الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم ارض عن الصحابة الكرام، ومن تبعهم بإحسان، أما بعد[FONT="]:
فإن نعَمَ الله - تعالى - على عباده كثيرةٌ لا تُحصى، وأعظمُ نعمةٍ أنعم الله بها على الثقلين : الجنِّ والإنس - أن بعثَ فيهم عبدَه، ورسوله، وخليله، وحبيبه، وخيرته من خلقه، محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليخرجهم به من الظلمات إلى النور، وينقلهم من ذل العبودية للمخلوق إلى عز العبودية للخالق - سبحانه وتعالى- ويرشدهم إلى سبيل النجاة والسعادة، ويحذرهم من سبل الهلاك والشقاوة.
وقد نوّه الله بهذه النعمة العظيمة، والمنة الجسيمة في كتابه العزيز فقال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران:164] وقال - سبحانه وتعالى - : ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾ [الفتح:28].
وقد قام - عليه أفضل الصلاة والسلام - بإبلاغ الرسالة، وأداء الأمانة، والنصح للأمة على التمام والكمال، فبشر وأنذر، ودل على كل خيرٍ وحذَّر من كلّ شر، وأنزل الله - تعالى - عليه وهو واقف بعرفة قبل وفاته صلى الله عليه وسلّم بمدة يسيرة قوله - تعالى - : ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة:3].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم حريصاً على سعادة الأمة غايةَ الحرص كما قال - تعالى - منوّهاً بما حباه الله به من صفات جليلة: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة:128].
وهذا الذي قام به - صلى الله عليه وسلّم - من إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة والنصح للأمة - هو حق الأمة عليه كما قال الله - تعالى - : ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ [النور:54]. وقال : ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ [النحل:35].
وروى البخاري في صحيحه عن الزهري أنه قال: ((من الله رسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم)) انتهى.
وإنّ علاَمة سعادةِ المسلم أن يستسلم وينقاد لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما قال الله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [النساء:65].
وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً﴾ [الأحزاب:36].
وقال تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [ النور:63].
وعبادة الله تكون مقبولة عند الله ونافعة لديه إذا اشتملت على أمرين أساسيين:
أوّلهما: أن تكون العبادة لله خالصةً لا شركة لغيره فيها، وكما أنه - تعالى - ليس له شريك في الملك، فليس له كذلك شريك في العبادة كما قال - تعالى - : ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً﴾ [ الجن: 18 ].
وقال: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [ الأنعام : 162 ، 163 ].
الثاني: أن تكون العبادة على وفق الشريعة التي جاء بها رسوله محمد - صلى الله عليه وسلّم - كما قال الله - تعالى - : ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [ الحشر : 7 ].
وقال - تعالى - : ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [ آل عمران : 31 ].
وقال - صلى الله عليه وسلّم - في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ». وفي رواية لمسلم : «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».
وقال - صلى الله عليه وسلّم - : «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعة وكلَّ بدعة ضلالة».
ولما كانت نعمة الله - تعالى - على المؤمنين بإرسال رسوله صلى الله عليه وسلّم إليهم عظيمة أمرهم الله - تعالى - في كتابه العزيز أن يصلوا عليه ويسلموا تسليماً بعد أن أخبرهم أنّه وملائكتَه يصلون على النبي فقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:56].
وبَيَّنَ النبي - صلى الله عليه وسلّم - في السنة المطهرة فَضْلَ الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلّم - وكيفيتَها وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بها.
وسأتحدّث عن معنى الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلّم - وفضلِها وبيان كيفيتها، ثمّ أشير إلى نماذجَ من الكتب المؤلفة في هذه العبادة، وأسأل الله - تعالى - التوفيق والسداد.
صلاة الله على نبيّه - صلى الله عليه وسلّم - فُسِّرت بثنائه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة عليه فُسِّرت بدعائهم له، فَسّرها بذلك أبو العالية، كما ذكره عنه البخاري في صحيحه، في مطلع باب : ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:56].
وقال البخاري في تفسير صلاة الملائكة عليه بعد ذكر تفسير أبي العالية قال ابن عباس: يصلون: يُبرِّكون، أي يدعون له بالبركة.
وفسّرت صلاة الله عليه بالمغفرة، وبالرحمة كما نقله الحافظ ابن حجر في الفتح عن جماعة، وتعقّب تفسيرها بذلك ثمّ قال: ((وأولى الأقوال ما تقدّم عن أبي العالية أنّ معنى صلاة الله على نبيّه ثناؤه عليه وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم عليه طلب ذلك له من الله - تعالى - والمراد: طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة)).
وقال الحافظ: ((وقال الحليمي في الشعب: معنى الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلّم - تعظيمه، فمعنى قولنا: اللهمّ صل على محمد: عظم محمداً والمراد: تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دينه، وإبقاء شريعته. وفي الآخرة بإجزال مثوبته، وتشفيعه، في أمّته وإبدال فضيلته بالمقام المحمود. وعلى هذا فالمراد بقوله - تعالى - : ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ﴾: ادعوا ربكم بالصلاة عليه )). انتهى
وقال العلامة ابن القيم في كتابه (جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام) في معرض الكلام على صلاة الله وملائكته على رسوله - صلى الله عليه وسلّم- وأمر عباده المؤمنين بأن يصلوا عليه بعد أن رد أن يكون المعنى: الرحمة والإستغفار قال: ((بل الصلاة المأمور بها فيها - يعني آية الأحزاب - هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته، وصلاة ملائكته، وهي: ثناء عليه، وإظهار لفضه وشرفه، وإرادة تكريمه وتقريبه؛ فهي تتضمّن الخبر والطلب، وسمى هذا السؤال والعاء منا نحن صلاة عليه لوجهين:
أحدهما: أنّه يتضمّن ثناء المصلي عليه، والإشادة بذكر شرفه وفضله، والإرادة والمحبة لذلك من الله، فقد تضمنت الخبر والطلب.
والوجه الثاني: أن ذلك سمى صلاة منا لسؤالنا من الله أن يصلي عليه، فصلاة الله عليه: ثناؤه لرفع ذكره وتقريبه، وصلاتنا نحن عليه: سؤال الله تعالى أن يفعل ذلك به )) انتهى.
وأما معنى التسليم على النبي - صلى الله عليه وسلّم - فقد قال فيه المجد الفيروز أبادي في كتابه: ( الصلات والبشرى في الصلاة على خير البشر): ((ومعناه: السلام الذي هو اسم من أسماء الله - تعالى - عليك وتأويله: لا خَلَوْتَ من الخيرات والبركات، وسَلِمت من المكاره والآفات؛ إذ كان اسم الله - تعالى - إنما يذكر على الأمور توقعاً لإجتماع معاني الخير والبركة فيها، وانتفاء عوارض الخلل والفساد عنها.
ويحتمل أن يكون السلام بمعنى السلامة أي: ليكن قضاء الله - تعالى - عليك السلامة، أي سلِمت من الملام والنقائض.
فإذا قلت: اللهم سلم على محمد، فإنما تريد منه: اللهم اكتب لمحمد في دعوته وأمته وذكره السلامة من كل نقص، فتزداد دعوته على ممر الأيام علواً، وأمته تكاثراً، وذكره إرتفاعاً)).
أما كيفية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلّم - فقد بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - لأصحابه حين سألوه عن ذلك، وقد وردت هذه الكيفية من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - أذكر منها هنا ما كان في الصحيحين أو في أحدهما.
روى البخاري في كتاب الأنبياء من صحيحه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (( لقيني كعب بنُ عُجْرَةَ فقال: ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلّم - فقلت: يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ فإن الله قد علمنا كيف نسلم.
قال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد»)).
وأخرج - أيضاً - حديث كعب بن عجرة في كتاب التفسير من صحيحه في تفسير سورة الأحزاب ولفظه: (( قيل يا رسول الله، أمَّا السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟
قال: قولوا: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد»)).
وأخرجه - أيضا - في كتاب الدعوات من صحيحه، وقد أخرج هذا الحديث مسلم عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - من طرق متعددة عنه.
وأخرج البخاري في كتاب الدعوات من صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: (( قلنا: يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف نصلي؟
قال: «قولوا: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم»)).
وأخرجه عنه - أيضاً - في تفسير سورة الأحزاب.
وأخرج البخاري في كتاب الأنبياء من صحيحه عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلّم -: «قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد».
وأخرج عنه - أيضاً - في كتاب الدعوات بمثل هذا اللفظ، وأخرج هذا الحديث عن أبي حميد - رضي الله عنه - مسلم في صحيحه.
وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله - تعالى - أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟
قال: فسكت رسول الله- صلى الله عليه وسلّم - حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - : «قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما علمتكم».
هذه هي المواضع التي خُرِّج فيها هذا الحديث في الصحيحين أو أحدهما، وهي عن أربعة من الصحابة: كعب بن عجرة، وأبي سعيد الخدري، وأبي حميد الساعدي، وأبي مسعود الأنصاري، وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث (كعب وأبي حميد) وانفرد البخاري بإخراجه من حديث أبي سعيد وانفرد مسلم بإخراجه من حديث أبي مسعود الأنصاري.
وقد أخرجه عن هؤلاء الأربعة غير الشيخين، فرواه عن كعب بن عجرة أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والإمام أحمد، والدارمي. ورواه عن أبي سعيد الخدري: النسائي، وابن ماجه. ورواه عن أبي حميد: أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. ورواه عن أبي مسعود الأنصاري: أبو داود، والنسائي، والدارمي. وروى حديث كيفية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلّم - جماعة من الصحابة غير هؤلاء الأربعة منهم: طلحة بن عبد الله ، وأبو هريرة، وبريدة بن الحصيب، وابن مسعود - رضي الله عنهم - أجمعين.
وهذه (الكيفية) التي علَّم- صلى الله عليه وسلّم - أصحابه إياها عندما سألوه عن كيفية الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلّم - هي أفضل كيفيات الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلّم -.
وأكملها الصيغة التي فيها الجمع بين الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلّم - وآله، والصلاة على إبراهيم- صلى الله عليه وسلّم - وآله.
وممن إستدل بتفضيل الكيفية التي أجاب النبي- صلى الله عليه وسلّم - أصحابه بها، الحافظ ابن حجر في فتح الباري فقد قال فيه: (11/166) قلت: ((واستُدِل بتعليمه - صلى الله عليه وسلّم - لأصحابه الكيفية بعد سؤالهم عنها بأنها أفضل كيفيات الصلاة عليه، لأنه لا يختار لنفسه إلا الأشرف الأفضل، ويترتب على ذلك، لو حلف أن يصلي عليه أفضل الصلاة، فطريق البر أن يأتي بذلك)).
ثم ذكر أن النووي صوب ذلك في الروضة، وذكر كيفياتٍ أخرى يحصل بها بر الحلف، ثمّ قال: ((والذي يرشد إليه الدليل أن البر يحصل بما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ؛ لقوله: «من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا فليقل: اللهم صلِّ على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم..» الحديث والله أعلم)) انتهى.
وقد درج السلف الصالح، ومنهم المحَدِّثون بذكر الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلّم - عند ذكره بصيغتين مختصرتين: إحداهما: ((صلى الله عليه وسلّم)) ، والثانية : ((عليه الصلاة والسلام)).
وهاتان الصيغتان قد امتلأت بهما - ولله الحمد - كتب الحديث، بل إنهم يدونون في مؤلفاتهم الوصايا بالمحافظة على ذلك على الوجه الأكمل من الجمع بين الصلاة و التسليم عليه - صلى الله عليه وسلّم -.
يقول الإمام ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث: ((ينبغي له - يعني كاتب الحديث - أن يحافظ على كَتْبِهِ الصلاة والتسليم على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم - عند ذكره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكريره، فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك حُرِمَ حظاً عظيماً)).
إلى أن قال: ((وليتجنب في إثباتها نقصين: أحدهما أن يكتبها منقوصة، صورة رامزاً إليها بحرفين أو نحو ذلك.
والثاني: أن يكتبها منقوصة معنى بأن لا يكتب وسلم وإن وجد ذلك في خط بعض المتقدمين)). انتهى محل الغرض منه.
وقال النووي في كتاب الأذكار: ((إذا صلى أحدكم على النبي - صلى الله عليه وسلّم - فليجمع بين الصلاة والتسليم، ولا يقتصر على أحدهما، فلا يقل (( صلى الله عليه)) فقط، ولا ((عليه السلام)) فقط)) انتهى.
وقد نقل هذا عنه ابن كثير في ختام تفسيره آية الأحزاب من كتاب التفسير، ثم قال ابن كثير: ((وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية وهي قوله: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ فالأولى أن يقال صلى الله عليه وسلّم تسليماً)). انتهى.
وقال الفيروز ابادي في كتابه الصلات والبشر: ((ولا ينبغي أن ترمز للصلاة كما يفعله بعض الكسالى، والجهلة، وعوام الطلبة فيكتبون صورة ((صلعم)) بدلاً من - صلى الله عليه وسلّم -)).
وقد ورد في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلّم - أحاديثُ كثيرةٌ جمعها الحافظ إسماعيل ابن إسحاق القاضي في كتاب أفرده لها، وقد أشار الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند شرحه حديث كيفية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلّم - الذي أورده البخاري في (كتاب الدعوات) من صحيحه إلى الجيد من أحاديث فضل الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلّم-.
والحافظ ابن حجر من أهل الإستقراء التام، والإطلاع الواسع على دواوين السنة النبوية، فأنا أورد هنا ما ذكره في هذا الموضوع - رحمه الله - : (11/167) ((واستدل به على فضيلة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلّم- من جهة ورود الأمر بها وإعتناء الصحابة بالسؤال عن كيفيتها، وقد ورد في التصريح بفضلها أحاديث قوية لم يخرج البخاري منها شيئاً.
منها: ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رفعه «من صلى علي واحدةً صلى الله عليه عشراً».
وله شاهد عن أنس عن أحمد والنسائي، وصححه ابن حبان، وعن أبي بردة بن نيار وأبي طلحة كلاهما عند النسائي ورواتهما ثقات، ولفظ أبي بردة «من صلى علي من أمتي صلاة مخلصاً من قلبه صلى الله عليه بها عشر صلوات، ورفعه بها عشر درجات، وكتب له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات».
ولفظ أبي طلحة عنده نحوه وصححه ابن حبان.
ومنها حديث ابن مسعود رفعه «إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة». وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان. وله شاهد عند البيهقي عن أبي أمامة بلفظ: «صلاة أمتي تعرض عليَّ في كل يوم جمعة فمن كان أكثره عليَّ صلاة كان أقربهم مني منزلة». ولا بأس بسنده.
وورد الأمر بإكثار الصلاة عليه يوم الجمعة من حديث أوس بن أوس وهو عند أحمد وأبي داود وصححه ابن حبان والحاكم.
ومنها حديث: «البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ». أخرجه الترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، واسماعيل القاضي، وأطنب في تخريج طرقه وبيان الإختلاف فيه من حديث عليّ ومن حديث ابنه الحسين، ولا يقصر عن درجة الحسن.
ومنها «من نسي الصلاة عليّ خطئ طريق الجنة». أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس، والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة، وابن أبي حاتم من حديث جابر، والطبراني من حديث حسين بن علي، وهذه الطرق يشد بعضها بعضاً.
وحديث : «رَغِمَ أنف رجل ذكرة عنده فلم يصل عليّ». أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ «من ذكرت عنده فلم يصلِّ علي فمات فدخل النار فأبعده الله». وله شاهد عنده، وصححه الحاكم، وله شاهد من حديث أبي ذر في الطبراني، وآخر عن أنس عند ابن أبي شيبة، وآخر مرسل عن الحسن عند سعيد بن منصور، وأخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة، ومن حديث مالك بن الحويرث، ومن حديث عبد الله بن عباس عند الطبراني، ومن حديث عبد الله بن جعفر عند الفريابي، وعند الحاكم من حديث كعب بن عجرة بلفظ: «بَعُدَ من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ».
وعند الطبراني من حديث جابر رفعه «شَقِيَ عبدٌ ذُكِرت عنده فلم يصلّ عليّ». وعند عبد الرزاق من مرسل قتادة «من الجفاء أن أُذكَرعند رجل فلا يصلي عليّ».
ومنها حديث أبي بن كعب (( أنّ رجلاً قال يا رسول الله؛ إني أكثر الصلاة، فما أجعل لك من صلاتي؟ قال: «ما شئت»، قال الثلث، قال: «ما شئت، وإن زدت فهو خير» - إلى أن قال - أجعل لك كل صلاتي. قال: «إذاً تُكفى همك» الحديث أخرجه أحمد وغيره بسند حسن.
هذا الجيد من الأحاديث الواردة في ذلك وفي الباب أحاديثُ كثيرةً ضعيفةٌ وواهيةٌ. وأما ما وضعه القُصاص في ذلك فلا يُحصى كثرة، وفي الأحاديث القوية غنية عن ذلك)) انتهى كلام الحافظ ابن حجر - رحمه الله - .
والمراد من الصلاة في حديث أبي بت كعب ((فما أجعل لك من صلاتي)): (الدعاء).
قد إعتنى العلماء بهذه العبادة العظيمة، فأفردوها بالتأليف، وأول من علمته ألف في ذلك (الإمام إسماعيل بن إسحاق القاضي) المتوفى سنة 282هـ، وإسم كتابه: (فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلّم - )، وقد طُبع بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني وهو يشتمل على مئة وسبعة أحاديث كلها مسندة.
ومن الكتب المطبوعة المتداولة في هذا الباب كتاب: (جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام) للعلامة ابن القيم، وكتاب: (الصلاة والبشر في الصلاة على خير البشر) للفيروز أبادي صاحب القاموس، وكتاب: (القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع) للسخاوي المتوفى سنة 902هـ، وقد ختم كتابه هذا ببيان الكتب المصنفة في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر جملة كبيرة من هذه الكتب مرتبة، وخامسها بالترتيب كتاب (جلاء الأفهام) لإبن القيم وقد أشار إلى (قيمة) كل منها ثمّ قال: ((وفي الجملة فأحسنها وأكثرها فوائد حامسها، يعني كتاب ابن القيم)).
أقول: زهو في الحقيقة كتاب قيِّمٌ جمع مؤلفه فيه بين ذكر الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه العبادة العظيمة، والكلام عليها صحة وضعفاً، فقهاً واستنباطاً، وقد قال عته في مقدمته: ((وهو كتاب فرد في معناه، لم يسبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها، بينا في الأحاديث الواردة في الصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - وصحيحها من حسنها ومعلومها، وبينا ما في معلولها من العلل بيناً شافياً، ثمّ أسرار هذا الدعاء و -شرفه- وما اشتمل عليه من الحكم والفوائد، ثمّ مواطن الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - ومحالَّها، ثمّ الكلام في مقدار الواجب منها، واختلاف أهل العلم فيه، وترجيح الراجح، وتزييف الزائف، ومخبر الكتاب فوق وصفه والحمد لله رب العالمين)). انتهى.
ومما ألف في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مبنياً على غير علم، ومشتملاً على فضائل وكيفيات الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم- ما أُنزل بها من سلطان كتاب (دلائل الخيرات) للجزولي المتوفى سنة 854هـ.
وقد شاع وانتشر في كثير من أقطار الأرض، قال عنه صاحب كشف الظنون (495/1):
((دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصلاة على النبي المختار - عليه الصلاة والسلام - أوله الحمد لله الذي هدانا للإيمان...إلخ للشيخ أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الجزولي السلالي الشريف الحسني المتوفى سنة 854هـ.
وهذا الكتاب آية من آيات الله في الصلاة على النبي - عليه الصلاة والسلام - يواظب بقراءته في المشارق والمغارب لا سيما في بلاد الروم)).
ثمّ أشار إلى بعض شروح هذا الكتاب.
أقول: ولم يكن إقبال الكثير من الناس على تلاوته مبنياً على أساس يعتمد عليه، وإنما كان تقليداً عن جهل من بعضهم لبعض، والأمر في ذلك كما قال الشيخ محمد الخضر بن مايابى الشنقطي في كتابه: ((مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني)) قال في أثناء رده على التجاني: ((فإن الناس مولعةٌ بحب الطارئ ولذلك تراهم يرغبون دائماً في الصلوات المروية في دلائل الخيرات ونحوه، وكثير منها لم يثبت له سند صحيح ويرغبون عن الصلوات الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري، فقل أن تجد أحداً من المشايخ أهل الفضل له ورد منها، وما ذلك إلا للولوع بالطارئ وأما لو كان الفضل منظوراً إليه لما عدل عاقل - فضلاً عن شيخ فاضل - عن صلاة واردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد سؤاله كيف نصلي عليك يا رسول الله؟ فقال: قولوا كذا، وهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، أقول: لما عدل إلى صلاة لم يرد فيها حديث صحيح، بل ربما كانت منامية من رجل صالح في الظاهر)) انتهى.
ولا شك أن ما جاءت به السنة، وفَعَلَهُ الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان هو الطريق المستقيم، والمنهج القويم، والفائدة للآخذ به محققة والمضرة عنه منتفية، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته عن عائشة - رضي الله عنها - : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».
وفي رواية لمسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «عليكم بسنتي وستة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالتواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكا بدعة ضلالة».
وقد حذر عليه الصلاة والسلام أمته من الغلو فيه، فقال في الحديث الصحيح: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله».
ولما قال له الرجل: (ما شاء الله وشئت)، قال عليه الصلاة والسلام: «أجعلتني لله نداً؟ ما شاء الله وحده».
وكتاب (دلائل الخيرات) قد اشتمل على الغيث والسمين، وشِيْبَ فيه الجائز بالممنوع، وفيه أحاديث موضوعة، وأحاديث ضعيفة، وفيه مجاوزة الحد، ووقوع في المحذور الذي لا يرضاه الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلّم - وهو طارئ لم يكن من نهج السابقين بإحسان.
وحسبي هنا أن أشير إلى بعض الأمثلة مما فيه من الكيفيات المبتدعة في الصلاة والتسليم على النبي الكريم صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين ثم أتبع ذلك بنماذج مما فيه من الأحاديث الموضوعة في فضل الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - والتي يتنزه لسانه الشريف عن النطق بها، فمن الكيفيات الواردة فيه:
(( اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من الصلاة شيئ، وارحم محمداً وآل محمد حتى لا يبقى من الرحمة شيئ، وبارك على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من البركة شيئ، وسلم على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من السلام شيئ)).
فإن قوله: حتى لا يبقى من الصلاة والرحمة والبركة والسلام شيئ، من أسوء الكلام، وأبطل الباطل؛ لأن هذه الأفعال لا تنتهي.
وكيف يقول الجزولي: حتى لا يبقى من الرحمة شيئ والله - تعالى - يقول: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف:156].
وقال في ص 71: (( اللهم صل على سيدنا محمد بحر أنوارك، ومعدن أسرارك، ولسان حجتك، وعروس مملكتك، وإمام حضرتك، وطراز ملكك وخزائن رحمتك ... إنسان عين الوجود، والسبب في كل موجود ...)).
وقال في ص 64: (( اللهم صل على من تفتقت من نوره الأزهار... اللهم صل على من أخضرت من بقية وضوئه الأشجار، اللهم صل على من فاضت من نوره جميع الأنوار)).
فإن هذه الكيفيات فيها تكلف وغلو لا يرضاه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله».أخرجه البخاري في صحيحه.
وقال الجزولي في ص 144 و 145: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما سجعت الحمائم، وحمت الحوائم، وسرحت البهائم ونفعت التمائم، وشدت العمائم، ونمت النوائم)).
فإن في قول: ((ونفعت التمائم)) إشادة بالتمائم وحث عليها وقد حرمها- صلى الله عليه وسلم - فقال : «من تعلق تميمة فلا أتمّ الله له».
[/FONT]
فإن نعَمَ الله - تعالى - على عباده كثيرةٌ لا تُحصى، وأعظمُ نعمةٍ أنعم الله بها على الثقلين : الجنِّ والإنس - أن بعثَ فيهم عبدَه، ورسوله، وخليله، وحبيبه، وخيرته من خلقه، محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليخرجهم به من الظلمات إلى النور، وينقلهم من ذل العبودية للمخلوق إلى عز العبودية للخالق - سبحانه وتعالى- ويرشدهم إلى سبيل النجاة والسعادة، ويحذرهم من سبل الهلاك والشقاوة.
وقد نوّه الله بهذه النعمة العظيمة، والمنة الجسيمة في كتابه العزيز فقال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران:164] وقال - سبحانه وتعالى - : ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾ [الفتح:28].
وقد قام - عليه أفضل الصلاة والسلام - بإبلاغ الرسالة، وأداء الأمانة، والنصح للأمة على التمام والكمال، فبشر وأنذر، ودل على كل خيرٍ وحذَّر من كلّ شر، وأنزل الله - تعالى - عليه وهو واقف بعرفة قبل وفاته صلى الله عليه وسلّم بمدة يسيرة قوله - تعالى - : ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة:3].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم حريصاً على سعادة الأمة غايةَ الحرص كما قال - تعالى - منوّهاً بما حباه الله به من صفات جليلة: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة:128].
وهذا الذي قام به - صلى الله عليه وسلّم - من إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة والنصح للأمة - هو حق الأمة عليه كما قال الله - تعالى - : ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ [النور:54]. وقال : ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ [النحل:35].
وروى البخاري في صحيحه عن الزهري أنه قال: ((من الله رسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم)) انتهى.
وإنّ علاَمة سعادةِ المسلم أن يستسلم وينقاد لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما قال الله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [النساء:65].
وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً﴾ [الأحزاب:36].
وقال تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [ النور:63].
وعبادة الله تكون مقبولة عند الله ونافعة لديه إذا اشتملت على أمرين أساسيين:
أوّلهما: أن تكون العبادة لله خالصةً لا شركة لغيره فيها، وكما أنه - تعالى - ليس له شريك في الملك، فليس له كذلك شريك في العبادة كما قال - تعالى - : ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً﴾ [ الجن: 18 ].
وقال: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [ الأنعام : 162 ، 163 ].
الثاني: أن تكون العبادة على وفق الشريعة التي جاء بها رسوله محمد - صلى الله عليه وسلّم - كما قال الله - تعالى - : ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [ الحشر : 7 ].
وقال - تعالى - : ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [ آل عمران : 31 ].
وقال - صلى الله عليه وسلّم - في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ». وفي رواية لمسلم : «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».
وقال - صلى الله عليه وسلّم - : «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعة وكلَّ بدعة ضلالة».
ولما كانت نعمة الله - تعالى - على المؤمنين بإرسال رسوله صلى الله عليه وسلّم إليهم عظيمة أمرهم الله - تعالى - في كتابه العزيز أن يصلوا عليه ويسلموا تسليماً بعد أن أخبرهم أنّه وملائكتَه يصلون على النبي فقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:56].
وبَيَّنَ النبي - صلى الله عليه وسلّم - في السنة المطهرة فَضْلَ الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلّم - وكيفيتَها وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بها.
وسأتحدّث عن معنى الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلّم - وفضلِها وبيان كيفيتها، ثمّ أشير إلى نماذجَ من الكتب المؤلفة في هذه العبادة، وأسأل الله - تعالى - التوفيق والسداد.
صلاة الله على نبيّه - صلى الله عليه وسلّم - فُسِّرت بثنائه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة عليه فُسِّرت بدعائهم له، فَسّرها بذلك أبو العالية، كما ذكره عنه البخاري في صحيحه، في مطلع باب : ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:56].
وقال البخاري في تفسير صلاة الملائكة عليه بعد ذكر تفسير أبي العالية قال ابن عباس: يصلون: يُبرِّكون، أي يدعون له بالبركة.
وفسّرت صلاة الله عليه بالمغفرة، وبالرحمة كما نقله الحافظ ابن حجر في الفتح عن جماعة، وتعقّب تفسيرها بذلك ثمّ قال: ((وأولى الأقوال ما تقدّم عن أبي العالية أنّ معنى صلاة الله على نبيّه ثناؤه عليه وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم عليه طلب ذلك له من الله - تعالى - والمراد: طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة)).
وقال الحافظ: ((وقال الحليمي في الشعب: معنى الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلّم - تعظيمه، فمعنى قولنا: اللهمّ صل على محمد: عظم محمداً والمراد: تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دينه، وإبقاء شريعته. وفي الآخرة بإجزال مثوبته، وتشفيعه، في أمّته وإبدال فضيلته بالمقام المحمود. وعلى هذا فالمراد بقوله - تعالى - : ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ﴾: ادعوا ربكم بالصلاة عليه )). انتهى
وقال العلامة ابن القيم في كتابه (جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام) في معرض الكلام على صلاة الله وملائكته على رسوله - صلى الله عليه وسلّم- وأمر عباده المؤمنين بأن يصلوا عليه بعد أن رد أن يكون المعنى: الرحمة والإستغفار قال: ((بل الصلاة المأمور بها فيها - يعني آية الأحزاب - هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته، وصلاة ملائكته، وهي: ثناء عليه، وإظهار لفضه وشرفه، وإرادة تكريمه وتقريبه؛ فهي تتضمّن الخبر والطلب، وسمى هذا السؤال والعاء منا نحن صلاة عليه لوجهين:
أحدهما: أنّه يتضمّن ثناء المصلي عليه، والإشادة بذكر شرفه وفضله، والإرادة والمحبة لذلك من الله، فقد تضمنت الخبر والطلب.
والوجه الثاني: أن ذلك سمى صلاة منا لسؤالنا من الله أن يصلي عليه، فصلاة الله عليه: ثناؤه لرفع ذكره وتقريبه، وصلاتنا نحن عليه: سؤال الله تعالى أن يفعل ذلك به )) انتهى.
وأما معنى التسليم على النبي - صلى الله عليه وسلّم - فقد قال فيه المجد الفيروز أبادي في كتابه: ( الصلات والبشرى في الصلاة على خير البشر): ((ومعناه: السلام الذي هو اسم من أسماء الله - تعالى - عليك وتأويله: لا خَلَوْتَ من الخيرات والبركات، وسَلِمت من المكاره والآفات؛ إذ كان اسم الله - تعالى - إنما يذكر على الأمور توقعاً لإجتماع معاني الخير والبركة فيها، وانتفاء عوارض الخلل والفساد عنها.
ويحتمل أن يكون السلام بمعنى السلامة أي: ليكن قضاء الله - تعالى - عليك السلامة، أي سلِمت من الملام والنقائض.
فإذا قلت: اللهم سلم على محمد، فإنما تريد منه: اللهم اكتب لمحمد في دعوته وأمته وذكره السلامة من كل نقص، فتزداد دعوته على ممر الأيام علواً، وأمته تكاثراً، وذكره إرتفاعاً)).
أما كيفية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلّم - فقد بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - لأصحابه حين سألوه عن ذلك، وقد وردت هذه الكيفية من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - أذكر منها هنا ما كان في الصحيحين أو في أحدهما.
روى البخاري في كتاب الأنبياء من صحيحه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (( لقيني كعب بنُ عُجْرَةَ فقال: ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلّم - فقلت: يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ فإن الله قد علمنا كيف نسلم.
قال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد»)).
وأخرج - أيضاً - حديث كعب بن عجرة في كتاب التفسير من صحيحه في تفسير سورة الأحزاب ولفظه: (( قيل يا رسول الله، أمَّا السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟
قال: قولوا: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد»)).
وأخرجه - أيضا - في كتاب الدعوات من صحيحه، وقد أخرج هذا الحديث مسلم عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - من طرق متعددة عنه.
وأخرج البخاري في كتاب الدعوات من صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: (( قلنا: يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف نصلي؟
قال: «قولوا: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم»)).
وأخرجه عنه - أيضاً - في تفسير سورة الأحزاب.
وأخرج البخاري في كتاب الأنبياء من صحيحه عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلّم -: «قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد».
وأخرج عنه - أيضاً - في كتاب الدعوات بمثل هذا اللفظ، وأخرج هذا الحديث عن أبي حميد - رضي الله عنه - مسلم في صحيحه.
وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله - تعالى - أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟
قال: فسكت رسول الله- صلى الله عليه وسلّم - حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - : «قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما علمتكم».
هذه هي المواضع التي خُرِّج فيها هذا الحديث في الصحيحين أو أحدهما، وهي عن أربعة من الصحابة: كعب بن عجرة، وأبي سعيد الخدري، وأبي حميد الساعدي، وأبي مسعود الأنصاري، وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث (كعب وأبي حميد) وانفرد البخاري بإخراجه من حديث أبي سعيد وانفرد مسلم بإخراجه من حديث أبي مسعود الأنصاري.
وقد أخرجه عن هؤلاء الأربعة غير الشيخين، فرواه عن كعب بن عجرة أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والإمام أحمد، والدارمي. ورواه عن أبي سعيد الخدري: النسائي، وابن ماجه. ورواه عن أبي حميد: أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. ورواه عن أبي مسعود الأنصاري: أبو داود، والنسائي، والدارمي. وروى حديث كيفية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلّم - جماعة من الصحابة غير هؤلاء الأربعة منهم: طلحة بن عبد الله ، وأبو هريرة، وبريدة بن الحصيب، وابن مسعود - رضي الله عنهم - أجمعين.
وهذه (الكيفية) التي علَّم- صلى الله عليه وسلّم - أصحابه إياها عندما سألوه عن كيفية الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلّم - هي أفضل كيفيات الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلّم -.
وأكملها الصيغة التي فيها الجمع بين الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلّم - وآله، والصلاة على إبراهيم- صلى الله عليه وسلّم - وآله.
وممن إستدل بتفضيل الكيفية التي أجاب النبي- صلى الله عليه وسلّم - أصحابه بها، الحافظ ابن حجر في فتح الباري فقد قال فيه: (11/166) قلت: ((واستُدِل بتعليمه - صلى الله عليه وسلّم - لأصحابه الكيفية بعد سؤالهم عنها بأنها أفضل كيفيات الصلاة عليه، لأنه لا يختار لنفسه إلا الأشرف الأفضل، ويترتب على ذلك، لو حلف أن يصلي عليه أفضل الصلاة، فطريق البر أن يأتي بذلك)).
ثم ذكر أن النووي صوب ذلك في الروضة، وذكر كيفياتٍ أخرى يحصل بها بر الحلف، ثمّ قال: ((والذي يرشد إليه الدليل أن البر يحصل بما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ؛ لقوله: «من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا فليقل: اللهم صلِّ على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم..» الحديث والله أعلم)) انتهى.
وقد درج السلف الصالح، ومنهم المحَدِّثون بذكر الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلّم - عند ذكره بصيغتين مختصرتين: إحداهما: ((صلى الله عليه وسلّم)) ، والثانية : ((عليه الصلاة والسلام)).
وهاتان الصيغتان قد امتلأت بهما - ولله الحمد - كتب الحديث، بل إنهم يدونون في مؤلفاتهم الوصايا بالمحافظة على ذلك على الوجه الأكمل من الجمع بين الصلاة و التسليم عليه - صلى الله عليه وسلّم -.
يقول الإمام ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث: ((ينبغي له - يعني كاتب الحديث - أن يحافظ على كَتْبِهِ الصلاة والتسليم على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم - عند ذكره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكريره، فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك حُرِمَ حظاً عظيماً)).
إلى أن قال: ((وليتجنب في إثباتها نقصين: أحدهما أن يكتبها منقوصة، صورة رامزاً إليها بحرفين أو نحو ذلك.
والثاني: أن يكتبها منقوصة معنى بأن لا يكتب وسلم وإن وجد ذلك في خط بعض المتقدمين)). انتهى محل الغرض منه.
وقال النووي في كتاب الأذكار: ((إذا صلى أحدكم على النبي - صلى الله عليه وسلّم - فليجمع بين الصلاة والتسليم، ولا يقتصر على أحدهما، فلا يقل (( صلى الله عليه)) فقط، ولا ((عليه السلام)) فقط)) انتهى.
وقد نقل هذا عنه ابن كثير في ختام تفسيره آية الأحزاب من كتاب التفسير، ثم قال ابن كثير: ((وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية وهي قوله: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ فالأولى أن يقال صلى الله عليه وسلّم تسليماً)). انتهى.
وقال الفيروز ابادي في كتابه الصلات والبشر: ((ولا ينبغي أن ترمز للصلاة كما يفعله بعض الكسالى، والجهلة، وعوام الطلبة فيكتبون صورة ((صلعم)) بدلاً من - صلى الله عليه وسلّم -)).
وقد ورد في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلّم - أحاديثُ كثيرةٌ جمعها الحافظ إسماعيل ابن إسحاق القاضي في كتاب أفرده لها، وقد أشار الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند شرحه حديث كيفية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلّم - الذي أورده البخاري في (كتاب الدعوات) من صحيحه إلى الجيد من أحاديث فضل الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلّم-.
والحافظ ابن حجر من أهل الإستقراء التام، والإطلاع الواسع على دواوين السنة النبوية، فأنا أورد هنا ما ذكره في هذا الموضوع - رحمه الله - : (11/167) ((واستدل به على فضيلة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلّم- من جهة ورود الأمر بها وإعتناء الصحابة بالسؤال عن كيفيتها، وقد ورد في التصريح بفضلها أحاديث قوية لم يخرج البخاري منها شيئاً.
منها: ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رفعه «من صلى علي واحدةً صلى الله عليه عشراً».
وله شاهد عن أنس عن أحمد والنسائي، وصححه ابن حبان، وعن أبي بردة بن نيار وأبي طلحة كلاهما عند النسائي ورواتهما ثقات، ولفظ أبي بردة «من صلى علي من أمتي صلاة مخلصاً من قلبه صلى الله عليه بها عشر صلوات، ورفعه بها عشر درجات، وكتب له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات».
ولفظ أبي طلحة عنده نحوه وصححه ابن حبان.
ومنها حديث ابن مسعود رفعه «إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة». وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان. وله شاهد عند البيهقي عن أبي أمامة بلفظ: «صلاة أمتي تعرض عليَّ في كل يوم جمعة فمن كان أكثره عليَّ صلاة كان أقربهم مني منزلة». ولا بأس بسنده.
وورد الأمر بإكثار الصلاة عليه يوم الجمعة من حديث أوس بن أوس وهو عند أحمد وأبي داود وصححه ابن حبان والحاكم.
ومنها حديث: «البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ». أخرجه الترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، واسماعيل القاضي، وأطنب في تخريج طرقه وبيان الإختلاف فيه من حديث عليّ ومن حديث ابنه الحسين، ولا يقصر عن درجة الحسن.
ومنها «من نسي الصلاة عليّ خطئ طريق الجنة». أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس، والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة، وابن أبي حاتم من حديث جابر، والطبراني من حديث حسين بن علي، وهذه الطرق يشد بعضها بعضاً.
وحديث : «رَغِمَ أنف رجل ذكرة عنده فلم يصل عليّ». أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ «من ذكرت عنده فلم يصلِّ علي فمات فدخل النار فأبعده الله». وله شاهد عنده، وصححه الحاكم، وله شاهد من حديث أبي ذر في الطبراني، وآخر عن أنس عند ابن أبي شيبة، وآخر مرسل عن الحسن عند سعيد بن منصور، وأخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة، ومن حديث مالك بن الحويرث، ومن حديث عبد الله بن عباس عند الطبراني، ومن حديث عبد الله بن جعفر عند الفريابي، وعند الحاكم من حديث كعب بن عجرة بلفظ: «بَعُدَ من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ».
وعند الطبراني من حديث جابر رفعه «شَقِيَ عبدٌ ذُكِرت عنده فلم يصلّ عليّ». وعند عبد الرزاق من مرسل قتادة «من الجفاء أن أُذكَرعند رجل فلا يصلي عليّ».
ومنها حديث أبي بن كعب (( أنّ رجلاً قال يا رسول الله؛ إني أكثر الصلاة، فما أجعل لك من صلاتي؟ قال: «ما شئت»، قال الثلث، قال: «ما شئت، وإن زدت فهو خير» - إلى أن قال - أجعل لك كل صلاتي. قال: «إذاً تُكفى همك» الحديث أخرجه أحمد وغيره بسند حسن.
هذا الجيد من الأحاديث الواردة في ذلك وفي الباب أحاديثُ كثيرةً ضعيفةٌ وواهيةٌ. وأما ما وضعه القُصاص في ذلك فلا يُحصى كثرة، وفي الأحاديث القوية غنية عن ذلك)) انتهى كلام الحافظ ابن حجر - رحمه الله - .
والمراد من الصلاة في حديث أبي بت كعب ((فما أجعل لك من صلاتي)): (الدعاء).
قد إعتنى العلماء بهذه العبادة العظيمة، فأفردوها بالتأليف، وأول من علمته ألف في ذلك (الإمام إسماعيل بن إسحاق القاضي) المتوفى سنة 282هـ، وإسم كتابه: (فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلّم - )، وقد طُبع بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني وهو يشتمل على مئة وسبعة أحاديث كلها مسندة.
ومن الكتب المطبوعة المتداولة في هذا الباب كتاب: (جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام) للعلامة ابن القيم، وكتاب: (الصلاة والبشر في الصلاة على خير البشر) للفيروز أبادي صاحب القاموس، وكتاب: (القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع) للسخاوي المتوفى سنة 902هـ، وقد ختم كتابه هذا ببيان الكتب المصنفة في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر جملة كبيرة من هذه الكتب مرتبة، وخامسها بالترتيب كتاب (جلاء الأفهام) لإبن القيم وقد أشار إلى (قيمة) كل منها ثمّ قال: ((وفي الجملة فأحسنها وأكثرها فوائد حامسها، يعني كتاب ابن القيم)).
أقول: زهو في الحقيقة كتاب قيِّمٌ جمع مؤلفه فيه بين ذكر الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه العبادة العظيمة، والكلام عليها صحة وضعفاً، فقهاً واستنباطاً، وقد قال عته في مقدمته: ((وهو كتاب فرد في معناه، لم يسبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها، بينا في الأحاديث الواردة في الصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - وصحيحها من حسنها ومعلومها، وبينا ما في معلولها من العلل بيناً شافياً، ثمّ أسرار هذا الدعاء و -شرفه- وما اشتمل عليه من الحكم والفوائد، ثمّ مواطن الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - ومحالَّها، ثمّ الكلام في مقدار الواجب منها، واختلاف أهل العلم فيه، وترجيح الراجح، وتزييف الزائف، ومخبر الكتاب فوق وصفه والحمد لله رب العالمين)). انتهى.
ومما ألف في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مبنياً على غير علم، ومشتملاً على فضائل وكيفيات الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم- ما أُنزل بها من سلطان كتاب (دلائل الخيرات) للجزولي المتوفى سنة 854هـ.
وقد شاع وانتشر في كثير من أقطار الأرض، قال عنه صاحب كشف الظنون (495/1):
((دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصلاة على النبي المختار - عليه الصلاة والسلام - أوله الحمد لله الذي هدانا للإيمان...إلخ للشيخ أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الجزولي السلالي الشريف الحسني المتوفى سنة 854هـ.
وهذا الكتاب آية من آيات الله في الصلاة على النبي - عليه الصلاة والسلام - يواظب بقراءته في المشارق والمغارب لا سيما في بلاد الروم)).
ثمّ أشار إلى بعض شروح هذا الكتاب.
أقول: ولم يكن إقبال الكثير من الناس على تلاوته مبنياً على أساس يعتمد عليه، وإنما كان تقليداً عن جهل من بعضهم لبعض، والأمر في ذلك كما قال الشيخ محمد الخضر بن مايابى الشنقطي في كتابه: ((مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني)) قال في أثناء رده على التجاني: ((فإن الناس مولعةٌ بحب الطارئ ولذلك تراهم يرغبون دائماً في الصلوات المروية في دلائل الخيرات ونحوه، وكثير منها لم يثبت له سند صحيح ويرغبون عن الصلوات الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري، فقل أن تجد أحداً من المشايخ أهل الفضل له ورد منها، وما ذلك إلا للولوع بالطارئ وأما لو كان الفضل منظوراً إليه لما عدل عاقل - فضلاً عن شيخ فاضل - عن صلاة واردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد سؤاله كيف نصلي عليك يا رسول الله؟ فقال: قولوا كذا، وهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، أقول: لما عدل إلى صلاة لم يرد فيها حديث صحيح، بل ربما كانت منامية من رجل صالح في الظاهر)) انتهى.
ولا شك أن ما جاءت به السنة، وفَعَلَهُ الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان هو الطريق المستقيم، والمنهج القويم، والفائدة للآخذ به محققة والمضرة عنه منتفية، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته عن عائشة - رضي الله عنها - : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».
وفي رواية لمسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «عليكم بسنتي وستة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالتواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكا بدعة ضلالة».
وقد حذر عليه الصلاة والسلام أمته من الغلو فيه، فقال في الحديث الصحيح: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله».
ولما قال له الرجل: (ما شاء الله وشئت)، قال عليه الصلاة والسلام: «أجعلتني لله نداً؟ ما شاء الله وحده».
وكتاب (دلائل الخيرات) قد اشتمل على الغيث والسمين، وشِيْبَ فيه الجائز بالممنوع، وفيه أحاديث موضوعة، وأحاديث ضعيفة، وفيه مجاوزة الحد، ووقوع في المحذور الذي لا يرضاه الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلّم - وهو طارئ لم يكن من نهج السابقين بإحسان.
وحسبي هنا أن أشير إلى بعض الأمثلة مما فيه من الكيفيات المبتدعة في الصلاة والتسليم على النبي الكريم صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين ثم أتبع ذلك بنماذج مما فيه من الأحاديث الموضوعة في فضل الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - والتي يتنزه لسانه الشريف عن النطق بها، فمن الكيفيات الواردة فيه:
(( اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من الصلاة شيئ، وارحم محمداً وآل محمد حتى لا يبقى من الرحمة شيئ، وبارك على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من البركة شيئ، وسلم على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من السلام شيئ)).
فإن قوله: حتى لا يبقى من الصلاة والرحمة والبركة والسلام شيئ، من أسوء الكلام، وأبطل الباطل؛ لأن هذه الأفعال لا تنتهي.
وكيف يقول الجزولي: حتى لا يبقى من الرحمة شيئ والله - تعالى - يقول: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف:156].
وقال في ص 71: (( اللهم صل على سيدنا محمد بحر أنوارك، ومعدن أسرارك، ولسان حجتك، وعروس مملكتك، وإمام حضرتك، وطراز ملكك وخزائن رحمتك ... إنسان عين الوجود، والسبب في كل موجود ...)).
وقال في ص 64: (( اللهم صل على من تفتقت من نوره الأزهار... اللهم صل على من أخضرت من بقية وضوئه الأشجار، اللهم صل على من فاضت من نوره جميع الأنوار)).
فإن هذه الكيفيات فيها تكلف وغلو لا يرضاه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله».أخرجه البخاري في صحيحه.
وقال الجزولي في ص 144 و 145: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما سجعت الحمائم، وحمت الحوائم، وسرحت البهائم ونفعت التمائم، وشدت العمائم، ونمت النوائم)).
فإن في قول: ((ونفعت التمائم)) إشادة بالتمائم وحث عليها وقد حرمها- صلى الله عليه وسلم - فقال : «من تعلق تميمة فلا أتمّ الله له».
[/FONT]