[FONT=traditional arabic, Arial, Tahoma, Calibri, Geneva, sans-serif]يقول تعالى :
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات : 55] يقول السعدي رحمه الله :
والتذكير نوعان: تذكير بما لم يعرف تفصيله، مما عرف مجمله بالفطر والعقول فإن الله فطر العقول على محبة الخير وإيثاره، وكراهة الشر والزهد فيه، وشرعه موافق لذلك، فكل أمر ونهي من الشرع، فإنه من التذكير، وتمام التذكير، أن يذكر ما في المأمور به ، من الخير والحسن والمصالح، وما في المنهي عنه، من المضار. والنوع الثاني من التذكير: تذكير بما هو معلوم للمؤمنين، ولكن انسحبت عليه الغفلة والذهول، فيذكرون بذلك، ويكرر عليهم ليرسخ في أذهانهم، وينتبهوا ويعملوا بما تذكروه، من ذلك، وليحدث لهم نشاطًا وهمة، توجب لهم الانتفاع والارتفاع. وأخبر الله أن الذكرى تنفع المؤمنين، لأن ما معهم من الإيمان والخشية والإنابة، واتباع رضوان الله، يوجب لهم أن تنفع فيهم الذكرى، وتقع الموعظة منهم موقعها كما قال تعالى: { فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى } [ ص 813 ] وأما من ليس له معه إيمان ولا استعداد لقبول التذكير، فهذا لا ينفع تذكيره، بمنزلة الأرض السبخة، التي لا يفيدها المطر شيئًا، وهؤلاء الصنف، لو جاءتهم كل آية، لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
قال عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي رحمه الله (المتوفى : 911هـ)
وأخرج ابن المنذر عن سلمان بن حبيب المحاربي قال : من وجد للذكرى في قلبه موقعاً فليعلم أنه مؤمن قال الله { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } . [/FONT][FONT=traditional arabic, Arial, Tahoma, Calibri, Geneva, sans-serif]قال محمد بن صالح بن محمد العثيمين رحمه الله : أي: ذكر الناس بآيات الله وبأيامه، وشرائعه وما أوجب الله على العباد. وبأيامه: عقابه تبارك وتعالى للمكذبين وإثابته للطائعين، لكن أطلق الله الذكرى وقال: {وذكر } ولم يقل: وذكر المؤمنين، لكن بين أن الذي ينتفع بالذكرى هم المؤمنون فقال: {فإن الذكرى تنفع المؤمنين } لأن المؤمن إذا ذكر فهو كما وصفه الله عز وجل: { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً } بل يقبلونها بكل رحابة صدر وبكل طمأنينة، وفي الآية الدليل على وجوب التذكير على كل حال، وفيها أن الذي ينتفع بالذكرى هم المؤمنون، وأن من لا ينتفع بالذكر فهو ليس بمؤمن: إما فاقد الإيمان، وإما ناقص الإيمان، وهنا فتش عن نفسك: هل أنت إذا ذكرت بآيات الله وخوفت من الله عز وجل هل أنت تتذكر أم يبقى قلبك كما هو قاسياً، إن كانت الأولى فاحمد الله فإنك من المؤمنين، وإن كانت الثانية فحاسب نفسك، ولا تلومن إلا نفسك، وعليك أن ترجع إلى الله - عز وجل - حتى تنتفع بالذكرى، وفي الآية دليل على أنه كلما كان الإيمان أقوى كان الانتفاع بالذكرى أعظم وأشد، وذلك من قاعدة معروفة عند العلماء، وهي: أن الحكم إذا علق بوصف ازداد بزيادته ونقص بنقصانه.
و فيك بارك الله.
أسأل الله أن ينفع به كل من قرأه كما نفعك به و رق قلبك و أعتبر فؤادك بما جاء فيه من التذكير و المواعظ و العبر.
وفقك الله إلى ما فيه رضاه.
إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم أصل عظيم من أصول الدين، فلا إيمان لمن لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.
المحبة عمل قلبي اعتقادي تظهر آثاره ودلائله في سلوك الإنسان وأفعاله ومن علامات ذلك:
أولاً: تعزير النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره
قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً . لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح:8-9].
ذكر ابن تيمية أن التعزير: "اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه". والتوقير: "اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار" (الصارم المسلول على شاتم الرسول ص: [422]).
وتوقير النبي صلى الله عليه وسلم له دلائل عديدة، منها:
1- عدم رفع الصوت فوق صوته؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2].
وعن السائب بن يزيد قال: "كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما -أو من أين أنتما-؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!" (أخرجه البخاري: [1/560]).
2- الصلاة عليه: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:57].
وفي الآية أمر بالصلاة عليه، والأمر يقتضي الوجوب، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «البخيل من ذكرتُ عنده فلم يصل عليّ» (أخرجه أحمد: [201]، والترمذي: [5/551]).
وقال: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ» (أخرجه أحمد: [2/254]، والبخاري في الأدب المفرد، ص: [220]، والترمذي: [5/550]).
ثانياً: الذب عنه وعن سنته
إن الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته، آية عظيمة من آيات المحبة والإجلال، قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].
ولقد سطر الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة وأصدق الأعمال في الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفدائه بالأموال والأولاد والأنفس، في المنشط والمكره، في العسر واليسر، وكتب السير عامرة بقصصهم وأخبارهم التي تدل على غاية المحبة والإيثار، وما أجمل ما قاله أنس بن النضر يوم أحد لما انكشف المسلمون: "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين-، ثم تقدّم فاستقبله سعد، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة وربّ النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس بن مالك: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه" (أخرجه البخاري: [6/21]، و[7/354]).
ومن الذب عن سنته صلى الله عليه وسلم؛ حفظها وتنقيحها، وحمايتها من انتحال المبطلين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين، ورد شبهات الزنادقة والطاعنين في سنته، وبيان أكاذيبهم ودسائسهم، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنضارة لمن حمل هذا اللواء بقوله: «نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مُبلّغ أوعى من سامع» (أخرجه أحمد: [1/437]، والترمذي: [5/34]، وابن ماجة: [1/85]).
والتهاون في الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الذب عن سنته وشريعته، من الخذلان الذي يدل على ضعف الإيمان، أو زواله بالكلية، فمن ادعى الحب ولم تظهر عليه آثار الغيرة على حرمته وعرضه وسنته، فهو كاذب في دعواه.
ثالثاً: تصديقه فيما أخبر
من أصول الإيمان وركائزه الرئيسة، الإيمان بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم وسلامته من الكذب أو البهتان، وتصديقه في كل ما أخبر من أمر الماضي أو الحاضر أو المستقبل، قال الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:14].
ومن لطائف هذا الباب التي تدل على منزلة الشيخين الجليلة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «بينما راعٍ في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبها حتى استنقذها، فالتفت إليه الذئب، فقال له: من لها يوم السبع ليس لها راعٍ غيري؟ وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها، فالتفتت إليه فكلمته فقالت: إني لم أُخْلَق لهذا، ولكني خُلِقتُ للحرث»، فقال الناس: سبحان الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإني أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر بن الخطاب» (أخرجه البخاري في عدة مواضع منها: [6/152]، و[7/18]، و[42]).
رابعاً: اتباعه وطاعته والاهتداء بهديه
الأصل في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله أنها للاتباع والتأسي، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
قال ابن كثير: "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل" (تفسير القرآن العظيم: [3/475]).
وجاء أمر الله سبحانه وتعالى في وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].
وجعل الله عز وجل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعته سبحانه، فقال: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} [النساء من الآية:80].
وأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59].
وتواترت النصوص النبوية في الحث على اتباعه وطاعته، والاهتداء بهديه والاستنان بسنته، وتعظيم أمره ونهيه، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (أخرجه أحمد: [4/ 126-127]، وأبو داود: [5/13-15]، والترمذي: [5/44]، وابن ماجة: [1/16]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي» (أخرجه البخاري: [2/111]، و[10/438]).
فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي المثال الحي الصادق لمحبته عليه الصلاة والسلام فكلما ازداد الحب، زادت الطاعات، ولهذا قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [ال عمران من الآية:31].
فالطاعة ثمرة المحبة، وفي هذا يقول أحد الشعراء:
تعصى الإله وأنت تزعم حبه *** ذاك لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إن المحب لمن أحب مطيع
خامساً: التحاكم إلى سنته وشريعته
إن التحاكم إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم أصل من أصول المحبة والاتباع، فلا إيمان لمن لم يحتكم إلى شريعته، ويسلم تسليماً، قال الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء:65].
وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى أن من علامات الزيغ والنفاق الإعراض عن سنته، وترك التحاكم إليها، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء:60-61].
الغلو في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم:
انحرف بعض الناس عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأحدثوا في دين الله عز وجل ما ليس منه، وغيروا وبدلوا، وغلوا في محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم غلواً أخرجهم عن جادة الصراط المستقيم، الذي قال الله عز وجل فيه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيله ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على حماية جناب التوحيد، فكان يحذر تحذيراً شديداً من الغلو والانحراف في حقه، ودلائل ذلك كثيرة جداً منها:
* عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله» (أخرجه البخاري في عدة مواضع منها: [6/478]).
* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ألا أني أنهاكم عن ذلك يحذر ما صنعوا» (أخرجه البخاري: [8/140]، ومسلم: [1/377]).
* وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلتني لله عدلاً؟! بل قل ما شاء الله وحده» (أخرجه أحمد: [1/214] و[283] و[347]).
* وعن أنس أن رجلاً قال: يا محمد، يا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» (أخرجه أحمد: [3/153]، و[241]).
ونظائر هذه النصوص كثيرة جداً، وثمرتها كلها بيان أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه لا تكون إلا بالهدي الذي ارتضاه وسنه لنا، ولهذا قال عليه أفضل الصلاة والسلام: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌ» (أخرجه مسلم: [3/1344]).
حقيقة المولد النبوي:
ظهرت هذه الفكرة في عصر الدولة العبيدية الباطنية، إظهاراً منهم لدعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انتشرت في كثير من دول العالم الإسلامي، إلى يومنا هذا فأصبح اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول عيداً مشهوداً عند كثير من المبتدعة يجتمعون فيه لإنشاد المدائح النبوية والأوراد الصوفية، وإقامة الحفلات والرقصات، وقد يقترن بذلك بعض الشركيات من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به، وقد يحدث الاختلاط بين الرجال والنساء والاستماع إلى الملاهي.
إن تحويل الإسلام إلى طقوس وثنية من الأهازيج الشعرية والطبول والمزامير والتمايل والرقص، وبالتالي الانحراف به عن صفائه ونقائه، هو من قبيل جعله إلى العبث والخرافة أقرب منه إلى الدين الحق.
وحينما تكون هذه العقلية الساذجة المنحرفة حاكمة للعالم الإسلامي يكون رد الفعل الرئيس لدخول خيول نابليون إلى الأزهر الشريف هو اجتماع الشيوخ للتبرُّك بقراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم من صحيح البخاري! وكلما ازدادت الدائرة على المسلمين ازدادت الدروشة، وتمايلت الرؤوس وبحت الأصوات بالأناشيد والأوراد والمدائح النبوية.
إن الاحتفال بالمولد النبوي أصبح عند بعض الناس من العامة والخاصة الآية الرئيسة لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأذكر أنني كنت قبل سنوات في بلد إسلامي في أوائل شهر ربيع الأول، والناس منهمكون في التجهيز والإعداد لليوم الثاني عشر، تحدثت مع أحد كبار الأساتذة الجامعيين عن هذه البدعة، وبعد أن بح صوتي بذكر الأدلة والشواهد، قال لي: هذا صحيح، ولكن هذا سيدنا النبي!
عندها تذكرت قول غلاة الصوفية: "من أراد التحقيق فليترك العقل والشرع!" (مجموع الفتاوى: [11/243])، وصدق ابن تيمية حينما قال عن غلاتهم: "كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم أعظم" (مجموع الفتاوى: [2/174]).
ومن المفارقات التي تدعو إلى التأمُّل، أن بعض الناس قد يعصي النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً ونهاراً، ويتهاون في تعظيم أوامره، فضلاً عن الالتزام بسنته، ومع ذلك فهو يحتفي بيوم المولد، ويوالي فيه ويعادي، وكأن غاية الحب عنده هو إحياء هذا اليوم بالمدائح والأوراد، وبعد ذلك ليفعل ما يشاء...؟!
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "من تتبع التاريخ يعلم أن أشد المؤمنين حباً واتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم أقلهم غلواً فيه ولا سيما أصحابه رضي الله عنهم ومن يليهم من خير القرون، وأن أضعفهم إيماناً وأقلهم اتباعاً له هم أشد غلواً في القول وابتداعاً في العمل".
وليس عجيباً أن يحظى هذا اليوم باحتفاء رسمي من الحكومات العلمانية وتسخر له كافة الإمكانات الرسمية، وتجري تغطية فعالياته من جميع وسائل الإعلام، لأنها تعلم يقيناً أن غاية هؤلاء الدراويش لا تتجاوز الأوراد والمدائح حتى إن النذور والقرابين التي ترمى على القبور والأضرحة والمزارات أصبحت مصدر دخل رئيس لوزارات الأوقاف والسياحة، ولهذا كان حافظ إبراهيم يقول متهكماً:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم *** وبألف ألف يرزق الأموات من لي بحظ النائمين بحفرة *** قامت على أحجارها الصلوات؟! (الديوان، ج1، ص: [318]).
إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم عقيدة راسخة في قلوب المؤمنين، ثمرتها الاقتداء والبذل والعطاء والتضحية والجهاد في سبيل نصرة دينه وإعلاء لوائه وحماية سنته، ولا يوجد بين محبي الرسول صلى الله عليه وسلم مكان للعجزة النائحين، وما أجمل قول أنس بن النضر رضي الله عنه لما مرَّ بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم فقال: "ما تنتظرون؟ فقالوا: قُتِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه" (أخرجه البخاري: [6/21] و[7/355]، ومسلم: [3/1512]).