- إنضم
- 23 أكتوبر 2016
- المشاركات
- 1,505
- نقاط التفاعل
- 1,029
- النقاط
- 71
- محل الإقامة
- الجزائر العاصمة
- الجنس
- أنثى
السلام عليكم
الحمد لله، الحمد لله الذي قال: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيم. وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون. الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون).
والحمد لله الذي قال: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام) [الزمر: 36].
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادةَ مَن خالطت كلمة التوحيد قلبه وفؤاده، فعلم منها ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، هو البشير النذير، بشَّر وأنذَر، وقال وعلَّم، فَطُوبى لمَن أخذ بسنَّته واقتفى أثره واهتدى بهداه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهداهم إلى يوم
الدين. أما بعد:
فيا أيها الإخوان! تعوَّذوا بالله جلَّ وعلا من الفتن، تعوَّذوا بالله جلَّ وعلا من الفتن التي تحرق الدين، وتحرق العقل، وتحرق البدن، وتحرق كل خير، تعوَّذوا بالله منها؛ فإنه لا خير في فتنة أبداً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوَّذ بالله كثيراً من الفتن، وكان عليه الصلاة والسلام يحذَّر من الفتن.
ولهذا؛ لما ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه كتابَ الفتن؛ ابتدأه بقوله: باب: قول الله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ..)، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذّر من الفتن.
وذلك أن الفتن إذا أتت؛ فإنها لا تصيب الظالم وحده، وإنما تصيب الجميع، ولا تبقي –إذا أتت –لقائل مقالاً، وإنما يجب علينا أن نحذرها قبل وقوعها، وأن نباعد أنفسنا حقّاً بعداً شديداً عن كل ما يقرب إلى الفتنة أو يدني منها؛ فإنَّ من علامات آخر الزمان كثرة الفتن؛ كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتقارب الزمان، ويقلُّ العمل، ويلقى الشح، وتكثر-أو قال: تظهر-الفتن".
وذلك لأن الفتن إذا ظهرت؛ فإنه سيكون معها من الفساد ما يكون مدنياً لقيام الساعة.
ومن رحمة نبي الله صلى الله عليه وسلم بنا: أن حذَّرنا من الفتن كلها.
والله جلَّ وعلا قد حذَّرنا بقوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسير هذه الآية: "هذه الآية؛ وأن كان المخاطب بها هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنها عامة لكل مسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحذر من الفتن".
وقال الآلوسي أيضا في "تفسيره" عند هذه الآية: "فسرت الفتن في قوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةًُ.)؛ فسرت بأشياء: منها: المداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، و على البدع إذا ظهرت. ومنها: أشياء غير ذلك".
قال: "ولكلّ معنى بحسب ما يقتضيه الحال".
يعني: أنه إذا كان الزمان زمان تفرُّق واختلاف؛ فليحذِّر بعضنا بعضاً بقوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةًُ.)؛ يعني: اتقوا تفرّقاً واختلافاً لا يصيب مآله ولا تصيب نتيجته الذين ظلموا منكم خاصة، وإنما يصيب الجميع، ولا يخص ذلك الأثر-للتفرق والاختلاف مثلاً-الظالم وحده.
ولهذا؛ فإننا في هذا المقام أحببنا أن نذكّر بهذا الأمر؛ لأننا نرى صحوةً إسلامية راشدةً بإذن الله في هذه البلاد، التي هي القائمة بشأن التوحيد، والقائمة بدعوة التوحيد في هذا الزمان، الذي لا نرى فيه قائماً بدعوة التوحيد إلا ما شاء الله جلّ وعلا.
فكان لزاماً أن نذكر هؤلاء، وأن نذكر أنفسنا جميعاً، بلزوم الاعتناء بالعلم النافع، بلزوم الاعتناء بعقيدة السلف الصالح، بلزوم الاعتناء بعقيدة أهل السنة والجماعة.
فإن هذه الصحوة المباركة، الصحوة التي نرجو منها أن تنشر دين الله، وأن تحبب الشريعة والاستقامة للناس، نرجو منها أن تكون ثابتة على العلم النافع، لأن شبابنا اليوم يحرصون كثيراً على العلم النافع، يحرصون كثيراً على كلام أهل السنة والجماعة.
ولهذا؛ أجد لزاماً علىّ أن أنقل لهم، وأذكرهم، وأبين لهم ما أعلمه من كلام أئمتنا، ومن كلام أهل السنة والجماعة، الذي بنوه على مقال المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل وعلى كلام المولى سبحانه.
فإن الفتن إذا لم يرعَ حالها، ولم ينظر إلى نتائجها؛ فإنه سيكون الحال حال سوء في المستقبل، إن لم يكن عند أهل العلم من البصر النافذ والرؤية الحقا ما يجعلهم يتعاملون مع ما يستجد من الأحوال، أو يظهر من الفتن؛ على وفق ما أراد الله جلّ وعلا وأراده رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالضوابط والقواعد لا بدَّ أن تُرعى؛ فإن الضوابط بها يعصم المرء نفسه من الوقوع في الغلط، فالضوابط الشرعية والقواعد المرعية إذا أخذنا بها ولازمناها وأقتفونا أثرها؛ فإن عند ذلك سيحصل لنا من الخيرات ما لن نندم عليه بإذن الله.
فالضابط في كل أمر لابد من معرفته، حتى يتسنى لك – أيها المسلم – أن تعصم نفسك من أن تنساق أو تسوق نفسك إلى ما لم تعلم عاقبته الحميدة، أو مالم تعلم ما يؤول إليه ذلك الأمر من مصلحة أو مفسدة.
فبهذا؛ نعلم أنه لابدَّ من رعاية الضوابط ورعاية القواعد التي بينها أهل ألسنة والجماعة.
فما تعريف الضابط والقاعدة؟
الضابط في المسألة: هو ما به نعرف ما تحكم به مسائل الباب الواحد وترجع إليه مسائل الباب الواحد.
وأما القاعدة: فهي أمر كليّ ترجع إليه المسائل في أبواب مختلفة.
ولهذا؛ كان لزاماً علينا أن نأخذ بتلك الضوابط والقواعد التي كان عليها أهل السنة والجماعة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه من يعش منكم؛ فسيرى اختلافا كثيراً؛ فعليكم بستَّني وسنًّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ" نعم.
وقد رأى الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم، رأوا اختلاف، وما نجوا إلا بما تمسكوا به من القواعد الواضحة التي كان عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان عليها الخلفاء الراشدون من بعده صلى الله عليه وسلم.
الفوائد الناجمة عن الأخذ بهذه الضوابط والقواعد:
- أول تلك الفوائد: أن رعاية الضوابط ورعاية القواعد تعصم تصور المسلم من أن يقع تصوُّره فيما لا يقره الشرع، تعصم ذلك التصور، وتضبط عقل المسلم في تصوُّراته.
ومعلوم أن المسلم إذا تصور مسألة ما دون ضابط ودون قاعدة ترجع إليها؛ فإنه سيذهب عقله إلى أنحاءِ شتى في تصرفاته في نفسه أو في أسرته أو في مجتمعه أو في أمته.
فعند ذلك نعلم أهمية رعاية تلك الضوابط وتلك القواعد، لأنها تضبط العقل –عقل المسلم- في تصوراته التي ينشأ عنها تصرفه في نفسه أو في أسرته أو في مجتمعه.
- ثانياً: ثم أن لرعاية تلك الضوابط وتلك القواعد فائدة أخرى، ألا وهي: أنها تعصم المسلم من الخطاء؛ لأنه إذا سار وراءِ رأَيه فيما يجد أو في الفتن إذا ظهرت، وحلَّلها بعقله، نظر فيها بنفسه؛ دون رعاية لضوابط وقواعد أهل السنة والجماعة؛ فإنه لا يأمن أن يقع في الخطأ، الخطأ إذا وقع فيه؛ فإن عاقبته ليست حميدة؛ لأنه يتدرج ويتفرع، وربما زاد وزاد.
فللضابط وللقاعدة إذا التزمنا بها فائدة، وذلك أنها تعصم من الخطأ.
لماذا؟
لأن تلك الضوابط وتلك القواعد؛ مَن الذي قعَّدها؟ ومن الذي ضبطنا بها؟ هم أهل السنة والجماعة؛ وَفق ما جاء في الأدلة.
ومَن سار خلف الدليل وسار خلف أهل السنة والجماعة؛ فإنه لن يندم بعد ذلك أبداً.
- ثالثا: ومن الفوائد للقفو خلف تلك الضوابط والقواعد: أنها تسلم المسلم من الإثم؛ لأنه إذا سار وفق رأيه، أو سرت وفق رأيك وما تظنه صواباً؛ دون رعاية لتلك الضوابط والقواعد؛ فإنك لا تأمن الإثم؛ لأنك لا تعلم ما سيكون عليه مستقبل الحال في مقالك أو فعلك إذا سرت وراء رأيك أو سرت وفق ما رأيته صواباً.
وأما إذا أخذت بما دل عليه الدليل من الضوابط والأصول العامة؛ فإنك ستنجو بإذن الله من الإثم، والله جلّ وعلا سيعذرك؛ لأنك سرت وفق الدليل، وقد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع.
ولهذا؛ أيها الإِخوان، يتبَّين لنا – بتلك الفوائد الثلاثة – ضرورة الأخذ بتلك الضوابط والقواعد التي سيأتي بيانها.
وهذه الضوابط والقواعد التي سنبينها مأخذها ودليلها أحد شيئين:
الأول: التنصيص على تلك القاعدة أو ذلك الضابط في الأدلة الشرعية – إما في القرآن أو في السنة -، وأخذ أهل السنة و الجماعة بما دلت عليه تلك الأدلة التي في القرآن أو في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الشيء الثاني: أن يكون مأخذها من السنة العملية المرعية، التي عمل بها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون بعدهم والأئمة – أئمة أهل السنة والجماعة- كان لهم سيرة عملية في الفتن إذا ظهرت، وفي الأحوال إذا تغيرت؛ رعوها، وأخذوا فيها بالأدلة، وطبَّقوها، ورعوها عمليّاً.
لهذا؛ لن يزيغ بصرنا، ولن تزيغ عقولنا؛ إذا أخذنا بما عملوا به، وبما أخذوا به من الأدلة، وبما ساروا فيه بالسيرة العملية.
وهذا من رحمة الله جلَّ وعلا بنا: أنه لم يتركنا دون قدوة نقتدي بها؛ فالعلماء – علماء أهل السنة والجماعة – هم الذين يُرْجَع إليهم في فهمهم وفي رأيهم وفي كلامهم؛ لأنهم علموا من الشرع، وعلموا من قواعده الكلية، ومن ضوابطه المرعية: ما يعصمهم من الخطأ، وما يعصم من الانفلات.
فلهذا؛ يتبَّين لك وجوب الأخذ بهذه الضوابط والقواعد التي سأذكرها لك الآن، ويتبَّين لك أيضاً فائدة الأخذ بها، ولزوم الأخذ بها، والمصلحة المترتبة عليها في نفسك وفي مجتمعك إذا أخذت بها وإذا رعيتها.
ومن سار خلف مهتدٍ، ووفق ما دلَّت عليه الأدلة؛ فطوبى له في سيره، وطوبى له في هداه؛ فإنه لن يندم بعد ذلك أبداً.
الضوابط والقواعد الشرعية الواجب اتباعها في الفتن
- الأول من تلك الضوابط والقواعد:
فأول تلك الضوابط والقواعد: أنه إذا ظهرت الفتن، أو تغيرت الأحوال؛ فعليك بالرفق والتأنِّي والحلم، ولا تعجل.
هذه قاعدة مهمة: عليك الرفق، وعليك التأنِّي، وعليك بالحلم.
ثلاثة أمور:
- أما الأمر الأول – وهو الرفق -؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما ثبت عنه في الصحيح: "ما كان الرفق في شئ؛ إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه".
قال أهل العلم: قوله: "ما كان في شيء إلا زانه": هذه الكلمة: "شيء" نكرة أتت في سياق النفي، والأصول تقضي بأنها تعم جميع الأشياء؛ يعني: أن الرفق محمود في الأمر كله.
وهذا قد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله"؛ قاله عليه الصلاة والسلام لعائشة الصديقة بنت الصديق، وبوّب عليه البخاري في الصحيح؛ قال؛ "باب الرفق في الأمر كله".
في كل أمر عليك بالرفق، وعليك بالتؤدة، ولا تكن غضوباً ولا تكن غير مترِّفق؛ فإن الرفق لن تندم بعده أبداً، ولم يكن الرفق في شيء إلا زانه؛ في الأفكار، وفي المواقف، فيما يجد وفيما تريد أن تحكم عليه وفيما تريد أن تتخذه عليك بالرفق، ولا تعجل، ولا تكن مع المتعجَّلين إذا تعجَّلوا، ولا مع المتسرعين إذا تسرعوا، وإنما عليك بالرفق؛ امتثالا لقول نبيك المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه".
فخذ بالزين، وخذ بالأمر المزين، وخذ بالأمر الحسن، وإياك ثم إياك من الأمر المشين، وهو أن ينزع من قولك أو فعلك الترفق في الأمر كله.
- أما الأمر الثاني؛ فعليك بالتأني؛ يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة".
والتأنّي خصلة محمودة، ولهذا قال جلّ وعلا: (ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا..).
قال أهل العلم: هذا فيه ذمُّ للإنسان، حيث كان عجولاً؛ لأن هذه الخصلة؛ من كانت فيه؛ كان مذموماً بها، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم غير متعجل.
- وأما الأمر الثالث؛ فهو الحلم، والحلم في الفتن وعند تقلب الأحوال محمود أيما حمد، ومثنىً عليه أيما ثناء؛ لأنه بالحلم يمكن رؤية الأشياء على حقيقتها، ويمكن بالحلم أن نبصر الأمور على ماهي عليه.
ثبت في صحيح مسلم من حديث الليث بن سعد عن موسى بن عُلًيّ عن أبيه: أن المستورد القرشي – وكان عنده عمرو بن العاص رضي الله عنه -؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تقوم الساعة والروم أكثر الناس". قال عمرو بن العاص له – للمستورد القرشي -: أبصر ما تقول ! قال: وما لي أن لا أقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إن كان كذلك؛ فلأن في الروم خصالاً أربعاً: الأولى: أنهم أحلم الناس عند الفتنة. الثانية: أنهم أسرع الناس إفاقةً بعد مصيبة... وعد الخصال الأربع وزاد عليها خامسة.
قال أهل العلم: هذا الكلام من عمرو بن العاص لا يريد به أن يثني به على الروم والنصارى الكفرة؛ لا ! ولكن ليبين للمسلمين أن بقاء الروم وكونهم أكثر الناس إلى أن تقوم الساعة لأنهم عند حدوث الفتن هم أحلم الناس؛ ففيهم من الحلم ما يجعلهم ينظرون إلى الأمور ويعالجونها؛ لأجل أن لا تذهب أنفسهم، ويذهب أصحابهم.
هذا ما حصل ما قاله السنوسي والأبي في شرحهما على "صحيح مسلم".
وهذا التنبيه لطيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه لا تقوم الساعة حتى يكون الروم أكثر الناس؛ لماذا؟!
قال عمرو بن العاص: لأن فيهم خصالاً أربعاً
الأولى وهي التي تهمنا من تلك الخصال: أنهم أحلم الناس عند فتنة؛ يعني: إذا ظهرت تغير الحال، وظهرت الفتن؛ فإنهم يحلمون، ولا يعجلون، ولا يغضبون؛ ليقوا أصحابهم النصارى القتل ويقوهم الفتن؛ لأنهم يعلمون أن الفتنة إذا ظهرت؛ فإنها ستأتي عليهم؛ فلأجل تلك الخصلة فيهم بقوا أكثر الناس إلى قيام الساعة.
ولهذا؛ فإننا نعجب أن لا نأخذ بهذه الخصلة التي حمد بها عمرو بن العاص الروم، وكانت فيهم تلك الخصلة الحميدة ونحن أولى بكل خير عند من هم سوانا.
الحلم المحمود في الأمر كله؛ فإنه يبصر عقل العقل في الفتنة بحلم وأناته ورفقه، فيدل على تعقله وعلى بصره.
هذا الضابط هو الأول، وهذه القاعدة الأولى التي رعاها أهل السنة والجماعة عند ظهور الفتن، وعند تقلب الأحوال.
وهذه الضوابط والقواعد بعضها ضابط وبعضها قاعدة، دمجتها لأجل اشتراك البعض مع البعض الآخر في المعنى.
- الثاني من تلك الضوابط والقواعد:
أنه إذا برزت الفتن وتغيرت الأحوال، فلا تحكم على شيء من تلك الفتن أو من تغير الحال إلا بعد تصوُّره؛ رعاية للقاعدة: "الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره".
وهذه القاعدة رعاها العقلاء جميعاً قبل الإسلام وبعد الإسلام، ودليلها الشرعي عندنا في كتاب الله جل وعلا: قال الله جل وعلا: (ولا تقف ما ليس لك به علم)؛ يعني: أن الأمر الذي لا تعلمه ولا تتصوره ولا تكون على بينة منه؛ فإياك أن تتكلم فيه، وأبلغ منه أن تكون فيه قائداً، أو أن تكون فيه متبعاً، أو تكون فيه حكماً.
"الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره"
وهذه القاعدة أنتم تستعملونها في أموركم العادية، وفي أحوالكم المختلفة، العقل لا بدَّ له من رعاية تلك القاعدة، ولا يصلح تصرفٌ ما؛ إلا بأن يرعى تلك القاعدة؛ لأنه إن لم يرع تلك القاعدة؛ فإنه سيخطئ ولاشك، والشرع قرَّرها أيما تقرير، وبين تلك القاعدة أيما بيان.
أضرب أمثلة لكي تتضح تلك القاعدة:
- فمثلاً: لو سألت واحداً منكم، وقلت له: ما حكم الإسلام في بيع المرابحة؟
قد يأتي قائل ويقول: الربح مطلوب، الربح لا شيء فيه في الشرع؛ فلا بأس في بيع المرابحة.
فيكون حكمه على هذه المسألة غلط صرف؛ لأنه لم يتصور المراد بقول القائل: ما حكم الإسلام في بيع المرابحة؟ وظن أن معنى المرابحة: هو الربح في البيع، ولأجل تصوره الذي غلط فيه أخطأ في الحكم الشرعي.
والحكم في الشرع لا بدَّ أن يُبنى على تصور صحيح، والمرابحة نوع من أنواع البيع الذي لا يجوز، تستعمله بعض البنوك الإسلامية تحايلاً على الربا، وصورته أنه مبنيُّ على توكيل للغير، وبعد التوكيل يكون هناك إلزام بالوفاء بالوعد؛ فالوعد الذي وعده الموكل لوكيله هو ملزم بالوفاء فيه، وهذا لا يجوز في الشرع، فكان بيع المرابحة غير جائز.
- مثالاً أخر يبين لك قاعدة "الحكم على الشيء فرع عن تصوره": لو سألت واحداً منكم: ما حكمناً على جماعة "شهود يهوه"؟ ماذا سيقول أحدكم؟
إن كان مطلعاً؛ فسيقول: هذه جماعة كيت وكيت، وحكم الإسلام فيها كذا وكذا.
وقد يكون قائل يقول: لا أعلم ما هذه الجماعة جماعة شهود يهوه؟ ولم أسمع بها قبل؛ فهنا لا تستطيع أن تحكم عليها، ولا تبين حكما شرعياً فيها؛ لأنك لم تتصور هذه الجماعة؛ ماهي؟ وما مبادئها؟ وهل هي إسلامية أو نصرانية أو يهودية؟ فلن تحكم عليها إلا بعد تصورها.
إذا تبين لك ذلك؛ فإن الحاكم أو المفتي أو المتكلم في المسائل الشرعية لا يجوز له أن يتكلم – رعاية لحق نفسه، ورعاية لخلاص نفسه من الإثم، ثم رعاية لحق المسلمين جميعاً، وتبرياً من القول على الله بلا علم -؛ إلا إذا حصل له أمران:
- الأمر الأول: أن يتصور القضية المطروحة تماماً؛ بحيث لا تلتبس عليه في قضية أخرى، ولا تشترك في تصوره وفهمه بمسألة أخرى، لأنه أحياناً تشترك بعض المسائل، وتقترب صورة مسألة من صورة مسألة أخرى، فينتقل ذهنك إلى مسألة مشابهة؛ فعند ذلك تقع في ذلك الخطأ.
- الأمر الثاني: أن تعلم حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة بعينها، لا في المسألة التي تشبهها.
وإذا ثبت ذلك؛ فها هنا سؤال مهمُّ: يقول أحدكم: كيف يحدث لي هذا التصور؟! كيف أتصور هذه المسألة؟! وممَّن أتصورها؟! فإن المسائل مشتبه ومتشابهة، وبعضها يشكل وبعضها قد لا أجد مَن يبيِّنه لي ويصوِّره لي التصور الصحيح.
فنقول: التصور الذي ينبني عليه الحكم الشرعي هو ما كان:
أولاً: من المستفتي: فإن المستفتي هو الواقع في المسألة؛ فإذا سأل وإذا شرح مسألة؛ حصل التصور؛ فالمفتي يبيُّن له ذلك الحكم وفق استفتائه.
ثانياً يكون التصور بنقل العدول الثقاة المسلمين، الذين لا يشوب نقلهم شائبة تجعلهم يخطئون في النقل ومن ثم نخطئ في الحكم على الشيء، لا بد من نقل عدلٍ ثقة في المسألة.
فعند ظهور الفتن، واختلاف الأحوال؛ لا يجوز أن نعتمد على كلام كافر مثلاً؛ ذكر تصوره أو ذكر تحليله في إذاعة ما، أو ذكر تصوره وتحليله في مجلة ما، أو في تقريرٍ ما،
هذا لا يجوز شرعاً أن يبني عليه حكماً شرعيّاً، وإنما الحكم الشرعي يبني على نقل المسلم العدل الثقة.
فأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبل ممَّن يأتي بها؛ إلا إذا كان الإسناد بنقل عدول ضابطين عن مثلهم إلى منتهاه، إذا كان في الإسناد فاسق؛ فإنه قد انخرمت مروءته، وإذا كان في الإسناد مَن ليس بضابط، من يأتي بشيء ويخلطه مع شيء أخر؛ فإنه لا يقبل، ولا ينبني على ذلك الحديث حكم شرعي.
ولهذا؛ فإنه لا بدَّ من رعاية هذه المسألة.
تلخَّص من هذا: أن هذه القاعدة: "الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره": أساسها التصور، ولا يمكن أن يكون صحيحاً في الشرع إلا إذ كان من مسلم عدلٍ ثقة، أو كان من المستفتي نفسه، ولو كان فاسقاً.(غير مفهوم).
- الثالث من تلك الضوابط والقواعد:
أن يلزم المسلم الإنصاف والعدل في أمر كله.
يقول الله جلَّ وعلا: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) [الأنعام: 152].
ويقول جلَّ وعلا: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8].
وقد بُيِّنَتْ هذه المسألة بياناً شافياً كافياً؛ من أنه لابدَّ من العدل في الأقوال، ولا بدَّ من العدل في الأحكام، وأن من لم يعدل في قوله، أو يعدل في حكمه؛ فإنه لم يتبع الشرع اتباعاً يرجو معه النجاة.
ما معنى العدل؟ وما معنى الإنصاف في هذه القاعدة؟
معناه: أنك تأتي بالأمور الحسنة أو بالأمور السيئة، تأتي بهذا الجانب الذي تحبه، وذلك الجانب الذي لا تحبه، ثم توازن وتعرض لهما عرضاً واحداً، وبعد ذلك تحكم؛ لأنه – جزماً – يحصل من عرض الجانبين معاً ما يعصم المرء من أن ينسب للشرع أو ينسب إلى الله جلَّ وعلى أو إلى سنة من سننه الكونية ما ليس موافقاً لما أمر الله جلَّ وعلا به.
فلا بدَّ من عرض الحسن والقبيح؛ عرضهما على الذهن، حتى تصل إلى نتيجة شرعية، وحتى يكون تصورك ويكون قولك أو فهمك أو رأيك في الفتنة منجياً إن شاء الله تعالى.
وهذه مسالة مهمة، وقاعدة لا بدَّ من رعايتها؛ لأنه مَن لم يرع هذه القاعدة؛ دخل الهوى إلى قلبه من مصراعيه، ولم يأمن أن يفتح باب الهوى على غيره، ومن ثم يكون داخلاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ومَن سنَّ سنَّة سيئة؛ فعليه وزرها و وزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة"، وتكون المصيبة أعظم إذا كان الفاعل ممَّن ينتسب إلى العلم والهدى؛ لأنه يقتدي بفعله الجاهل، ويقتدي بفعله نصف المتعلم.
فإذا؛ لابدَّ من أن نرعى هذه القاعدة في أمرنا كله، ومَن سلم من الهوى؛ فإن الله جل وعلا سينجيه في الآخرة والأولى.
- الرابع من تلك الضوابط والقواعد:
ما دلَّ عليه قول الله جلَّ وعلا: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].
وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقال: "عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة".
وثبت أيضا في الحديث الذي رواه عبد الله بن أحمد في "زوائد مسند أبيه": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجماعة رحمة، والفرقة عذاب".
الفرقة بجميع أنواعها – في الأفكار، أو في الأقوال، أو في الأعمال – عذاب يعذِّب الله جلَّ وعلا به مَن خالف أمره وذهب إلى غير هداه.
لهذا؛ مَن لزم الجماعة – جماعة أهل السنة والجماعة – واقتدى بأئمتهم وعلمائهم؛ فإنه قد لزم الجماعة، ومَن تفرَّق عنهم؛ فإنه لا يأمن على نفسه أن يكون ممَّن ذهب إلى الفرقة وعذب بعذاب من عذاب الله في الحياة الدنيا.
نسأل الله جلَّ وعلا أن يسلمنا وإخواننا جميعاً من ذلك كله.
ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: "الجماعة رحمة، والفرقة عذاب".
الجماعة بجميع أنواعها، وبجميع صفاتها، إذا كانت على الهدى والحق، فهي رحمة، يرحم الله جلَّ وعلا بها عباده.
والفرقة عذاب؛ لا خير في التفرق، لا خير فيه أبداً.
لهذا؛ بعد أن قال الله جلَّ وعلا: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)؛ قال في الآية بعدها: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104]، ثم قال: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 105].
نعم؛ الذين تفرَّقوا – في أقوالهم وأعمالهم – من بعد ما جاءتهم البينات، وجاءهم البينات والهدى؛ أولئك لا يؤمن عليهم الزيغ، وأولئك لا يؤمن عليهم الاختلاف، ولا يؤمن عليهم سلوك غير سبيل الهدى.
لهذا؛ كان لزاماً أن نلتزم بجماعة أهل السنة والجماعة، أن نلتزم بأقوالهم، وأن لا نخرج عن قواعدهم، ولا عن ضوابطهم، ولا عمَّا قرَّره علمائهم؛ لأنهم يعلمون من أصول أهل السنة والجماعة، ومن الأدلة الشرعية، ما لا يعلمه كثير من الناس، وما لا يعلمه كثير من الذين ينتسبون إلى العلم؛ لأنهم لهم علماً راسخاً، ونظراً صائباً ، وقدماً راسخةً في العلم.
أنظر إلى ما فعل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ! أتدري ماذا فعل حين كان في الحج مع عثمان بن عفان رضي الله عنه؟
كان عثمان يتمًّ الصلاة؛ يصلي في منىً أربع ركعات، والسنة أن يصلي المصلي في منى ركعتين؛ قصراً لكل رباعية.
عثمان رأى أن يصلي أربع ركعات لتأويل شرعي تأوَّله، مع ذلك ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول: سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يصلي ركعتين لا غير لكل صلاة رباعية. قيل له: يا عبد الله بن مسعود ! تقول هذا وأنت تصلي مع عثمان بن عفان أربع ركعات ! لماذا؟! قال: يا هذا ! الخلاف شر ! الخلاف شر ! الخلاف شر......رواه أبو داود بإسناد قوي.
وهذا لأجل فهمهم للقاعدة الصحيحة، للقاعدة التي مَن أخذ بخلافها؛ فإنه لا يأمن على نفسه الفتنة، ولا على غيره.
قال بن مسعود: "الخلاف شر".
- الخامس من تلك الضوابط والقواعد:
أن الرايات التي ترفع في الفتنة – سواء رايات الدول أو رايات الدعاة – لا بدَّ للمسلم أن يزنها بالميزان الشرعي الصحيح، ميزان أهل السنة والجماعة، الذي مَن وزن به؛ فإن وزنه سيكون قسطاً غير مجحف في ميزانه؛ كما قال جلَّ وعلا في ميزانه: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئا) [الأنبياء: 47].
فلذلك أهل السنة والجماعة لهم موازين قسط يزنون بها الأمور، ويزنون بها الأفكار، ويزنون بها الأحوال، ويزنون بها الرايات المختلفة عند اختلاف الأحوال ، وتلك الموازين تنقسم عندهم – كما بيَّن ذلك أئمة دعوتنا، وكما بيَّن ذلك أئمة أهل السنة والجماعة – تنقسم تلك الموازين إلى قسمين: فسمعهما:
- القسم الأول: موازين يوزن بها الإسلام من عدمه؛ يعني: يوزن بها صحة دعوى الإسلام من عدم صحة تلك الدعوى.
الرايات التي ترفع وتنسب إلى الإسلام كثيرة؛ فلا بدَّ أن تزن تلك الراية، فإن كانت مسلمة؛ ترتَّب على ذلك أحكام شرعيَّة لا بدَّ لك من رعايتها؛ استجابة لما أمر الله به وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم.
- القسم الثاني: موازين نعرف بها كمال الإسلام من عدمه، والاستقامة الحقا على الإسلام من عدم الاستقامة.
فإذاً:
القسم الأول: ينتج من الكفر والإيمان: هل الراية مسلمة مؤمنة؟ أو هي غير ذلك؟
والقسم الثاني: ينتج منه أن تلك الراية هل هي مستقيمة على الهدى كما يحب الله ويرضى؟ أم عندها نقص في ذلك؟
ثم إذا تبين ذلك؛ فإنه تترتب الأحكام الشرعية على ذلك الميزان.
- أما القسم الأول الذي يوزن به الإيمان من الكفر؛ فثلاثة موازين:
الأول: أن تنظر: هل هناك إحقاقٌ لعبادة الله وحده لا شريك له أم لا؟ لأن أصل دين الأنبياء والمرسلين هو أنهم بُعثوا لأن يعبد الله وحده لا شريك له، التوحيد أساس الأمر، وأول الأمر، وآخر الأمر، فمَن رفع راية التوحيد، وأقرَّ عبادة الله وحده لا شريك له، ولم يقرَّ عبادة غير الله جلَّ وعلا فالميزان هذا ينتج أنه مسلم، وأن تلك الراية مسلمة، مع توفر الميزانين التاليين الذين ستسمعهما بإذن الله.
فالميزان الأول إذا: أن نرى هل الراية التي ترفع الإسلام يطبق أهلها التوحيد أم لا؟ هل هناك عبادة لغير الله جلَّ وعلا أم أنه لا يعبد تحت تلك الراية إلا الله وحده لا شريك له، فتتوجه القلوب إلى الله جلَّ وعلا وحده؟
قال سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل:36].
وقال جلَّ وعلى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 41].
قال بعض المفسرين: (وأمروا بالمعروف )؛ يعني: بالتوحيد، ونهوا عن المنكر؛ يعني: عن الشرك؛ لأن أعلى المعروف هو التوحيد، وأبشع المنكر هو الشرك.
فهذا هو الميزان الأول.
الميزان الثاني: أن تنظر إلى تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله، وهذه الشهادة من مقتضاها أن يحكم بالشريعة التي جاء بها المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قال سبحانه وتعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء: 65].
قال جلًّ وعلا: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50].
( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44].
فإذا رأيت الراية المرفوعة يحكم أهلها بشرعة الله، وتفصل الشريعة في أقضي الناس – إذا اختلف الناس في أمورهم، فمَن الذي يحكم بينهم؟ يحكم بينهم القاضي الشرعي فيما يختلفون فيه -؛ فعند ذلك تعلم أن الراية مسلمة لأنه قد حَكَّمَ أهلُها شرع الله جلَّ وعلا، وأقاموا المحاكم الشرعية التي تحكم بما أنزل الله، ولا يلزم أحد أن يحكم بغير ما أنزل الله، أو أن يرضى بحكم غير حكم الله جلَّ وعلا ورسوله.
الميزان الثالث: أن تنظر: هل هناك استحلال للمحرمات؟ أم أن هناك إذا فعلت المحرَّمات بغضاً لها وكراهية لها و إنكارً لها؟
فإن المحرَّم المُجْمًع على تحريمه إذا ظهر له حالان:
إما أن يكون مستحَلاٌّ: فهذا كفر والعياذ بالله.
وأما إذا كان لا يستباح، ولكن يوجد، ويقر رافعو الراية بأن ذلك منكر، وأنه محرم؛ فتعلم بهذا أن الراية شرعية، وأن الراية مسلمة.
هذه ثلاث موازين، بيَّنها أئمتنا رحمهم الله تعالى.
هذا هو القسم الأول من الموازين.
- أما القسم الثاني؛ فهي موازين يُعرف بها كمال الإسلام من عدمه.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ بالإسلام كله، كما جاء من عند الله جلَّ وعلا، فهو المقتدى الذي يُقتدى به، وأخذ به الخلفاء الراشدون عليهم رضوان الله، ولم يزل الأمر ينقص شيئاً بعد شيء في تحقيق كمال الإسلام إلى وقتنا هذا، "ولا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شرُّ منه، حتى تلقوا ربَّكم"؛ كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الميزان هذا تنظر فيه؛ كيف هو في تحقيق الأمور الشرعية؟ كيف هو في الأمر بالصلوات كيف هو في النهي عن المنكرات؟ كيف هو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يتعلَّق بالفرائض؟ وفيما يتعلَّق بالنهي عن المحرمات؟ إذا كان ذلك كاملاً؛ دلَّ على الكمال، وإن كان ذلك ناقصاً؛ دلَّ على النقص بحسب ذلك
وهذه الموازين مهمة لا بدَّ أن تكون في قلبك وعقلك، لا تفارقه أبداً، حتى لا تضل وقت حدوث الضلال، ولا تلتبس عليك الأمور وقت حدوث الالتباس.
إذا تبَّين لك ذلك، وتميَّزت لك الراية المسلمة من غيرها؛ وجب عليك شرعاً أن توالى الراية المسلمة في الحق والهدى، توالى الراية المسلمة؛ لأن الله جلَّ وعلا أمر بموالاة المؤمنين، وحثَّ على الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق:
ومن أول ذلك: أن يكون وَلاؤك لتلك الراية صحيحاً، أن يكون ولاؤك للراية التي ترفع الإسلام صحيحاً ليس فيه زيغ، وليس فيه التباس، وليس فيه تردُد لأنه إما إسلام، وإما كفر فإذا ثبت الإسلام؛ ترتَّبت الأحكام الشرعية على ذلك، ولا يحل لمسلم أن يجعل المعصية مبيحة لأن لا يلتزم بما أمره الله جلَّ وعلا أن يلتزم به ورسوله صلى الله عليه وسلم من الولاء للمؤمنين والولاء للذين يقاتلون في سبيل الله.
الأمر الثاني: أن تنصح لتلك الراية نصحاً يعلمه الله جلَّ وعلا من قلبك، وأهل السنة والجماعة فارقوا أهل البدعة الذين يحبوُّن الفرقة، في أنهم ينصحون مَن ولاَّه الله جلَّ وعلا عليهم، ويكثرون الدعاء، ولو رأوا ما يكرهون؛ فإنهم يكثرون الدعاء، وينصحون نصحاً يعلمه الله جلَّ وعلا من أنفسهم، أنهم ما أرادوا بذلك جزاءً ولا شكورا؛ إلا من عند الله جلَّ وعلا لا من عند غيره، وهذا إذا ثبت في القلب؛ كنا حقا من أهل السنة والجماعة.
طالعوا كتب عقائد أهل السنة والجماعة؛ تروا أن فيها أبواباً مختصَّة بحقوق الإمام على الرعيَّة، وبحق الرعية على الإمام؛ لأن ذلك به تحصل الجماعة، ويحصل به الالتفاف حول السنة والجماعة.
وهذا كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ على النصح لأئمة المسلمين ولعامتهم في حديث: الدين النصيحة، وإذا ثبت أن النصح واجب، وأنه لا بدَّ للمسلم أن ينصح؛ فكيف تكون تلك النصيحة؟ وكيف يكون ذلك البيان؟ على ما جاء في السنة لا من عند أنفسنا.
ثبت في الحديث الصحيح أن عياض بن غنم قال لهشام ابن حكيم رضي الله عنهما وأرضاهما: ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن أراد أن ينصح لذي سلطان؛ فلا يبده علانية، ولكن ليأخذ بيده، ثم ليخلُ به، فإن قبل منه؛ فذاك، وإلاَّ؛ فإنه أدى الذي عليه )، رواه ابن أبي عاصم في السنة وغيره وصححه الألباني.
اسمعوا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأنتم ولا شكَّ حريصون على السنة؛ كما أن أهل السنة والجماعة حريصون عليها.
إذا ترتب على الموازين السابقة الراية المسلمة من غيرها؛ ترتبت الحقوق الشرعية على تلك الراية، وعلى بيان أن تلك الراية مسلمة، وليست براية غير مسلمة.
من ذلك هذا الأمر المهم الذي أهميته تبرز عند تغير الأحوال وحدوث الفتن.
قال صلى الله عليه وسلم: مَن أراد أن ينصح لذي سلطان؛ فلا يبده علانية، ولكن ليأخذ بيده، ثم ليخلُ به، فإن قبل منه؛ فذاك، وإلاَّ؛ فإنه أدى الذي عليه.
فهذا يجعلنا في طمأنينة، ويجعلنا في اتباع لما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم، إن أخذنا بذلك؛ فنحن ناجون بإذن الله، وإن لم نأخذ به؛ فسيصيبنا من القصور ومن المخلفة عن طريق أهل السنة والجماعة بقدر ما خالفنا من ذلك.
وتلك الموازين، إذا التبس على المسلم أو على طالب العلم: كيف يزن بها؟ فالمرجع العلماء؛ فإنهم هم الذين يزنون بالموازين الصحيحة، وهم الذين يقيِّمون بالتقييم الصحيح، وهم الذين يحكمون بالحكم الشرعي الصحيح.
ولهذا؛ فإن الحكم بالإسلام من عدمه، الحكم بالإيمان أو الكفر، مرجعه إلى علماء أهل السنة والجماعة، لا إلى غيرهم من المتعلمين الذين ربما علموا بعضاً وجهلوا بعضاً آخر، أو ربما عمَّموا أشياء لا يجوز تعميمها.
فالحَكَم في ذلك لمن لم يستطع أن يزن بالميزان الصحيح من أهل العلم هم العلماء، وبقولهم يجب أن نأخذ، وبما صاروا إليه، والى ما صاروا إليه، يجب أن نأخذ في تقييم الإيمان والكفر، والوزن بتلك الموازين التي ذكرناها لكم.
مما يترتَّب على تلك الموازين كما قرر أهل السنة والجماعة: أن الجهاد ماض مع كل إمام أو سلطان؛ برَّ أو فاجر، كل إمام أو سلطان، سواء كان برّاً أو كان فاجراً؛ فإن الجهاد ماض معه، لا يجوز لأحد أن يتخلف عن راية الجهاد لأجل أن السلطان عنده مخالفات شرعية؛ في أي وقت، وفي أي زمان.
وهذا الضابط لا بدَّ لك منه في كل وقت؛ فربما يحدث في المستقبل في سنوات تستقبلها من عمرك ما لا نعلمه، فيكون عندك ما تضبط به أمرك، ويكون عندك ما تزن به أحوالك، وما تزن به أفكارك.
ومن ذلك – أي: من تلك الحقوق – الدعاء لمَنْ ولاَّه الله جلَّ وعلا الأمر.
يقول البربهاري رحمه الله ناصر السنة إمام من أئمة السنة والجماعة في كتابه السنة، وهو مطبوع موجود؛ يقول: إذا رأيت الرجل يدعو للسلطان؛ فعلم أنه صاحب سنة، وإذا رأيته يدعو على السلطان؛ فعلم أنه صاحب بدعة.
والفضيل بن عياض كان يدعو كثيراً للسلطان في وقته، ونحن نعلم ما كان من سلاطين بني العباس في وقتهم من أمور، كان يدعو لهم كثيراً؛ قيل له: تدعو لهم أكثر من دعائهم لنفسك؟! قال: نعم؛ لأنني إن صلحت فصلاحي لنفسي ولمَن حولي، وأما صلاح السلطان؛ فهو لعامة المسلمين.
ولهذا؛ مَن أراد صلاحاً عاماً في المسلمين؛ فليعلم الله من قلبه أنه يدعو مخلصاً في أن يصلح الله جلَّ وعلا مَن ولاَّه الله على المسلمين، مَن ولاَّه الله أمر المسلمين، وأن يوفِّقه إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإننا لا نرجو ولا نطمع في أكثر من أن يكون الهدى والعمل بالكتاب والسنة، والقلوب بيد الله جلَّ وعلا، هو الذي يقلبها.
- السادس من تلك الضوابط والقواعد:
أن للقول والعمل في الفتن ضوابط؛ فليس كل مقال يبدو لك حسناً تظهره، وليس كل فعل يبدو لك حسناً تفعله؛ لأن الفتنة قولك فيها يترتَّب عليه أشياء، ولأن الفتنة عملك فيها يترتَّب عليه أشياء.
فلا غرو أن سمعنا أبا هريرة رضي الله عنه يقول: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: أما أحدهما؛ فبثثته، وأما الآخر؛ فلو بثثته؛ لقطع هذا الحلقوم ! رواه البخاري في صحيحه.
قال أهل العلم: قول أبي هريرة: لقطع هذا الحلقوم؛ يعني: أنه كتم الأحاديث التي في الفتن، والأحاديث التي في بني أمية، ونحو ذلك من الأحاديث وهو قال هذا الكلام في زمن معاوية رضي الله عنه، ومعاوية اجتمع الناس عليه بعد فرقة وقتال، تعلمون ما حصل فيه، وتعلمون تاريخه، فأبو هريرة كتم بعض الأحاديث؛ لماذا وهي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ليست في الأحكام الشرعية، وإنما في أمر آخر، لماذا كتمها؟! لأجل أن لا يكون هناك فتنة في الناس، ولم يقل: إن قول الحديث حقِّ، وأنه لا يجوز أن نكتم العلم؛ لماذا؟ لأن كتم العلم في هذا الوقت الذي تكلَّم فيه أبو هريرة لا بدَّ منه؛ لكي لا يتفرَّق الناس بعد أن يجتمعوا في عام الجماعة على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
ويقول ابن مسعود فيما رواه مسلم في صحيحه: ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلعه عقولهم؛ إلا كان لبعضهم فتنة.
الناس لا يتصورون كل كلام يقوله القائل فيما يتحدث به في كل أمر في الفتن؛ فقد يسمعون منه أشياء لا تبلغها عقولهم، فيفهمون أشياء يبنون عليها اعتقادات، أو يبنون عليها تصرفات، أو يبنون عليها أحوالاً وأعمالاً وأقوالاً لا تكون عاقبتها حميدة.
لهذا كان السلف يعملون بذلك كثيراً.
أنظر إلى الحسن البصري رحمه الله تعالى حيث أنكر على أنس بن مالك رضي الله عنه حين حدث الحجاج بن يوسف بحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم للعًرَنيين؛ قال لأنس وأنكر عليه: لم تحدث الحجاج بهذا الحديث؟! قال له لأن الحجاج عاث في الدماء، وسيأخذ هذا الحديث يتأول به صنيعه، فكان واجباً أن يُكتم هذا الحديث وهذا العلم عن الحجاج؛ لكي لا يكون في فهمه وعقله – الذي ليس على السواء وليس على الصحة – أن هذا الحديث يؤيده، أو أن هذا الحديث دليل معه، فيفهمه على غير فهمه.
فالحسن رحمه الله أنكر على أنس رضي الله عنه –وهو الصحابي – تحديثه، وندم أنس رضي الله عنه بعد ذلك على تحديثه الحجاج بحديث العُرَنيين.
وحذيفة – قبل أبي هريرة – كتم أحاديث من أحاديث الفتن، لأنه رأى أن الناس لا يحتاجونها.
والإمام أحمد كره أيضا التحدث بالأحاديث التي فيها الخروج على السلطان، وأمر أن تشطَب من مسنده؛ لأنه قال: لا خير في الفتنة، ولا خير في الخروج.
وأبو يوسف كره التحدث بأحاديث الغرائب.
ومالك رحمه الله كره التحديث بأحاديث فيها ذكر لبعض الصفات.
المقصود من هذا: أنه في الفتن ليس كل ما يعلم يُقال، ولا كل ما يُقال يُقال في كل الأحوال.
لا بدَّ من ضبط الأقوال؛ لأنك لا تدري ما الذي سيحدثه قولك؟ وما الذي سيحدثه رأيك؟ وما الذي سيحدثه فهمك؟
والسلف رحمهم الله أحبو السلامة في الفتن، فسكتوا عن أشياء كثيرة؛ طلباً للسلامة في دينهم، وأن يلقوا الله جلَّ وعلا سالمين.
وقد ثبت أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال لابنه حين حدَّث في القيام ببعض الأمر في الفتنة؛ قال لابنه: يا هذا ! أتريد أن تكون رأساً في الفتنة ! لا، لا والله.
فنهى سعد بن أبي وقاص ابنه عن أن يكون ابنه رأساً في الفتنة، ولو بمقال أو بفعال، ولو رآها حسنة صائبة؛ فإنه لا يأمن أن تكون عاقبتها غير حميدة.
والناس لا بدَّ أن يزنوا الأمور بميزان شرعي صحيح، حتى يَسْلَموا، وحتى لا يقعوا بالخطأ.
ثم إن للأعمال وللأفعال وللتصرفات ضوابط لا بدَّ من رعايتها؛ فليس كل فعل يُحمد في حال يُحمد في الفتنة إذا كان سيفهم منه غير الفهم الذي يُراد أن يُفهم منه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم – كما روى البخاري في الصحيح – قال لعائشة: لولا حدثان قومك بالكفر؛ لهدمت الكعبة، ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين.
النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن يفهم كفار قريش الذين أسلموا حديثاً من نقضه الكعبة، ومن بنائه إياها على بناء إبراهيم، ومن جعله لها بابين: باب يدخل منه الناس، وباب يخرجون منه؛ خشي أن يفهم منه الناس فهماً غير صائب، وأن يفهموا أنه يريد الفخر، أو أنه يريد تسفيه دينهم – دين إبراهيم -، أو نحو ذلك؛ فترك هذا الفعل.
ولهذا؛ بوَّب البخاري – رحمه الله – باباً عظيماً استدلَّ عليه بهذا الحديث؛ ماذا قال؟ قال: باب: من ترك الاختيار مخافة أن يقصر الناس عن فهمه فيقعوا في أشد منه.
وذكر البخاري تحت هذا الباب هذا الحديث النبوي.
يتبع....................
الحمد لله، الحمد لله الذي قال: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيم. وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون. الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون).
والحمد لله الذي قال: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام) [الزمر: 36].
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادةَ مَن خالطت كلمة التوحيد قلبه وفؤاده، فعلم منها ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، هو البشير النذير، بشَّر وأنذَر، وقال وعلَّم، فَطُوبى لمَن أخذ بسنَّته واقتفى أثره واهتدى بهداه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهداهم إلى يوم
الدين. أما بعد:
فيا أيها الإخوان! تعوَّذوا بالله جلَّ وعلا من الفتن، تعوَّذوا بالله جلَّ وعلا من الفتن التي تحرق الدين، وتحرق العقل، وتحرق البدن، وتحرق كل خير، تعوَّذوا بالله منها؛ فإنه لا خير في فتنة أبداً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوَّذ بالله كثيراً من الفتن، وكان عليه الصلاة والسلام يحذَّر من الفتن.
ولهذا؛ لما ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه كتابَ الفتن؛ ابتدأه بقوله: باب: قول الله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ..)، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذّر من الفتن.
وذلك أن الفتن إذا أتت؛ فإنها لا تصيب الظالم وحده، وإنما تصيب الجميع، ولا تبقي –إذا أتت –لقائل مقالاً، وإنما يجب علينا أن نحذرها قبل وقوعها، وأن نباعد أنفسنا حقّاً بعداً شديداً عن كل ما يقرب إلى الفتنة أو يدني منها؛ فإنَّ من علامات آخر الزمان كثرة الفتن؛ كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتقارب الزمان، ويقلُّ العمل، ويلقى الشح، وتكثر-أو قال: تظهر-الفتن".
وذلك لأن الفتن إذا ظهرت؛ فإنه سيكون معها من الفساد ما يكون مدنياً لقيام الساعة.
ومن رحمة نبي الله صلى الله عليه وسلم بنا: أن حذَّرنا من الفتن كلها.
والله جلَّ وعلا قد حذَّرنا بقوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسير هذه الآية: "هذه الآية؛ وأن كان المخاطب بها هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنها عامة لكل مسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحذر من الفتن".
وقال الآلوسي أيضا في "تفسيره" عند هذه الآية: "فسرت الفتن في قوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةًُ.)؛ فسرت بأشياء: منها: المداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، و على البدع إذا ظهرت. ومنها: أشياء غير ذلك".
قال: "ولكلّ معنى بحسب ما يقتضيه الحال".
يعني: أنه إذا كان الزمان زمان تفرُّق واختلاف؛ فليحذِّر بعضنا بعضاً بقوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةًُ.)؛ يعني: اتقوا تفرّقاً واختلافاً لا يصيب مآله ولا تصيب نتيجته الذين ظلموا منكم خاصة، وإنما يصيب الجميع، ولا يخص ذلك الأثر-للتفرق والاختلاف مثلاً-الظالم وحده.
ولهذا؛ فإننا في هذا المقام أحببنا أن نذكّر بهذا الأمر؛ لأننا نرى صحوةً إسلامية راشدةً بإذن الله في هذه البلاد، التي هي القائمة بشأن التوحيد، والقائمة بدعوة التوحيد في هذا الزمان، الذي لا نرى فيه قائماً بدعوة التوحيد إلا ما شاء الله جلّ وعلا.
فكان لزاماً أن نذكر هؤلاء، وأن نذكر أنفسنا جميعاً، بلزوم الاعتناء بالعلم النافع، بلزوم الاعتناء بعقيدة السلف الصالح، بلزوم الاعتناء بعقيدة أهل السنة والجماعة.
فإن هذه الصحوة المباركة، الصحوة التي نرجو منها أن تنشر دين الله، وأن تحبب الشريعة والاستقامة للناس، نرجو منها أن تكون ثابتة على العلم النافع، لأن شبابنا اليوم يحرصون كثيراً على العلم النافع، يحرصون كثيراً على كلام أهل السنة والجماعة.
ولهذا؛ أجد لزاماً علىّ أن أنقل لهم، وأذكرهم، وأبين لهم ما أعلمه من كلام أئمتنا، ومن كلام أهل السنة والجماعة، الذي بنوه على مقال المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل وعلى كلام المولى سبحانه.
فإن الفتن إذا لم يرعَ حالها، ولم ينظر إلى نتائجها؛ فإنه سيكون الحال حال سوء في المستقبل، إن لم يكن عند أهل العلم من البصر النافذ والرؤية الحقا ما يجعلهم يتعاملون مع ما يستجد من الأحوال، أو يظهر من الفتن؛ على وفق ما أراد الله جلّ وعلا وأراده رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالضوابط والقواعد لا بدَّ أن تُرعى؛ فإن الضوابط بها يعصم المرء نفسه من الوقوع في الغلط، فالضوابط الشرعية والقواعد المرعية إذا أخذنا بها ولازمناها وأقتفونا أثرها؛ فإن عند ذلك سيحصل لنا من الخيرات ما لن نندم عليه بإذن الله.
فالضابط في كل أمر لابد من معرفته، حتى يتسنى لك – أيها المسلم – أن تعصم نفسك من أن تنساق أو تسوق نفسك إلى ما لم تعلم عاقبته الحميدة، أو مالم تعلم ما يؤول إليه ذلك الأمر من مصلحة أو مفسدة.
فبهذا؛ نعلم أنه لابدَّ من رعاية الضوابط ورعاية القواعد التي بينها أهل ألسنة والجماعة.
فما تعريف الضابط والقاعدة؟
الضابط في المسألة: هو ما به نعرف ما تحكم به مسائل الباب الواحد وترجع إليه مسائل الباب الواحد.
وأما القاعدة: فهي أمر كليّ ترجع إليه المسائل في أبواب مختلفة.
ولهذا؛ كان لزاماً علينا أن نأخذ بتلك الضوابط والقواعد التي كان عليها أهل السنة والجماعة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه من يعش منكم؛ فسيرى اختلافا كثيراً؛ فعليكم بستَّني وسنًّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ" نعم.
وقد رأى الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم، رأوا اختلاف، وما نجوا إلا بما تمسكوا به من القواعد الواضحة التي كان عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان عليها الخلفاء الراشدون من بعده صلى الله عليه وسلم.
الفوائد الناجمة عن الأخذ بهذه الضوابط والقواعد:
- أول تلك الفوائد: أن رعاية الضوابط ورعاية القواعد تعصم تصور المسلم من أن يقع تصوُّره فيما لا يقره الشرع، تعصم ذلك التصور، وتضبط عقل المسلم في تصوُّراته.
ومعلوم أن المسلم إذا تصور مسألة ما دون ضابط ودون قاعدة ترجع إليها؛ فإنه سيذهب عقله إلى أنحاءِ شتى في تصرفاته في نفسه أو في أسرته أو في مجتمعه أو في أمته.
فعند ذلك نعلم أهمية رعاية تلك الضوابط وتلك القواعد، لأنها تضبط العقل –عقل المسلم- في تصوراته التي ينشأ عنها تصرفه في نفسه أو في أسرته أو في مجتمعه.
- ثانياً: ثم أن لرعاية تلك الضوابط وتلك القواعد فائدة أخرى، ألا وهي: أنها تعصم المسلم من الخطاء؛ لأنه إذا سار وراءِ رأَيه فيما يجد أو في الفتن إذا ظهرت، وحلَّلها بعقله، نظر فيها بنفسه؛ دون رعاية لضوابط وقواعد أهل السنة والجماعة؛ فإنه لا يأمن أن يقع في الخطأ، الخطأ إذا وقع فيه؛ فإن عاقبته ليست حميدة؛ لأنه يتدرج ويتفرع، وربما زاد وزاد.
فللضابط وللقاعدة إذا التزمنا بها فائدة، وذلك أنها تعصم من الخطأ.
لماذا؟
لأن تلك الضوابط وتلك القواعد؛ مَن الذي قعَّدها؟ ومن الذي ضبطنا بها؟ هم أهل السنة والجماعة؛ وَفق ما جاء في الأدلة.
ومَن سار خلف الدليل وسار خلف أهل السنة والجماعة؛ فإنه لن يندم بعد ذلك أبداً.
- ثالثا: ومن الفوائد للقفو خلف تلك الضوابط والقواعد: أنها تسلم المسلم من الإثم؛ لأنه إذا سار وفق رأيه، أو سرت وفق رأيك وما تظنه صواباً؛ دون رعاية لتلك الضوابط والقواعد؛ فإنك لا تأمن الإثم؛ لأنك لا تعلم ما سيكون عليه مستقبل الحال في مقالك أو فعلك إذا سرت وراء رأيك أو سرت وفق ما رأيته صواباً.
وأما إذا أخذت بما دل عليه الدليل من الضوابط والأصول العامة؛ فإنك ستنجو بإذن الله من الإثم، والله جلّ وعلا سيعذرك؛ لأنك سرت وفق الدليل، وقد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع.
ولهذا؛ أيها الإِخوان، يتبَّين لنا – بتلك الفوائد الثلاثة – ضرورة الأخذ بتلك الضوابط والقواعد التي سيأتي بيانها.
وهذه الضوابط والقواعد التي سنبينها مأخذها ودليلها أحد شيئين:
الأول: التنصيص على تلك القاعدة أو ذلك الضابط في الأدلة الشرعية – إما في القرآن أو في السنة -، وأخذ أهل السنة و الجماعة بما دلت عليه تلك الأدلة التي في القرآن أو في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الشيء الثاني: أن يكون مأخذها من السنة العملية المرعية، التي عمل بها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون بعدهم والأئمة – أئمة أهل السنة والجماعة- كان لهم سيرة عملية في الفتن إذا ظهرت، وفي الأحوال إذا تغيرت؛ رعوها، وأخذوا فيها بالأدلة، وطبَّقوها، ورعوها عمليّاً.
لهذا؛ لن يزيغ بصرنا، ولن تزيغ عقولنا؛ إذا أخذنا بما عملوا به، وبما أخذوا به من الأدلة، وبما ساروا فيه بالسيرة العملية.
وهذا من رحمة الله جلَّ وعلا بنا: أنه لم يتركنا دون قدوة نقتدي بها؛ فالعلماء – علماء أهل السنة والجماعة – هم الذين يُرْجَع إليهم في فهمهم وفي رأيهم وفي كلامهم؛ لأنهم علموا من الشرع، وعلموا من قواعده الكلية، ومن ضوابطه المرعية: ما يعصمهم من الخطأ، وما يعصم من الانفلات.
فلهذا؛ يتبَّين لك وجوب الأخذ بهذه الضوابط والقواعد التي سأذكرها لك الآن، ويتبَّين لك أيضاً فائدة الأخذ بها، ولزوم الأخذ بها، والمصلحة المترتبة عليها في نفسك وفي مجتمعك إذا أخذت بها وإذا رعيتها.
ومن سار خلف مهتدٍ، ووفق ما دلَّت عليه الأدلة؛ فطوبى له في سيره، وطوبى له في هداه؛ فإنه لن يندم بعد ذلك أبداً.
الضوابط والقواعد الشرعية الواجب اتباعها في الفتن
- الأول من تلك الضوابط والقواعد:
فأول تلك الضوابط والقواعد: أنه إذا ظهرت الفتن، أو تغيرت الأحوال؛ فعليك بالرفق والتأنِّي والحلم، ولا تعجل.
هذه قاعدة مهمة: عليك الرفق، وعليك التأنِّي، وعليك بالحلم.
ثلاثة أمور:
- أما الأمر الأول – وهو الرفق -؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما ثبت عنه في الصحيح: "ما كان الرفق في شئ؛ إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه".
قال أهل العلم: قوله: "ما كان في شيء إلا زانه": هذه الكلمة: "شيء" نكرة أتت في سياق النفي، والأصول تقضي بأنها تعم جميع الأشياء؛ يعني: أن الرفق محمود في الأمر كله.
وهذا قد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله"؛ قاله عليه الصلاة والسلام لعائشة الصديقة بنت الصديق، وبوّب عليه البخاري في الصحيح؛ قال؛ "باب الرفق في الأمر كله".
في كل أمر عليك بالرفق، وعليك بالتؤدة، ولا تكن غضوباً ولا تكن غير مترِّفق؛ فإن الرفق لن تندم بعده أبداً، ولم يكن الرفق في شيء إلا زانه؛ في الأفكار، وفي المواقف، فيما يجد وفيما تريد أن تحكم عليه وفيما تريد أن تتخذه عليك بالرفق، ولا تعجل، ولا تكن مع المتعجَّلين إذا تعجَّلوا، ولا مع المتسرعين إذا تسرعوا، وإنما عليك بالرفق؛ امتثالا لقول نبيك المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه".
فخذ بالزين، وخذ بالأمر المزين، وخذ بالأمر الحسن، وإياك ثم إياك من الأمر المشين، وهو أن ينزع من قولك أو فعلك الترفق في الأمر كله.
- أما الأمر الثاني؛ فعليك بالتأني؛ يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة".
والتأنّي خصلة محمودة، ولهذا قال جلّ وعلا: (ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا..).
قال أهل العلم: هذا فيه ذمُّ للإنسان، حيث كان عجولاً؛ لأن هذه الخصلة؛ من كانت فيه؛ كان مذموماً بها، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم غير متعجل.
- وأما الأمر الثالث؛ فهو الحلم، والحلم في الفتن وعند تقلب الأحوال محمود أيما حمد، ومثنىً عليه أيما ثناء؛ لأنه بالحلم يمكن رؤية الأشياء على حقيقتها، ويمكن بالحلم أن نبصر الأمور على ماهي عليه.
ثبت في صحيح مسلم من حديث الليث بن سعد عن موسى بن عُلًيّ عن أبيه: أن المستورد القرشي – وكان عنده عمرو بن العاص رضي الله عنه -؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تقوم الساعة والروم أكثر الناس". قال عمرو بن العاص له – للمستورد القرشي -: أبصر ما تقول ! قال: وما لي أن لا أقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إن كان كذلك؛ فلأن في الروم خصالاً أربعاً: الأولى: أنهم أحلم الناس عند الفتنة. الثانية: أنهم أسرع الناس إفاقةً بعد مصيبة... وعد الخصال الأربع وزاد عليها خامسة.
قال أهل العلم: هذا الكلام من عمرو بن العاص لا يريد به أن يثني به على الروم والنصارى الكفرة؛ لا ! ولكن ليبين للمسلمين أن بقاء الروم وكونهم أكثر الناس إلى أن تقوم الساعة لأنهم عند حدوث الفتن هم أحلم الناس؛ ففيهم من الحلم ما يجعلهم ينظرون إلى الأمور ويعالجونها؛ لأجل أن لا تذهب أنفسهم، ويذهب أصحابهم.
هذا ما حصل ما قاله السنوسي والأبي في شرحهما على "صحيح مسلم".
وهذا التنبيه لطيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه لا تقوم الساعة حتى يكون الروم أكثر الناس؛ لماذا؟!
قال عمرو بن العاص: لأن فيهم خصالاً أربعاً
الأولى وهي التي تهمنا من تلك الخصال: أنهم أحلم الناس عند فتنة؛ يعني: إذا ظهرت تغير الحال، وظهرت الفتن؛ فإنهم يحلمون، ولا يعجلون، ولا يغضبون؛ ليقوا أصحابهم النصارى القتل ويقوهم الفتن؛ لأنهم يعلمون أن الفتنة إذا ظهرت؛ فإنها ستأتي عليهم؛ فلأجل تلك الخصلة فيهم بقوا أكثر الناس إلى قيام الساعة.
ولهذا؛ فإننا نعجب أن لا نأخذ بهذه الخصلة التي حمد بها عمرو بن العاص الروم، وكانت فيهم تلك الخصلة الحميدة ونحن أولى بكل خير عند من هم سوانا.
الحلم المحمود في الأمر كله؛ فإنه يبصر عقل العقل في الفتنة بحلم وأناته ورفقه، فيدل على تعقله وعلى بصره.
هذا الضابط هو الأول، وهذه القاعدة الأولى التي رعاها أهل السنة والجماعة عند ظهور الفتن، وعند تقلب الأحوال.
وهذه الضوابط والقواعد بعضها ضابط وبعضها قاعدة، دمجتها لأجل اشتراك البعض مع البعض الآخر في المعنى.
- الثاني من تلك الضوابط والقواعد:
أنه إذا برزت الفتن وتغيرت الأحوال، فلا تحكم على شيء من تلك الفتن أو من تغير الحال إلا بعد تصوُّره؛ رعاية للقاعدة: "الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره".
وهذه القاعدة رعاها العقلاء جميعاً قبل الإسلام وبعد الإسلام، ودليلها الشرعي عندنا في كتاب الله جل وعلا: قال الله جل وعلا: (ولا تقف ما ليس لك به علم)؛ يعني: أن الأمر الذي لا تعلمه ولا تتصوره ولا تكون على بينة منه؛ فإياك أن تتكلم فيه، وأبلغ منه أن تكون فيه قائداً، أو أن تكون فيه متبعاً، أو تكون فيه حكماً.
"الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره"
وهذه القاعدة أنتم تستعملونها في أموركم العادية، وفي أحوالكم المختلفة، العقل لا بدَّ له من رعاية تلك القاعدة، ولا يصلح تصرفٌ ما؛ إلا بأن يرعى تلك القاعدة؛ لأنه إن لم يرع تلك القاعدة؛ فإنه سيخطئ ولاشك، والشرع قرَّرها أيما تقرير، وبين تلك القاعدة أيما بيان.
أضرب أمثلة لكي تتضح تلك القاعدة:
- فمثلاً: لو سألت واحداً منكم، وقلت له: ما حكم الإسلام في بيع المرابحة؟
قد يأتي قائل ويقول: الربح مطلوب، الربح لا شيء فيه في الشرع؛ فلا بأس في بيع المرابحة.
فيكون حكمه على هذه المسألة غلط صرف؛ لأنه لم يتصور المراد بقول القائل: ما حكم الإسلام في بيع المرابحة؟ وظن أن معنى المرابحة: هو الربح في البيع، ولأجل تصوره الذي غلط فيه أخطأ في الحكم الشرعي.
والحكم في الشرع لا بدَّ أن يُبنى على تصور صحيح، والمرابحة نوع من أنواع البيع الذي لا يجوز، تستعمله بعض البنوك الإسلامية تحايلاً على الربا، وصورته أنه مبنيُّ على توكيل للغير، وبعد التوكيل يكون هناك إلزام بالوفاء بالوعد؛ فالوعد الذي وعده الموكل لوكيله هو ملزم بالوفاء فيه، وهذا لا يجوز في الشرع، فكان بيع المرابحة غير جائز.
- مثالاً أخر يبين لك قاعدة "الحكم على الشيء فرع عن تصوره": لو سألت واحداً منكم: ما حكمناً على جماعة "شهود يهوه"؟ ماذا سيقول أحدكم؟
إن كان مطلعاً؛ فسيقول: هذه جماعة كيت وكيت، وحكم الإسلام فيها كذا وكذا.
وقد يكون قائل يقول: لا أعلم ما هذه الجماعة جماعة شهود يهوه؟ ولم أسمع بها قبل؛ فهنا لا تستطيع أن تحكم عليها، ولا تبين حكما شرعياً فيها؛ لأنك لم تتصور هذه الجماعة؛ ماهي؟ وما مبادئها؟ وهل هي إسلامية أو نصرانية أو يهودية؟ فلن تحكم عليها إلا بعد تصورها.
إذا تبين لك ذلك؛ فإن الحاكم أو المفتي أو المتكلم في المسائل الشرعية لا يجوز له أن يتكلم – رعاية لحق نفسه، ورعاية لخلاص نفسه من الإثم، ثم رعاية لحق المسلمين جميعاً، وتبرياً من القول على الله بلا علم -؛ إلا إذا حصل له أمران:
- الأمر الأول: أن يتصور القضية المطروحة تماماً؛ بحيث لا تلتبس عليه في قضية أخرى، ولا تشترك في تصوره وفهمه بمسألة أخرى، لأنه أحياناً تشترك بعض المسائل، وتقترب صورة مسألة من صورة مسألة أخرى، فينتقل ذهنك إلى مسألة مشابهة؛ فعند ذلك تقع في ذلك الخطأ.
- الأمر الثاني: أن تعلم حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة بعينها، لا في المسألة التي تشبهها.
وإذا ثبت ذلك؛ فها هنا سؤال مهمُّ: يقول أحدكم: كيف يحدث لي هذا التصور؟! كيف أتصور هذه المسألة؟! وممَّن أتصورها؟! فإن المسائل مشتبه ومتشابهة، وبعضها يشكل وبعضها قد لا أجد مَن يبيِّنه لي ويصوِّره لي التصور الصحيح.
فنقول: التصور الذي ينبني عليه الحكم الشرعي هو ما كان:
أولاً: من المستفتي: فإن المستفتي هو الواقع في المسألة؛ فإذا سأل وإذا شرح مسألة؛ حصل التصور؛ فالمفتي يبيُّن له ذلك الحكم وفق استفتائه.
ثانياً يكون التصور بنقل العدول الثقاة المسلمين، الذين لا يشوب نقلهم شائبة تجعلهم يخطئون في النقل ومن ثم نخطئ في الحكم على الشيء، لا بد من نقل عدلٍ ثقة في المسألة.
فعند ظهور الفتن، واختلاف الأحوال؛ لا يجوز أن نعتمد على كلام كافر مثلاً؛ ذكر تصوره أو ذكر تحليله في إذاعة ما، أو ذكر تصوره وتحليله في مجلة ما، أو في تقريرٍ ما،
هذا لا يجوز شرعاً أن يبني عليه حكماً شرعيّاً، وإنما الحكم الشرعي يبني على نقل المسلم العدل الثقة.
فأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبل ممَّن يأتي بها؛ إلا إذا كان الإسناد بنقل عدول ضابطين عن مثلهم إلى منتهاه، إذا كان في الإسناد فاسق؛ فإنه قد انخرمت مروءته، وإذا كان في الإسناد مَن ليس بضابط، من يأتي بشيء ويخلطه مع شيء أخر؛ فإنه لا يقبل، ولا ينبني على ذلك الحديث حكم شرعي.
ولهذا؛ فإنه لا بدَّ من رعاية هذه المسألة.
تلخَّص من هذا: أن هذه القاعدة: "الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره": أساسها التصور، ولا يمكن أن يكون صحيحاً في الشرع إلا إذ كان من مسلم عدلٍ ثقة، أو كان من المستفتي نفسه، ولو كان فاسقاً.(غير مفهوم).
- الثالث من تلك الضوابط والقواعد:
أن يلزم المسلم الإنصاف والعدل في أمر كله.
يقول الله جلَّ وعلا: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) [الأنعام: 152].
ويقول جلَّ وعلا: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8].
وقد بُيِّنَتْ هذه المسألة بياناً شافياً كافياً؛ من أنه لابدَّ من العدل في الأقوال، ولا بدَّ من العدل في الأحكام، وأن من لم يعدل في قوله، أو يعدل في حكمه؛ فإنه لم يتبع الشرع اتباعاً يرجو معه النجاة.
ما معنى العدل؟ وما معنى الإنصاف في هذه القاعدة؟
معناه: أنك تأتي بالأمور الحسنة أو بالأمور السيئة، تأتي بهذا الجانب الذي تحبه، وذلك الجانب الذي لا تحبه، ثم توازن وتعرض لهما عرضاً واحداً، وبعد ذلك تحكم؛ لأنه – جزماً – يحصل من عرض الجانبين معاً ما يعصم المرء من أن ينسب للشرع أو ينسب إلى الله جلَّ وعلى أو إلى سنة من سننه الكونية ما ليس موافقاً لما أمر الله جلَّ وعلا به.
فلا بدَّ من عرض الحسن والقبيح؛ عرضهما على الذهن، حتى تصل إلى نتيجة شرعية، وحتى يكون تصورك ويكون قولك أو فهمك أو رأيك في الفتنة منجياً إن شاء الله تعالى.
وهذه مسالة مهمة، وقاعدة لا بدَّ من رعايتها؛ لأنه مَن لم يرع هذه القاعدة؛ دخل الهوى إلى قلبه من مصراعيه، ولم يأمن أن يفتح باب الهوى على غيره، ومن ثم يكون داخلاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ومَن سنَّ سنَّة سيئة؛ فعليه وزرها و وزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة"، وتكون المصيبة أعظم إذا كان الفاعل ممَّن ينتسب إلى العلم والهدى؛ لأنه يقتدي بفعله الجاهل، ويقتدي بفعله نصف المتعلم.
فإذا؛ لابدَّ من أن نرعى هذه القاعدة في أمرنا كله، ومَن سلم من الهوى؛ فإن الله جل وعلا سينجيه في الآخرة والأولى.
- الرابع من تلك الضوابط والقواعد:
ما دلَّ عليه قول الله جلَّ وعلا: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].
وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقال: "عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة".
وثبت أيضا في الحديث الذي رواه عبد الله بن أحمد في "زوائد مسند أبيه": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجماعة رحمة، والفرقة عذاب".
الفرقة بجميع أنواعها – في الأفكار، أو في الأقوال، أو في الأعمال – عذاب يعذِّب الله جلَّ وعلا به مَن خالف أمره وذهب إلى غير هداه.
لهذا؛ مَن لزم الجماعة – جماعة أهل السنة والجماعة – واقتدى بأئمتهم وعلمائهم؛ فإنه قد لزم الجماعة، ومَن تفرَّق عنهم؛ فإنه لا يأمن على نفسه أن يكون ممَّن ذهب إلى الفرقة وعذب بعذاب من عذاب الله في الحياة الدنيا.
نسأل الله جلَّ وعلا أن يسلمنا وإخواننا جميعاً من ذلك كله.
ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: "الجماعة رحمة، والفرقة عذاب".
الجماعة بجميع أنواعها، وبجميع صفاتها، إذا كانت على الهدى والحق، فهي رحمة، يرحم الله جلَّ وعلا بها عباده.
والفرقة عذاب؛ لا خير في التفرق، لا خير فيه أبداً.
لهذا؛ بعد أن قال الله جلَّ وعلا: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)؛ قال في الآية بعدها: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104]، ثم قال: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 105].
نعم؛ الذين تفرَّقوا – في أقوالهم وأعمالهم – من بعد ما جاءتهم البينات، وجاءهم البينات والهدى؛ أولئك لا يؤمن عليهم الزيغ، وأولئك لا يؤمن عليهم الاختلاف، ولا يؤمن عليهم سلوك غير سبيل الهدى.
لهذا؛ كان لزاماً أن نلتزم بجماعة أهل السنة والجماعة، أن نلتزم بأقوالهم، وأن لا نخرج عن قواعدهم، ولا عن ضوابطهم، ولا عمَّا قرَّره علمائهم؛ لأنهم يعلمون من أصول أهل السنة والجماعة، ومن الأدلة الشرعية، ما لا يعلمه كثير من الناس، وما لا يعلمه كثير من الذين ينتسبون إلى العلم؛ لأنهم لهم علماً راسخاً، ونظراً صائباً ، وقدماً راسخةً في العلم.
أنظر إلى ما فعل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ! أتدري ماذا فعل حين كان في الحج مع عثمان بن عفان رضي الله عنه؟
كان عثمان يتمًّ الصلاة؛ يصلي في منىً أربع ركعات، والسنة أن يصلي المصلي في منى ركعتين؛ قصراً لكل رباعية.
عثمان رأى أن يصلي أربع ركعات لتأويل شرعي تأوَّله، مع ذلك ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول: سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يصلي ركعتين لا غير لكل صلاة رباعية. قيل له: يا عبد الله بن مسعود ! تقول هذا وأنت تصلي مع عثمان بن عفان أربع ركعات ! لماذا؟! قال: يا هذا ! الخلاف شر ! الخلاف شر ! الخلاف شر......رواه أبو داود بإسناد قوي.
وهذا لأجل فهمهم للقاعدة الصحيحة، للقاعدة التي مَن أخذ بخلافها؛ فإنه لا يأمن على نفسه الفتنة، ولا على غيره.
قال بن مسعود: "الخلاف شر".
- الخامس من تلك الضوابط والقواعد:
أن الرايات التي ترفع في الفتنة – سواء رايات الدول أو رايات الدعاة – لا بدَّ للمسلم أن يزنها بالميزان الشرعي الصحيح، ميزان أهل السنة والجماعة، الذي مَن وزن به؛ فإن وزنه سيكون قسطاً غير مجحف في ميزانه؛ كما قال جلَّ وعلا في ميزانه: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئا) [الأنبياء: 47].
فلذلك أهل السنة والجماعة لهم موازين قسط يزنون بها الأمور، ويزنون بها الأفكار، ويزنون بها الأحوال، ويزنون بها الرايات المختلفة عند اختلاف الأحوال ، وتلك الموازين تنقسم عندهم – كما بيَّن ذلك أئمة دعوتنا، وكما بيَّن ذلك أئمة أهل السنة والجماعة – تنقسم تلك الموازين إلى قسمين: فسمعهما:
- القسم الأول: موازين يوزن بها الإسلام من عدمه؛ يعني: يوزن بها صحة دعوى الإسلام من عدم صحة تلك الدعوى.
الرايات التي ترفع وتنسب إلى الإسلام كثيرة؛ فلا بدَّ أن تزن تلك الراية، فإن كانت مسلمة؛ ترتَّب على ذلك أحكام شرعيَّة لا بدَّ لك من رعايتها؛ استجابة لما أمر الله به وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم.
- القسم الثاني: موازين نعرف بها كمال الإسلام من عدمه، والاستقامة الحقا على الإسلام من عدم الاستقامة.
فإذاً:
القسم الأول: ينتج من الكفر والإيمان: هل الراية مسلمة مؤمنة؟ أو هي غير ذلك؟
والقسم الثاني: ينتج منه أن تلك الراية هل هي مستقيمة على الهدى كما يحب الله ويرضى؟ أم عندها نقص في ذلك؟
ثم إذا تبين ذلك؛ فإنه تترتب الأحكام الشرعية على ذلك الميزان.
- أما القسم الأول الذي يوزن به الإيمان من الكفر؛ فثلاثة موازين:
الأول: أن تنظر: هل هناك إحقاقٌ لعبادة الله وحده لا شريك له أم لا؟ لأن أصل دين الأنبياء والمرسلين هو أنهم بُعثوا لأن يعبد الله وحده لا شريك له، التوحيد أساس الأمر، وأول الأمر، وآخر الأمر، فمَن رفع راية التوحيد، وأقرَّ عبادة الله وحده لا شريك له، ولم يقرَّ عبادة غير الله جلَّ وعلا فالميزان هذا ينتج أنه مسلم، وأن تلك الراية مسلمة، مع توفر الميزانين التاليين الذين ستسمعهما بإذن الله.
فالميزان الأول إذا: أن نرى هل الراية التي ترفع الإسلام يطبق أهلها التوحيد أم لا؟ هل هناك عبادة لغير الله جلَّ وعلا أم أنه لا يعبد تحت تلك الراية إلا الله وحده لا شريك له، فتتوجه القلوب إلى الله جلَّ وعلا وحده؟
قال سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل:36].
وقال جلَّ وعلى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 41].
قال بعض المفسرين: (وأمروا بالمعروف )؛ يعني: بالتوحيد، ونهوا عن المنكر؛ يعني: عن الشرك؛ لأن أعلى المعروف هو التوحيد، وأبشع المنكر هو الشرك.
فهذا هو الميزان الأول.
الميزان الثاني: أن تنظر إلى تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله، وهذه الشهادة من مقتضاها أن يحكم بالشريعة التي جاء بها المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قال سبحانه وتعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء: 65].
قال جلًّ وعلا: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50].
( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44].
فإذا رأيت الراية المرفوعة يحكم أهلها بشرعة الله، وتفصل الشريعة في أقضي الناس – إذا اختلف الناس في أمورهم، فمَن الذي يحكم بينهم؟ يحكم بينهم القاضي الشرعي فيما يختلفون فيه -؛ فعند ذلك تعلم أن الراية مسلمة لأنه قد حَكَّمَ أهلُها شرع الله جلَّ وعلا، وأقاموا المحاكم الشرعية التي تحكم بما أنزل الله، ولا يلزم أحد أن يحكم بغير ما أنزل الله، أو أن يرضى بحكم غير حكم الله جلَّ وعلا ورسوله.
الميزان الثالث: أن تنظر: هل هناك استحلال للمحرمات؟ أم أن هناك إذا فعلت المحرَّمات بغضاً لها وكراهية لها و إنكارً لها؟
فإن المحرَّم المُجْمًع على تحريمه إذا ظهر له حالان:
إما أن يكون مستحَلاٌّ: فهذا كفر والعياذ بالله.
وأما إذا كان لا يستباح، ولكن يوجد، ويقر رافعو الراية بأن ذلك منكر، وأنه محرم؛ فتعلم بهذا أن الراية شرعية، وأن الراية مسلمة.
هذه ثلاث موازين، بيَّنها أئمتنا رحمهم الله تعالى.
هذا هو القسم الأول من الموازين.
- أما القسم الثاني؛ فهي موازين يُعرف بها كمال الإسلام من عدمه.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ بالإسلام كله، كما جاء من عند الله جلَّ وعلا، فهو المقتدى الذي يُقتدى به، وأخذ به الخلفاء الراشدون عليهم رضوان الله، ولم يزل الأمر ينقص شيئاً بعد شيء في تحقيق كمال الإسلام إلى وقتنا هذا، "ولا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شرُّ منه، حتى تلقوا ربَّكم"؛ كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الميزان هذا تنظر فيه؛ كيف هو في تحقيق الأمور الشرعية؟ كيف هو في الأمر بالصلوات كيف هو في النهي عن المنكرات؟ كيف هو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يتعلَّق بالفرائض؟ وفيما يتعلَّق بالنهي عن المحرمات؟ إذا كان ذلك كاملاً؛ دلَّ على الكمال، وإن كان ذلك ناقصاً؛ دلَّ على النقص بحسب ذلك
وهذه الموازين مهمة لا بدَّ أن تكون في قلبك وعقلك، لا تفارقه أبداً، حتى لا تضل وقت حدوث الضلال، ولا تلتبس عليك الأمور وقت حدوث الالتباس.
إذا تبَّين لك ذلك، وتميَّزت لك الراية المسلمة من غيرها؛ وجب عليك شرعاً أن توالى الراية المسلمة في الحق والهدى، توالى الراية المسلمة؛ لأن الله جلَّ وعلا أمر بموالاة المؤمنين، وحثَّ على الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق:
ومن أول ذلك: أن يكون وَلاؤك لتلك الراية صحيحاً، أن يكون ولاؤك للراية التي ترفع الإسلام صحيحاً ليس فيه زيغ، وليس فيه التباس، وليس فيه تردُد لأنه إما إسلام، وإما كفر فإذا ثبت الإسلام؛ ترتَّبت الأحكام الشرعية على ذلك، ولا يحل لمسلم أن يجعل المعصية مبيحة لأن لا يلتزم بما أمره الله جلَّ وعلا أن يلتزم به ورسوله صلى الله عليه وسلم من الولاء للمؤمنين والولاء للذين يقاتلون في سبيل الله.
الأمر الثاني: أن تنصح لتلك الراية نصحاً يعلمه الله جلَّ وعلا من قلبك، وأهل السنة والجماعة فارقوا أهل البدعة الذين يحبوُّن الفرقة، في أنهم ينصحون مَن ولاَّه الله جلَّ وعلا عليهم، ويكثرون الدعاء، ولو رأوا ما يكرهون؛ فإنهم يكثرون الدعاء، وينصحون نصحاً يعلمه الله جلَّ وعلا من أنفسهم، أنهم ما أرادوا بذلك جزاءً ولا شكورا؛ إلا من عند الله جلَّ وعلا لا من عند غيره، وهذا إذا ثبت في القلب؛ كنا حقا من أهل السنة والجماعة.
طالعوا كتب عقائد أهل السنة والجماعة؛ تروا أن فيها أبواباً مختصَّة بحقوق الإمام على الرعيَّة، وبحق الرعية على الإمام؛ لأن ذلك به تحصل الجماعة، ويحصل به الالتفاف حول السنة والجماعة.
وهذا كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ على النصح لأئمة المسلمين ولعامتهم في حديث: الدين النصيحة، وإذا ثبت أن النصح واجب، وأنه لا بدَّ للمسلم أن ينصح؛ فكيف تكون تلك النصيحة؟ وكيف يكون ذلك البيان؟ على ما جاء في السنة لا من عند أنفسنا.
ثبت في الحديث الصحيح أن عياض بن غنم قال لهشام ابن حكيم رضي الله عنهما وأرضاهما: ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن أراد أن ينصح لذي سلطان؛ فلا يبده علانية، ولكن ليأخذ بيده، ثم ليخلُ به، فإن قبل منه؛ فذاك، وإلاَّ؛ فإنه أدى الذي عليه )، رواه ابن أبي عاصم في السنة وغيره وصححه الألباني.
اسمعوا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأنتم ولا شكَّ حريصون على السنة؛ كما أن أهل السنة والجماعة حريصون عليها.
إذا ترتب على الموازين السابقة الراية المسلمة من غيرها؛ ترتبت الحقوق الشرعية على تلك الراية، وعلى بيان أن تلك الراية مسلمة، وليست براية غير مسلمة.
من ذلك هذا الأمر المهم الذي أهميته تبرز عند تغير الأحوال وحدوث الفتن.
قال صلى الله عليه وسلم: مَن أراد أن ينصح لذي سلطان؛ فلا يبده علانية، ولكن ليأخذ بيده، ثم ليخلُ به، فإن قبل منه؛ فذاك، وإلاَّ؛ فإنه أدى الذي عليه.
فهذا يجعلنا في طمأنينة، ويجعلنا في اتباع لما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم، إن أخذنا بذلك؛ فنحن ناجون بإذن الله، وإن لم نأخذ به؛ فسيصيبنا من القصور ومن المخلفة عن طريق أهل السنة والجماعة بقدر ما خالفنا من ذلك.
وتلك الموازين، إذا التبس على المسلم أو على طالب العلم: كيف يزن بها؟ فالمرجع العلماء؛ فإنهم هم الذين يزنون بالموازين الصحيحة، وهم الذين يقيِّمون بالتقييم الصحيح، وهم الذين يحكمون بالحكم الشرعي الصحيح.
ولهذا؛ فإن الحكم بالإسلام من عدمه، الحكم بالإيمان أو الكفر، مرجعه إلى علماء أهل السنة والجماعة، لا إلى غيرهم من المتعلمين الذين ربما علموا بعضاً وجهلوا بعضاً آخر، أو ربما عمَّموا أشياء لا يجوز تعميمها.
فالحَكَم في ذلك لمن لم يستطع أن يزن بالميزان الصحيح من أهل العلم هم العلماء، وبقولهم يجب أن نأخذ، وبما صاروا إليه، والى ما صاروا إليه، يجب أن نأخذ في تقييم الإيمان والكفر، والوزن بتلك الموازين التي ذكرناها لكم.
مما يترتَّب على تلك الموازين كما قرر أهل السنة والجماعة: أن الجهاد ماض مع كل إمام أو سلطان؛ برَّ أو فاجر، كل إمام أو سلطان، سواء كان برّاً أو كان فاجراً؛ فإن الجهاد ماض معه، لا يجوز لأحد أن يتخلف عن راية الجهاد لأجل أن السلطان عنده مخالفات شرعية؛ في أي وقت، وفي أي زمان.
وهذا الضابط لا بدَّ لك منه في كل وقت؛ فربما يحدث في المستقبل في سنوات تستقبلها من عمرك ما لا نعلمه، فيكون عندك ما تضبط به أمرك، ويكون عندك ما تزن به أحوالك، وما تزن به أفكارك.
ومن ذلك – أي: من تلك الحقوق – الدعاء لمَنْ ولاَّه الله جلَّ وعلا الأمر.
يقول البربهاري رحمه الله ناصر السنة إمام من أئمة السنة والجماعة في كتابه السنة، وهو مطبوع موجود؛ يقول: إذا رأيت الرجل يدعو للسلطان؛ فعلم أنه صاحب سنة، وإذا رأيته يدعو على السلطان؛ فعلم أنه صاحب بدعة.
والفضيل بن عياض كان يدعو كثيراً للسلطان في وقته، ونحن نعلم ما كان من سلاطين بني العباس في وقتهم من أمور، كان يدعو لهم كثيراً؛ قيل له: تدعو لهم أكثر من دعائهم لنفسك؟! قال: نعم؛ لأنني إن صلحت فصلاحي لنفسي ولمَن حولي، وأما صلاح السلطان؛ فهو لعامة المسلمين.
ولهذا؛ مَن أراد صلاحاً عاماً في المسلمين؛ فليعلم الله من قلبه أنه يدعو مخلصاً في أن يصلح الله جلَّ وعلا مَن ولاَّه الله على المسلمين، مَن ولاَّه الله أمر المسلمين، وأن يوفِّقه إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإننا لا نرجو ولا نطمع في أكثر من أن يكون الهدى والعمل بالكتاب والسنة، والقلوب بيد الله جلَّ وعلا، هو الذي يقلبها.
- السادس من تلك الضوابط والقواعد:
أن للقول والعمل في الفتن ضوابط؛ فليس كل مقال يبدو لك حسناً تظهره، وليس كل فعل يبدو لك حسناً تفعله؛ لأن الفتنة قولك فيها يترتَّب عليه أشياء، ولأن الفتنة عملك فيها يترتَّب عليه أشياء.
فلا غرو أن سمعنا أبا هريرة رضي الله عنه يقول: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: أما أحدهما؛ فبثثته، وأما الآخر؛ فلو بثثته؛ لقطع هذا الحلقوم ! رواه البخاري في صحيحه.
قال أهل العلم: قول أبي هريرة: لقطع هذا الحلقوم؛ يعني: أنه كتم الأحاديث التي في الفتن، والأحاديث التي في بني أمية، ونحو ذلك من الأحاديث وهو قال هذا الكلام في زمن معاوية رضي الله عنه، ومعاوية اجتمع الناس عليه بعد فرقة وقتال، تعلمون ما حصل فيه، وتعلمون تاريخه، فأبو هريرة كتم بعض الأحاديث؛ لماذا وهي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ليست في الأحكام الشرعية، وإنما في أمر آخر، لماذا كتمها؟! لأجل أن لا يكون هناك فتنة في الناس، ولم يقل: إن قول الحديث حقِّ، وأنه لا يجوز أن نكتم العلم؛ لماذا؟ لأن كتم العلم في هذا الوقت الذي تكلَّم فيه أبو هريرة لا بدَّ منه؛ لكي لا يتفرَّق الناس بعد أن يجتمعوا في عام الجماعة على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
ويقول ابن مسعود فيما رواه مسلم في صحيحه: ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلعه عقولهم؛ إلا كان لبعضهم فتنة.
الناس لا يتصورون كل كلام يقوله القائل فيما يتحدث به في كل أمر في الفتن؛ فقد يسمعون منه أشياء لا تبلغها عقولهم، فيفهمون أشياء يبنون عليها اعتقادات، أو يبنون عليها تصرفات، أو يبنون عليها أحوالاً وأعمالاً وأقوالاً لا تكون عاقبتها حميدة.
لهذا كان السلف يعملون بذلك كثيراً.
أنظر إلى الحسن البصري رحمه الله تعالى حيث أنكر على أنس بن مالك رضي الله عنه حين حدث الحجاج بن يوسف بحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم للعًرَنيين؛ قال لأنس وأنكر عليه: لم تحدث الحجاج بهذا الحديث؟! قال له لأن الحجاج عاث في الدماء، وسيأخذ هذا الحديث يتأول به صنيعه، فكان واجباً أن يُكتم هذا الحديث وهذا العلم عن الحجاج؛ لكي لا يكون في فهمه وعقله – الذي ليس على السواء وليس على الصحة – أن هذا الحديث يؤيده، أو أن هذا الحديث دليل معه، فيفهمه على غير فهمه.
فالحسن رحمه الله أنكر على أنس رضي الله عنه –وهو الصحابي – تحديثه، وندم أنس رضي الله عنه بعد ذلك على تحديثه الحجاج بحديث العُرَنيين.
وحذيفة – قبل أبي هريرة – كتم أحاديث من أحاديث الفتن، لأنه رأى أن الناس لا يحتاجونها.
والإمام أحمد كره أيضا التحدث بالأحاديث التي فيها الخروج على السلطان، وأمر أن تشطَب من مسنده؛ لأنه قال: لا خير في الفتنة، ولا خير في الخروج.
وأبو يوسف كره التحدث بأحاديث الغرائب.
ومالك رحمه الله كره التحديث بأحاديث فيها ذكر لبعض الصفات.
المقصود من هذا: أنه في الفتن ليس كل ما يعلم يُقال، ولا كل ما يُقال يُقال في كل الأحوال.
لا بدَّ من ضبط الأقوال؛ لأنك لا تدري ما الذي سيحدثه قولك؟ وما الذي سيحدثه رأيك؟ وما الذي سيحدثه فهمك؟
والسلف رحمهم الله أحبو السلامة في الفتن، فسكتوا عن أشياء كثيرة؛ طلباً للسلامة في دينهم، وأن يلقوا الله جلَّ وعلا سالمين.
وقد ثبت أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال لابنه حين حدَّث في القيام ببعض الأمر في الفتنة؛ قال لابنه: يا هذا ! أتريد أن تكون رأساً في الفتنة ! لا، لا والله.
فنهى سعد بن أبي وقاص ابنه عن أن يكون ابنه رأساً في الفتنة، ولو بمقال أو بفعال، ولو رآها حسنة صائبة؛ فإنه لا يأمن أن تكون عاقبتها غير حميدة.
والناس لا بدَّ أن يزنوا الأمور بميزان شرعي صحيح، حتى يَسْلَموا، وحتى لا يقعوا بالخطأ.
ثم إن للأعمال وللأفعال وللتصرفات ضوابط لا بدَّ من رعايتها؛ فليس كل فعل يُحمد في حال يُحمد في الفتنة إذا كان سيفهم منه غير الفهم الذي يُراد أن يُفهم منه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم – كما روى البخاري في الصحيح – قال لعائشة: لولا حدثان قومك بالكفر؛ لهدمت الكعبة، ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين.
النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن يفهم كفار قريش الذين أسلموا حديثاً من نقضه الكعبة، ومن بنائه إياها على بناء إبراهيم، ومن جعله لها بابين: باب يدخل منه الناس، وباب يخرجون منه؛ خشي أن يفهم منه الناس فهماً غير صائب، وأن يفهموا أنه يريد الفخر، أو أنه يريد تسفيه دينهم – دين إبراهيم -، أو نحو ذلك؛ فترك هذا الفعل.
ولهذا؛ بوَّب البخاري – رحمه الله – باباً عظيماً استدلَّ عليه بهذا الحديث؛ ماذا قال؟ قال: باب: من ترك الاختيار مخافة أن يقصر الناس عن فهمه فيقعوا في أشد منه.
وذكر البخاري تحت هذا الباب هذا الحديث النبوي.
يتبع....................
آخر تعديل بواسطة المشرف: