في الموطأ عن ابن شهاب أنه بلغه: "أن نساءً كنّ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسلمن بأرضهن وهن غير مهاجرات، وأزواجهن حين أسلمن كفار، منهن بنت الوليد بن المغيرة وكانت تحت صفوان بن أمية، فأسلمت يوم الفتح وهرب زوجها صفوان بن أمية من الإِسلام، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه وهب بن عمير برداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانًا لصفوان بن أمية، ودعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإِسلام، وأن يَقْدم عليه، فإن رضي أمرًا قَبِلَه، وإلاّ سيّره شهرين، فلما قدم صفوان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه، ناداه على رؤوس الناس، فقال: يا محمَّد، إن هذا وهب بن عمير جاءني بردائك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيتُ أمرًا قبلته، وإلا سيرتني شهرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل أبا وهب، فقال: لا والله لا أنزل حتى تُبيّن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل لك تسير أربعة أشهر. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل هوازن بحنين فأرسل إلى صفوان بن أمية يستعيره أداة، وسلاحًا عنده، فقال صفوان: أطوعًا أم كرهًا؟ فقال: بل طوعًا، فأعاره الأداة والسلاح التي عنده، ثم خرج صفوان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر، فشهد حنينًا والطائف، وهو كافر، وامرأته مسلمة، ولم يفرّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين امرأته، حتى أسلم صفوان، واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح (1)".
قال ابن عبد البر رحمه الله: هذا الحديث لا أعلمه يتصل من وجه صحيح، وهو حديث مشهور، معلوم عند أهل السير، وابن شهاب إمام أهل السير وشهرة هذا الحديث أقوى من إسنادة إن شاء الله (2)". وقال الألباني رحمه الله: "هذا إسناد مرسل أو معضل (3)".
والقصة رواها أيضًا ابن إسحاق في السيرة فقال: حدثني محمَّد بن جعفر، عن عروة بن الزبير، قال: خرج صفوان بن أمية يريد جُدّة ليركب منها إلى اليمن، فقال عمير بن وهيب: يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربًا منك ليقذف بنفسه في البحر فأمنّه؛ صلى الله عليك، قال: هو آمن، قال: يا رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك؛ فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل فيها مكة، فخرج بها عمير حتى أدركه، وهو يريد أن يركب في البحر، فقال: يا صفوان فداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به ... فرجع معه، حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فقال صفون: إن هذا يزعم أنك قد أمنتني، قال: صدق، قال فاجعلني فيها بالخيار شهرين، قال: أنت فيه بالخيار أربعة أشهر (4)". وهذا إسناد مرسل.
تنبيه
أورد ابن كثير رحمه الله هذا الخبر في البداية والنهاية، عن ابن إسحاق موصولًا: "عروة عن عائشة" فلعلها زيادة من بعض النسّاخ.
واستعارته صلى الله عليه وسلم أدرعًا وسلاحًا من صفوان، أخرجه الإِمام أحمد (5)، و أبو داود (6)، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووفقه الذهبي (7)، والحديث اختلف أهل الحديث في تصحيحه فأعلّ ابن حزم وابن القطان طُرق هذا الحديث (8): قال ابن حزم: "ليس في شيء مما روي في العارية خبر يصح غيره (يعني حديث يعلي بن أمية)، وأما ما سواه فلا يساوي الاشتغال به (9)"، وأشار أبو عمر بن عبد البر إلى الاضطراب في هذا الحديث ثم قال: "ولا يجب عندي بحديث صفوان هذا حجة في تضمين العارية. والله أعلم (10)".
وقال البهيقي بعد أن رواه: "وبعض هذه الأخبار وان كان مرسلًا فإنه يقوى بشواهده مع ما تقدم من الموصول. والله أعلم (11)". والحديث صححه الشيخ الألباني بتعدد طرقه كما في (الإرواء (12)) و (السلسة الصحيحة (13)) وانظر نصب الراية للزيلعي (3/ 377) و (4/ 116، 117).
2- قول الرسول عن عباس بن مرداس: اذهبوا فاقطعوا عني لسانه
أخرج الإِمام مسلم -رحمه الله- في صحيحه عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - في تقسيم غنائم غزوة حنين- قال: أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس:
أتجعل نَهْبي ونهب العُبَيْد ... بين عُيينة والأقرع
فما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وماكنت دون أمرى منهما ... ومن تخفض اليوم لايُرفع
فْأتمّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة (14)".
وفي رواية ابن إسحاق [[زيادة]] في أسماء المؤلفة قلوبهم، وأربعة أبيات أخرى، وفي آخره: "قال ابن إسحاق: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فاقطعوا عني لسانه، فأعطوه حتى رضي، فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم (15)".
وأخرجه أيضًا الواقدي (16) وابن سعد من طريقين أحدهما عن الواقدي. والآخر عن عارم بن الفضل ... عن هشام بن عروة عن عروة: "أن العباس بن مرداس قال أيام خيبر ..."، والخبر مرسل، وفيه أن ذلك يوم خيبر.
قال الحافظ العراقي -رحمه الله: "وأما زيادة "اقطعوا عني لسانه" فليست في شيء من الكتب المشهورة، وذكرها ابن إسحاق في السيرة بغير إسناد (17)".
3- قول صفوان بن أمية: ما طابت بهذا نفس أحد قطّ إلاَّ نبي
روى الواقدي أن صفوان بن أمية رضي الله عنه كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة حنين، ينظر إلى الغنائم، فجعل ينظر إلى شِعْب ملأى نِعَمًا وشاء ورعاء، فأدام النظر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه، فقال: "أعجبك يا أبا وهب هذا الشِّعب؟ " قال: نعم، قال: "هو لك وما فيه" فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا نفس أحد قطّ إلا نبي وأشهد أنك رسول الله (18).
والواقدي كما سبق متروك على سعة علمه.
ويغني عن هذه الرواية ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن شهاب قال: "غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح فتح مكة ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين فنصر الله دينه والمسلمين. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النَعَم، ثم مائة، ثم مائة. قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطينى حتى إنه لأحب الناس إلىّ (19)".
وفيه عن رافع بن خديج قال: "أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل ... (20)".
وسخاؤه -صلى الله عليه وسلم- لا يُدرك، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: "ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإِسلام شيئًا إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة (21)".
2 - إعطاء معاوية بن أبي سفيان مئة من الإبل
ومنها ما ذكره الواقدي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه مائة من الإبل، وأربعين أوقية. أي من غنائم حنين. قال الإِمام الذهبي رحمه الله لما أورد ذلك في (السير): "قلت: الواقدي لا يعي ما يقول: فإن كان معاوية كما نقل قديم الإِسلام (22)، فلماذا يتألفه النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولو كان أعطاه، لما قال عندما خطب فاطمة بنت قيس: "أما معاوية فصعلوك لا مال له (23)".
shapeadry.jpg
محاولة شيبة بن عثمان قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم
محاولة شيبة بن عثمان قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم
3 - محاولة شيبة بن عثمان قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق -رحمه الله: "وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، أخو بني عبد الدار، قلت اليوم (يوم حنين) أُدرك ثأري من محمَّد، وكان أبوه قُتل يوم أحد، اليوم أقتل محمدًا. قال: فأدرت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي، فلم أُطق ذاك، وعلمتُ أنه ممنوع مني (24)".
ورواه البيهقي في (الدلائل) من طريق: الوليد بن مسلم، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن شيبة بن عثمان قال: لما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين قد عري (*)، ذكرت أبي وعمي، وقتل علي وحمزة إياهما. فقلت: اليوم أُدرك ثأري من محمَّد، قال: فذهبت لأجيئه عن يمينه، فإذا أنا بالعباس قائم، عليه درع بيضاء كأنها فضة يكشف عنها العجاج، فقلت: عمّه لن يخذله، قال: ثم جئته عن يساره، فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث، فقلت: ابن عمه ولن يخذله، قال ثم جئته من خلفه فلم يبق إلا أن أسوّره سورةً بالسيف، إذ رُفِعَ لي شُواظ من نار بيني وبينه كأنه برق، فخفت يمحشني (*)، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى، والتفت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "يا شيب، يا شيب أُدن مني، اللهم أذهب عنه الشيطان"، قال فرفعت إليه بصري، ولهو أحب إليّ من سمعي وبصري. وقال: "يا شيب قاتل الكفار (25)". قال الذهبي لما أورده: "غريب جدًا (26)".
وعزاه الهيثمي في (المجمع) إلى الطبراني، وقال: "وفيه أبو بكر الهذلي وهو ضعيف (27)". ا. هـ.
وهذا قصور في الجرح، فقد نص الذهبي، وابن حجر على أنه متروك (28)". ثم ساق البيهقي بسنده عن أيوب بن جابر عن صدقة بن سعيد، عن مصعب بن شيبة عن أبيه قال: خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم، والله ما أخرجني إسلام، ولكن أنفت أن تظهر هوزان على قريش. فقلت وأنا واقف معه: يا رسول الله إني أرى خيلًا بُلقًا. قال: "يا شيبة، إنه لا يراها إلا كافر"، فضرب يده على صدري، ثم قال: "اللهم اهد شيبة" فعل ذلك ثلاثًا، حتى ما كان أحد من خلق الله أحبّ إليّ منه (29)". وذكر الحديث.
وأيوب بن جابر بن سيّار، ضعيف (30). وصدقة بن سعيد الحنفي قال عنه الحافظ مقبول (31). أي عند المتابعة، وإلا فليّن الحديث.
ولم أجد - فيما وقفت عليه - لشيبة بن عثمان ابنًا يسمى مصعبًا قد تُرجم له. وفي الرواة: مصعب بن شيبة بن جبير بن شيبة بن عثمان بن أبي طلحة من الخامسة، فهو ابن لحفيد صاحب القصة. قال عنه أحمد: روى أحاديث مناكير، وقال النسائي: منكر الحديث، وقال الدارقطني: ليس بالقوي ولا بالحافظ، وضعفه أبو داود. ووثقه ابن معين والعجلي (32). ولذا اختار الحافظ في التقريب أنه "لين الحديث (33)".
والقصة ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية (34) عن الواقدي عن أشياخه. والواقدي متروك كما سبق. وعزاها ابن حجر في (الإصابة) - لغير من سبق ذكره - إلى ابن أبي خيثمة عن مصعب النميري، والبغوي. ثم قال: "قال ابن السكن: في إسناد قصة إسلامه نظر (35)".
وابن السكن هو: "الإِمام الحافظ المجود الكبير أبو علي، سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن .. جمع وصنف وجرح وعدّل، وصحح وعلل (36) ت 353 هـ". وقد وصفه ابن حجر بالجلالة والإتقان (37).
المصدر:كتاب: ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية
(1) الموطأ. كتاب النكاح، باب نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله (2/ 542).
(2) التهميد (12/ 19).
(3) إرواء الغليل (6/ 377 - 338).
(4) الروض الأنف (7/ 115، 116).
(5) الفتح الرباني (15/ 129) كتاب الوديعة والعارية، باب في ضمان الوديعة والعارية.
(6) عون المعبود (9/ 476) كتاب الإجارة، باب في تضمين العارية.
(7) المستدرك (3/ 51).
(8) التلخيص الحبير (36).
(9) المحلى (9/ 173).
(10) التمهيد (12/ 41).
(11) السنن الكبرى (6/ 90).
(12) (5/ 344 - 346).
(13) (2/ 208).
(14) كتاب الزكاة، إعطاء المؤلفة ومن يُخاف على إيمانه (7/ 155 نووي).
(15) الروض الأنف (7/ 248).
(16) المغازي (3/ 947).
(17) تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (4/ 1673) رقم 2619.
(18) المغازي (3/ 946).
(19) مسلم (15/ 73، نووي). قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: " .. وظاهره الانقطاع بين سعيد وصفوان، وعند أحمد والترمذي عن صفوان، وظاهره الاتصال، ولكن الترمذي رجّح الأول، وأيده ابن العربي في العارضة فقال: لأن سعيدًا لم يسمع من صفوان شيئًا" (فقه السيرة، ص 394).
(20) مسلم (7/ 155، نووي).
(21) مسلم (15/ 72 نووي).
(22) ذكر الواقدي أن معاوية أسلم بُعيد الحديبية، وأخفى إسلامه.
(23) سير أعلام النبلاء (3/ 122).
(24) الروض الأنف (7/ 169).
(*) أي: انكشف.
(*) أي: يحرقني، وفي الحديث "فيخرجون من النار وقد امتحشوا"
(25) دلائل النبوة (5/ 145).
(26) المغازي ص 583.
(27) مجمع الزوائد (6/ 184).
(28) المغني في الضعفاء (1/ 432) لسان الميزان (7/ 454) والتقريب (2/ 401).
(29) الدلائل (5/ 146).
(30) التقريب (1/ 89).
(31) (1/ 366).
(32) التهذيب (10/ 162)
(33) 2/ 215
(34) 8/ 213
(35) الإصابة (2/ 157)
(36) سير أعلام النبلاء (16/ 117)
(37) الإصابة (4/ 475).
قول الرسول لعكرمة بن أبي جهل: مرحبا بالراكب المهاجر
مما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية ما يتعلق بقصة إسلام عكرمة بن أبي جهل –رضي الله عنه، وقول الرسول –صلى الله عليه وسلم- له: مرحبا بالراكب المهاجر، فما صحة ذلك من الناحية الحديثية ؟
قال الترمذي في سننه: "حدثنا عبدُ بن حُميد وغير واحد قالوا: أخبرنا موسى بن مسعود عن سفيان عن أبي إسحاق عن مصعب بن سعد عن عكرمة بن أبي جهل –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم جئته: "مرحبًا بالراكب المهاجر"، ثم قال الترمذي: وهذا حديث ليس إسناده بصحيح، لا نعرفه مثل هذا إلا من حديث موسى بن مسعود عن سفيان، وموسى ضعيف في الحديث. وروى عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق مرسلًا، ولم يذكر فيه عن مصعب بن سعد، وهذا أصح (1)".
وذكر الهيثمي في (مجمع الزوائد) ثلاث روايات وعزاها إلى الطبراني، ثم قال عن الأولى: "وإسناده منقطع"، وقال عن الراوية الثانية: "رواه الطبراني مرسلًا ورجاله رجال الصحيح"، وقال عن الثالثة: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، إلا أن مصعب بن سعد لم يسمع من عكرمة (2)".
وأشار الحافظ ابن حجر في (الفتح) إلى صحة الحديث، وذلك في شرحه لحديث وفد عبد القيس، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لهم: "مرحبا بالقوم" فقال: "وقد تكرر ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- ففي حديث أم هانئ "مرحبا بأم هانئ" وفي قصة عكرمة بن أبي جهل "مرحبا بالراكب المهاجر"، وفي قصة فاطمة "مرحبًا بابنتي" وكلها صحيحة (3)".
ولكنه -رحمه الله- قال في ترجمة عكرمة بن أبي جهل -رضي الله عنه- في (الإصابة): "له عند الترمذي حديث من طريق مصعب بن سعد عنه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم جئته: "مرحبًا مرحبًا بالراكب المهاجر" وهو منقطع؛ لأن مصعبًا لم يدركه (4)". وكتاب (الإصابة) صنفه بعد (الفتح).
وفي (التهذيب) في ترجمة عكرمة: "قال أبو حاتم: ما أظن مصعبًا سمع منه (5)". وقال الإِمام البخاري: "لم يسمع من عكرمة (6)".
والحديث أخرجه الحاكم في (المستدرك) عن أبي إسحاق عن مصعب بن سعد عن عكرمة بن أبي جهل –رضي الله عنه .. ثم قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي بقوله: "صحيح، لكنه منقطع (7)"، أي بين مصعب وعكرمة. وأورده (الذهبي) في تاريخ الإِسلام ثم قال: "والحديث ضعيف السند (8)".
فائدة
اشتهر عند البعض حديث: "رأيت لأبي جهل عذقًا في الجنة"، فلما أسلم عكرمة بن أبي جهل قال -صلى الله عليه وسلم: "يا أمّ سلمة هذا هو"، أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال الذهبي في التخليص: "لا، فيه ضعيفان (9)"، وضعفه الألباني (10) وسعد الحميّد (11).
المصدر:كتاب: ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية
(1) تحفة الأحوذي (8/ 3 - 5).
(2) مجمع الزوائد (9/ 385).
(3) فتح الباري (1/ 131).
(4) الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 490).
(5) تهذيب التهذيب (7/ 258).
(6) تهذيب التهذيب (10/ 160).
(7) المستدرك (3/ 271).
(8) تاريخ الإِسلام، عهد الخلفاء الراشدين، ص 100.
(9) المستدرك (3/ 271).
(10) الضعيفة (8/ 124). رقم 3633.
(11) مختصر استدراك الذهبي على الحاكم لابن الملقن (4/ 1862).
اذهبوا فأنتم الطلقاء، يستدل بها أهل العلم على عفو رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن أهل مكة عندما دخلها فاتحا، فهل ثبت صحة هذه المقولة من الناحية الحديثية ؟
قال ابن إسحاق -رحمه الله: "فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، أَلا كل مأْثرة أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدميّ هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ... ثم قال: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء (1)".
قال الحافظ العراقي -رحمه الله: "رواه ابن أبي الدنيا في كتاب العفو وفي ذم الغضب، ومن طريقه رواه ابن الجوزي في الوفاء وفيه ضعف (2)". وذكره ابن السبكي في الأحاديث التي لم يجد لها إسنادًا في إحياء علوم الدين (3).
وضعفه الشيخ الألباني -رحمه الله- بقوله: ".. وهذا سند ضعيف مرسل. لأن شيخ ابن إسحاق لم يدرك أحدًا من الصحابة، بل هو يروي عن التابعين وأقرانه، فهو مرسل أو معضل (4)"، وكذا ضعفه في تخريجه لأحاديث (فقه السيرة) (5) وقال رده على البوطي: "هذا الحديث على شهرته ليس له إسناد ثابت .. (6)".
ولا ريب أنه -صلى الله عليه وسلم- قد أمّن أهل مكة على أنفسهم بقوله -صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن (7)".
وهو أمر لم يعرف التاريخ، ولن يعرف له مثيلًا في العفو والصفح. أكثر من عشرين عامًا قضاها مشركو مكة في حرب هذه الدعوة والصدّ عن سبيلها، ومعاداتها، وما تركوا من حيلة إلا جربوها، وطريق إلا سلكوه ليحولوا بين الناس وبين هذا الدين وكم تفننوا في تعذيب الأتباع، والنيل منهم، والتضييق عليهم، بل طاردوهم حتى خارج الجزيّرة.
ثم شنوا ضدهم ثلاثة حروب، ومع هذا كله يدخل -صلى الله عليه وسلم- مكة -ومعه عشرة آلاف مقاتل- متواضعًا خاشعًا لله، "وهذا التواضع في هذا الموطن عند دخولة -صلى الله عليه وسلم- مكة في مثل هذه الجيش الكثيف العرمرم، بخلاف ما اعتمده سفهاء بني إسرائيل حين أُمروا أن يدخلوا باب بيت المقدس وهم سجود. أي ركّع. يقولون: حِطّة، فدخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون: حنطة في شعرة (8)".
وصار بعض مُسلمة الفتح يُعرفون بالطلقاء، كما في البخاري: "لما كان يوم حنين .. ومع النبي -صلى الله عليه وسلم- عشرة آلاف ومن الطلقاء .."، قال الحافظ معلقًا على رواية: "عشرة آلاف من الطلقاء" "فإنّ الطلقاء لم يبلغوا هذا القدر ولا عُشر عُشره (9)".
وأخرج مسلم عن عن أنس -رضي الله عنه- قول أم سليم يوم حنين للرسول -صلى الله عليه وسلم-: "اُقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك .. (10)".
فائدة الجمهور على أن مكة فتحت عَنوة. انظر: (زاد المعاد 3/ 119) و (فتح الباري 8/ 12).
وذكر ابن حجر –رحمه الله- أنه لم يبق أحد من قريش بعد الفتح لم يُسلِم (التهذيب 5/ 62).
المصدر:كتاب: ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية
(1) الروض الأنف (7/ 34).
(2) تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (4/ 1825).
(3) طبقات الشافعية (6/ 323).
(4) سلسله الأحاديث الضعيفة (3/ 308)
(5) ص 382.
(6) دفاع عن الحديث النبوي، والسيرة ص 32.
(7) رواه مسلم (12/ 133 نووي).
(8) ابن كثير، البداية والنهاية (4/ 293).
(9) 8/ 54، 55 فتح.
(10) 12/ 188 نووي.
مجموعة من الأخبار والروايات التي شاعت ولم تثبت في فتح مكة، وذلك من الناحية الحديثية، ومنها: قدوم أبي سفيان لتجديد الصلح، وقول الرسول –صلى الله عليه وسلم- لبني طلحة: خذوها خالدة تالدة، ومحاولة فضالة بن عمير قتل الرسول –صلى الله عليه وسلم.
قدوم أبي سفيان لتجديد الصلح
قال ابن إسحاق-رحمه الله-: "ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- طوته عنه، فقال: يا بُنيّة، ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحبّ أن تجلس على فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: والله لقد أصابك يا بنيّة بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلّمه، فلم يردَّ عليه شيئًا، ثم ذهب إلى أبي بكر .. (1)"، ثم ذكر ذهابه إلى عمر ثم علي.
قال الشيخ الألباني -رحمه الله: "ضعيف، رواه ابن إسحاق بدون إسناد" (2). ورواه الواقدي (3) أيضًا، وهو متروك.
وقدوم أبي سفيان إلى المدينة لتجديد العهد لم يثبت -حسب علمي- بسند صحيح متصل، وإنما جاء من مرسل عكرمة عند ابن أبي شيبة، ومن مرسل محمَّد بن عباد بن جعفر أخرجه مسدّد، وكذا عند ابن عائذ عن عروة بن الزبير (4).
بل أخرج البخاري: "لما سار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح، فبلغ ذلك قريشًا، خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبُديل بن ورقاء يلتمسون الخبر ... فرآهم ناس من حرس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأدركوهم فأخذوهم، فأتوا بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأسلم أبو سفيان .." (5).
وأخرج مسلم: "أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم. ..". قال النووي -رحمه الله: "وهذا الإتيان لأبي سفيان كان وهو كافر في الهدنة بعد صلح الحديبية .. (6)".
وجاء في شرح الأُبّي: "قلت: الظاهر أن هذا كان قبل إسلامه؛ ولذا قال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها، ولم يقل أتقولون ذلك لرجل مسلم (7)".
ولا ريب أنه لم يكن قد أسلم، لكن متى كانت هذا القصة؟.
الظاهر أنها بعد أخذ حرس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له، كما في رواية البخاري السابقة وفيها: "فأدركوهم فأخذوهم .. فأسلم أبو سفيان .. ". ولم يكن إسلامه فور أخذه، بل بعد ذلك لما حُبس بمضيق الوادي وشهد جنود الله تمرّ أمامه، أشبه ما يكون اليوم بالعرض العسكري، وقال في آخر هذا العرض للعباس: "لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم لعظيم، فقال له العباس: ويحك يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم إذًا ..". وهو خبر طويل، أخرجه ابن إسحاق (8)، وأخرج الشيخان طرفًا منه، كما سبق، وساقه ابن حجر –رحمه الله- بطوله في (المطالب العالية) وعزاه إلى إسحاق بن راهوية، وقال: "هذا حديث صحيح (9)"، وصححها الشيخ الألباني، وقال: "وهو أصح وأتم ما وقفت عليه مسندًا في قصة فتح مكة حرسها الله (10)"، وحسّنها الشيخ سلمان العودة (11).
محاولة فضالة بن عمير قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم
قال ابن هشام: "حدثني من أثق به أن فضالة بن عمير بن الملوح الليثي أراد قتل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ماذا كنت تُحدِّث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله، قال: فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم قال: استغفر الله، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما مِنْ خَلْق الله شيء أحبَّ إليّ منه (12)".
قال الشيخ الألباني -رحمه الله: "ضعيف، رواه ابن هشام .. بإسناد معضل (13)". وقال أيضًا في رده على البوطي: "لا يصح؛ لأن ابن هشام لم يذكر له إسنادًا متصلًا ليُنظر في رجاله (14)".
قول الرسول لبني طلحة: خذوها خالدة تالدة ..
ومما اشتهر في فتح مكة ما رواه ابن إسحاق قال: "حدثني محمَّد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما نزل مكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعًا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده، فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة ففُتحت له، فدخلها .."، ثم قال ابن إسحاق: "فحدثني بعض أهل العلم ... فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله أجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم برّ ووفاء (15)". وسند ابن إسحاق أول الخبر حسن، قاله الحافظ في الفتح (16). أما باقيه فقد ساقه -رحمه الله- من غير سند.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (يعني يوم فتح مكة): "خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم. يعني حجابة الكعبة"، أورده الهيثمي في (المجمع) ثم قال: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط"، وفيه عبد الله بن المؤمِّل وثّقه ابن حبان، وقال: يخطئ، ووثقه ابن معين في رواية" وضعفه جماعة (17)".
وذكر الحافظ القصة في الفتح بقوله: "وروى ابن عائد من مرسل عبد الرحمن بن سابط أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دفع مفتاح الكعبة إلى عثمان [بن أبي طلحة] فقال: خذها خالدة مخلدة، إني لم أدفعها إليكم، ولكن الله دفعها إليكم، ولا ينزعها منكم إلا ظالم. ومن طريق ابن جريج أن عليًا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: اجمع لنا الحجابة والسقاية، فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فدعا عثمان: فقال: خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم (18)".
والأول مرسل، والثاني منقطع بين ابن جريج وعلي -رضي الله عنه-. والحديث أورده الذهبي في (السير) وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: "إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن المؤمل (19)". وفي ترجمة عثمان بن طلحة من (التهذيب): "قال مصعب الزبيري: دفع النبي -صلى الله عليه وسلم- مفتاح الكعبة لشيبة بن عثمان وقال: "خذوها يا بني أبي طلحة، خالدة تالدة .. (20)"، وكذا في ترجمة شيبة بن عثمان بن أبي طلحة.
المصدر:كتاب: ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية
(1) الروض الأُنف (7/ 56 - 57).
(2) تخريج أحاديث فقه السيرة، ص 373.
(3) المغازي (2/ 792).
(4) انظر فتح الباري (8/ 6).
(5) باب أين ركز النبي -صلى الله عليه وسلم- الراية يوم الفتح (8/ 5 فتح).
(6) فضائل سلمان وصهيب وبلال (16/ 66 نووي).
(7) شرح الأُبي على مسلم (8/ 432).
(8) الروض الأُنف (7/ 60).
(9) المطالب العالية (4/ 248).
(10) السلسلة الصحيحة رقم 3341.
(11) الغرباء الأولون (1/ 216).
(12) الروض الأنف (7/ 114).
(13) تخريج أحاديث فقه السيرة (ص 383).
(14) دفاع عن الحديث النبوي والسيرة. ص 33.
(15) الروض الأنف (7/ 74،75).
(16) فتح الباري (8/ 19)
(17) مجمع الزوائد (3/ 285).
(18) فتح الباري (8/ 19).
(19) سير أعلام النبلاء (3/ 12).
(20) تهذيب التهذيب (7/ 124) و (4/ 376). وفي البخاري (6/ 92) و (8/ 18 فتح) باب دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- من أعلى مكة عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفًا أسامة بن زيد ومعه بلال ومعه عثمان بن طلحة من الحجبة، حتى أناخ في المسجد، فأمره أن يأتي بمفتاح البيت .. ) وأخرجه مسلم أيضًا (9/ 84 نووي).
مجموعة من الأخبار والروايات التي شاعت ولم تثبت في غزوة مؤتة، وذلك من الناحية الحديثية، ومنها: سبب غزوة مؤتة، قول الصحابة لجيش مؤتة: يا فرار، وازورار سرير عبد الله بن رواحة عن صاحبيه، وانسحاب خالد بن الوليد بالجيش من مؤتة.
سبب غزوة مؤتة
ينفرد الواقدي بذكر السبب المباشر لغزوة مؤتة، وهو أن شرحبيل بن عمرو الغساني، قَتل صبرًا الحارث بن عمير الأزدي، الذي أرسله الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى ملك بُصرى بكتابه، وكانت الرسل لا تُقتل، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأرسل الجيش إلى مؤتة. والواقدي ضعيف لايُعتمد عليه خاصة إذا انفرد بالخبر (1)".
والقول بأن الواقدي ضعيف فيه تساهل، فقد نصَّ أكثر علماء الجرح والتعديل على أنه متروك، منهم: ابن المبارك، والإِمام أحمد، والبخاري، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم (2). ولهذا قال الحافظ ابن حجر –رحمه الله- في (التقريب): "متروك مع سعة علمه (3)"، وقال عنه في الفتح: "لا يُحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف (4)".
قولهم: يا فُرَّار
قال ابن إسحاق: "فحدثنى محمد بن الزبير، عن عروة بن الزبير قال: لما دنوا من حول المدينة تلقاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون، قال. ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله مقبل مع القوم على دابة ... قال: وجعل الناس يَحْثُون على الجيش التراب ويقولون: يا فُرّار، فررتم في سبيل الله؟ قال: فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ليسو بالفرار، ولكنهم الكُرّار إن شاء الله تعالى (5)".
قال الإِمام ابن كثير –رحمه الله- لما أورده في (البداية): "وهذا مرسل من هذا الوجه، وفيه غرابة، وعندي أن ابن إسحاق قد وهم في هذا السياق، فظن أن هذا الجمهور الجيش، وإنما كان للذين فروا حين التقى الجمعان، وأما بقيتهم فلم يفروا بل نصروا، كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمسلمين وهو على المنبر في قوله: "ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه" فما كان المسلمون ليسمونهم فرارًا بعد ذلك، وإنما تلقوهم إكرامًا وإعظامًا (6)"، ثم أورد خبر ابن إسحاق في موضع آخر وقال: "هذا مرسل (7)".
وقال الشيخ الألباني في تعقبه على البوطي: "فهذا منكر، بل باطل، ظاهر البطلان، إذ كيف يُعقل أن يقابَل الجيش المنتصر مع قلة عدده وعُدده، على جيش الروم المتفوق عليهم في العدد والعُدد أضعافًا مضاعفة، كيف يعقل أن يقابَل هؤلاء من الناس المؤمنين بحثوا التراب ... (8)".
ازْوِرار سرير ابن رواحة عن صاحبيه
قال ابن إسحاق: "ولما أصيب القوم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني: أخذ الراية زيد بن حارثة، فقاتل بها حتى قتل شهيدًا، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قُتل شهيدًا، قال: ثم صمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى تغيرتْ وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال: ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قُتل شهيدًا، ثم قال: لقد رُفعوا إليّ في الجنة، فيما يرى النائم، على سُرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارًا عن سريري صاحبيه. فقلت: عمَّ هذا؟ فقيل لي: مضيا، وتردّد عبد الله بعض التردد، ثم مضى (9)".
قال ابن كثير -رحمه الله- لما أروده في (البداية): "هكذا ذكر ابن إسحاق هذا منقطعًا (10)".
وذكره الهيثمي -رحمه الله- في (المجمع) وقال: "رواه الطبراني ورجاله ثقات (11)"، ولا يخفى أن هذه العبارة لا تعني صحة الحديث، بل ثقة رجاله فحسب.
وقال الألباني -رحمه الله: "رواه ابن إسحاق بلاغًا، فهو ضعيف الإسناد (12)".
وأشار إلى ضعف القصة أيضًا الشيخ سلمان العودة -حفظه الله- في شرحه لبلوغ المرام (13).
وذكرها ابن القيم في (الزاد) وقال المحققان: "أخرجه ابن هشام عن ابن إسحاق بلاغًا (14)".
وإخباره -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بنتيجة المعركة، واستشهاد قادتها الثلاثة ثابت في الصحيح، فقد روى البخاري في صحيحه عن أنس -رضي الله عنه:" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نعى زيدًا وجعفرًا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب -وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم (15)".
فائدة
قال ابن كثير -رحمه الله- في: "فصل من استشهد يوم مؤتة": " .. فالمجموع على القولين اثنا عشر رجلًا، وهذا عظيم جدًا أن يتقاتل جيشان متعاديان في الدين، أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله عُدّتها ثلاثة آلاف وأخرى كافرة وعُدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف، ومن نصارى العرب مائة ألف، يتبازون ويتصاولون ثم مع هذا كله لا يُقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلًا، وقد قُتل من المشركين خلق كثير، هذا خالد وحده يقول: "لقد أندقّت في يدي يومئذ تسعة أسياف، وما صبرت في يدي إلا صفيحة يمانية (16)".
فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها؟ دع غيره من الأبطال والشجعان من حملة القرآن، وقد تحكموا في عبدة الصلبان عليهم لعائن الرحمن في ذلك الزمان وفي كل أوان. وهذا مما يدخل في قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 13] (17).
انسحاب خالد بن الوليد بالجيش
قال الواقدي: حدثنا عطّاف بن خالد قال: لما قُتل ابن رواحة مساءً بات خالد بن الوليد، فلما أصبح غدًا وقد جعل مقدمته ساقته وساقته مقدمته، وميمنته ميسرته، وميسرته ميمنته، فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئتهم، وقالوا: قد جاءهم مَدَدٌ، فرعبوا وانكشفوا منهزمين، فقُتلوا مقتلة لم يُقتلها قوم" (18).
ورغم شهرة هذا الخبر، فإني لم أرَ من ذكره غير الواقدي وعنه نقل الآخرون، وهو -رحمه الله- متروك، على سعة علمه. كما قال الحافظ في التقريب. وشيخه عطّاف -وهو صدوق يَهِمْ- بينه وبين تاريخ المعركة أكثر من مائة وخمسين سنة.
وعبقرية أبي سليمان سيف الله -رضي الله عنه- ومهارته في القيادة مشهورة معلومة، وليست بحاجة إلى مثل هذه القصة التي لم تثبت.
المصدر:كتاب: ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية
(1) السيرة النبوية الصحيحة - د. العمري (2/ 467).
(2) تهذيب التهذيب (9/ 363 - 367)
(3) تقريب التهذيب (2/ 194)
(4) فتح الباري (7/ 472) وكذا في (8/ 157، 48) وانظر (9/ 113).
(5) الروض الأنف (7/ 19).
(6) البداية والنهاية (4/ 248)
(7) البداية والنهاية (4/ 253)
(8) دفاع عن الحديث النبوي والسيرة. ص 31.
(9) الروض الأنف (7/ 17، 16).
(10) البداية والنهاية (4/ 245).
(11) مجمع الزوائد (6/ 160).
(12) حاشية فقه السيرة، ص 368.
(13) الشريط الحادي عشر، ثم طبع، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الثانية، 1427 هـ، وهي في (1/ 304).
(14) زاد المعاد (3/ 383).
(15) أخرجه البخاري (7/ 515 فتح).
(16) ) البداية والنهاية (4/ 259).
(17) البداية والنهاية (4/ 247).
(18) المغازي (2/ 764).