للإسلام في كل مكان وصل إليه قصة، تحكي جهود الأجداد في نشر الإسلام في ربوع الأرض، وبين كل البشر؛ ليَعُمَّ الخير، وينتشر العدل، وتشرق الأرض بنور ربها. ومن بين البقاع التي نَعِمت بنور الإسلام في وقت مبكر، تلك الأرض الممتدة على طول القارة الإفريقية
العلاقات القديمة بين العرب وشرق أفريقيا
شرق أفريقيا
للإسلامِ في كلِّ مكانٍ وَصَلَ إليه قِصَّةٌ؛ تحكى جهود الأجداد في نشر الإسلام في ربوع الأرض، وبين كل البشر، ليَعُمَّ الخيرُ، وينتشر العدلُ، وتُشرق الأرض بنور ربها.
ومن بين البقاع التي نَعِمت بنور الإسلام في وقت مبكر، تلك الأرض الممتدة على الساحل الشرقي للقارة الإفريقية والأراضي القريبة منها كذلك، والتي تضم اليوم مجموعة من الدول هي إريتريا وإثيوبيا والصومال وكينيا وتنزانيا وأوغندا وجيبوتي وموزمبيق ومدغشقر وملاوي وزامبيا وزمبابوي وبوروندي ورواندا وجزر القمر وموريشيوس وسيشيل... وقد كان يُطلق على الأراضي الساحلية منها[1] أرض الزنج[2].
شرق أفريقياغير أننا قبل أن نخوض في العَلاقات الوثيقة بين الإسلام وشرق القارة السمراء، نغوص معًا في أعماق التاريخ لنبدأ القصة من أوَّلها، ولنكشف الستار عن الأحداث التي مهَّدت لهذه العَلاقات الوطيدة التي جاء الإسلام ليُثَبِّتها ويُوطِّدها، لا ليبتدئها أو ينشئها.
بداية العلاقات العربية الأفريقية
كان السبئيون (عرب جنوب شبه الجزيرة العربية) أول الشعوب العربية التي أتت إلى الساحل الشرقي لإفريقيا بغرض التجارة لا الغزو، وعلى الرغم من أنهم وفدوا في أعداد قليلة إلا أنهم داوموا في تجارتهم، واختلطوا بأهل الساحل، وتزوَّجوا منهم، وأقاموا محطات تجارية، وفي منتصف الألف سنة التي سبقت ميلاد المسيح بدأ الطابع العربي يَظْهَر على طول الساحل، ولم يَفْقِد هذا الساحل شخصيته المميَّزة، إذ كان يُدْعَم بشكل دائم بالوافدين من جزيرة العرب والخليج العربي[3].
ويذكر مؤرِّخو الإغريق القدماء عن "الزنج" الذين كانوا يعيشون في سواحل شرق إفريقيا، أنهم شيَّدوا مدنًا ساحلية كانت على عَلاقات تِجارية راسخة مع شبه الجزيرة العربية والهند[4].
ومن المرجَّح أن يكون عرب جزيرة العرب -خاصَّة عرب الجنوب- هم أقدم الشعوب العربية اتِّصالًا بالسواحل الشرقية الإفريقية، بحكم الجوار الجغرافي، وساعدهم على قيام هذه الصلات نظام الرياح الموسمية، والتي كانت تمكِّن السفن الشراعية الصغيرة من القيام برحلتين على الأقل في العام؛ ففي الخريف تدفعها الرياح الموسمية الجنوبية الغربية من خليج عُمَان وسواحل الجزيرة العربية نحو الساحل الإفريقي، وفي فصل الربيع تدفعها في اتجاه الشمال الشرقي، حيث تمكِّنها من العودة إلى قواعدها، وفي خلال دورة الرياح يتمُّ التعامل التِّجاري[5].
كانت تلك إذن هي بدء العَلاقات بين سكان شبه الجزيرة العربية وبين شرق القارة الإفريقية، وقد مهَّدَ هذا الأمر لوصول الإسلام ثُمَّ نَشْرِهِ بعد ذلك في تلك الأماكن.
هجرة المسلمين للحبشة
هجرة المسلمين للحبشةوقد كانت التجارة بين عرب شبه الجزيرة العربية وشعوب شرق إفريقيا ما زالت مستمرَّة حين جاء الإسلام، فلمَّا اشتدَّ أذى مشركي مكة للمسلمين أذن رسول الله لبعض أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، حيث يوجد بها النجاشي، ولقد وصفه الرسول بأنه لا يُظلم عنده أحد، ومن ثَمَّ كان اختيار الحبشة كمكان لهجرة المسلمين ابتداءً، وكان الاستقبال الحافل والحفاوة البالغة التي تمَّ بها استقبال المسلمين كَفِيلَة باستمرارهم، وتَكَرَّرت هجرتهم مرَّة أخرى بِفَوْج أكبر من الفوج الأول، فبلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلًا وتسعَ عشرةَ امرأة[6]، وقد حاولت قريش الإيقاع بين المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة وبين النجاشي ومَن معه من النصارى، ولكن قوَّة الحُجَّة عند المسلمين وحُسْن تصرفهم حالَ دون هذه الوقيعة، وازداد تمسُّك النجاشي بهم وحمايته لهم[7].
وقد كان للعَلاقات الودِّيَّة بين الرسول والنجاشي، والمعاملة الطيبة التي لقيَها المسلمون المهاجرون إلى الحبشة أكبر الأثر في توثيق العَلاقات بين نصارى الحبشة وبين الإسلام، إلاَّ أن هذه الهجرات الإسلامية الأولية في عهد رسول الله لم تترك أثرًا في حياة البلاد، وإن كانت قد تركت أثرًا في نفوس الأحباش، وأطلعتهم على الينبوع الرُّوحي الجديد المتفجِّر بالقوَّة والحياة، ووطَّدت الصلات بين الدولة الإسلامية في عهد الرسول وبين الأحباش، وحين بلغ الرسولَ وفاةُ النجاشي صلَّى عليه هو وأصحابه[8]؛ فعن أبي هريرة قال: نعى لنا رسول الله النجاشي صاحب الحبشة اليومَ الذي مات فيه فقال: "اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ". وعنه أيضًا قال: إِنَّ النَّبِيَّ صَفَّ بهم بِالْمُصَلَّى فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا[9]. وعن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مات النجاشي كان يُتَحَدَّث أنه لا يزال يُرَى على قبره نور[10].
وفي السنة التاسعة من الهجرة، أرسل رسول الله الصحابي الجليل علقمة بن مُجَزِّز على سريَّة في اتجاه الحبشة؛ لأن بعض مراكبهم كانت تقترب من مكة بحرًا، ولكنه لم يَلْقَ كيدًا كما تَذْكُر الرواية[11].
ومن هنا كانت منطقة شرق إفريقيا أسبق بقعة في العالم القديم في استقبال الدعوة الإسلامية الخالدة[12].
فتح الحبشة
لم تكن الحبشة ضمن الممالك التي وجَّه المسلمون إليها حملاتهم في ذلك العهد الأول الذي شهد الفتوحات الإسلامية العظيمة لنشر دين الإسلام، ويبدو أن ذلك راجع إلى عدَّة عواملَ، منها تركيز المسلمين على كسر شوكة الإمبراطوريتين المجاورتين لبلاد العرب، واللَّتين يُخشى منهما على الدولة الإسلامية الناشئة وهما إمبراطورية الفرس والإمبراطورية الرومانية الشرقية، وكذلك اعتبار المسلمين أن مصر أكثر أهمية من الحبشة لمركزها المهم وسبقها في ميدان الحضارة والعمران. ومن أهمِّ الأسباب أيضًا قُرْب عهد المسلمين بالعَلاقات الطيبة التي كان للنجاشي فيها فضلٌ مشكور، حتى يُروى أن النبي نَصَحَ بِتَرْكِ الأَحْبَاشِ وشأنهم طالما أنهم لم يبدءوا بالعدوان، ففي الحديث الشريف: "اتْرُكُوا الْحَبَشَةَ مَا تَرَكُوكُمْ"[13].
ولكن بعد فترة من الزمن أخذ بعض القراصنة الأحباش يهدِّدون تجارة العرب في البحر الأحمر، مما اضطرَّ الخليفة عمر بن الخطاب إلى إيفاد حملة بحرية صغيرة لتأديبهم، ولكنها لم تُكَلَّل بالنجاح.
وعاود القرصان نشاطهم مرَّة أخرى في عصر الخلافة الأموية، حيث اتخذوا من خرائب ميناء "عدوليس"[14] على جدة مأوى لهم، ودمروا السفن الراسية فيه، بل وهدَّدوا الأماكن المقدسة في مكة والمدينة، فاضطرَّ المسلمون عام 83هـ إلى اتخاذ خطوة حاسمة لوضع حدٍّ لتلك العمليات، بأن جرد عبد الملك بن مروان حملة بحرية لاتخاذ مركز حربي على الشاطئ الغربي، وتمَّ الاستيلاء على مجموع جزر "دهلك"[15] المجاورة لمدينة "مصوع"[16]، وكان أَخْذُ المسلمين لهذا المركز الممتاز بَدْءَ استيلائهم على باقي المراكز البحرية على الشاطئ الإفريقي، وعلى الانتشار التدريجي للإسلام في شرق إفريقية[17].
السيطرة على دهلك
كانت السيطرة العربية على جزر "دهلك" سببًا في تطوُّرات عديدة مُهِمَّة في تاريخ المنطقة، من أهمها أنها أعطت فرصة لانتشار الإسلام من قاعدة ثابتة، فضلًا عن ارتباط حركة التجارة في المنطقة بالواقع الجديد الذي أحلَّ النظام والعدل محلَّ الفوضى والقرصنة[18].
وتَنْسِب الروايات تأسيس الإمارات العربية الأُولَى في شرقي إفريقيا لعهد عبد الملك بن مروان ورجاله الشاميين، وما زال اسم عبد الملك بن مروان يُذْكَر في تلك الجهات، لدرجة أن السكان قد حرَّفوا اسمه، فينطقون (عبد المالك) (ابن مرواني)، ومرُّد ذلك ضعف اللغة العربية وظهور اللغة السواحلية.
وفي أواخر عهد الدولة الأموية كانت هجرة الزُّيُود من اليمن عقب مقتل زيد بن علي زين العابدين عام (122هـ/740م)؛ فِرَارًا من اضطهاد بني أمية لهم، وعُرِف هؤلاء بالزيدية، واستقرَّت هذه الجماعات -كما أشارت المصادر- في ساحل (بنادر) الصومالي، وحكموا فيه ما يقرب من مائَتَيْ سنة، ونشروا الإسلام بين قبائل (بنادر)، كما أصلحوا الأراضي، وزرعوا بعض النباتات، بل توغَّل الزيدية إلى داخل الأراضي الصومالية ونشروا الإسلام بين قبائل (أنهار جوبا) و(شبيلي) من بينها قبائل (الجالا) التي اعتنقت الإسلام بحماسة كبيرة، بدليل أن كثيرًا من الصوماليين من أفراد هذه القبائل قد أصبحوا فقهاء ووعَّاظًا، واضطلعوا بنشر الإسلام بين القبائل الوثنية[19].
[1] أي الممتدة بين الصومال وموزمبيق.
[2] جوان جوزيف: الإسلام في ممالك وإمبراطوريات إفريقيا السوداء، ترجمة مختار السويفي، ص131.
[3] محمود محمد الحويري: ساحل شرق إفريقية من فجر الإسلام حتى الغزو البرتغالي ص16.
[4] جوان جوزيف: الإسلام في ممالك وإمبراطوريات إفريقيا السوداء، ترجمة مختار السويفي، ص131.
[5] عبد الفتاح مقلد الغنيمي: الإسلام والمسلمون في شرق إفريقيا ص22، 23.
[6] ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/20.
[7] انظر في هذه الأحداث: ابن هشام: السيرة النبوية 1/330 وما بعدها.
[8] عبد الفتاح مقلد الغنيمي: الإسلام والمسلمون في شرق إفريقيا ص44.
[9] البخاري: كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد (1263).
[10] رواه أبو داود (2523)، وضعفه الألباني، انظر ضعيف سنن أبي داود (542). وانظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/340.
[11] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 8/59، ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/163، ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/ 515.
[12] عبد الفتاح مقلد الغنيمي: الإسلام والمسلمون في شرق إفريقيا ص42.
[13] رواه أبو داود (4302)، وأحمد (23203) وقال شعيب الأرناءوط: صحيح لغيره وهذا إسناد حسن في الشواهد. والحاكم في المستدرك (8396)، وقال الذهبي في التلخيص: صحيح. وصححه الألباني، انظر السلسلة الصحيحة (772).
[14] يقع على بعد 40 كم جنوب ميناء مصوع الحالي.
[15] جزر دهلك: التابعة لدولة إريتريا حاليًا، والواقعة على الساحل الجنوبي الغربي للبحر الأحمر وهي على بعد 60 كم من مدينة مصوع.
[16] إحدى أشهر المدن الساحلية الأريترية اليوم، وبها أحد أكبر ميناءين في إريتريا.
[17] فتحي غيث: الإسلام والحبشة عبر التاريخ ص59، 60.
[18] محمد عثمان علي خير: عروبة إريترية (حقائق ووثائق) ص42.
[19] غيثان بن علي بن جريس: مجلة العرب، العدد (3)، السنة 30، ص185-202.
انتشار الإسلام في شرق أفريقيا
أسباب انتشار الإسلام في شرق أفريقيا
كان من أهمِّ أسباب انتشار الإسلام عَبْر ربوع إفريقيا أيضًا بساطة تعاليمه، وسهولة فَهْمه، ويُسْرُ الدعوة إليه، فكلُّ مسلم يُعْتَبَر داعية، فلا توجد تعقيدات كهنوتية كما في المسيحية، وما يكتنفها من غموض، مما يجعلها صعبة الفَهم بالنسبة للإفريقي، وعلى العكس يَسَّرَت تعاليمُ الإسلام وسُمُوِّها بالبَشَرِ ومساواتها بين الناس، سهلت مهمَّة الدعوة للإسلام، وأيضًا مما ساعد على انتشار الإسلام عدالته ومساواته بين الناس، وبغضه للتفرقة العنصرية، وهي عُقْدَة الأفارقة، حيث مارسها بعضهم، ويمارسون جميع ألوانها في جنوب إفريقيا تحت ظلال المسيحية، مما يجعل الأخوة في كنف التنصير ليست إلا أكذوبة، لَمَسَها الإفريقي واقتنع بها[1].
وبعد انهيار الخلافة الأُموية، انقسم الهاربون من الخلافة العباسية إلى قسمين: أحدهما اتجه إلى الأندلس، وأنشأ الدولة الإسلامية بالأندلس، والآخر اتجه إلى إريتريا؛ لبُعدها عن مركز الخلافة العباسية في بغداد، وكونها خصبة للتجارة بالنسبة للأمويين الهاربين من الحكم العباسي، وللدعوة بالنسبة لآل البيت (الأشراف).
وقد تزامن هذا مع صراعات عنيفة داخل الممالك الحبشية، ممَّا عزلها تمامًا عن التأثير في الأحداث، بسبب الصراعات التي نشبت بين الأسرة السليمانية وأسرة زاقي، وقد وطَّد الإسلام في هذه الفترة أقدامه في التُّرْبة الإريترية مِن بَدْء مجيئه، فأسلم "آل الجبرتا"، وإليهم ينسب المؤرخ المصري الشهير عبد الرحمن الجبرتي، ولهم رواق خاصٌّ بهم بالجامع الأزهر الشريف، لا يزال موجودًا حتى الآن، ويُسمَّى "رواق الجبرتا"، وكانوا من أوائل الناس إسلامًا في إريتريا، وقد ذهب منهم وَفْدٌ ضِمْنَ وفد النجاشي للرسول
بناء مقديشيو
تأسَّست مدينة مقديشو في عهد الخلافة العباسية ، ولهذا التأسيس قصة، فحينما وصلت أكبر الهجرات العربية والإسلامية إلى ساحل الصومال، المعروف بساحل (بنادر)، وهي هجرة الإخوة السبعة، فقد هاجرت هذه الجماعة العربية في مَشَارِف القرن العاشر في حوالي عام (301هـ/ 913م) من (الأحساء) عاصمة دولة القرامطة، والإخوة السبعة من قبيلة (الحارث) العربية، جاءوا في ثلاث سفن محمَّلة بالرجال والعتاد الحربي، وقد نما إلى علم هذه الجماعة العربية أخبار الجماعات العربية التي سبقتهم إلى ذلك الساحل، وربما سمعوا عنها من التجار، أو من جنود سعيد الجنَّابي، وقد كان في صفوفهم جندٌ من الزنج والأَرِقَّاء الذين جاءوا إلى الجزيرة العربية والعراق في فترة من الفترات؛ لذلك قرَّرت هذه الجماعات الإسلامية أن تحذُوَ حَذْوَ الهجرات التي سبقتها، يراودهم الأمل العريض في تكوين وطن جديد، وقد تحقق لهم ما أرادوا بفضل جهودهم.
استولى الإخوة السبعة على كل سواحل (بنادر) بعد أن قاموا بتأسيس مدينة (مقديشو)، والتي جعلوها عاصمة لدولتهم الجديدة، فامتدَّ نفوذهم حتى جنوبي (ممبسة)، وربما وصلوا إلى جزيرة (مدغشقر)، وقد وصف المسعوديُّ هذه الجزيرة، وذكر أن فيها قومًا من المسلمين.
ولم تمضِ فترة طويلة على استقرار هذه الجماعات المسْلِمَة، حتى أصبح كل الساحل سُنِّيًّا على المذهب الشافعي، وذلك بعد أن اصطدم الإخوة السبعة بالزيدية الشيعة، الذين اضطروا للانسحاب إلى الداخل، ولا يزال المذهب الشافعي هو السائد في بلاد شرقي إفريقيا، وقد اكتفى هؤلاء المسلمون على بسط نفوذهم في المنطقة الساحلية فقط؛ إذْ إنَّ الداخل لم يكن معروفًا لديهم، إما لأنهم يجهلونه، أو لصعوبة التوغُّل، فسيطروا على الساحل ريثما يتمُّ لهم كشف مجاهل إفريقيا المختلفة، وكان من نتيجة هذه الهجرة الأخيرة أن بسطت (مقديشو) نفوذها، وساعدت العرب المسلمين على إنشاء مواطن استقرار على طول الساحل الممتدِّ من (مقديشو) في الشمال إلى مدينة (سوفالا) في الجنوب.
تشكيل الحكومة
وبعد أن تغلَّب الإخوة السبعة على الصعاب التي واجهتهم في أوَّل أمرهم، بدءوا في وضع الأُسُس والتشريعات المختلفة التي تَكْفُل لهم الاستقرار والحياة الكريمة، فتكوَّن مجلس من كبار المسلمين، وأعضاؤه اثنا عشر شخصًا، يرأسهم شيخ لا يحمل لقب سلطان أو مَلِكٍ، ويُسَمَّى هذا المجلس باسم (مجلس المدينة)، وكان هذا النظام أفضل نظام طبّقه المسلمون في ساحل (بنادر) في هذا الزمن، ويتمتَّع هذا المجلس بِكُلِّ السلطات، وله حقُّ النظر في القضايا المدنية والجنائية وفضِّ المنازعات، وكان بجانب هذا المجلس مجالسُ فرعية في كل حيٍّ من أحياء المدينة، وهي في شكل طائفة تَخْضَع لشيخها الذي يتولَّى أمرها، ويقوم بإكرام الغرباء، وقضاء حاجاتهم.
كان اختصاص هذا المجلس هو حفظ الأمن، وتطبيق العدالة بين الجماعات، ووضع حَدٍّ لهجمات بعض القبائل الرعوية الصومالية على التجار من العرب والفرس، وبالتالي لمواجهة غزاة آخرين كانوا يأتون من البحر، وتمَّ هذا الاتحاد بعد أن أصبحت (مقديشو) عاصمة لساحل بنادر، والذي ضمَّ هذه المشيخة وإماراتها التابعة لها، مثل: مركة، وبراوة التي سيجيء تفصيلهما، هذا إضافة إلى الأراضي المحيطة بهم، وكان يطلق على جميع هذه الأراضي (مقاديش)، وعُرِف أحيانًا سكان هذه الجهات باسم سكان بنادر، وبضائعهم باسم بضائع بنادر.
لقد استمرَّ مجلس هذه المشيخة والممثَّل في سلطة الشورى بين المسلمين والفرس والصوماليين نحو أكثر من مائتي عام على ذلك النحو، حتى انْتُخِبَ أبو بكر فخر الدين عام 1100م حاكمًا على جميع أراضي هذه البلاد، وهو من سلالة الإخوة السبعة بتعضيد من قبيلة بني قحطان العربية التي أصبح لها النفوذ والسيادة.
وفي عهد أبي بكر فخر الدين احتفظت قبائل قحطان ومكري بنفوذها ومكانتها الدينية الممتازة؛ لأن قاضي الوَحدة قبل قيام السلطنة التي أسَّسها أبو بكر فخر الدين كان من بين أبناء هاتين القبيلتين، وبفضل قبائل قحطان ومكري استطاع أبو بكر فخر الدين أن يُقِيم سلطنة وراثية في (مقديشو)، كما أقرَّ السلطان أبو بكر قبائل مكري على امتيازاتها، وقد استمرَّ حُكْم أبي بكر فخر الدين سبعةَ عشَرَ عامًا حتى تُوُفِّيَ عام 1117م[3].
اضمحلال سلطة مقديشيو
أما في عصر المماليك فقد كان للأحباش اتِّصال دائم مع ملوك أوربا للعمل معًا ضدَّ المسلمين، وقد ظهر هذا خلال أوقات متباعدة، فعند الغزو الصليبي قدَّم الأحباش المساعدات، وأصبح لهم دَيْر خاصٌّ في بيت المقدس، وحرصت الحبشة على مساعدة مَلِكِ قبرص النصراني، وتحريضه على غزو مصر، وكان نتيجة لذلك غزو الإسكندرية عام 767هـ، وأقدمت الحبشة على القيام ببعض الأعمال التخريبية، إلا أن تحرُّك الجيوش المملوكية قد حال دون استمرار أعمال الأحباش.
وعندما فتح المماليك في مصر "جزيرةَ قبرص" عام 830هـ/ 1427م اتَّصل الأحباش بملوك أوربا للعمل ضدَّ المماليك، وقد تجاوب مع ذلك ملك فرنسا وملك أرغون، وهدَّد مَلِكُ الحبشة المماليكَ بالقيام بغزو بلاد العرب والأماكن المقدسة، وتحويل مجرى نهر النيل[4].
وفي مطلع القرن العاشر الهجري حملت راية الجهاد في شرق الحبشة إمارة "عدل"، ووصل نفوذها إلى حافَّة الهضبة الحبشية، في الوقت الذي كان العثمانيون يدخلون من الشمال لبلاد العرب؛ ليُوَحِّدوا المسلمين، ويقفوا في وجه البرتغاليين وأطماعهم في المنطقة، إلا أن حُكَّام إمارة "عدل" قد اضطروا فيما بعدُ إلى مسالمة الأحباش بعد أن هُزِمُوا أمامهم.
ثم حملت إمارة "هرر"[5] راية الجهاد، وأسلمت الشعوب البدوية مثل "الدناقل" وغيرها، وشجع الهرريُّون وصول العثمانيين إلى المنطقة، ووقوفهم في وجه الحلف البرتغالي الحبشي، إذ دَعَمُوا سلطان "هرر" أحمد بن إبراهيم الملَّقب بالقرين، وأمدُّوه بالأسلحة، فاستمرَّت غزواتهم في الحبشة خمسةَ عشرَ عامًا، وكانت النتيجة أن دخل سلطان "هرر" أجزاءً من هضبة الحبشة، وعاد إلى الإسلام عدد من الذين سبق لهم أن تنصّروا تحت ضغط الأحباش، كما بدأت قبائل "الجالا" الوثنية الدخول في الإسلام، كما أن هذه القبائل قد استغلَّت الخلاف الذي حدث بين الأحباش والبرتغاليين فشقَّت طريقها إلى الهضبة من الجنوب.
وازداد عدد المسلمين في القرن الحادي عشر الهجري، ودخل التُّجار الكانميُّون[6] إلى بلاد الحبشة، فأسلم على أيديهم كثيرون، واتَّجه المظلومون من الأحباش إلى عدالة الإسلام، وكان المسلمون من الأحباش ذوي مكانة اجتماعية وثقافية وخُلُقِيَّة، معرُوفِينَ بالجدِّ في العمل، والأمانة في المعاملة، وقد عَرَف لهم هذا الأحباشُ الذين كانوا على غير دينهم، إلاَّ أن بعض المتعصِّبين من النصارى كثيرًا ما كانوا يُسِيئُون إلى المسلمين، ويُصِرُّون على إقصائهم عن الوظائف الرسمية، ومع هذا فقد وَجَد الإسلامُ طريقَه إلى قلوب كثير من الزعماء[7].
انتشار الثقافة العربية الإسلامية
انتشرت الثقافة العربية الإسلامية في منطقة الساحل وبين السكان على اختلاف عناصرهم بالعلوم الدينية واللغة العربية، فمِن "كلوة"[8] سافر طلاب العلم إلى شبه الجزيرة العربية ليَنْهَلُوا من علوم المعرفة، وكان مِن بينهم الأمراء، فقد تَنَقَّل السلطان أبو المواهب (1308- 13344) قبل ارتقائه عرش السلطنة في "كلوة" بين عدن ومكة لطلب العلم، وكان قد وصل إلى مكة وهو لم يزل في الرابعة عشرة من عمره، وممَّا يُؤَكِّد شدَّة حاجة سكان الساحل إلى تحصيل العلوم العربية ما رواه أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد العزيز الميورقي (ت 474هـ)، الذي زار البصرة في سنة 469هـ/ 1076م، إذ رَكِبَ من عمان إلى "بلاد الزنج"، وكان معه من العلوم أشياء فما نَفَق عندهم إلا النحو، وقال: لو أردت أن أكسب منهم ألوفًا لأمكن ذلك، وقد حصل لي منهم نحو ألف دينار، وتأسَّفوا على خروجي من عندهم[9].
ومن الجدير بالذكر أن المدَّ الإسلاميَّ الوافد إلى ساحل شرق إفريقيا في ركاب الهجرات الإسلامية القادمة من جنوب الجزيرة العربية ومنطقة الخليج العربي لم يتوقف على مرِّ السنين، وتوقَّف على ذلك أن تأسَّست مدن إسلامية مزدهرة على الساحل صارت بيئة صالحة لانتشار الإسلام بين الأفارقة من ناحية، وتغَلُّب مظاهر الثقافة العربية الإسلامية عليهم من ناحية أخرى.
ونلْمَسُ ذلك بوضوح في دولة الزنج التي ظهرت في الساحل في القرن العاشر الميلادي، وظلَّت باقية حتى أوائل القرن السادس عشر، رغم القلاقل والانقسامات التي تنازعتها، فقد شيَّدت تلك الدولة عدَّة مدن إسلامية، وأقامت المساجد في كل مدينة، حيث عَرَف الكثيرُ من القبائل الطريقَ إليها، وفي هذا المظهر الديني يتوفَّر الدليل القاطع على أن كثيرًا من الأفارقة قد تحوَّلوا إلى الإسلام.
والحقُّ أنه من المبالغة أن نقول إن الوثنية اختفت تمامًا من المدن الساحلية، حيث ما زالت تعتنقها عدَّة قبائل، وإن كان لا يمكن أن نقارنها بمراكز الوثنية في مناطق الأدغال في غرب ووسط وجنوب القارة الإفريقية، ولكن هذا لا يُقَلِّل من الدور الذي قامت به دولة الزنج في الدعوة إلى الإسلام، وقد كان بوُسع تلك الدول أو العرب المسلمين المقيمين على طول الساحل أن يَصْبُغوا الأفارقة كلَّهم بطابع الإسلام لو لم تقتحم أساطيل الغزو البرتغالي في أوائل القرن السادسَ عشرَ مياه هذا الساحل، الأمرُ الذي أعاق مسيرة المدِّ الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية قُرَابة قرنين ونصف، وهي حِقبة طويلة[10]؛ لتبدأ إفريقيا عهدًا جديدًا، وهو عهد الاستعمار الأوربي البغيض، الذي نهب خيراتها، وأذاقها الويلات.
[1] نوال عبد العزيز راضي: الإسلام والمسلمون في وسط إفريقيا ص16.
[2] محمد عثمان علي خير: عروبة إريترية (حقائق ووثائق) ص42، 43.
[3] غيثان بن علي بن جريس: مجلة العرب، العدد 3، السنة 30، ص185-202.
[4] إسماعيل أحمد ياغي، محمود شاكر: العالم الإسلامي الحديث والمعاصر 2/252.
[5] تقع مدينة هرر في الجنوب الشرقي من إثيوبيا.
[6] مملكة كانم: هي مملكة قامت شمال شرق بحيرة تشاد، وقامت بدور فعّال في نشر الإسلام والثقافة العربية في تلك الربوع الواسعة.
[7] إسماعيل أحمد ياغي، محمود شاكر: العالم الإسلامي الحديث والمعاصر 2/252، 253.
[8] مدينة كلوة Kilwa تقع في تنزانيا حاليًا.
[9] محمود محمد الحويري: ساحل شرق إفريقية من فجر الإسلام حتى الغزو البرتغالي ص444. وانظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان 5/247.
[10] محمود محمد الحويري: ساحل شرق إفريقية من فجر الإسلام حتى الغزو البرتغالي ص41، 422.
انتشارالإسلام في غرب أفريقيا
وثيقة مظلمة ونور مشرق: قد يضع الزارع البذرة، ثم يبتعد عنها ويتركها، ولا يدري أي مبلغٍ قد تبلغ، ثم يراها غيره بعد سنوات، فإذا بها دوحة عظيمة الجذع، كثيرة الأغصان، وارفة الظلال، وإذا بعشرات من الزرَّاع غيره ينهضون لرعايتها، والحفاظ عليها حتى تثمر ثمرًا طيبًا، سائغًا أُكُله، ويكون الفضل والجزاء العظيم لمن بذر البذرة في البداية.
هذا هو ملخص قصة الإسلام في غرب إفريقيا التي طرق الإسلام بابها مبكرًا في عام 46هـ، وهي الفترة التي وصلت فيها طلائع المسلمين بقيادة عقبة بن نافع إلى إقليم كوار[1].
وعندما نتحدث عن غرب إفريقيا فنحن في الواقع نتحدث عن إقليم كبير يشغل مساحة شاسعة من الأرض؛ إذ يشتمل على خمسَ عشرةَ دولة، هي: السنغال، جامبيا، الجابون، غينيا بيساو، غينيا (كوناكري)، سيراليون، ليبيريا، ساحل العاج (كوت ديفوار)، غانا، توجو، بنين، نيجيريا، بوركينا فاسو، مالي، موريتانيا. ويحدّ الإقليم من الشرق تشاد والكاميرون، بينما يحده المحيط الأطلنطي من الغرب والجنوب، والجزائر وليبيا من الشمال. ويُعَدُّ الإسلام الدين الرسمي لأغلبية السكان البالغ عددهم -حاليًّا- ما يزيد على مائتي مليون وخمسة ملايين نسمة، بينهم مائة وأربعة عشر مليون مسلم، أي قرابة 55 %[2].
ولقد جاء الإسلام منقذًا لشعوب غرب إفريقيا من جاهلية الوثنية التي كانوا متردِّين فيها، ومن التقاليد البالية التي قيَّدوا أنفسهم بها.
كانت الوثنية هي عقيدة سكان غرب إفريقيا قبل أن يصل إليها الإسلام؛ ولذلك كانت دولة المرابطين تقود حرب جهاد إسلامي ضد سكان غرب إفريقيا في محاولة لنشر العقيدة بين الوثنيين.
أمَّا بالنسبة لتقاليد هذه الدول فقد اشتهرت بالعمل في التجارة، فقد لعبت التجارة دورًا مهمًّا في اقتصاديات هذه الفترة، وكثيرًا ما كانت تقوم المشاحنات والخلافات بين الدول من أجل احتكار التجارة، فنجد مثلًا إمبراطورية غانا قد انتهجت نظام الاحتكار الذي يُستَخدَم حتى اليوم بالنسبة لبعض السلع، مثل الماس الذي تحتكره الشركات الكبرى الآن، وكان حكام غانا يتَّبعون نفس الأسلوب بالنسبة للذهب، وبالتالي استطاعوا تحقيق مكاسب تجارية كبرى، وصار الذهب الموجود في شمال إفريقيا أو في أوربا يأتي من غانا، وظلت تحتكر هذه التجارة حتى اختفت في القرن الثالث عشر؛ لتحل محلها إمبراطورية أخرى هي دولة مالي، التي واصلت نفس التقدم الذي شهدته دولة غانا[3].
وبالنسبة للأوضاع الاجتماعية؛ فقد كان الرِّقُّ منتشرًا، وإن كان بشكل مختلف عن الرقِّ المعروف عند العرب قبل الإسلام؛ فنجد أن قبيلة لمتونة -وغيرها من القبائل- كانت تنقسم إلى طبقتين: طبقة السادة (أمازيغ)، وطبقة الرقيق (الأمجاد). ويحتكر السادة الحياة السياسية، فيؤلِّفون مجالس القبيلة، ويتولَّوْنَ قيادة الجيوش، ويُسَيِّرون أمور القبيلة وفق إرادتهم، كما يحتكرون التجارة، ويدافعون عن أفراد القبيلة ضدَّ أي مكروه.
أمَّا الأمجاد أو الرقيق فهم لا يباعون، ولا يُشترون كالعبيد، ولا يعتقون، وإنما يُورثون كما يُورث المتاع، وهم يَتفانون في الدفاع عن القبيلة، ولهم الحقُّ في اقتناء الثروات كيفما طاب لهم، ولكن هذه الأموال يرثها السيد بعد وفاتهم، كما أنهم يقومون بكل الأعمال؛ فهم يرعَوْنَ الماشية، ويؤدُّون كل ما تحتاجه القبيلة من عمل يدوي، ويؤدُّون لسادتهم نصيبًا معلومًا كل عام من الإبل ونتاجها[4].
وقد عرف الغرب الإفريقي الممالك المنظمة، التي كان من أشهرها مملكة غانا، والتي تُعتَبَر من أقدم الممالك في غرب إفريقيا؛ فلقد اندفعت هجرات من الأمازيغ إلى إمارات الهوسا، وأقامت عدة دويلات في المنطقة الممتدة من النيجر في الغرب إلى بحيرة تشاد في الشرق، وكانت هذه الجماعات الزنجية تعيش على هيئة جماعات مسالمة يرأسها الأكبر سنًّا، ولكل منها كهنوته، واستطاع واحد من هذه الشعوب قبل انتشار الإسلام أن يؤسس دولة، وهذا هو شعب الماندي وأسس دولة نمانة.
وكان قيام هذه الدولة في عام 300 ميلادية أن اتخذت من مدينة أوكار قرب تمبكت الحالية مقرًّا لها، واستمرَّت هذه الدولة حتى استطاع فرع آخر من شعوب الماندي أن يستولي على هذه الدولة، ويؤسس إمبراطورية غانا، التي صارت في عام 800م دولة تجارية قويَّة، وصار اسم غانا هو السائد؛ لأن أحد حكامها يدعى بهذا الاسم، أي: الرئيس المحارب، وكان كل ملك يحمل اسمه فضلًا عن لقب غانا، وكان أحد ألقابه كياماجان (Kata Maghan)، ومعناها سيد الذهب؛ لأن الملك كان يتحكَّم في تصدير هذا المعدن النفيس.
وتُعتبر غانا من أقدم الإمبراطوريات في غرب القارة، وهي تختلف كثيرًا عن الممالك السودانية الأخرى؛ لأن السبب في نشأتها لم يكن عسكريًّا، بل هي نتيجة اختلاط جماعات مختلفة من الزنوج والمغاربة[5].
انتشار الإسلام في غرب إفريقيا:
ولقد بدأ انتشار الإسلام في غرب إفريقيا نتيجة الدعوة التي قامت بها الدول التي تأسست هناك، ولعل أهمها دولة المرابطين، الذين أرسلوا الدعاة إلى جهات كثيرة من القارة الإفريقية حتى وصلوا إلى الجابون، وأقاموا رباطًا في كل مكان حلُّوا به، ثم الدول التي نشأت في تلك الجهات مثل: غانا، ومالي، وغيرهما. وفي العصر الحديث قامت الدعوة على نطاق واسع من قِبل دول الفولاني، مثل: دولة عثمان دونفديو في شمال نيجيريا، وحركة الحاج عمر، وغير ذلك.
ومما ساعد على انتشار الإسلام كذلك الحياة القبلية، فإسلام أحد أمراء القبائل يشجع كثيرًا من الأفراد على اعتناق الإسلام، وإن حركة القبائل من أجل المراعي أو اندفاعها نحو الجنوب أمام ضغط من الشمال يجعل هذه الحركة على تماسٍّ مع قبائل أخرى، فينتشر بينها الإسلام؛ لذا فإن انتقال الإسلام نحو الجنوب باتجاه خليج غانا كان بسبب حركة القبائل وانتشار الدعاة، وزادت نسبة المسلمين في هذه البلاد على 50 % من مجموع السكان، ولولا ضغط الاستعمار، ووقوفه في وجه الإسلام، وإفساحه المجال للإرساليات التنصيرية؛ لتُشرفَ على التعليم، وتسعى للحد من انتشار الإسلام عن طريق تقديم المساعدات والإغراء، لولا ذلك لعَمَّ الإسلام المنطقة كاملة[6].
أسباب انتشار الإسلام في غرب إفريقيا: وقد تَغلغل الإسلامُ في غربي إفريقيا بِوجهٍ عامٍّ، وفي بلاد (الهوسا) بوجهٍ خاصٍّ لأسباب منها:
1- ما استشعره العلماءُ والدُّعاة من مسئولية الدَّعوة إلى الله وتبليغِ دين الله أنَّى حلُّوا.
2- بَساطةُ العقيدة الإسلاميَّة وسماحتها؛ فهي عقيدةٌ تَتَّفق مع الفطرة السليمةِ، وتدركها العقولُ بسهولةٍ ويُسرٍ، وليست بحاجةٍ في شرحها وتوضيحها وإقامة براهينها إلى مصطلحاتٍ فلسفيَّةٍ، أو أدواتٍ منطقيَّةٍ، أو تعبيراتٍ أدبيَّةٍ، يدركها الصَّغير والكبير على حدٍّ سواء؛ فهي سهلةُ الفَهم في مقدِّماتها ونتائجها، فلا يجد أحدٌ صعوبةً في إدراك صدقِ هذه العقيدة واتِّفاقها مع كلِّ المقدِّمات والنتائج العقليَّة[7].
ولم يكن انتشار الإسلام في غرب إفريقيا مرتبطًا بعامل واحد، بل كانت هناك عوامل شتى، وأدوار متعددة، وطوائف متنوعة يرجع إليها الفضل بعد الله
في انتشار الإسلام، ومن هذه الطوائف:
أولا طائفة الغزاة الفاتحين:
ويرجع الفضل إليهم منذ القرن الأول الهجري في دخول الإسلام إلى غرب إفريقيا حيث أقاموا دولًا إسلامية بعد نجاحهم. وأول هؤلاء الغزاة عقبة بن نافع، الذي ولاَّه عمرو بن العاص
على شمال إفريقيا، ففتحها وأسس بها مدينة القيروان، وجعلها مركزًا لانطلاق دعوته، وترك بها جالية عربية إسلامية، ثم رجع إلى مصر. ولم تتَّسع فتوحاته هذه المرَّة إلى الأرجاء المجاورة، ولما تولَّى مرَّة ثانية في عهد يزيد بن معاوية واصل فتوحاته صوب الغرب، حتى وصل بلاد السوس، حيث أسلمت قبائل المصامدة، ثم استمرَّ حتى انتهى إلى البحر المحيط، فنزل بفرسه فيه حتى بلغ الماء نحره، وقال قولته المشهورة: (اللهم إني أشهدك أن لا مجاز، ولو وجدت مجازًا لجزت).
ثم انصرف راجعًا، وسار نحو الجنوب حتى صادف قبائل صنهاجة، فأسلموا على يديه، ودخل طنجة، ثم سار جنوبًا، واستمر في أطراف بلاد السودان، ودخل بلاد غانا، وغينيا، وتكرور، وأسلمت على يديه بعض القبائل الأمازيغية، ويُعَدُّ أول قائد إسلامي استُشْهِد في إفريقيا.
ووُلِّيَ موسى بن نُصَيْر على إفريقيا خلفًا لعقبة، فأعاد إلى الإسلام القبائل الأمازيغية المرتدَّة، حتى حَسُن إسلامها، وشاركت في فتح إفريقيا والأندلس.
ثم تولَّى على إفريقيا في عهد عبد الملك بن مروانزُهَيْر بن قيس، وتوسَّع في فتوحاته حتى استُشهد بها، وخلفه عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة، فغزا بلاد السوس، وحفر سلسلة من الآبار في الصحراء، واستطاع أن يصل شمال إفريقيا بجنوب الصحراء صلة قويَّة.
وخلال عهد الخلفاء الراشدين وحُكم بني أمية كان الغرب الإفريقي في التنظيم الإداري تابعًا لمصر، ثم توالت فتوحات المرابطين، وغيرهم من الحكومات[8].
ثانيًا الطرق الصوفية:
لقد أَسْدَت الطرق الصوفية في القارَّة الأفريقية دورًا محمودًا وجهدًا مشهودًا في نشر الإسلام في غرب القارة، وتمثَّل هذا الدور في نشر التعاليم الإسلامية، والدعوة للتسامح مع المسيحيين، واستخدم وسائل الترغيب وليس الترهيب لنشر الدعوة الإسلامية، فضلًا عن إنشاء المساجد والزوايا التي صارت خلايا للذكر والعبادة، وفتح المدارس، وشراء العبيد وتعليمهم مبادئ الدين الإسلامي، ثم عتقهم وإرسالهم كدُعاة لنشر الدعوة في مناطق مختلفة، ومن الطرق الصوفية التي كان لها باع في نشر الدعوة الطريقة القادرية، والتيجانية، والسنوسية[9].
ثالثًا التجار المتجولون:
وتُعَدُّ طائفتهم من أهم الطوائف التي نشرت الإسلام في غرب إفريقيا، فقد كانت القوافل التِّجارية تنقل الأسلحة والملابس من شمال إفريقيا إلى غربها، ونلاحظ أن التجار عندما كانوا يحُلُّون بالبلاد كانوا يختلطون بسكان المناطق التي ينزلون فيها، ويتزوَّجون منهم، بل وأنشئوا قرىً جديدة في طريقهم، وكوَّنوا لأنفسهم جاليات إسلامية تُقِيم إقامة دائمة بالبلاد التي ينزلون بها، كما أقاموا مراكز تِجارية ومرافئ للمركب والسفن، وشيَّدوا المساجد، ولا يزال بعضها باقيًا حتى الآن، وكانوا يفتحون المدارس القرآنية في هذه الأماكن، ويتبادلون الأفكار مع السكان والملوك والرؤساء، وقد وَجَدَت الأفكار الإسلامية تقبُّلًا واستجابة من النفوس الطيبة، وبعدَ وقت قصير تحوَّل الكثير من سكان المنطقة من الوثنية إلى الإيمان[10].
رابعًا الدعاة والمعلمون: إن الدعوة الإسلامية كانت دعوة رُوحية خالصة، وكان الداعي المسلم يتعقَّب الفاتح؛ ليُكمل النقص في هداية الناس إلى الإسلام، وقد نجح الروَّاد المسلمون الأوائل في دخول الناس في دين الله أفواجًا، وقد أدى هذا إلى تكوين دول إسلامية في مناطق كثيرة من القارَّة وخاصَّة في غربها، وذلك على أنقاض دول وثنية[11].
[1] أحمد محمد كاني: الجهاد الإسلامي في غرب إفريقيا ص13. [2] مجلة المجتمع، رقم العدد (1570)، تاريخ العدد 27/9/2003م. [3] د. عبد الله عبد الرازق إبراهيم: انتشار الإسلام في غرب إفريقيا ص14-18. [4] د. عصمت عبد اللطيف دندش: دور المرابطين في نشر الإسلام في غرب إفريقيا (430- 515هـ/ 1038-11211م)، الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامي - بيروت، 1408هـ- 1988م، ص34. [5] د. عبد الله عبد الرازق إبراهيم: انتشار الإسلام في غرب إفريقيا ص13، 14. [6] محمود شاكر: التاريخ الإسلامي (الأقليات الإسلامية) ج22، الطبعة الثانية، المكتب الإسلامي بيروت 1416-19955، ص276. [7] مجلة قراءات إفريقية: العدد الأول، رمضان 1425هـ/ أكتوبر 2004م. [8] د. محمد عبد القادر أحمد: المسلمون في غينيا، الطبعة الأولى، القاهرة 1406-1986م، ص24-25. [9] د. عبد الله عبد الرازق: انتشار الإسلام في غرب إفريقيا، دار الفكر العربي - القاهرة، 2006م، ص6. [10] د. محمد عبد القادر أحمد: المسلمون في غينيا، الطبعة الأولى، القاهرة، 1406هـ-1986م، ص26-27. [11] د. عبد الله عبد الرازق: انتشار الإسلام في غرب إفريقيا ص100.
يتبع...............
إضافةً إلى هذه الجهود الكبيرة كان هناك إسهام عظيم لدولة مسلمة ملأ ذكرها التاريخ، وأضافت للمسلمين إضافات كبرى في إفريقيا والأندلس.. تلك هي دولة المرابطين.
وتعتبر دولة المرابطين في التاريخ المغربي أول جماعة مغربية تنشئ دولة كبرى كان لها الدور التاريخي في مجموعة من الأحداث، فقد قامت هذه الدولة على أُسُس إسلامية خالصة، حيث إن أصل هذه التسمية يعود إلى أتباع الحركة الإصلاحية التي أسسها عبد الله بن ياسين، الزعيم الرُّوحي، الذي بدأ بوضع أُسُس عقيدة حركة المرابطين، وأنشأ رباطًا لتعليم مَن الْتَفَّ حوله أُمورَ الشريعة وفروعها، فأسس حركة جهادية لنشر الدين الإسلامي، وهكذا كان رجال المرابطين يلزمون الرباط بعد كل حملة من حملاتهم الجهادية، كما كان رجالها يشدُّون اللثام (النقاب) على وجوههم، فعُرِفوا بالملثَّمين.
بعد وفاة ابن ياسين تحوَّلت الجماعة الدينية إلى مملكة بقيادة يوسف بن تاشفين، الذي سمِّي -ولأول مرَّة في التاريخ المغربي- أميرًا للمسلمين، وحامي حمى الدين، ونائبًا لأمير المؤمنين. وبعد وفاة يوسف بن تاشفين نُودي على ابنه عَلِيٍّ أميرًا مكانه، ثم عَيَّن عليُّ بن يوسف ابنه تاشفين وليًّا للعهد.
ونجد أن الأساس الديني والعقدي الذي قامت عليه الدولة المرابطية جعلها تضطلع بأدوار طلائعية في تاريخ الغرب الإسلامي بصفة عامَّة، إذ على هذا الأساس توحَّدت ولأول مرة مختلف مناطق المغرب الأقصى الإسلامي والأندلس، وبعض المغرب الأوسط تحت لواء دولة واحدة، بعد أن قامت بحملة جهادية كان الغرض منها القضاء على مختلف مظاهر الانحراف في العقيدة، فحاربت كل البدع والفِرَق الضالَّة ببلاد الريف، وأعادت هذه النواحي وأهلها إلى رحاب الإسلام السُّنِّي الصحيح، واتفق المرابطون فيما بينهم على صيغة توافقية قسمت الأدوار فيما بينهم، وذلك من أجل استكمال مشروعهم الدعوي التوسعي الذي استهدف نشر الإسلام في مختلف أرجاء المعمورة، فبينما تولَّى يوسف بن تاشفين مؤسس الدولة المرابطية قيادة الجهاد والدعوة في المناطق الشمالية في اتجاه الأندلس، اتجه الفريق الآخر تحت قيادة أبي بكر بن عمر ومَن جاء بعده في اتجاه إفريقيا المدارية الغربية، وهذا التقسيم الأدائي كان بعثًا جديدًا للقوَّة المرابطية.
وهكذا قام الفرع الجنوبي من المرابطين بدور لا يقلُّ أهمية في خدمة الإسلام والحضارة في إفريقيا المدارية والاستوائية عمَّا قام به يوسف بن تاشفين في المنطقة الشمالية من المغرب والأندلس؛ فاتجه أبو بكر إلى بلاد السودان كما يذكر المؤرِّخون، وفتح بلادًا واسعة جنوبًا، فانتشر الإسلام في غرب إفريقيا كله حتى حوض النيجر، وقد أصبحت هذه البلاد الإسلامية المرابطية الجنوبية عاملًا مهمًّا في نشر الإسلام في إفريقيا المدارية ثم الاستوائية.
وصحيح أن بعض هذه المناطق كانت قد عرَفت الإسلام من قبل، ذلك الأمر الذي يسَّر على المرابطين مهمَّتهم هناك، إذ لم يتعرَّضوا لأي مقاومة تُذكر، وتحوَّلت تلك المنطقة إلى بلاد إسلامية، وفُتح بذلك طريق الغرب الإفريقي واسعًا أمام الإسلام ليُنشر في إفريقيا، بل إن الفتح الإسلامي لبلاد إفريقيا المدارية أتاح لأهل تلك البلاد فرصة الدخول في ميدان الحضارة الإسلامية، وحتى بعد تلاشي الامتداد المرابطي نجد أن نطاق الإسلام قد اتسع حتى أصبح الديانة الغالبة على أهلها حتى مداخل نطاق الغابات، فكان المسلمون هناك على مذهب مالك، وهو المذهب الغالب في المغرب والأندلس، ومن ذلك العصر فصاعدًا ستصبح بلاد مالي بلادًا إسلامية[1].
ومن أهم شخصيات دولة المرابطين التي أسهمت بجهدٍ وافر في نشر تعاليم الإسلام الصحيحة في غرب إفريقيا:
1- عبد الله بن ياسين: هو عبد الله بن ياسين بن مكوك بن سير بن على الجزولي, أصله من قرية "تماماناوت" في طرف صحراء غانا.
درس على فقيه السوس وجاج بن زلوا، رحل إلى الأَنْدَلُس في عهد ملوك الطوائف وأقام بها سبع سنين, واجتهد في تحصيل العلوم الإسلامية, ثم أصبح مِن خيرة طلاب الفقيه وجاج بن زلوا، فعندما طلب أبو عمران الفاسي مِن تلميذه وجاج بن زلوا أن يرسل مع يحيى بن إبراهيم فقيهًا عالمًا ديِّنًا تقيًّا مربيًّا فاضلًا، وقع الاختيار على عبد الله بن ياسين الصنهاجي الذي كان عالمًا بتقاليد قَومه، وأعرافهم، وبيئتهم، وأحوالهم.
ودخل عبدُ الله بن ياسين مع يحيى بن إبراهيم في مضارب، ومواطن، ومساكن المُلَثَّمين من قبيلة جدالة في عام 430 هـ/ 1038م، فاستقبله أهلُها واستمعوا له، وأخذ يُعلِّمهم، فكان تعليمُه باللغة العربية لطلبة العلم، والإرشاد الديني للعامَّة بلهجة أهل الصحراء الأمازيغية.
لاقى عبد الله بن ياسين كثيرًا من الصعوبات، فقد وجد أكثر المُلَثَّمين لا يُصَلُّون ولا يعرفون مِن الإسلام إلا اسمه، وعَمَّ الجهل عليهم، وانحرفوا عن معالم العقيدة الصحيحة، وتلوَّثت أخلاقُهم وأحكام دينهم، واصطدمت تعاليمه بمصالح الأمراء والأشراف، فثاروا عليه، وكادوا يقتلونه، إلا أنه ترك قبيلة جدالة، وانتقل إلى قبيلة لمتونة، ومِن ثَم اختار رباطه المشهور على مصب نهر السنغال، بعد انتشار صيته، وتعلُّق النَّاس به، فهرعوا إليه ليُربِّيهم، ويُنظِّمهم، ويُعلَِّمهم[2].
ومن كلمات عبد الله بن ياسين المأثورة لطلابه قوله: (اخرجوا على بركة الله وأنذروا قومكم، وخوِّفوهم عقاب الله، وأبلغوهم حُجته، فإن تابوا ورجعوا إلى الحقِّ، وأقلعوا عمَّا هم عليه فخلوا سبيلهم، وأن أَبَوْا ذلك وتمادوا في غيهم، ولجُّوا في طغيانهم، استعنا بالله عليهم، وجاهدناهم حتى يحكم الله بيننا)[3].
2- يحيى بن عمر، وأبو بكر بن عمر، ويوسف بن تاشفين: إن يحيى بن عمر كان من المجاهدين في غرب إفريقيا، وقد تُوُفِّيَ في جهاده في السودان، فخلفه أخوه أبو بكر بن عمر، الذي سار في طريق أخيه معتمدًا على عبد الله بن ياسين، حتى توفي هذا الأخير سنة (451هـ/ 10599م) في حروبه مع زنادقة برغواطة في شمال المغرب الأقصى[4].
وكان لعمر بن إبراهيم -والد يحيى بن عمر وأخيه أبي بكر- أخٌ يسمى تاشفين عَمِل في خدمة أخيه حتى مات، فخلفه ابنه يوسف، وكان شابًّا موهوبًا، فارتفع مكانه عند ابن عمه أبي بكر، وأصبح من أكبر قادة المرابطين، فبينما كان أبو بكر بن عمر يُرتِّب بناء مراكش، بَلَغَتْه أخبار مقلقة عن أهله في جنوب الصحراء، وحوض السنغال؛ لأن قبيلة جدالة اعتَدَتْ على قبيلة لمتونة، فاستغاثت به، فترك القيادة في يد ابن عمه يوسف بن تاشفين، ومضى إلى الجنوب إلى ديار المرابطين الأولى، ولمَّا أعاد الأمور إلى ما كانت عليه عاد إلى بلاده، ووجد ابن عمه قد أحسن سياسة الدولة من بعده، وكان أبو بكر رجلًا ورعًا؛ فرأى أن ابن عمه أجدر بالحكم منه، فاتفق معه على أن يتولى يوسف قيادة دولة المرابطين، وأن يدعم ابن عمه أبا بكر بن عمر في الجهاد في غانا، وبالفعل انسحب إلى الجنوب، وقضى بقية عمره في الجهاد.
وبعد استقرار الإسلام في غرب إفريقيا نشأت دول إسلامية عديدة، أو انتشر في دول يتمتع المسلمون فيها بالمكانة، فضلاً عن الحرية، ومن خلال بعض هذه الدول نتناول سيرة الإسلام في غرب إفريقيا.
[1] موقع وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمملكة المغربية، الرابط:
المقصود بالمغرب هي المناطق التي تمتد من الحدود الغربية لمصر، وحتى شواطئ المحيط الأطلسي، سكنها البربر وسيطر عليها البيزنطيون، وقد احتل الرومان المغرب، ثم جاء الإسلام وتم الفتح في عصر عمر بن الخطاب ومَنْ بعده، وكان لفتنة عثمان بن عفانأثر في مواصلة الفتح، فبعد فتح مصر وليبيا، تم إنشاء مدن منها مدينة تونس ودار صناعة السفن بها، ومدينة القيروان، ثم ظهر عصر الولاة عصر التقلبات السياسية، ثم ظهرت الدول المحلية كالأغالبة والأدارسة والعُبيديين، وقد انتشر المذهب المالكي في المغرب الإسلامي.
ولم يستقر أمر ولاة إفريقيا في عصر بني أمية فسيطر الخوارج الصفرية على المغرب الأقصى، وظهرت الإباضية في المغرب الأدنى والأوسط، وشهد العصر العباسي تقلص سلطة الخلافة على الولايات؛ وظهرت الفتنة الكبرى، فاستقلت الولايات الإفريقية وصارت دولاً مستقلة؛ مثل: دولة بني مدرار في سجلماسة، والدولة الرستمية في تاهرت، ودولة الأدارسة بالمغرب الأقصى، ودولة الأغالبة في تونس.
وظهر المرابطون في صحراء موريتانيا، وكان من مبادئهم إبقاء عقيدة الأمة نقية، وتوحيد المغرب، وحماية الأمة من المفسدين، وحفظ الشريعة، وإعداد الأمة إعدادًا جهاديًّا، وكان من حكامها يوسف بن تاشفين فاستنجد به أمراء الطوائف بالأندلس، فمنحهم الله النصر في موقعة الزَّلاَّقة، وبعد سنوات ضَمَّ الأندلس إليه للحفاظ على المسلمين هناك.
وبعد عهد يوسف بن تاشفين ضعف المرابطون، لانغماسهم في الملذات، وانحراف نظام الحكم عن نظام الشورى إلى الوراثي، والتعصب المذهبي، وحلول الجفاف بالأندلس والمغرب، وانتشار الأوبئة، وظهور الموحدين على يد محمد بن تومرت.
وعندما تولَّى أبو يوسف يعقوب الموحدي كان عهده العصر الذهبي لدولة الموحدين، ثم بدأ عصر الضعف من جرَّاء ظلمهم وسفكهم للدماء، وثورات الأعراب والأندلسيين عليهم، والنزاع على الخلافة بينهم، والانهيار العسكري، والانغماس في الشهوات، وتقلُّص الدولة في إفريقيا والمغرب والأندلس، فقامت دولة الحفصيين في تونس، ودولة بني عبد الواد في تلمسان، وحُكْم بني مرين في المغرب الأقصى، واحتل البرتغاليون شواطئ المغرب، فظهر السعديون بقيادة القائم بأمر الله، فأنهى حكم بني وطاس، وانتصر على البرتغاليين، وكان العثمانيون يدعمون السعديين، فأوقعوا بينهما، فضم العثمانيون المغرب الأقصى إليهم، وازداد النفوذ اليهودي في الدولة العثمانية، ومع ضعف الدولة العثمانية برزت الأسرة القرمانية في ليبيا.
وكان الاحتلال البرتغالي لتعقب المسلمين وتطويق العالم الإسلامي واستعانوا في ذلك بالحبشة فظهرت الكشوف الجغرافية وتلاها الاستعمار الأوربي للقارة، فظهرت المقاومة الإسلامية في مواجهة الاحتلال حتى نالت استقلالها؛ كما في ليبيا بقيادة الشيخ أحمد السنوسي ومعه الشيخ عمر المختار، والجزائر بقيادة محيي الدين الحسني، والمغرب بقيادة الشيخ الهبة ابن الشيخ ماء العينيين، وغيرهم.
شمال إفريقيا والبربر
يرادف لفظ أو مصطلح "المغرب" اصطلاح "شمال إفريقيا"، والذي استعمله الجغرافيون والمؤرِّخون عند الحديث عن المناطق التي تمتد من الحدود الغربية لمصر، وحتى شواطئ المحيط الأطلسي.
وكانت بلاد المغرب الأدنى تضم برقة، وطرابلس وتمتد غربًا حتى بجاية أو تاهرت، وقاعدتها مدينة القيروان. أما بلاد المغرب الأوسط فتضم المنطقة الممتدة من تاهرت وحتى وادي ملوية وجبال تازة غربًا، وقاعدتها تلمسان وجزائر بني مزغنة. وأما المغرب الأقصى فيمتد من وادي ملوية وحتى مدينة أسفى على المحيط الأطلسي وجبال درن جنوبًا<a >[1].
وكان المغرب موطنًا لصنفين من البشر، هما:
1- البربر: وهم أهل الإقليم.
2- البيزنطيون: وهم المحتلون للإقليم، وكان تركزهم في المناطق الساحلية أكثر من وجودهم داخل البلاد<a >[2].
يجب أن نتعرَّف بدايةً على صفات الشخصية البربرية؛ لكي نستطيع تفسير ما جرى في أحداث الفتح من مقاومة شديدة من قِبَل البربر للإسلام، ثم اندفاعة البربر بعد إسلامهم نحو الفتوح بكل قوة.
فالبربر يصفهم ابن خلدون بأنهم مرهوبو الجانب، شديدو البأس، تخلقوا بالفضائل الإنسانية من خلق وعز وكرم<a >[3].
ومفتاح شخصية هذا البربري هو تمسكه بحريته، يدافع عنها بإصرار، وتاريخه يُنبئ عن هذا، ومقاومته ضد الرومان والبيزنطيين نجحت أحيانًا في بعض المناطق، فتأسست على أساسها دويلات بربرية مستقلة، ولم يُثنِ البربر عن ثورتهم طوال فترة الثورة التضحياتُ بالروح والمال.
<a ><a ><a >تاريخ المغرب قبل الإسلام وبعده
تشتمل قصة المغرب على عدة عصور؛ إذ كانت محتلة من قِبَل الرومان قبل الفتح الإسلامي، أما بعد ذلك فكان هناك عصر الفتح الإسلامي، والذي امتد من سنة 21هـ إلى سنة 98هـ، بينما بدأ عصر الولاة من 98هـ إلى ما بين 144- 184هـ حسب اختلاف الولايات، ثم عصر الدول المحلية كالأغالبة، والأدارسة، والعُبيديين (الذين انتسبوا زورًا للسيدة فاطمة رضي الله عنها، وسموا أنفسهم الفاطميين)، ثم دولة المرابطين، فالموحدين، والدولة الحفصية، والرُّستمية، والمرينية وغيرها، حتى وقعت الدول المغربية تحت الاحتلال الأجنبي في القرن التاسع عشر.
يُعتَبر عصر الفتح عصر جهاد دائم ومستمر، واجه فيه المسلمون انتفاضات البربر المستمرة بزعامة الكاهنة، كما واجهوا الروم، وانتصروا عليهم، حتى استقر الأمر للمسلمين، وقد تمَّ فتح المغرب - منذ بدايته حتى استقرار الإسلام به - خلال فترة حُكم عدد من الخلفاء، هم:
وكان عصر الولاة عصر تقلبات سياسية، وانتفاضات بربرية، ثم أتى عصر الدول المحلية التي انفصلت عن الخلافة العباسية، وكان منها دول شيعية، وأخرى خارجية، وثالثة سُنية.
تطلع أهل ليبيا للخلاص الإسلامي نبدأ قصة المغرب من عصر الفتوح؛ إذ سبق الفتح الإسلامي للمغرب إرهاصات وأحداث وقضايا سياسية، ونزاعات عرقية وثورات محلية في مدينتي برقة وطرابلس، كان لها أثر بالغ في تغيير مجريات الأحداث السياسية والدينية في المنطقة، وتهيئة نفوس أهالي ليبيا لقبول الإسلام؛ حيث إنهم كانت قد بلغتهم أخبار فتح المسلمين لبلاد الشام ومصر، فتطلعوا إلى الخلاص على أيدي المسلمين من أولئك البيزنطيين وحكمهم الجائر التعسفي.
لذلك حاول نفر من أهالي ليبيا التمرد على نظام الإمبراطورية البيزنطية والخروج إلى ناحية مصر، حتى يلتقوا بقائد الجيوش المسلمة عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكان يومئذٍ حاكم مصر، وما أن وصل هؤلاء النفر حتى أعلنوا إسلامهم ودخلوا في دين الله سبحانه، وأعطوا ولاءهم لقيادة المسلمين بقيادة عمرو بن العاص، نيابة عن خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه[4].
ولما كان الحال في المغرب كذلك، فقد قرَّر عمرو بن العاص رضي الله عنه أن يضع إستراتيجية أمنية وقائية لمصر من الناحية الغربية؛ حتى يأمن شرَّ الروم القاطنين ناحية برقة وطرابلس، بعد أن أمن فتوحاته الشامية، وذلك بفتحه الإسكندرية.
كما قرَّر عمرو بن العاص رضي الله عنه إرسال عقبة بن نافع الفهري رضي الله عنه في سنة 22 هـ/ 642م - على الأرجح بعد استئذان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه - كمقدمة استطلاعية لفتح المغرب، فافتتح عقبة زويلة صلحًا.
وفي نفس العام سار عمرو بن العاص بنفسه من مصر حتى بلغ برقة، وكانت تنزلها بعض بطون من قبائل لتوانة وزواغة، وكانت هذه القبائل ساخطة على البيزنطيين لما كانوا عليه من الظلم والعسف وجباية الضرائب منهم، فصالحوا المسلمين على الجزية، وكان أهلها يرسلون ما عليهم من الأموال إلى والي مصر من غير أن يأتيهم حاث أو مستحث[5].
وفي نفس السنة (22 هـ/ 642م) وصل عمرو بن العاص إلى مدينة أجدابية فافتتحها صلحًا على أن يدفع أهلها خمسة آلاف دينار، ولكن ما لبثوا على دفع الجزية إلا قليلاً، حتى أسلم معظم أهلها بعد أن رأوا من الفاتحين من العدالة والمساواة والصدق والأمانة والطهارة والعفة ما لم يروه من قبل في جيوش تلك الإمبراطوريات الهالكة[6].
بعد وفاة عمر رضي الله عنه تولى عثمان رضي الله عنه، وكان من أهم أعماله أنه عمل على توطيد نفوذ المسلمين في كثير من البلاد التي تمَّ فتحها من قبل، كما نجح ولاته في ضم مناطق جديدة إلى حوزة الدولة الإسلامية.
وحين تولى عثمان بن عفان رضي الله عنه خلافة المسلمين عزل عمرو بن العاص عن ولاية مصر سنة (26 هـ/ 646م) وعقدها لعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطلب عبد الله بن سعد بن أبي سرح الإذن من عثمان رضي الله عنه لاستكمال الفتوح في إفريقيا.
الفتنة تؤخر الفتوح الإفريقية كان لا بد أن تؤثر فتنة عثمان رضي الله عنه وما تلاها من أحداث في نشاط الفتوح الإسلامية؛ إذ لم يكن من الميسور للقادة والجند أن يستمروا فيما كانوا آخذين فيه من فتوح بعد أن شبت نيران هذه الفتنة، ولا شك أن الأمداد قد انقطعت عنهم، وتوقعوا أن تحول حروب الداخل دون إرسال الجند إلى الأطراف فتركوا ما بأيديهم، ولبث بعضهم حيث هو ينتظر نتيجة الصراع المحتدم، وعاد البعض الآخر إلى الحجاز والشام ليسهم في هذه الأحداث<a >[7]. لقد شغل المسلمون عن إفريقيا والفتوح عامة بسبب فتنة عثمان رضي الله عنه ، ثم الحرب بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، ولم يتجدد نشاط الفتوح مرة أخرى إلا بعد استقرار الأمر لمعاوية سنة 41 هـ/ 661م<a >[8].
نشطت حركة الفتوح خلال عصر الدولة الأموية، وبدأ المسلمون يمارسون دورهم الحضاري في النهضة بأمر البربر، مع ترسيخ الوجود الإسلامي في المغرب، وقد كان من مظاهر ذلك:
1- إنشاء المدن والعناية بها:
بناء تونس: اختط هذه المدينة القائد حسان بن النعمان الغساني عام 82هـ؛ لتكون قاعدة عسكرية بحرية، ولتحول دون تكرار البيزنطيين الهجوم على قرطاجة عام 78هـ<a >[9]. بنى حسان بن النعمان مدينة تونس على أنقاض قرية قديمة عرفت باسم ترشيش القديمة[10]، وإنما سميت تونس في أيام الإسلام لوجود صومعة الراهب، وكانت سرايا المسلمين تنزل بإزاء صومعته، وتأنس لصوت الراهب، فيقولون: هذه الصومعة تؤنس؛ فلزمها هذا الاسم فسميت باسم تونس<a >[11]. واختط حسان تونس غربي البحر المتوسط بنحو عشرة أميال<a >[12]، فقام بحفر قناة تصل المدينة بالبحر لتكون ميناء بحريًّا ومركزًا للأسطول الإسلامي بعد أن أنشأ فيها صناعة المراكب<a >[13]، بخبراء في هذه الصناعة زوده بها والي مصر عبد العزيز بن مروان بناءً على توجيه الخليفة عبد الملك<a >[14]. وقد بنيت مدينة تونس طبقًا لأهداف سياسية إستراتيجية، وأهداف اقتصادية اجتماعية تبناها الخليفة عبد الملك.
أمّا الأهداف السياسية البعيدة المدى، فيتضح ذلك بوضع حد لاعتداءات الروم والمتمثلة بإغارتهم على الساحل الإفريقي، والسبيل الأمثل هو إيجاد قاعدة بحرية، وصناعة بحرية قادرة على إنشاء أسطوله مهمته صد العدوان الرومي بادئ الأمر، ثم الانتقال من مرحلة التصدي إلى الغزو والفتح فيما بعد، وقد تمثل تطبيق هذه المرحلة من قبل الخليفة عبد الملك فقام بالإيعاز لشقيقه والي مصر عبد العزيز بن مروان، لإرسال ألفي قبطي من مهرة الصناع لإقامة صناعة مراكب بحرية، وقام هؤلاء بالمهمة الموكلة إليهم خير قيام.
وأما الهدف الثاني: فيتمثل بإيجاد حياة اجتماعية بإيجاد المؤسسات القادرة على خدمة الأفراد، فأقام في المدينة المسجد الجامع، ودار الإمارة، وثكنات للجند للمرابطة، وأخذ يقوم بتدوين الدواوين<a >[15]، وتنظيم الخراج والعناية بالدعوة الإسلامية بين البربر، فقام بإرسال الفقهاء ليعلموهم اللغة العربية والدين الإسلامي<a >[16]، وصارت المدينة معسكرًا حربيًّا في البداية، ومركز استيطان وإدارة لدعم الفتوحات، وأخيرًا مركزًا حضاريًّا ومركز إشعاع فكري وعلمي وثقافي<a >[17].
وهكذا رسخ الخليفة عبد الملك بن مروان أقدام الدولة الأموية بتأسيس مدينة تونس، وقطع دابر الغارات اليبزنطية بإيجاد مدينة إسلامية مرتبطة بالأهداف العليا للدولة[18].
لم تبدأ الحياة العلمية المركَّزة إلا بعد تأسيس القيروان سنة 50هـ، فسرعان ما أصبحت القيروان مركز الحضارة الإسلامية بالمغرب وعاصمته العلمية، منها انطلق الدعاة وإليها رحل طلاب العلم من الآفاق. ولا شك أن الصحابة الذين كانوا في جيش عقبة قد جلسوا للتدريس فيه على النمط الموجود في مدن المشرق آنذاك، فقد كان مع عقبة أثناء تأسيس القيروان ثمانية عشر صحابيًّا[19]، وقد مكثوا فيها خمس سنوات كاملة كان عملهم فيها - ولا شك - نشر اللغة العربية، وتعليم القرآن والسنة في جامع القيروان، وذلك أثناء بناء مدينة القيروان، حيث لم تكن هناك غزوات كبيرة تتطلب غيابًا طويلاً عن القيروان، أمّا في غزوة عقبة الثانية فقد كان معه خمسة وعشرون صحابيًّا[20]، وسائر جيشه من التابعين.
ولقد استقطبت القيروان أعدادًا هائلة من البربر المسلمين الذين جاءوا لتعلم الدين الجديد، قال ابن خلدون عند حديثه عن عقبة: "فدخل إفريقية وانضاف إليه مسلمة البربر، فكبُرَ جمعُه، ودخل أكثر البربر في الإسلام ورسخ الدين[21]، ولا شك أن الفاتحين قد خصصوا لهم من يقوم بهذه المهمة"[22].
ومن القيروان انتشر الإسلام في سائر بلاد المغرب، فقد بنى عقبة بالمغربين الأقصى والأوسط عدة مساجد لنشر الإسلام بين البربر، كما ترك صاحبه شاكرًا في بعض مدن المغرب الأوسط لتعليم البربر الإسلام[23]، ولما جاء أبو المهاجر دينار لولاية إفريقيا تألَّف كُسيلة وقومه وأحسن إلى البربر، فدخلوا في دين الله أفواجًا ودعّم حسان بن النعمان - فيما بعد - جهود عقبة في نشر الإسلام بين البربر حيث خصّص ثلاثة عشر فقيهًا من التابعين لتعليم البربر العربية والفقه ومبادئ الإسلام[24]، وواصل موسى بن نُصير هذه المهمة حيث: أمر العرب أن يعلّموا البربر القرآن، وأن يفقّهوهم في الدِّين[25]، وترك في المغرب الأقصى سبعة وعشرين فقيهًا لتعليم أهله[26].
2- إنشاء دار صناعة السفن بتونس:
عزَّزت الدولة الأموية القوة العسكرية بإنشاء سلاح البحرية، وأقامت دارًا لصناعة السفن في تونس، وزودت هذه الدار بما يلزمها من المواد والصناع[27].
3- التوسع في الصناعات الحربية: توسعت هذه الصناعة في عهد عبد الملك بن مروان وفتح دارًا بتونس لصناعة السفن الحربية، وكانت نواة تلك الدار ألف عامل متخصص في صناعة السفن تم نقلهم من دار الصناعة - المنطقة الصناعية - بمصر، وقد تم وضع التنظيم اللازم وطريقة إمداد تلك الدار بالأخشاب من الغابات الإفريقية الداخلية، واختيار جماعات من البربر من سكان تلك المناطق للقيام بتلك المهمة، حيث هم أخبر الناس بمناطق وجود الأخشاب الجيدة الملائمة لتلك الصناعة[28].
وفي إرسال دار الصناعة بمصر لألف عامل ليكونوا نواة التصنيع بتونس، ما يدل على مدى تطور تلك الصناعة بمصر وكبر حجمها. وفي تطور لاحق لصناعة السفن الحربية بتونس، قام والي تونس بتوسيع دار الصناعة بها؛ فشق قناة بين الميناء وبين المدينة بطول اثني عشر ميلاً[29]، وشكلت هذه القناة ما يماثل اليوم أحواض بناء السفن أو الأحواض الجافة[30]، وأصبحت مناطق دور صناعة السفن الحربية مناطق جذب سكاني[31].
فقد برزت الخوارج الصفرية في المغرب الأقصى وسيطرت عليه، وظهرت الإباضية في المغرب الأدنى والأوسط، وأخضعت أجزاءً واسعة لنفوذها، وكان عبد الرحمن بن حبيب يقاتل الخوارج عندما قامت الدولة العباسية[33].
وفي عام 155هـ جاء يزيد بن أبي حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة واليًا على إفريقية فانتصر على الخوارج الإباضية والصفرية، واستطاع أن يفرض نفوذ العباسيين في المغرب قبل نهاية حكم المنصور، وبقي يزيد بن حاتم في المغرب حتى عام 170هـ[34].
ثم سادت الاضطرابات في إفريقية اعتبارًا من عام 171 هـ/ 787م بفعل خروج الخوارج وقادة الجند والبربر؛ فأرسل الرشيد هرثمة بن أعين واليًا على إفريقية، وأمره بقمع الانتفاضات وتوطيد الأمن، فنجح في مهمته ودخل القيروان وأمَّن الناس.
ويبدو أن الخلافات بين الفئات الإسلامية المتعددة كانت واسعة فتجددت القلاقل، ولم يتمكن هرثمة من رأب الصدع، فعزله الخليفة بناءً على طلبه في عام 180 هـ/ 796م، كما لم يتمكن الولاة الذين جاءوا من بعده من السيطرة على الموقف، فاستغل إبراهيم بن الأغلب عامل إقليم الزاب (في الجزائر اليوم) هذه الأوضاع القلقة، وطلب من الخليفة توليته على إفريقية ووعده بتهدئة الوضع، استجاب الخليفة لطلبه، وعهد إليه بالولاية على إفريقية في عام 184 هـ/ 800 م[35]، ونجح إبراهيم في تحقيق الاستقرار متبعًا في ذلك سياسة معتدلة، وازدهرت إفريقية في عهده وشهدت حركة عمرانية واسعة ونشاطًا اقتصاديًّا كبيرًا، وقد مهَّد إبراهيم بهذا لقيام دولة الأغالبة التي ما لبثت أن استقلت عن الإدارة المركزية في بغداد، واتخذت القيروان حاضرة لها[36].
لقد شهد العصر العباسي تقلص سلطة الخلافة عن الولايات؛ مما مهَّد السبيل لكل ناقم على الدولة، أو مخالف لها لأن يقيم دولته الوراثية الخاصة في أطراف الخلافة، وقد كان من هؤلاء إبرهيم بن الأغلب الذي أقام دولة الأغالبة، ولكن بموافقة الخلافة العباسية.
[paste:font size="4"]وهذه نماذج لبعض الدول المحلية: دولة بني مدرار في سجلماسة (140 ـ 349هـ/ 757 ـ 960م): توفي أبو القاسم سمكو مؤسس دولة الخوارج الصفرية في سجلماسة (جنوب المغرب) عام 168هـ، وخلفه ابنه إلياس بن أبي القاسم والذي عرف باسم "أبو الوزير"، واستمرت أيامه حتى عام 174هـ، وخلفه أخوه اليسع بن أبي القاسم، وبقي في حكم هذه الدولة حتى عام 208هـ، وقد عرف باسم "أبو المنصور"، وقد ثارت الإباضية في أيامه في وادي درعة، ولكنه قضى على ثورتهم وبطش بهم.
وكما هادن الإباضيون ولاة العباسيين في القيروان، كذلك هادنهم الصفرية الذين اتجهوا نحو أوضاعهم الداخلية والاقتصادية حيث كانوا تجارًا بين الشمال والجنوب عبر الصحراء، وكذلك فقد جعلوا الحكم وراثيًّا كالإباضيين[37].
كانت الصفرية والإباضية من أكثر المذاهب الخارجية المنتشرة بالمغرب، وإنهما من أكثر مذاهب الخوارج تسامحًا واعتدالاً مع مخالفيهم في الرأي، إذا ما قورنوا بفرق الأزارقة والحرورية في المشرق؛ لأن الصفرية والإباضية لم ترضيا إباحة دماء المسلمين، أو جواز سبي النساء والذرية، ولا يريان قتال أحد من الناس سوى جيش السلطان[38]، فلم يكفروا القاعدين عن القتال، ولم يُسقطوا الرجم، ولم يحكموا بقتل أطفال المشركين وتكفيرهم وتخليدهم في النار، ومرتكب الكبيرة عندهم عاصٍ وليس كافرًا مشركًا[39].
الدولة الرستمية في تاهرت (144 ـ 296 هـ / 761 ـ 908 م): قامت دولة للخوارج الإباضية في تاهرت (غرب الجزائر) إذ أسسوا هذه المدينة عام 161هـ، وأصبح عبد الرحمن بن رستم إمامًا لهذه الدولة، وقد هادن ولاة القيروان[40]. وبعد وفاته عام 171هـ، خلفه ابنه عبد الوهاب واستمر حكمه إلى ما بعد هارون الرشيد، وقد هادن ولاة إفريقية من قبل العباسيين، وقد لقي عبد الوهاب حركات ضده بسبب مخالفته للمذهب الإباضي الذي لا يقبل بالحكم الوراثي، وإنما يكون الرأي في اختيار الحاكم لأهل الحل والعقد، أما عبد الوهاب فقد تسلم الحكم من أبيه رغم وجود من هو أفضل منه وأكثر علمًا؛ لذا فقد قامت حركة قادها يزيد بن فندين وعرفت بالنُكّار، أي الذين ينكرون تصرف ولي الأمر بالحكم[41].
وعقيدة الإباضية تتفق مع أهل السنة في الكثير، وتختلف في القليل، فهم يعترفون بالقرآن والحديث كمصدر للعلوم الدينية، ويقولون بالرأي، ويأخذون بالإجماع.
ولعل أهم خلاف بينهم وبين السنة قولهم بالتنزيه المطلق؛ ولذلك فإنهم يقولون: إن رؤية الله منفية في الدنيا والآخرة. ويقولون أيضًا: إن الوعد والوعيد لا يتخلفان، بمعنى أن وعيد الله لا يتخلف، فمن دخل النار فهو خالد فيها، والمذنب تطهره التوبة، ولا يدخل السعيد النار[42].
دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى (مراكش) (172 ـ 375 هـ / 788 ـ 985م): فرَّ إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب من الحجاز، وقد نجا من موقعة فخ عام 169هـ / 785م، إلى المغرب الأقصى حيث استطاع أن يؤسس دولة مستقلة عن الخلافة العباسية عام 172هـ، وبنى في المكان المعروف باسم جراوة مدينة فاس، واتخذها عاصمة له، واستمر في حكمه حتى توفي مسمومًا عام 177هـ، فخلفه ابنه إدريس الثاني الذي كان جنينًا في بطن أمه عندما مات أبوه، وقام بشئون البربر مولى أبيه راشد، فلما قتل راشد كفل إدريس أبو خالد العبدي، حتى كبر فتولى الأمر عام 188هـ، وبنى مدينة العالية وهي مقابل مدينة فاس[43].
ومن أشهر أمراء الأدارسة إدريس الثاني (177 ـ 213 هـ)، علي بن عمر بن إدريس الثاني (221 ـ 234 هـ)، ويحيى الرابع بن إدريس بن عمر (292 ـ 310 هـ)[44].
دولة الأغالبة في المغرب الأدنى (تونس) (184 ـ 296 هـ / 800 ـ 909 م): ذكرنا أنه في عام 184 هـ ولَّى الخليفة هارون الرشيد إمارة إفريقية لإبراهيم بن الأغلب، ومنذ أن تولى إبراهيم الإمارة بدأ يعمل على تأسيس دولة له ولأبنائه من بعده.
عرف الرشيد رغبة إبراهيم بن الأغلب، ومع ذلك فقد استبقاه في الإمارة بل ودعمه ما دام يعمل باسم العباسيين، وخاصة أن الرشيد كان مشغولاً بحرب الروم، وهجوم الخزر، ومشكلات المشرق، وفي الوقت نفسه يريد أن يحمي الأجزاء الغربية من الإمارات التي قامت في المغرب والأندلس من خوارج وأدارسة وأمويين، ولم يكن لدى الرشيد أسطول يحمي أقاليم البحر المتوسط فاكتفى بالإشراف على دولة إبراهيم بن الأغلب، ورأى ذلك خيرًا وأفضل من أن يخرجوا من إشرافه نهائيًّا كباقي الإمارات[45].
ومن أشهر أمراء دولة الأغالبة إبراهيم بن الأغلب (184 ـ 196هـ)، وعبد الله الأول (196 ـ 201 هـ)، وزيادة الله الأول (201 ـ 223 هـ)، ومحمد الأول أبو العباس (226 ـ 242 هـ)[46].
دولة المرابطين ومبادئهم في صحراء موريتانيا البلد الإسلامي الكبير، وبالتحديد في الجنوب القاحل حيث الصحراء الممتدة، والجدب المقفر، والحرّ الشديد، كانت تعيش بعض قبائل البربر، ومن قبائل البربر الكبيرة كانت قبيلة "صنهاجة"، وكانت قبيلتا "جُدَالَة ولَمْتُونة" أكبر فرعين في "صنهاجة".
كانت "جُدَالة" تقطن جنوب موريتانيا، وكانت قد دخلت في الإسلام منذ قرون، وكان على رأس جدالة رئيسهم يحيى بن إبراهيم الجدالي، وكان لهذا الرجل فطرة سويّة وأخلاق حَسَنة.
نظر يحيى بن إبراهيم في قبيلته فوجد أمورًا عجيبة، فقد أدمنوا الخمور، وألِفوا الزنا، فقد فشا الزنا بشكل مريع في جنوب موريتانيا في ذلك الزمن، وكثر الزواج من أكثر من أربعة، والناس ما زالوا مسلمين ولا ينكر عليهم أحد ما يفعلونه، فالسلب والنهب هو العرف السائد، القبائل مشتتة ومفرقة، القبيلة القوية تأكل الضعيفة[47].
كان يحيى بن إبراهيم الجُدالي صاحب الفطرة النقيّة يعلم أن كلّ ما يفعله قومه من المنكرات، لكنه لم يكن بمقدوره التغيير؛ فالشعب كله في ضلال وعمى، وبعيد كل البعد عن الدين، كما أن الرجل نفسه لا يملك من العلم ما يستطيع به أن يغيّر الناس.
وبعد حيْرة وتفكّر هداه ربُّه لأن يذهب إلى الحج، ثم وهو في طريق عودته يُعرّج على حاضرة الإسلام في المنطقة وهي مدينة القيروان (في تونس الآن)، فيكلّم علماءَها المشهورين بالعلم لعلّ واحدًا منهم أن يأتي معه فيُعلّم قبيلته الإسلام.
وبالفعل أكرمه الله عزَّ وجلَّ بالشيخ عبد الله بن ياسين (الزعيم الأول للمرابطين، وجامع شملهم، وصاحب الدعوة الإصلاحية فيهم، ت 451هـ/ 10599م) من شيوخ المالكية الكبار، الذي جاء معه، وأخذ يدعو الناس؛ فنفروا منه وضربوه، لكنه لم ييئس هو والأمير؛ فأقاما رباطًا يتعبدان فيه، فأخذ الناس يأتون إليهما طلبًا للهداية.
تجمع من التائبين عدد كبير منهم يحيى بن عمر اللمتوني زعيم لمتونة، ثم خَلَفَه بعد وفاته أبو بكر بن عمر، فانطلقوا بقيادة عبد الله بن ياسين الروحية، وقيادة يحيى بن عمر اللمتوني السياسية والعسكرية يدعون قومهم، ثم القبائل الأخرى التي كانت وثنية، أو عادت إلى الوثنية بعد أن كانت مسلمة؛ فمن قَبِل صار معهم، ومن عاند وعادى دعوة الحق حاربوه؛ حتى أقاموا دولة كبيرةً سُمِّيَت بالمرابطين؛ لأن ابن ياسين وجماعته كانوا يرابطون على نهر السنغال في خيام متأهبين للجهاد في سبيل الله تعالى.
وقد قامت دولة المرابطين على عدد من المبادئ، من أهمها:
أولاً ـ العمل على الإبقاء على عقيدة الأمة صافية نقية.
ثانيًا ـ توحيد المغرب تحت راية الخلافة الإسلامية.
ثالثًا ـ العمل على حماية الأمة من المفسدين والمحاربين.
رابعًا ـ العمل على حماية الأمة من أعداء الخارج.
خامسًا ـ حفظ ما وُضِعَت الشريعة لأجله.
سادسًا ـ إعداد الأمة إعدادًا جهاديًّا.
سابعًا ـ القيام على تحصيل الصدقات وأموال الزكاة والخراج والفيء.
ومات عبد الله بن ياسين مجاهدًا، ثم انطلق يحيى بن عمر مجاهدًا في أواسط إفريقيا وغربها، وترك ابن عمه يوسف بن تاشفين على قيادة دولة المرابطين؛ فوسعها، واتخذ الجهاد سبيلاً، حتى أقام دولةً عظيمةً للمرابطين، صار لديها خمسمائة ألف مقاتل.
كان عهد يوسف بن تاشفين عهد قوة للمرابطين؛ حيث استنجد به أمراء الطوائف بالأندلس ضد عدوهم الصليبي، فانتقل إليهم بسبعة آلاف مقاتل فقط، وتجمَّع لديه من المجاهدين المتطوعين بالأندلس ثلاثون ألفًا، ومنحهم الله عزَّ وجلَّ النصر على عدوهم في موقعة الزَّلاَّقة العظيمة، التي أُبِيد فيها جيش الصليبيين على بكرة أبيه، ثم بعد سنوات لما زاد تصارع أمراء الطوائف، ضم يوسف الأندلس إلى دولة المرابطين؛ لكي يحفظ الإسلام والمسلمين فيها.
أسباب سقوط المرابطين بعد عهد يوسف بن تاشفين دخلت دولة المرابطين في انحراف عن مبادئها؛ مما أدخلها في عهد ضعفٍ انتهى بقيام دولة الموحدين على يد محمد بن تومرت، وكان فاسد العقيدة، فادَّعى أنه المهدي المنتظر، واستباح دماء المرابطين، وكانت الدماء يسيرةً عليه.
وقد كان من أهم أسباب سقوط دولة المرابطين: أولاً- ظهور روح الدعة والانغماس في الملذات والشهوات عند حكام المرابطين وأمرائهم في أواخر عصر علي بن يوسف.
ثانيًا- ظهور السفور والاختلاط بين النساء والرجال.
ثالثًا- انحراف نظام الحكم عن نظام الشورى إلى الوراثي.
رابعًا- الضيق الفكري الذي أصاب فقهاء المرابطين وحجرهم على أفكار الناس، ومحاولة إلزامهم بفروع مذهب الإمام مالك وحده، وعملوا على منع بقية المذاهب السنية تعصبًا لمذهبهم.
خامسًا- فَقْد دولة المرابطين لكثير من قياداتها وعلمائها العظام أمثال سير بن أبي بكر، ومحمد بن مزدلي، ومحمد بن الحاج، وأبي إسحاق بن دانية، وأبي بكر بن واسينو.
سادسًا- الأزمة الاقتصادية الحادة التي مرت بها دولة المرابطين نتيجة لانحباس المطر لعدة سنوات، وحلول الجفاف والقحط بالأندلس والمغرب، وزاد من حدَّة الأزمة الاقتصادية أن أسراب الجراد هاجمت ما بقي من الأخضر على وجه البلاد؛ مما هيأ الظروف لانتشار مختلف الأوبئة بين كثير من السكان، ووقعت هذه الأزمة في الفترة الواقعة ما بين أعوام 524 - 530هـ .
سابعًا- الصدام المسلح بين دولة المرابطين وجيوش الموحدين[49].
بعد محمد بن تومرت تولى عدد من الحكام كان أبرزهم عبد المؤمن بن علي الذي كان عهده عهد قوة؛ إذ قام بمضاعفة القوة العسكرية، كما قام بنهضة عمرانية كبيرة.
استمر عهد قوة الموحدين بعد تولي أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي (554 - 595هـ/ 1160 - 1199م)، ويمثل عهده الذي امتد خمس عشرة سنةً العصر الذهبي لدولة الموحدين.
تولَّى أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي، وكان عمره خمسًا وعشرين سنةً فقط، وقد قام بالأمر أحسن ما يكون القيام، ورفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، ونظر في أمور الدين والوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن، واستطاع أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي أن يغير كثيرًا من أسلوب السابقين له، فكان سمته الهدوء والسكينة والعدل والحلم، حتى إنه كان يقف ليقضي حاجة المرأة وحاجة الضعيف في قارعة الطريق، وكان يؤمُّ الناس في الصلوات الخمس، وكان زاهدًا يلبس الصوف الخشن من الثياب، وقد أقام الحدود حتى في أهله وعشيرته، فاستقامت الأحوال في البلاد وعظمت الفتوحات.
بلغت أعمال أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي الجليلة في دولته أوجها، حتى وصلت إلى أن حارب الخمور، واهتم بالطب والهندسة، وألغى المناظرات العقيمة التي كانت في أواخر عهد المرابطين وأوائل عهد الموحدين، وقد أسقط الديون عن الأفراد، وزاد كثيرًا في العطاء للعلماء، ومال إلى مذهب ابن حزم الظاهري لكنه لم يفرضه على الناس، ومن أجلِّ أعماله أنه تبرأ من أباطيل ابن تومرت.
وفي سنة 591 هـ/ 1195م انطلقت الجيوش الإسلامية من المغرب والصحراء وعبرت مضيق جبل طارق إلى بلاد الأندلس لتلتقي مع قوات الصليبيين الرابضة هناك في موقعة الأرك الخالدة التي انتصر فيها المسلمون انتصارًا باهرًا.
وبعد وفاة المنصور الموحدي سنة 595 هـ/ 1199م بدأت النهاية لدولة الموحدين.
أسباب سقوط دولة الموحدين أولاً: ظلمهم الفظيع للمرابطين، وسفكهم للدماء، واعتداؤهم على الأموال، وسبيهم للنساء بدون وجه حق.
ثانيًا: ثورة بني غانية، وهم من بقايا المرابطين.
ثالثًا: ثورات الأعراب المتتالية.
رابعًا: ثورات الأندلس ضد دولة الموحدين.
خامسًا: النزاع على الخلافة بين الموحدين، ولم يستطيعوا أن يضعوا نظامًا ثابتًا لتولي الخلافة عندهم.
سادسًا: الانهيار العسكري الذي أصاب دولة الموحدين، وتغير أهداف الجيش الموحدي.
سابعًا: الترف والانغماس في الشهوات.
ثامنًا: تقلُّص أراضي الدولة في إفريقية والمغرب والأندلس.
البرتغاليون يحتلون شواطئ المغرب قامت في بلاد المغرب على أنقاض دولة الموحدين عدة دول؛ وهي دولة الحفصيين في تونس، ودولة بني عبد الواد في تلمسان، وحكم بني مرين في المغرب الأقصى، ثم خلفهم عام 823هـ بنو وطاس، واستمر أمرهم حتى عام 916هـ، وفي أيامهم احتل البرتغاليون شواطئ المغرب، فضاق المسلمون بهذا التوسع الصليبي، وخاصة أن النصارى من أسبان وبرتغال قد طردوا المسلمين من الأندلس، ونكلوا بهم أشد تنكيل، فانطلقت هذه الجموع نحو المغرب، واتجهت الأنظار نحو شيخ السعديين أبي عبد الله محمد القائم بأمر الله، فأنهى حكم بني وطاس، وأعلن الجهاد، وقاتل البرتغاليين وانتصر عليهم، وأجلاهم عن المراكز التي بقوا في بعضها اثنتين وسبعين سنة، وبعد وفاة أبي عبد الله محمد خلفه ابنه أحمد الأعرج.
كان العثمانيون يدعمون السعديين ويحثونهم على قتال الصليبيين ويقدمون لهم المساعدات، ويشجعونهم على العمل معًا لاستعادة الأندلس، ولكن الصليبيين نجحوا في الإيقاع بين العثمانيين والسعديين.
هزيمة العثمانيين وضعف دول المغرب وفي عام 961هـ ضم العثمانيون المغرب الأقصى، وخطب للسلطان العثماني على المنابر، ولكن لم يلبث العثمانيون أن خرجوا من المغرب أمام مقاومة السكان الذين شحنوا بكراهية العثمانيين نتيجة الدعاية الصليبية.
وعندما هزم العثمانيون عام 978هـ وتحطم أسطولهم تمامًا أمام أسطول إسبانيا والبندقية لم يعودوا يفكرون في دخول المغرب، وإن عدوها منطقة مواجهة مع الدول النصرانية[50].
وهذا الضعف أطمع النصارى في الأندلس فبدءوا ينزلون على سواحل المغرب واحتلوا عددًا من الموانئ، وتمركزوا في بعض المواقع، هذا إضافةً إلى بقية النصارى الذين اتجهوا إلى سواحل شمالي المغرب مثل فرسان مالطة الذين كانوا قد سيطروا على منطقة ليبيا، ثم جاء العثمانيون فاستطاعوا أن ينقذوا ما أمكنهم إنقاذه، حتى إذا ضعف أمرهم أيضًا مع مرور الزمن عاد الصليبيون فاحتلوا بلاد المغرب ثانية، وتقاسموا أرضه وخيراته[51].
بعد الضعف الذي أصاب دول المغرب احتل فرسان مالطة منطقة برقة في ليبيا، واحتل الإسبان طرابلس عام 916 هـ، وقد بقوا فيها حتى تمكن (طرغول) القائد البحري العثماني من دخولها عام 958 هـ، وقد حاولت إسبانيا احتلالها دون جدوى.
ومع ضعف الدولة العثمانية برزت الأسرة القرمانية التي فرضت سيطرتها على منطقة ليبيا، وإن كانت تخضع للدولة العثمانية إلا أنها كانت تتصرف تصرف المستقل منذ عام 1123هـ، ولكن الدولة العثمانية أنهت حكم الأسرة القرمانية عام 1251هـ، وعملت على تحسين الأوضاع الاقتصادية للسكان، ومع ذلك فلم تسلم المنطقة من محاولات تدخل الدول الأوروبية بحجة حماية الأقلية النصرانية[52].
زيادة النفوذ اليهودي كانت الدولة العثمانية قد تساهلت مع اليهود، وسمحت لهم بالإقامة في المناطق التي تتبعها بعد طردهم من الأندلس، فأساءوا كثيرًا، وزادت أطماعهم وظهر جشعهم، فانتقلوا إلى الشمال الإفريقي، وبقية أرجاء الدولة العثمانية، وأقام منهم في ليبيا أكثر من ثمانمائة أسرة، وبدأ مركزهم يزيد نتيجة للتجارة، وتساهل والي ليبيا العثماني رجب باشا مع اليهود، وكان يرغب بإعطاء الأراضي لهم خوفًا من التوسع الإيطالي؛ ولهذا حرصت إيطاليا على طلب نقله من ليبيا ليلة الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني الخليفة العثماني، وقد عينه رجال الانقلاب من جماعة الاتحاد والترقي وزيرًا للحربية لكنه توفي يوم تعينه، وفقد اليهود نصيرهم فهو من جماعة الاتحاد والترقي وإن كان يعمل في السر. وكان لليهود دور كبير في الإطاحة بالخليفة العثماني ثم بالخلافة، وكان مشروع رجب باشا إسكان اليهود في منطقة الجبل الأخضر، وقد قامت دراسات كافية في هذا الشأن، ورغم الخلاف بين ما كان يخطط له رجب باشا وبين الطليان فإن اليهود قد دعموا الاحتلال الإيطالي لليبيا، وساعدوا على ارتكاب الأعمال الوحشية الإيطالية هناك[53].
اشتداد الصراع على دول المغرب أمّا في تونس، ففي عام 1526م تولى أمر الدولة الحفصية الحسن الحفصي الذي كان يميل إلى ملك النمسا شارلكان، مما جعل السكان ينقمون عليه ويستنجدون بالعثمانيين، فاستدعى الخليفة العثماني سليمان القانوني أمير البحر خير الدين بربروس إلى إستانبول عام 9400 هـ، وكلفه بإنشاء السفن الكافية والاستعداد لفتح تونس، فامتثل لطلب الخليفة العثماني، وقصد تونس عام 942 هـ، وأعلن للسكان أنه قادم لعزل السلطان مولاي الحسن الحفصي لصلته بالدول النصرانية وعلاقته بشارلكان، فاستقبله السكان ورحبوا به فاستولى بسهولة على تونس؛ فاستنجد السلطان الحسن الحفصي بالنصارى، فاتفق شارلكان مع البابا وأمراء إيطاليا، ورهبنة القديس حنا الأورشليمي في مالطة، وجهز أسطولاً كبيرًا، وانطلق بنفسه من برشلونة مع بعض الأمراء الإسبان، واستطاع أن يستولي على تونس، وأن يعيد السلطان الحفصي إلى حكمه، الذي أصبح خاضعًا له، وعندما دخل شارلكان تونس بعد حصار دام أكثر من شهر سمح لجنده أن يتصرفوا كما شاءوا فنهبوا وسلبوا وارتكبوا أبشع الأعمال الوحشية والمحرمات، ثم كتب معاهدة مع الحفصي كلها خزي، مما جعل السكان يكرهون سلطانهم بصورة أشد من كرههم له في السابق، وما أن غادر شارلكان تونس حتى عادت الفوضى السياسية.
تمكن الوالي العثماني طرغول في طرابلس أن يحتل قفصة عام 963هـ، ثم القيروان 965هـ، وأرسلت إسبانيا عام 968 هـ أسطولاً للحد من نشاطه لكنه تحطم، وفي سنة 981 هـ دخل سنان باشا تونس وبقي فيها العثمانيون بعد ذلك.
وعندما غادر سنان باشا تونس ترك فيها واليًا ممثلاً للخليفة اشتهر بلقب باي (بيلر باي)، ويساعده ديوان استشاري مؤلف من عسكريين يمثلون الفرق العسكرية هناك، ويلقب كل منهم بـ (الداي) إضافةً إلى موظف الشئون المالية، غير أن الدايات قد سيطروا على الباي منذ عام 999 هـ، وتفردوا بالسلطة حتى عام 1050 هـ، مع وجود الباي، وكان الدايات ينتخبون من بينهم الداي الذي يسند إليه الحكم.
احتلال الجزائر وعندما احتلَّت فرنسا الجزائر عام 1245هـ احتجت الدولة العثمانية على ذلك، وأرادت أن تستعيد ولاية الجزائر بالمفاوضات السياسية غير أنها قد عجزت؛ فلجأت إلى الطريقة العسكرية فتخلصت من الأسرة القرمانية في ليبيا عام 1251 هـ، وأرادت أن تقضي على الأسرة الحسينية في تونس لتكون على مقربة من الجزائر، غير أن فرنسا قد هددت بذلك، وكلما اتجه الأسطول العثماني من ليبيا نحو تونس تحرك الأسطول الفرنسي من الجزائر نحو الشرق.
وكانت فرنسا تعامل بايات تونس كحكام مستقلين، وكان هذا يثير احتجاج الدولة العثمانية.
حاول الباي في تونس النهوض بالبلاد ولكنه اعتمد في ذلك على الديون الأجنبية، إذ كانت فرنسا تمده بالقروض، وهي تعلم أنه سيعجز عن سدها، وهذا ما يفسح لها المجال للتدخل في شئونه، وبالفعل لم يستطع السداد فأرسلت لجنة مالية لمراقبة المالية التونسية، وبعد مؤتمر برلين عام 1296هـ اعترفت فرنسا لإنجلترا بقبرص مقابل الاعتراف لها بتونس[54].
أمَّا في الجزائر، فبعد عام 940هـ كان الإسبان بالأندلس قد قوي أمرهم فبدءوا بالاستيلاء على موانئ البحر المتوسط الإفريقية، وزاد أملهم بحكم شمالي إفريقية، وأخذها من يد المسلمين، بعد الاستيلاء على غرناطة وطرد المسلمين من الأندلس نهائيًّا عام 898 هـ، وقامت سفن قراصنتهم تلاحق المسلمين الأندلسيين الذين فروا إلى شمالي إفريقية، فوجدت محاولة رد الفعل ضد الحقد الصليبي، وبدءوا يغيرون على سواحل الأندلس، وجاء العثمانيون بحرًا إلى المنطقة، ورحب المسلمون بهذا المجيء ترحيبًا كبيرًا ما دام القتال مستعرًا بين المسلمين والنصارى.
وبدأ المغيرون يمتلكون سفنًا خاصة يغيرون بها على خصومهم، ومن هؤلاء الأخوان: عروج وخير الدين، وتقرب عروج من السلطان الحفصي فدعمه وقدم له موانئه يتخذها قواعد له، وتمكن من الانتصار على الإسبان في عدد من المعارك البحرية، واستطاع أن يسترجع ميناء بجاية من الإسبان، وهذا ما رفع من شأنه فنقل مقره من تونس إلى ميناء صغير يقع إلى الشرق من مدينة الجزائر، وطلب منه حاكم مدينة الجزائر (سالم السالمي) أن يساعده ضد الغزو النصراني الإسباني فاستجاب لطلبه وصد هجومًا نصرانيًّا على الجزائر عام 922 هـ، ثم رأى تفرق الأمراء في المغرب الأوسط وخلاف بعضهم مع بعض فقرر أن يتخلص من هؤلاء الأمراء؛ لكي يتمكن من الوقوف أمام النصارى الأسبان، فبدأ بحاكم مدينة الجزائر فأنهى حكمه وتسلم مكانه، وأصبحت مدينة الجزائر قاعدته البحرية ومركز حكمه عام 923 هـ، ثم اتجه نحو الداخل ليستولي على الإمارات القائمة هناك، وكان أكبرها إمارة بني زيان في تلمسان، وأميرها (أبو حمو) ورعيته يكرهونه؛ لأنه يمد يده إلى النصارى الأسبان، فاتصلوا بعروج فسار إليهم ودخل مدينة تلمسان، غير أن (أبو حمو) اتصل بالأسبان بعد أن فر إليهم فجاءوا بقوة إلى تلمسان وتمكنوا من دخولها، وفتكوا بحاميتها، واستطاع عروج أن يفر، غير أن الأسبان قد لاحقوه وقتلوه.
فأكمل أخوه خير الدين جهاده ضد الصليبيين الأسبان، وفي عام 936هـ أصبحت منطقة المغرب الأوسط نيابة عثمانية، وعين الخليفة العثماني خير الدين قائدًا عامًّا للأسطول العثماني؛ مكافأة لما قام به من جهود في الوقوف ضد الصليبيين وخدمة الدولة العثمانية[55].
الحملات على إفريقيا كان الاحتلال البرتغالي لبعض أجزاء إفريقيا يهدف إلى تعقب المسلمين الفارين من الأندلس بعد سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين هناك سنة 1492م، كما كان يهدف إلى تطويق العالم الإسلامي واستنزاف ثرواته وقد استعانوا في ذلك بالمملكة المسيحية في الحبشة مما أدى إلى ما يسمى بالكشوف الجغرافية التي لم تكن في حقيقتها إلا صراع دموي مع الإمارات والممالك الإسلامية في شمال القارة وشرقها وغربها، وقد باركت البابوية هذا العمل العدائي ضد المسلمين؛ ولذلك سيرت إسبانيا والبرتغال الحملات إلى إفريقيا، وتلاها في ذلك باقي الدول الأوروبية كإنجلترا وفرنسا وغيرهما بقصد القضاء على حضارة المسلمين والتحكم في المناطق الإستراتيجية بالقارة بغية السيطرة على أجزائها لضمان الحصول على المواد الخام اللازمة للثورة الصناعية التي قامت في أوروبا، ولم يحدث في التاريخ أن استنزفت موارد قارة بشرية وطبيعية لصالح أوروبا مثل ما حدث لإفريقيا، كما لم يحدث في التاريخ عن قارة قسمت إلى أشلاء ودويلات قزمية بأيدي الأوروبيين مثل ما حدث في إفريقيا عقب مؤتمر التقسيم في برلين عام 1884- 1885م[56]، الذي حضره مندوبو أربع عشرة دولة هي: النمسا والمجر وألمانيا وبلجيكا وإيطاليا وهولندا والبرتغال وروسيا وإسبانيا والسويد والنرويج وتركيا والولايات المتحدة وبريطانيا.
وبعد مناقشات بين الوفود تمت الموافقة النهائية على مواد الاحتلال الفعلي على أن تكون في فصل مستقل من المرسوم النهائي.
وهكذا تمَّ في مدينة برلين ومن دون حضور ممثلين عن الدول الإفريقية وضع أسس تقسيم القارة الإفريقية، ذلك التقسيم الذي لم يضع في الاعتبار توزيعات القبائل والعشائر، فحوَّل إفريقيا إلى وحدات قزمية صغيرة أصبحت الأساس للحدود الإفريقية الحالية[57].
المقاومة الإسلامية في مواجهة الاحتلال ساءت أحوال بلاد المغرب في العصر الحديث؛ إذ تعرَّضت بلاده للاحتلال الغربي الذي دمَّر البلاد، وسفك الدماء، وانتهك الحُرُمات، وقسَّم البلاد على النحو الذي أقره الغرب الصليبي في مؤتمر برلين، ولكن قامت حركات مقاومة إسلامية في أغلبها، وقدمت ملايين الشهداء، حتى منَّ الله على هذه البلاد بالتحرير.
ففي عام 1911م تعرضت ليبيا للغزو الإيطالي فقاد المقاومة الإسلامية الشيخ أحمد السنوسي ومعه الشيخ عمر المختار، وعاشت ليبيا مأساة محزنة في ظل الاحتلال الإيطالي حيث اتبع الإيطاليون سياسة الإبادة، وقد بلغ عدد الشهداء الليبيين خلال السنوات العشر الأولى من الاحتلال حوالي سبعين ألف شهيد، وقد عومل السكان أسوأ معاملة فألقي بكثير منهم من الطائرات، وهتكت الأعراض، كما سيق العمال والمجندون إلى الخدمة مع الجيش الإيطالي في الحبشة والصحراء الغربية.
وبعد كفاح مرير ضد الاستعمار حصلت ليبيا على استقلالها عام 1951م[58].
أمَّا تونس، فبعد مؤتمر برلين عام 1296هـ اعترفت فرنسا لإنجلترا بقبرص مقابل الاعتراف لها بتونس. وفي عام 1298 هـ ادعت فرنسا أن قبيلة تونسية قد اعتدت على بعض المواقع الفرنسية، فجهزت حملة واستولت على تونس[59].
حاربت فرنسا اللغة العربية والفكر الإسلامي وفرضت تعليم اللغة الفرنسية، كما شجعت على التنصير وقامت بقطع المعونات عن المدارس الإسلامية حتى ضعفت وقضي على معظمها، وقد فرضت فرنسا الأحكام العرفية لأكثر من عشرين عامًا[60].
وفي 8 شعبان 1375 هـ/ 20 من مارس 1956م حصلت تونس على الاستقلال بعد جهاد طويل[61].
وفي الجزائر احتل الفرنسيون ميناء سيدي فرج بالقرب من مدينة الجزائر في عام 1830م، وبعد الاحتلال لم يستجب الجزائريون للفرنسة وإن كان قد قبلها اليهود الجزائريون، فبطشت الحكومة الفرنسية بمسلمي الجزائر، وحاربت لغتهم العربية والثقافة الإسلامية، وقامت بإغلاق المدارس الإسلامية والكتاتيب، وهدم المساجد وإلغاء القضاء الشرعي والاستيلاء على أموال الأوقاف، كما أهدرت حقوق الشعب وداست مقدساته، فقد دنس جنودها المساجد ونبشوا القبور وأعدموا شيوخًا من الصالحين وغير ذلك من الفظائع[62].
فظهرت الحركات الجهادية ضد المستعمر الفرنسي، ففي عام 1248 هـ/ 1830م قاد محيي الدين الحسني انتفاضة القبائل ضد الوجود الفرنسي، وبعد سنتين تولى القيادة ابنه البطل عبد القادر الجزائري وظل يقاومهم حتى أسر عام 1261 هـ/ 1847م، وبقي أسيرًا حتى عام 1301هـ / 1883م.
وفي عام 1288هـ / 1871م قاد حركة الجهاد محمد المقراني الذي انضم إليه مائة ألف مقاتل اكتسح بهم قوات فرنسا في منطقة كبيرة من الجزائر، ودارت بينهم وبين المجاهدين 340 معركة، استشهد فيها ستون ألف جزائري، وقتل عشرون ألف فرنسي، وأعدمت فرنسا في أثنائها ستة آلاف جزائري.
وفي عام 1945م إبان احتفال الحلفاء بالانتصار على دول المحور في الحرب العالمية الثانية، خرج الجزائريون في مظاهرة يطالبون بالحرية والاستقلال، فاعتدى عليهم الجنود الفرنسيون وحدثت مذبحة رهيبة بلغ عدد شهدائها 45 ألفًا من الرجال والنساء والأطفال، ودفن بعض المثقفين أحياء، ودمرت قرى بكاملها، وحلت كل الهيئات وزجّ بأنصارها في السجون.
وفي عام 1954م قامت ثورة التحرير الجزائرية التي استشهد فيها حوالي المليون ونصف المليون شهيد[63].
وفي 3 صفر 1382 هـ/ 5 من يوليو 1962م أعلن استقلال الجزائر وقامت الدولة الجزائرية[64].
وفي المغرب احتلت إسبانيا منطقة الريف في عام 1322 هـ/ 1904م، ولكن السكان هناك قاوموا الاحتلال الإسباني، وانتصروا على المارشال (مارينا) سنة 1327 هـ/ 1909م، وفي عام 1331 هـ/ 1912م ثار السكان وأبادوا الحامية الفرنسية في فاس، وفي عام 1336 هـ/ 1917م أتم الفرنسيون احتلال مراكش، ولكن الوطنيين أوقعوا بهم هزائم كبيرة بقيادة الشيخ الهبة ابن الشيخ ماء العينيين.
وفي عام 1363 هـ/ 1944م احتل الفرنسيون أكثر وظائف الدولة، كما استولوا على أكثر مصادر الثروة وبخاصة الأراضي الزراعية؛ مما أشاع الفقر والجهل بين الشعب، هذا فضلاً عن تشجيع حركات الانحلال الخلقي بين الشباب، والقضاء على الحركات التحررية، وإثارة روح العصبية بين العرب والبربر.
ومنذ عام 1338 هـ/ 1920م قاد الأمير عبد الكريم الخطابي الجهاد ضد الأسبان، وبعد وفاته حمل راية الجهاد ابنه القاضي محمد الذي التقى عام 1339 هـ / 1921م بالأسبان وهزمهم، واعترف الأسبان بخسارة خمسة عشر ألف جندي قتيلاً و570 أسيرًا.
وفي عام 1372 هـ/ 1953م قتل أكثر من أربعة آلاف مغربي حينما أعلن حزب الاستقلال المغربي والاتحاد النقابي الإضراب العام، واعتقلت فرنسا السلطان محمد الخامس. وفي عام 1375 هـ/ 1955م عاد السلطان واستقلت المغرب (مراكش)، أما الجيوب الإسبانية كمدينة سبتة ومليلة فما زالتا تحت الاحتلال الإسباني[65].
كانت هذه هي قصة المغرب منذ دخول الإسلام إليه وحتى التحرر من الاستعمار الغربي في القرن العشرين، ونأمل أن يعود المغرب قوةً إسلامية كبيرة مرةً أخرى؛ ليضيف إلى قوة الأمة الإسلامية.
[1] محمد ضيف الله بطاينة: دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين، ص267. ود/ علي محمد الصلابي: حركة الفتح الإسلامي في الشمال الإفريقي، ص15،16. ود/ طاهر راغب: موجز تاريخ المغرب، ص33.
[2] د/ طاهر راغب: موجز تاريخ المغرب، ص4. بطاينة: دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين، ص269.
[3] ابن خلدون: كتاب العبر: الفصل الثالث في ذكر ما كان لهذا الجيل قديمًا وحديثًا من الفضائل الإنسانية والخصائص الشريفة الراقية بهم إلى مراقي العز ومعارج السلطان والملك، 6/1033.
[4] الصلابي: حركة الفتح الإسلامي، ص72.
[5] ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها: 170، 171. وابن يوسف الكندي: ولاة مصر: 33. وابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 459. والبلاذري: فتوح البلدان، 1/ 2644.
[6] الصلابي: حركة الفتح الإسلامي، ص75.
[7] د/ حسين مؤنس: فتح العرب للمغرب، ص110.
[8] د/ حسين مؤنس: معالم تاريخ المغرب والأندلس، ص37.
[9] رياض النفوس للمالكي نقلاً عن تجديد الدولة الأموية ص200.
[10] معجم البلدان (2/601).
[11] الروض المعطار ص144 نقلاً عن تجديد الدولة الأموية ص200.
[12] تقويم البلدان نقلاً عن تجديد الدولة ص200.
[13] دائرة المعارف الإسلامية (6/32).
[14] تجديد الدولة الأموية ص200.
[15] البيان المغرب (1/38).
[16] المصدر نفسه (1/38).
[17] تجديد الدولة الأموية ص203.
[18] المصدر نفسه ص203.
[19] البيان المغرب (1/20).
[20] المصدر نفسه (1/23).
[21] تاريخ ابن خلدون (4/186).
[22] مدرسة الحديث في القيروان (1/51).
[23] البيان المغرب (1/27)، ومدرسة الحديث في القيروان (1/51).
[24] مدرسة الحديث في القيروان (1/52).
[25] البيان المغرب (1/42).
[26] المصدر نفسه (1/42).
[27] اليعقوبي: تاريخه، ج2، ص324. د/ محمد ضيف الله بطاينة: دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين، ص315.
[28] تاريخ الإسكندرية وحضارتها في العصر الإسلامي ص115، 116.
[29] الإدارة في العصر الأموي ص222.
[30] التطور الاقتصادي في العصر الأموي ص240.
[31] المصدر نفسه ص240.
[32] محمود شاكر: الدولة العباسية، ج5، ص84.
[33] محمود شاكر: الدولة العباسية، ج5، ص87.
[34] محمود شاكر: الدولة العباسية،ج5، ص126.
[35] اليعقوبي: تاريخه، ج2، ص358. ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج5، ص109. د/ طقوش: تاريخ الدولة العباسية، ص95.
[36] الطبري: تاريخ الأمم والملوك، ج8، ص314. د/ طقوش: تاريخ الدولة العباسية، ص95.
[37] محمود شاكر: الدولة العباسية،ج5، ص161.
[38] د/ إبراهيم أيوب: التاريخ العباسي السياسي والحضاري، ص163.
[39] د/ مصطفى الشكعة: إسلام بلا مذاهب، ص133.
[40] محمود شاكر: الدولة العباسية،ج5، ص134.
[41] محمود شاكر: الدولة العباسية،ج5، ص160، 161.
[42] د/ مصطفى الشكعة: إسلام بلا مذاهب، ص136.
[43] محمود شاكر: الدولة العباسية،ج5، ص162.
[44] د/ حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام، ج3 ، ص169، 171.
[45] محمود شاكر: الدولة العباسية،ج5، ص164.
[46] د/ حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام، ج2 ، ص172، 174، 175، 178.
[47] د. الصلابي: الجوهر الثمين بمعرفة دولة المرابطين، ص11 ـ 16.
[48] د/ الصلابي: الجوهر الثمين بمعرفة دولة المرابطين، ص141 ـ 144.
[49] د/ الصلابي: الجوهر الثمين بمعرفة دولة المرابطين، ص227 ـ 229.
[50] محمود شاكر: العهد العثماني،ج8، ص523 ـ 526.
[51] محمود شاكر: العهد العثماني،ج8، ص510.
[52] محمود شاكر: العهد العثماني،ج8، ص511.
[53] محمود شاكر: العهد العثماني،ج8، ص512.
[54] محمود شاكر: العهد العثماني 8 / 514 ـ 517.
[55] محمود شاكر: العهد العثماني 8/ 518 - 520.
[56] د/ جمال عبد الهادي: المجتمع الإسلامي المعاصر (ب) إفريقيا، ص23.
[57] د/ عبد الله عبد الرازق: الإسلام وتحدي الاستعمار الأوروبي في إفريقيا، ص25، 26.
[58] د/ جمال عبد الهادي: المجتمع الإسلامي المعاصر (ب) إفريقيا، ص51.
[59] محمود شاكر: العهد العثماني،ج8، ص517.
[60] د/ جمال عبد الهادي: المجتمع الإسلامي المعاصر (ب) إفريقيا، ص53.
[61] محمود شاكر: التاريخ المعاصر (بلاد المغرب)،ج14، ص170.
[62] د/ جمال عبد الهادي: المجتمع الإسلامي المعاصر (ب) إفريقيا، ص55 ، 56.
[63] د/ جمال عبد الهادي: المجتمع الإسلامي المعاصر (ب) إفريقيا، ص57 ، 58.
[64] محمود شاكر: التاريخ المعاصر (بلاد المغرب)،ج14، ص295.
[65] د/ جمال عبد الهادي: المجتمع الإسلامي المعاصر(ب) إفريقيا، ص64 ، 65.
الأقليات الإسلامية في شرق أفريقيا
المسلمون في موزمبيق
في موزمبيق دخل الاستعمار البرتغالي في مطلع القرن العاشر الميلادي، واستمرَّ حتى استقلَّت في عام 1975م، وعانى المسلمون هناك من البرتغاليين أشدَّ المعاناة، وفرُّوا من تعذيبهم وبطشهم؛ إذ دمَّر البرتغاليون مدينة "كلوة" ومساجدها الثلاثمائة، ثم رحل المستعْمِر البرتغالي تاركًا المسلمين في حالة من الفقر والتخلُّف.
والمسلمون الموزمبيقيُّون يُشَكِّلُون حوالي 55% من عدد السكان، ويتركزون في مناطق الشمال التي تشهد تزايد عدد المسلمين، وبالرغم من أن الوجود الإسلامي في موزمبيق منذ العصور القديمة كان له دور بارز في محاربة المستَعْمِر وإخراجه من البلاد، إلا أنهم يعانون من الفقر والتخلُّف؛ نظرًا لعدم اهتمام الحكومة بهم، ففي الغالب لا يُوَظَّفُون في وظائف الدولة، ولا يَحْصُلُون على المميِّزات التي يَحْصُل عليها غيرهم من باقي الملل، كما يواجِهون مشكلاتٍ في التعليم والصحة وأداء الشعائر الدينية[1]. كما أنهم يعانون من النشاط التنصيري المكثَّف، الذي زاد بشدَّة بعد بناء الجامعة التنصيرية، وتخريج كثير من أبناء موزمبيق قساوسة وكهنة، مما زاد هذا من قوَّة النصارى، كما أنه لا توجد أي منظمة سياسية تدافع عن حقوق المسلمين[2].
هذه الدُّول يغلب الإسلام بين أهلها؛ ومع كثرة عدد المسلمين فيها إلا أنها تتعرَّض لمجموعة من المعوِّقات التي تجعلها في دول العالم الثالث، ومن جملة هذه المعوِّقات وجود الحملات التنصيرية بين أهلها خاصَّة في إريتريا وإثيوبيا، وانتشار الفقر والصراعات الداخلية مثل الصومال، أو المعوقات الاقتصادية وعدم استغلال الموارد الداخلية مثل جزر القمر.
غير أن هناك مجموعة أخرى من دول شرق إفريقيا المسلمون فيها أقلِّية، وهم يعانون من الحرمان وسوء المعاملة من قِبَلِ حكوماتهم، والحرب بكل ألوانها، وهذا الجدول يُوَضَّح عدد سكان هذه الدُّول ونسبة المسلمين فيها:
- كينيا .. 35 %
- أوغندا .. 35%
- زمبابوي .. 32%
- ملاوي .. 30%
- مدغشقر .. 25%
- بوروندي .. 25%
- موريشيوس .. 20% [3]
المسلمون في كينيا:
خضعت كينيا لبريطانيا عام 1895م، بعد حكم أسرة البوسعيد العُمَانية الذي استمر مدَّة ستِّين عامًا، وقد لجأ الاستعمار البريطاني لمجموعة من الحيل السِّيئة للتخلص من اللغة العربية، وذلك بكتابتها باللغة اللاتينية، لصرف المسلمين عن قرآنهم، وإلغاء مادَّة التربية الدينية في المدارس.
ويبلغ عدد المسلمين في كينيا 35%، فلهم وجود قوي حيث يُشرِفون على أكثر من 70 جمعية يضمُّها المجلس الأعلى لمسلمي كينيا.
ويوجد عدد من الجمعيات والمؤسَّسات الإسلامية الصغيرة التي يَزِيد عددها على 400 جمعية، ويوجد في نيروبي أكثر من نصف مليون مسلم؛ ففي العاصمة وحدها أكثر من 30 مسجدًا، وقد أَصْدَرت طبعاتٍ لترجمة معاني القرآن الكريم، وعددًا كبيرًا من الكتب الإسلامية باللغات السواحلية والإنجليزية، وصدرت مجلة الإسلام باللغة الإنجليزية، كما تقدَّم الأحاديث الدينية بِلُغَاتٍ متعدِّدة، وإنشاء عِدَّة معاهد لتحفيظ القرآن الكريم.
وقد ظهر في كينيا الشيخ الأمين علي المازروي الذي تأثَّر بحركات الإصلاح التي ظهرت في العالم الإسلامي، وقام بإصدار جريدتين باللغتين العربية والسواحلية، وأنشأ مدرسة عربية في مدينة شيلا، وقد تفرع عنها 40 مدرسة في كل أنحاء كينيا، وفي عام 1963م أُنْشِئت المدرسة الإسلامية في نيروبي، وهناك مشروعات إسلامية متعدِّدة في كينيا[4].
ورغم هذا يواجِهُ المسلمون في كينيا مجموعة من المشاكل أهمها: تضاؤل وزنهم السياسي وعدم لعبهم الدور الذي يتناسب مع أوضاعهم، فمجلس الوزراء لا يضمُّ إلاَّ وزيرين مسلمين للتضامن الاجتماعي والتراث، وهما منصبان ثانويان، وهي مقدِّمة جيدة تُنْهِي سنوات الاضطهاد والتمييز التي كرَّسها جميع حكام كينيا، وكان آخرهم الرئيس دانيال أرب موي.
ومع هذا فإن شرق وشمال كينيا على اتِّساعهما لا توجد فيهما جامعة إسلامية، بعكس مناطق الغرب والجنوب، ولا تختلف الأوضاع الاقتصادية عن سابقتها، فقد تعمَّدت الحكومات المتتالية تهميش مناطق المسلمين وعدم تمويل الخطط التنمويَّة بها، كي تظلَّ أسيرة الفقر والجهل والمرض، وتُصْبِح لقمة سائغة في فَمِ الكنائس والإرساليَّات التَّنصيريَّة التي تَقُوم بدورٍ متعاظمٍ في البلاد[5].
مسلموا أوغندا بين التنصير والصهيونية:
أما "أوغندا" فكانت حتى عام 1875م تَدِينُ بالإسلام دِينًا رسميًّا، وكان ملكها "موتيسا" الأول يَؤُمُّ الناس في الصلاة، وفي عام 1861م أرسل الخديو إسماعيل ضباطًا لاكتشاف منابع النيل، وقام بضمِّ "أوغندا" إلى مصر وسمَّاها مديرية خطِّ الاستواء، وكان لهذا أثر طيِّب في تثبيت العقيدة الإسلامية بين الأهالي.
لكنَّ الأمر قد ساء بقُدُوم الاستعمار البريطاني، وخروج المصريين من أوغندا عام 1886م، وقد أعلنت بريطانيا عدم دخول أي مسلم إلى أوغندا إلا بإذن مُسْبَق، في حين أنها أباحت دخول الإرساليات إليها، وعهدت إلى الإرساليات التنصيرية بالإشراف على التعليم؛ لقطع الصِّلَة بين مُسْلِمِي أوغندا والثقافة الإسلامية.
ولما اسْتَقَلَّت أوغندا عام 1962م من بريطانيا، أَخَذ عدد المسلمين في التزايد خاصَّة بعد تولِّي رئيس مسلِمٌ هو "عيدي أمين" وذلك في عام 1970م؛ فقد حوَّل المدارس التبشيريَّة إلى مدارس حكومية، وأغلق سفارة إسرائيل بأوغندا، وأخرج الإرساليات التنصيرية من البلاد.
وكانت الطامَّة الكبرى حينما افتعلت تنزانيا خلافًا مع أوغندا، وعاونت القوى العالميةُ تنزانيا برئاسة القس نيريري المتعصِّب في حربه مع عيدي أمين، فقام نيريري بقتل أكثر من نصف مليون مسلم، وشرَّد مثلهم، وأَسْقَطَ نظام عيدي أمين في عام 1979م، وأسرعت الإرساليات التنصيرية في عملها إلى القرى المهجَّرة، وجاء "يوسف لولي" بعد عيدي أمين، وكانت حكومته مكوَّنة من 50 وزيرًا، لا يوجد من بينهم وزير ولا وكيل وزارة مسلم.
ويُعاني المسلمون من قلَّة الدُّعَاة والمعلِّمِين في أوغندا، في حين تبلغ نسبة المسلمين هناك 35% من السكان، ومع هذا فَهُم محرومون من الحقوق السياسية، فالبرلمان لا يوجد به سوى ثمانية نواب من بين 121 عضوًا، وقد أُعلن في كمبالا عن تأسيس أوَّل حزب إسلامي أوغندي، لكنَّ الحكومة رفضت تسجيله حين إقرار الدستور الجديد[6].
غربة المسلمين في مالاوي:
أما "ملاَّوي" فقد وصل الأسكتلندي "ولفنجستون" إلى غرب بحيرة "نياسا" في عام 1859م، وعَبَّرَ أحد قادة بريطانيا في المنطقة وهو "رودس" عن أهمية "ملاوي" بوصفِهِ لها أنها بمنزلة قناة السويس للشمال؛ لأنها المفتاح الذي يفتح الطريق أمام إنجلترا شمالاً.
وفي عام 1891م أعلنت بريطانيا حمايتها على المنطقة التي سُمِّيَت بعد ذلك باسم وسط إفريقيا البريطانية[7]، وكان أوَّل مُنَصِّر وصل إلى "ملاَّوي" في عام 1859م، وتأسَّس أوَّل مَقَرٍّ لبعثة تنصيريَّة بعد عامين، وتبلغ نسبة المسلمين في ملاَّوي حوالي 30% من السكان.
وقد استَقَلَّت ملاوي عن بريطانيا عام 1966م، وأغلب المساجد هناك أَنْشَأها الهنود والباكستانيُّون، كما أَنْشئوا بعض المدارس الإسلامية لتحفيظ القرآن الكريم، وتعليم اللُّغة العربية.
وتَنْتَشِر في ملاوي المدارس التبشيرية التي تهدف في المقام الأوَّل إلى تشويه العقيدة الإسلامية عند المسلمين، ورغم الجهود المتواصِلَة من التنصيريِّين إلا أن الدعوة الإسلامية تنتشر بين القبائل الوثنية بشَكْلٍ واضح؛ بسبب بناء بعض المساجد في المناطق المتفاوِتَة، كما أن النساء العاملات في حقل الدعوة قد حقَّقْنَ نتائج طيبة بين النساء الوثنيَّات، وممَّا يَنْدَى له الجبين أن مَرَضَ الإيدز ينتشر في ملاوي بشكل مفجِع، فقد جاء في تصريح لنائب رئيس ملاوي نشرته جريدة الأهرام في 10/8/1994م أنه يُصاب كلُّ يوم في ملاوي بالإيدز ما يقرب من 443 إنسان!![8].
وطبقًا لتقرير العمل الإنساني لعام 2007 الصادر عن اليونيسيف فإن نسبة السكان الحاملين لفيروس نقص المناعة البشرية في ملاوي يبلغ 14%، في حين يبلغ عدد الأطفال اليتامى مليون طفل، نصفهم تيتّموا بسبب الإيدز[9].
وقد أظهرت الإحصاءات في مجال التعليم حديثًا أن من بين خمسة آلاف طالب جامعي هناك 65 طالبًا مسلمًا من بينهم طالبتان فقط، وقليل من الفتيات المسلمات اللاتي يُكْمِلْن تعليمهن الابتدائي، ومن بين سبعين ألف مُعَلِّم ملاوي هناك سبعمائة مُعَلِّم مُسْلِمٍ، أي بنسبة 1% ولا يوجد معهد إسلامي عالٍ في البلاد لتخريج طلاب مسلمين للمناصب الوظيفية، أو لمواصلة دراساتهم خارج البلاد[10].
الاحتلال الفرنسي في مدغشقر:
أما "مدغشقر" فلقد ازدهر الإسلام فيها بواسطة أسرة البوسعيد العُمَانيَّة، وفي عام 1868م استطاعت فرنسا أن تدخل الجزيرة التي كانت تُسَمَّى (ملاجاش) قبل الاستقلال، ثم أعلنت فرنسا استعمارها لمدغشقر في عام 1896م، وشجَّعت البعثات التنصيرية، وفرضت العزلة على المسلمين، وقد كان للمسلمين -البالغة نسبتهم ما يقرب من 25% من إجمالي السكان- دورٌ كبير في الجهاد ضدَّ الفرنسيين، فقاموا بعِدَّة ثورات ضدَّ الفرنسيين كان آخرها عام 1948م[11].
ويعاني المسلمون مشكلة في التعليم؛ لعدم توافُرِ مَن يتحدث العربية والفرنسية التي هي لغة السكان الأولى[12]، وقد استطاعت هيئة الإغاثة والمساعدات الإنسانية الحصولَ على تأسيس إذاعة إسلامية؛ حتى يتمكَّن المسلمون في مدغشقر من الاستماع إليها، وقد عبَّر 3.5 مليون مسلم يعيشون في بلد يبلغ تَعْدَاد سكانه 17 مليونًا عن عُمْقِ فرحهم بتأسيس الإذاعة بفرح كبير؛ لأنها ستساهم في تطوير حياتهم الثقافية[13].
وفي "موريشيوس" أقلِّية مُسلِمَة لا يُستهان بها تبلغ 20% من مجموع السكان البالغ عددهم مليون نسمة تقريبًا، ويَصِلُ عدد المساجد هناك إلى 200 مسجد، كما أُقِيمت فيها عدَّة مراكز إسلامية أهمُّها مركز رابطة العالم الإسلامي، ولقد أُقِيم قبل عشرين عامًا، ودار العلوم، والمعهد الإسلامي التعليمي والتدريبي لمُعَلِّمي المدارس الإسلامية، أما الحلقة الإسلامية فهي أقدم منظمة إسلامية في موريشيوس وأُنشئت في عام 1988م تحت اسم دار القرآن، وهناك خمسة معاهد لتحفيظ القرآن، وتقوم هذه المعاهد وكذلك المدارس والمساجد كلٌّ حسب دوره بعمليَّات التوعية بالإسلام.
ولقد بدأ اهتمام المسلمين باللغة العربية في أوائل السبعينيات، ويَجْرِي تدريسها حاليًّا في مدارس الحكومة، لكن قلَّة الإمكانات تَحُولُ حتى الآن من التوسُّع في تعليمها على نطاق أكبر، ويُقْبِلُ المسلمون في موريشيوس على التعليم أكثر من غيرهم، وتوجد لهم بعض المدارس والمعاهد الخاصَّة بهم؛ منها: مدرسة إمداد الإسلام، والمدرسة الإسلامية العالية (تأسَّست سنة 1375هـ)، وكلية الثقافة الإسلامية (تأسَّست سنة 1374هـ/ 1953م) كما توجد ثلاث مدارس ابتدائية، ومدرسة متوسطة، وخمسة معاهد لتحفيظ القرآن الكريم، والمسلمون هناك ينتظرون دعم المسلمين لهم في كل المجالات[14].
هذه هي قصة الإسلام في شرق إفريقيا، والتي تدلُّ دلالة واضحة على أن الإسلام يكتسب كلَّ يومٍ أرضًا جديدة، وأنه بحقٍّ دِينُ المستقبل لهذا القارَّة، التي تصل نسبة المسلمين فيها الآن إلى 60% من إجماليِّ عدد سكانها.
[1] انظر صحيفة التجديد.
[2] جمال عبد الهادي، علي لبن: المجتمع الإسلامي المعاصر (ب) إفريقيا ص150، 151 بتصرف.
[3] راجع: أطلس دول العالم الإسلامي للدكتور شوقي أبو خليل، طبعة دار الفكر العربي، بيروت 2001م.
[4] جمال عبد الهادي، علي لبن: المجتمع الإسلامي المعاصر (ب) إفريقيا ص140، 141 بتصرف.
[5] انظر موقع الإسلام اليوم
[6] جمال عبد الهادي، علي لبن: المجتمع الإسلامي المعاصر (ب) إفريقيا ص144-148 بتصرف واختصار.
[7] عبد الله عبد الرازق إبراهيم: موسوعة التاريخ والسياسة في إفريقيا ص606 بتصرف.
[8] جريدة الأهرام: 10/8/1994م.
[9] موقع يونيسف.
[10] انظر جريدة الرياض السعودية
[11] جمال عبد الهادي، علي لبن: المجتمع الإسلامي المعاصر (ب) إفريقيا ص155.
[12] انظر موقع الاثنينية
[13] المصدر السابق نفسه.
[14] انظر جريدة الرياض