رد: قصة الدولة الزنكية
كلنا اخوة
السلام عليكم
نور الدين محمود زنكي
نور الدين محمودمن أبرز شخصيات الدولة الزنكية نور الدين محمود؛ إذ تحفل سيرته بجهاد طويل ضد الصليبيين، وضد الدولة العُبيدية في سبيل نصرة الإسلام، ورفع رايته.
وُلِدَ نور الدين محمود في يوم الأحد 17 شوال سنة 511هـ/ 1118م بحلب، وقد نشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل وغيرهما، تعلم القرآن والفروسية والرمي، وكان شهمًا شجاعًا ذا همة عالية وقصد صالح وحرمة وافرة وديانة بينة[1].
اعتنى نور الدين بمصالح الرعية، فأسقط ما كان يؤخذ من المكوس، وأعطى عرب البادية إقطاعيات لئلا يتعرضوا للحجاج، وقام بتحصين بلاد الشام وبنى الأسوار على مدنها، وبنى مدارس كثيرة منها العادلية والنورية ودار الحديث، ويعتبر نور الدين أول من بنى مدرسة للحديث، وقام نور الدين ببناء الجامع النوري بالموصل، وبنى الخانات في الطرق، وكان متواضعًا مهيبًا وقورًا، يكرم العلماء، وكان فقيهًا على المذهب الحنفي، فكان يجلس في كل أسبوع أربعة أيام يحضر الفقهاء عنده، ويأمر بإزالة الحجاب حتى يصل إليه من يشاء، ويسأل الفقهاء عمّا يُشكل عليه، ووقف نور الدين كتبًا كثيرة ليقرأها الناس[2].
يقول ابن كثير فيه: "كان رحمه الله حسن الخط كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعًا للآثار النبوية، محافظًا على الصلوات في الجماعات، كثير التلاوة محبًّا لفعل الخيرات، عفيف البطن والفرج، مقتصدًا في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس، حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا، ولم يُسمَع منه كلمةُ فُحشٍ قطّ في غضب ولا رضى، صموتًا وقورًا.
ركب يومًا مع بعض أصحابه والشمس في ظهورهما والظل بين أيديهما لا يدركانه، ثم رجعا فصار الظل وراءهما، ثم ساق نور الدين فرسه سوقًا عنيفًا، وظِلُّه يتبعه؛ فقال لصاحبه: أتدري ما شبهت هذا الذي نحن فيه؟ شبَّهتُه بالدنيا تهرب ممن يطلبها، وتطلب من يهرب منها"[3]. ويدل هذا الموقف على شدة زهده في الدنيا، وعلى انتباه قلبه ويقظته.
اتصف نور الدين محمود بعدد من الصفات مكنته من تحقيق ذلك النجاح الباهر في بناء وإدارة دولة واسعة منها:
شعوره بالمسئولية الملقاة على عاتقه، واعتماده الحلول العقلية، وقوة شخصيته، كما تمتع بخصائص عسكرية فذة جعلته من أعظم قادة زمانه، ومكنته من تحويل جيشه الصغير إلى أعظم قوة عسكرية في الشرق الأدنى، كما كان رياضيًّا من الطراز الأول مولعًا بضرب الكرة "البولو" خدمة للأغراض الدينية، ومارس أيضًا رياضة الصيد، وكان تقيًّا ورعًا شغوفًا بالعلم، معظمًا للعلماء، وكان يختار رجال دولته بعناية فائقة، منح المؤسسة القضائية استقلالاً تامًّا، وأنشأ دار العدل التي كانت بمنزلة محكمة عليا لمحاسبة كبار الموظفين في الدولة، تحرى العدل وأنصف المظلوم من الظالم دون النظر إلى الفوارق الاجتماعية، كما كان حريصًا على تأمين الخدمات الاجتماعية لرعيته[4].
كان نور الدين محمود وهو في الثلاثين من عمره واضح الرؤية والهدف منذ أن تسلم الحكم حتى يوم وفاته، إذ كان عليه واجب الجهاد لتحرير الأرض من الصليبيين المعتدين وعلى رأسها بيت المقدس، وتوفير الأمان للناس، وأدرك أن الانتصار على الصليبيين لا يتحقق إلا بعد جهاد طويل ومرير حافل بالتضحيات في خطوات متتابعة تقرب كل منها يوم الحسم، فالخطوة الأولى التي كان قد بدأها والده عماد الدين زنكي حين حرَّر إمارة الرها التي تشكِّل تداخلاً مع الأراضي الإسلامية، فتمكن بذلك من تطهير الأراضي الداخلية وحصر الوجود الصليبي في الشريط الساحلي، وعليه أن يخطو الخطوة الثانية، لذلك وضع أسس سياسة متكاملة تتضمن توحيد بلاد الشام أولاً، ثم توحيد بلاد الشام ومصر التي كانت تعاني من الاضطرابات وفوضى الحكم ثانيًا، وطرد الصليبيين من المنطقة ثالثًا، وكان التوحيد في نظره يتضمن توحيد الصف والهدف في آن واحد، فأما توحيد الصف فهو جمع بلاد الشام ومصر في إطار سلطة سياسية واحدة، وأما توحيد الهدف فهو جمع المسلمين تحت راية مذهب واحد هو مذهب أهل السنة، وكان كلَّما توغل في خضم الجهاد، وتقدم به الزمان يزداد اقتناعًا بصواب هذه السياسة، وكان سبيله إلى ذلك مزيجًا من العمل السياسي والمعارك العسكرية التي تخدم توحيد الصف والهدف[5].
ولكن لم تكن الأمور مستقرة أبدًا على الجبهة الداخلية، فقد كانت مراكز القوى المتنافسة في العالم الإسلامي كثيرة، وكانت هذه المنافسة تأخذ أحيانًا شكلاً حادًّا وعنيفًا، غير أن خطر الصليبيين دفع القوى الإسلامية في أحيانٍ كثيرة إلى دفن خلافتها وتجاوز منافساتها، وكانت بعض القوى الإسلامية تقوم بدور الوساطة أحيانًا، لجمع الكلمة وتوحيد الجهد ضد أعداء الدين، ومثال ذلك ما حدث سنة 560هـ/ 1164م عندما وقع خلاف حاد بين نور الدين محمود بن زنكي وبين صاحب الروم قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان أدى إلى الحرب والتضاغن، فلما بلغ خبر ذلك إلى مصر، كتب وزير صاحب مصر - الصالح بن رزيك - إلى قلج أرسلان ينهاه عن ذلك، ويأمره بموافقة نور الدين واتّباعه، وكان لذلك دوره في إخماد ثائرة الفتنة التي كان للروم دورهم فيها بتحريض قلج أرسلان لصرف نور الدين عن جهاد الصليبيين.
وفي سنة 562هـ/ 1166م، أعلن (صاحب مَنْبج) واسمه غازي بن حسان المنبجي عصيانه، وتمرد على نور الدين الذي كان قد عينه على حكم منبج، فما كان من نور الدين إلاّ أن وجه إليه قوة عملت على حصاره، ثم إخراجه من منبج التي أسند نور الدين حكمها إلى أخيه قطب الدين الذي عين (ينال بن حسان) لإدارة الحكم فيها، وكان عادلاً خيرًا محسنًا إلى الرعية، جميل السيرة فبقي فيها إلى أن أخذها منه صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة 572هـ/ 1177م.
وكانت معظم ديار بكر وحصن كيفا تحت حكم فخر الدين أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق، وتصادف أن مرض سنة 562هـ/ 1166م، وشعر باقتراب منيته، فكتب إلى نور الدين محمود رسالة جاء فيها: "إن بيننا صحبةً في جهاد الكفار، أريد أن ترعى بها ولدي". وما لبث فخر الدين أرسلان أن توفي، وخلفه من بعده ابنه محمد، فقام نور الدين بحمايته والدفاع عنه، وكان قطب الدين مودود صاحب الموصل وشقيق نور الدين قد طمع بضم أملاك فخر الدين أرسلان إلى أملاكه، ووجه جيشًا لهذه الغاية، فأسرع نور الدين وكتب رسالة إلى أخيه قطب الدين جاء فيها: "إن قصدت أو تعرضت لبلاده، منعتُك قهرًا" فامتنع قطب الدين عن تنفيذ ما كان يريده.
قلعة جغبر كانت هناك قلعة تحمل اسم ( قلعة جغبر)، وهي التي اغتيل عندها عماد الدين زنكي، وهي من أمنع القلاع وأحصنها مطلعة على الفرات من الجانب الشرقي، وكانت هذه القلعة تحت حكم شهاب الدين مالك بن علي بن مالك العقيلي، وكان وجود هذه القلعة وسط البلاد التي يحكمها نور الدين، مصدرَ تهديد للقاعدة التي كان يستند إليها نور الدين في حروبه وأيام سلمه، وقد رغب نور الدين في الاستيلاء عليها، فوضع من حلفائه - بني كلاب - من يترصد لحاكم القلعة وسيدها، وتصادف أن غادر العقيلي حصنه في رحلة للصيد، فأخذه بنو كلاب وحملوه إلى نور الدين ( في شهر رجب من سنة 563هـ/ 1168م)، فاستقبله نور الدين وأحسن إليه، ورغَّبه في الإقطاع والمال ليسلم إليه القلعة، فلم يفعل؛ فعدل إلى الشدة والعنف وتهدده فلم يفعل، فسيَّر إليها نور الدين جيشًا بقيادة الأمير فخر الدين مسعود بن علي الزعفراني، فحَصَرها مدة، فلم يظفر منها بشيء، فأمدهم بجيش آخر، وجعل على الجميع الأمير مجد الدين أبا بكر المعروف بابن الداية - وهو رضيع نور الدين وأكبر أمرائه - فحصر القلعة، غير أنه لم يَرَ له فيها مطمعًا، فسلك مع صاحبها طريق اللين وأشار عليه أن يأخذ من نور الدين العوض، ولا يخاطر في حفظها بنفسه؛ فقَبِل قوله وسلمها، فأخذ عوضًا عنها سروج وأعمالها والملاحة التي بين حلب وباب بزاغة، وعشرين ألف دينار معجلة، وهذا إقطاع عظيم جدًّا، إلا أنه لا حصن فيه، وهذا آخر أمر بني مالك العقيلي بالقلعة. وقيل للعقيلي: "أيما أحب إليك وأحسن مقامًا: سروج والشام أم القلعة؟" فقال: "هذه أكثر مالاً، وأمّا العز ففارقناه بالقلعة"[6].
وجاءت سنة 565هـ/ 1169م حاملة معها مزيدًا من المتاعب لنور الدين، فقد وقعت زلازل عظيمة متتابعة هائلة، لم ير الناس مثلها، وعمت أكثر البلاد من الشام والجزيرة والموصل والعراق وغيرها من البلاد، وكان أشدها بالشام، حيث خربت كثيرًا من دمشق وبعلبك وحمص وحماة وشيزر وبعرين وحلب وغيرها، وتهدمت أسوارها وقلاعها، وسقطت الدور على أهلها، وهلك منهم ما يخرج عن الحد، فلما علم نور الدين الخبر، سار إلى بعلبك ليعمر ما انهدم من سورها وقلعتها، فلما وصلها أتاه خبر باقي البلاد، وخراب أسوارها وقلاعها، وخلوها من أهلها، فجعل ببعلبك من يعمرها ويحفظها، وسار إلى حمص، ففعل مثل ذلك، ثم حماه، ثم إلى بعرين، وكان شديد الحذر على سائر البلاد من الصليبيين، ثم أتى مدينة حلب، فرأى فيها من آثار الزلزلة ما ليس بغيرها من البلاد، فإنها كانت قد أتت عليها، وبلغ الرعب ممن نجا كل مبلغ، فكانوا لا يقدرون على اللجوء إلى مساكنهم خوفًا من عودة الزلزلة، فأقام بظاهرها، وباشر عمارتها بنفسه، فلم يزل كذلك حتى أحكم أسوار البلاد وجوامعها[7].
وأما بلاد الصليبيين، فإن الزلازل عملت بها كذلك، فاشتغلوا بعمارة بلادهم خوفًا من نور الدين عليها، فاشتغل كل منهم بعمارة بلاده خوفًا من الآخر.
لما يكد نور الدين يفرغ من إصلاح ما دمرته الزلازل حتى جاءه ما يشغله عن نفسه، فقد توفي أخوه قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل - وهو بالموصل - وأوصى بالملك من بعده لابنه الأكبر عماد الدين زنكي الثاني، ثم عدل عن وصيته قبل وفاته فأوصى أن يئُول ملكه إلى ابنه الأصغر سيف الدين غازي الثاني، وكان السبب في ذلك تدخل القيّم بأمور دولته والمقدم فيها - فخر الدين عبد المسيح - والذي كان يكره عماد الدين؛ لأنه كان طوع عمه نور الدين بكثرة مقامه عنده، ولأنه زوج ابنته، وكان نور الدين بدوره يكره عبد المسيح ويبغضه، فاتفق فخر الدين وخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي - وهي والدة سيف الدين الثاني - على صرف المُلك عن عماد الدين إلى سيف الدين، فلما توفي قطب الدين مودود، دخل ولده عماد الدين إلى عمه نور الدين مستنصرًا به ليعينه على أخذ الملك لنفسه.
كان نور الدين يبغض فخر الدين عبد المسيح بسبب خشونة سياسته تجاه الرعية، وظلمه، وتجبره، فلمَّا علم بتحكمه في أمر ابن أخيه، قال: "أنا أولى بتدبير أمور أولاد أخي" وأقام العزاء لأخيه، فلما انقضت أيام العزاء، اختار نخبة من خيرة فرسانه، وسار بهم بسرعة إلى الخابور، فملكه جميعه، وملك نصيبين وأقام بها، فجمع الجند فأتاه بها نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود (صاحب حصن كيفا)، وكثر جمعه، وكان قد ترك معظم جيشه بالشام، لحفظ ثغوره، فلما اجتمعت العساكر، سار إلى سنجار فحصرها، ونصب المنجنيقات واستولى عليها، فأسند حكمها إلى عماد الدين ابن أخيه قطب الدين، وكان قد جاءته كتب الأمراء الذين بالموصل سرًّا، يبذلون له الطاعة، ويحثونه على الوصول إليهم، فسار إلى الموصل، فأتى مدينة (بلد) وعبر دجلة عند مخاضة إلى الجانب الشرقي، وسار فنزل شرقي الموصل على حصن نيِنوَى، ودجلة بينه وبين الموصل، وكان سيف الدين غازي الثاني قد سيَّر (عز الدين مسعود بن قطب الدين) إلى أتابك شمس الدين إيلدكز صاحب همذان وبلد الجبل وأذربيجان وأصفهان والري وتلك الأعمال، يستنجده على عمه نور الدين، فأرسل إيلدكز رسولاً إلى نور الدين ينهاه عن التعرض إلى الموصل؛ فلم يلتفت إليه، وقال للرسول: "قل لصاحبك: أنا أصلح لأولاد أخي منك، فلا تدخل نفسك بيننا، وعند الفراغ من إصلاح بلادهم يكون الحديث معك على باب همذان، فإنك قد ملكت هذه المملكة العظيمة، وأهملت الثغور، حتى غلب الكرج عليها، وقد بُلِيتُ أنا ولي مثل ربع بلادك بالفرنج، وهم أشجع العالم، فأخذت معظم بلادهم، وأسرت ملوكهم، ولا يحل لي السكوت عنك، فإنه يجب علينا القيام بحفظ ما أهملت، وإزالة الظلم عن المسلمين".
وأقام نور الدين على حصار الموصل، فعزم من بها من الأمراء على مجاهرة فخر الدين عبد المسيح بالعصيان وتسليم البلد إلى نور الدين، فعلم فخر الدين بذلك وأرسل إلى نور الدين يفاوضه في تسليم البلد إليه على أن يبقيه تحت حكم سيف الدين، وعلى أن يمنحه الأمان لنفسه وماله، فأجابه إلى ذلك، وشرط عليه بالمقابل أن يأخذه معه إلى الشام، وأن يعطيه عنده إقطاعًا يرضيه[8].
وتسلم نور الدين الموصل، ودخل القلعة من باب السر؛ لأنه لما بلغه عصيان عبد المسيح عليه، حلف أن لا يدخلها إلا من أحصن موضع فيها، ولما ملكها أطلق ما بها من المكوس وغيرها من أبواب المظالم، وكذلك فعل بنصيبين وسنجار والخابور، شأنه في ذلك شأن ما كان يفعله في البلاد التابعة لحكمه، ووصله وهو على الموصل يحاصرها خلعة من الخليفة المستضيء بأمر الله، فلبسها، ولما ملك الموصل، خلعها على ابن أخيه سيف الدين وأمره وهو بالموصل بعمارة الجامع النوري، وركب هو بنفسه إلى موضعه فرآه، وصعد منارة مسجد أبي حاضر فأشرف منها على موضع الجامع، فأمر أن يُضاف إلى الأرض التي شاهدها ما كان يجاورها من الدور والحوانيت، وأن لا يؤخذ منها شيء بغير اختيار أصحابه، وولّى الشيخ محمد الملا عمارته، وكان من الصالحين الأخيار، فاشترى الأملاك من أصحابها بأوفر الأثمان، وعمّره، وعاد نور الدين إلى الشام بعد أن أقام أربعة أشهر بالموصل، واصطحب معه فخر الدين عبد المسيح، وغيَّر اسمه فسماه (عبد الله)، وأقطعه إقطاعًا كبيرًا.
وجد نور الدين أن رقعة بلاده قد اتسعت كثيرًا، ولما كان في جهد وجهاد مع الصليبيين، فقد أخذ في التفكير بوسيلة تضمن له تأمين الاتصال بسرعة مع أنحاء البلاد وأطرافها، فلما كانت سنة 567هـ/ 1171م اتخذ بالشام الحمام الهوادي (الزاجل) وهي تطير من البلاد البعيدة إلى أوكارها وجعلها في جميع بلاده.
كان نور الدين قد استخدم مليح بن ليون الأرمني لحكم الدروب المجاورة لحلب، وأقطعه إقطاعًا كبيرًا، وقيل لنور الدين: لماذا تستخدم مليح، وتمنحه الإقطاع في بلاد الشام؟ فأجابهم بقوله: "أستعين به على قتال أهل ملته، وأريح طائفة من عسكري تكون بإزائه لتمنعه من الغارة على البلاد المجاورة له". وأخلص مليح لنور الدين، ولازمه، وشاركه في حروبه مع الصليبيين، وكان نور الدين بالمقابل يدعمه لقتال من يجاوره من الأرمن والروم، وكانت مدن أذنة ومصيصة وطرسوس بيد ملك الروم صاحب القسطنطينية، فأخذها مليح منهم لأنها تجاور بلاده، فسير إليه ملك الروم جيشًا كثيفًا سنة 568هـ/ 1172م، وجعل عليهم بعض أعيان البطارقة من أقاربه.
فلقيهم مليح ومعه طائفة من عسكر نور الدين، فقاتلهم، وصدقهم القتال، وصابرهم، فانهزمت الروم، وكثر فيهم القتل والأسر وقويت شوكة مليح، وانقطع أمل الروم من تلك البلاد، وأرسل مليح إلى نور الدين كثيرًا من غنائمهم، ومن الأسرى ثلاثين رجلاً من مشهوريهم وأعيانهم، فسير نور الدين بعض ذلك إلى الخليفة المستضيء بأمر الله.
تلك هي بعض ملامح الجهد الذي بذله نور الدين وجهاده لبناء جبهة داخلية قوية متماسكة، قاعدته العدل والمساواة، وأساسها الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله، وهدفها حشد قوى المسلمين جميعها لقتال أعداء الدين.
فعندما حارب في سنة 568هـ/ 1172م قلج أرسلان ملك ملطية وسيواس وأقصرا وكبسون وبهنسي ومرعش ومرزبان وسواها، ثم صالحه، شرط عليه أن ينجده بعساكر إلى الغزاة، وقال له: "أنت مجاور لبلاد الروم، ولا تغزوهم، وبيدك قطعة كبيرة من بلاد الإسلام، ولا بد من الغزاة معي" وتمَّ الاتفاق على ذلك.
ومضى نور الدين إلى بلاد الشام بعد أن استقرت لهم الأمور في قاعدته على حدود المشرق، ولكن قبل سفره، جاءه رسول من بغداد يحمل منشور الخليفة (مرسوم) بإقراره على حكم الموصل والجزيرة وإربل وخلاط والشام وبلاد قلج أرسلان وديار مصر أيضًا[9].
نور الدين محمود يربي صلاح الدين الأيوبي على الجهادومن الملامح البارزة في حياة نور الدين محمود علاقته بصلاح الدين الأيوبي؛ إذ تولى نور الدين تربية صلاح الدين منذ صغره؛ فكان له بمنزلة الوالد والمعلِّم، وكان يدربه على فنون القتال، ويغرس فيه حب الجهاد في سبيل الله U، ثم عينه بعد ذلك قائدًا للشرطة، ثم أرسله بصحبة عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر؛ استجابة للوزير شاور ضد ضرغام الذي استعان بالصليبيين، وبعد انتصار أسد الدين ووفاته، تولى صلاح الدين الوزارة في مصر للدولة العُبيدية، رغم كونه سُنيًّا، وعمل صلاح الدين على تنفيذ أحلام نور الدين، وأحلامه الشخصية، وأحلام المسلمين جميعًا بالقضاء على الدولة العبيدية، وعادت مصر دولة سنية مرةً أخرى، وأضاء وجهها المشرق من جديد.
كانت علاقة نور الدين محمود بصلاح الدين بعد إسقاط الدولة العبيدية حسنة إجمالاً، وبخاصة أن صلاح الدين قام بتنفيذ الأمر الصادر إليه من نور الدين بوجوب الدعوة للخلافة العباسية بوصفه نائبًا عنه، وقائدًا لقواته في مصر، ومع ذلك لم تلبث هذه العلاقة الطيبة أن أخذت في التوتر تدريجيًّا[10].
ولكن ما هى الأسباب التي أدت إلى توتر العلاقة بين صلاح الدين ونور الدين محمود؟!
لقد عرض بعض المؤرخين وجهات نظر مختلفة تحاول أن تكشف عن أسباب هذا التباعد منها:
* الطموحات التي نشأت لدى أسد الدين شيركوه في حكم مصر، فلم يخف شيركوه هذه الغاية في نفسه بل ظل يتحدث عنها حتى استاء نور الدين محمود وانتابه القلق من هذا الطموح.
ولكن نرى أن اختلاف وجهات النظر السياسية كانت من أهم أسباب توتر العلاقة بين نور الدين محمود وصلاح الدين؛ فقد رأى نور الدين محمود في بلاد الشام أنها بمنزلة الأرض الرئيسية للمعركة ضد الصليبيين، وتطلع إلى مصر كمصدر للطاقة البشرية الإضافية والواردات المادية التي تسد نفقات الجهاد، وخطوة تمهيدية للقضاء على مملكة بيت المقدس وهو لم يناضل في ضمها إلا من أجل هذه الغاية، أمّا صلاح الدين فقد كان مقتنعًا نتيجة للصراع بين القوى الثلاث في الشرق الأدنى الإسلامية والصليبية والبيزنطية حول مصر بأن هذا البلد يشكل في الوقت الراهن مركز الثقل في العمليات العسكرية.
ونتيجة لهذا الاختلاف في وجهات النظر السياسية كانت تصرفات أحد الرجلين تفسر على أنها موجهة ضد الآخر[11].
[1] ابن كثير: البداية والنهاية، ج12، ص277.
[2] محمد سعيد مرسي: عظماء الإسلام عبر أربعة عشر قرنًا من الزمان، ص226، 227.
[3] البداية والنهاية، ج 12، ص278، 279.
[4] د/ طقوش: تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام، ص407: 420.
[5] د/ طقوش: تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام، ص252.
[6] بسام العسلي: نور الدين القائد، ص112: 115.
[7] بسام العسلي: نور الدين القائد، ص115.
[8] بسام العسلي: نور الدين القائد، ص116: 118.
[9] بسام العسلي: نور الدين القائد، ص118: 120.
[10] د/طقوش: تاريخ الزنكيين، ص394، 395.
[11] د/طقوش: تاريخ الزنكيين، ص398، 399.
موقع قصة الاسلام
يتبع.....................