الصحابة -متجدد

angegardienretour

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
23 أكتوبر 2016
المشاركات
1,505
نقاط التفاعل
1,028
النقاط
71
محل الإقامة
الجزائر العاصمة
الجنس
أنثى
السلام عليكم

الصحابة .. خير الناس، علم الله ما في قلوبهم من الصدق والوفاء والسمع والطاعة؛ فاصطفاهم لصحبة رسوله الأمين، فحملوا سنته، وعزروه ونصروه، ولم ينزعوا يدًا من طاعته، فوعدهم الرحمة الواسعة.

عبد الله بن سعد بن أبي السرح
مما لا شك فيه أن الصحابي الجليل عبد الله بن سعد بن أبي السرح كان بطلًا من أبطال الإسلام الأوائل، وقائدًا فذًا من القادة المعدودين؛ فقد شارك المسلمين في فتح الشام، وأظهر بينهم مقدرةً عسكرية فائقة، وأسهم في نشر الدين الحنيف في ربوعها. ولما تجهزت جيوش عمرو بن العاص لفتح مصر لحق بها، ووضع بين يدي قائده ابن العاص كل إمكاناته العسكرية، فاستفاد عمرو من خبرته وعينه قائدًا على ميمنة جيشه. وقد ربط ابن أبي سرح فتوحه بكشوفه لعوالم لم يعرفها المسلمون قبله. فكان رحَّالةً غازيًا إلى جانب قيادته للجيوش. أظهر براعته وقيادته في تغلغله بلاد النوبة وفي مجاهل ليبيا والمناطق النائية في الشمال الإفريقي، فضلًا عن جهاده البحري، وانتصاره في عرض البحر لفتح قبرص، وبراعته في معركة ذات الصواري.

نسب عبدالله بن أبي السرح وأسرته
هو الأمير قائد الجيوش أبو يحيى عبد الله بن سعد بن أبي السرح بن الحارث بن حبيب بن جذيمة بن مالك بن حسْل بن عامر بن لُؤي القرشي العامري. أمه مَهَانَةُ بنت جابر من الأشعريين. وَلَدَ عبدُ الله بن سعد: محمدًا، وأُمُّه بنت حمزة بن السرح بن عبد كلال، وعياضًا لأم ولد، وأُمُّ كلثوم وأمها مِنْ حِمْيَر، ورَمْلةَ وأمها أم سعيد بنت نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأُمَّ جَمِيل، ودعدَ، وأمَّ الفضل، وأُمَّ عَمْرو، لأمهات أولاد.

وقال الذهبي: "هو أخو عثمان من الرضاعة، له صحبة ورواية حديث. روى عنه الهيثم بن شَفِيٍّ. ولي مصر لعثمان، وقيل: شهد صفين، والظاهر أنه اعتزل الفتنة، وانزوى إلى الرملة".
وكان ابن أبي سرح فارس بني عامر بن لؤي معدودا فيهم، وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش، وكان مجاب الدعوة [1].

إسلام عبد الله بن سعد بن أبي السرح
أسلم عبد الله بن سعد بن أبي السرح قبل فتح مكة، وهاجر إلى المدينة، ولما كان يحسن القراءة والكتابة فقد غدا أحد كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه كان يغيِّر مما كان يمليه عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فربما أملى عليه رسول الله، صَلَّى الله عليه وسلم: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فكتب: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فيقرأه رسول الله، صَلَّى الله عليه وسلم، فيقول: "كذلك الله"، ويقرّه. فافتتن عبد الله بن سعد وقال: ما يدري محمد ما يقول، إني لأكتب له ما شئت هذا الذي كتبت يوحى إليّ كما يوحى إلى محمد، وخرج هاربًا من المدينة إلى مكة مرتدًا، فأهدَر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دمه يوم الفتح.
فجاء إلى عثمان بن عفان، وكان أخاه في الرضاعة، فقال: يا أخي، إني والله قد اخترتك على غيرك، فاحبِسني ها هنا، واذْهَبْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكلّمه فيّ، فإن محمدًا إن رآني ضَرَبَ الذي فيه عيناي، إِن جُرْمي أعظم الجُرم، وقد جئتك تائبًا. فقال عثمان: بل اذهب معي. فقال عبد الله: والله لئن رآني ليضرَبنّ عنقي ولا يناظرني، قد أهدر دمي، وأصحابه يطلبونني في كل موضع. فقال عثمان: انطلق معي فلا يقتلك إن شاء الله. فلم يُرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا بعثمان آخذ بيد عبد الله بن سعد بن أبي سرح واقِفَيْن بين يديه.
فأقبل عثمان على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أمه كانت تحملني وتمشيه، وكانت ترضعني وتفطمه، وكانت تلطفني وتتركه، فَهَبْهُ لي. فأعرضَ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل عثمان كلما أعرَضَ النبي صلى الله عليه وسلم عنه بوجهه استقبله، فيعيد عليه هذا الكلام، وإنما أعرَضَ عنه النبي صلى الله عليه وسلم، إرادة أن يقوم رجل فيضرب عنقه لأنه لم يؤمِّنه، فلما رأى أن لا يقوم أحد، وعثمان قد أكبّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقبِّل رأسه، وهو يقول: يا رسول الله تبايعه فداك أبي وأمي. فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟" فقالوا ما ندري يارسول الله ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينك ؟ قال: "إه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين"، فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام.
وجعل عبد الله بن سعد بعد ذلك كلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفر منه. فقال عثمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي، لو ترى ابن أم عبد الله يفر منك كلما رآك. فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "أو لم أبايعه وأؤمنه؟" فقال: بلى، أَيْ رسول الله، ولكنه يتذكر عظيم جُرمه في الإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله". فرجع عثمان إلى عبد الله بن سعد فأخبره، فكان يأتي فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس بعد ذلك [2]، وحَسُنَ إسلامه، ولم يظهر منه بعد ذلك ما يُنْكَرُ عليه، وغدا أحد العقلاء الكرماء من قريش.

والي مصر لعثمان بن عفان [*]
كان والي مصر في خلافة عمر بن الخطاب هو عمرو بن العاص الذي حكمها ما يقرب من أربع سنوات. وتوفي عمر وهو وال عليها، وقد أقره عثمان بن عفان في بداية خلافته فترة من الوقت, وكان يساعده في عمله في بعض نواحي مصر عبد الله بن أبي السرح الذي كان مصاحبا لعمرو بن العاص منذ أيام فتوحه في فلسطين؛ حيث كان من ضمن قواده واشترك معه في فتوح مصر. وقد عينه عمر على بعض صعيد مصر بعد فتحها, ويبدو أن عمرو بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي السرح حدث بينهما خلاف في وجهات النظر، فوفد عمرو بن العاص على عثمان بعد مبايعته بالخلافة، وطلب منه عزل عبد الله بن سعد عن ولاية الصعيد، فرفض عثمان ذلك, وذكر له أن عمر هو الذي ولى ابن أبي السرح، وأنه لم يأت بما يوجب العزل، فأصر عمرو على عزله، وأصر عثمان على عدم موافقته، ونتيجة لإصرار كل من الطرفين على رأيه، رأى عثمان أن من الأصلح عزل عمرو عن مصر وتولية عبد الله بن أبي السرح مكانه، وهذا ما حدث بالفعل.
وفي هذه الظروف قام الروم بالإغارة على الإسكندرية والاستيلاء عليها وقتلوا جميع من فيها من المسلمين، فرأى أمير المؤمنين تعيين عمرو بن العاص على جيوش مصر لفتح الإسكندرية من جديد والقضاء على جيش الروم، وتم ذلك فعلا. ثم إن عثمان أراد أن يعيد عمرو على ولاية أجناد مصر وحربها, وأن يجعل عبد الله بن سعد على الخراج، إلا أن عمرو رفض ذلك. وبعد عزل عمرو بن العاص عن مصر مرة أخرى أو عن ولاية الإسكندرية على أرجح الآراء، وبعد رفضه ما اقترحه عثمان رضي الله عنه من ولايته على الأجناد وولاية ابن أبي السرح على الخراج، أقر عثمان عبد الله بن أبي السرح مرة أخرى على مصر، وأصبح هو الوالي الرسمي لمصر، والمدير الفعلي لولاية مصر بأجنادها وخراجها ومختلف شئونها، وذلك سنة 25هـ.
ويبدو أن عبد الله بن سعد تمكن من ضبط خراج مصر حتى زاد ما كان يجمعه من الخراج على ما كان يجمعه عمرو بن العاص قبله، ولعل مرد ذلك إلى اتباع عبد الله بن سعد لسياسة جديدة في المصروفات اختلفت عن سياسة عمرو، وبالتالي زادت أموال الخراج المتوافرة في مصر.
وقد كانت ولاية عبد الله بن سعد على مصر محمودة على العموم لدى المصريين ولم يروا منه ما يكرهون، يقول عنه المقريزي: "ومكث أميرا مدة ولاية عثمان رضي الله عنه كلها محمودا في ولايته".
وقال فيه الذهبي: ولم يتعد ولا فعل ما ينقم عليه، وكان أحد عقلاء الرجال وأجوادهم. وقد كانت ولاية مصر في أول أمرها هادئة مستقرة إلى أن تمكن مثيرو الفتنة من أمثال عبد الله بن سبأ من الوصول إليها وإثارة الناس فيها، فكان لهم وللمتأثرين بهم دور كبير في مقتل عثمان رضي الله عنه، كما أن الأحوال في مصر نفسها اضطربت نتيجة طرد الوالي الشرعي لها واستيلاء أقوام آخرين على الأمور بطريقة غير شرعية، وقد تمكنوا خلال تلك الفترة من بث الكراهية في قلوب الناس لخليفتهم عثمان نتيجة مكائد قاموا بها وأكاذيب لفقوها ونشروها [3].
وقال ابن يونس في تاريخه عن ابن أبي السرح: "شهد فتح مصر، واختط بها، وكان صاحب الميمنة في الحرب مع عمرو بن العاص في فتح مصر، وله مواقف محمودة في الفتوح ..". وذكره ابن سعد في تسمية من نزل مصر من الصحابة وقال: "هو أحد النّجباء العقلاء الكرماء من قريش ..".
صفوة القول إن حكم عبد الله بن سعد بن أبي السرح في مصر كان امتدادا لحكم عمرو بن العاص من حيث الاهتمام بالرعية، ورغم صمت المصادر عن ذكر الإنجازات الداخلية لابن أبي السرح في مصر إلا أننا ندرك مما ذكره ابن تغري بردي عن منسوب النيل في جميع السنين التي حكمها ابن أبي السرح اهتمام الأخير بالنيل والزراعة حتي أنه كان يرصد مقاييس النيل سنة بسنة، وذلك إدراكًا منه لأهمية النيل في حياة مصر، فكما كان يرسل الحملات من مصر فإنه كان يهتم كذلك براحة الرعية والحكم الرشيد الذي يوطد دولة الإسلام في قلوب الناس قبل أن يوطدها علي الأرض.

فاتح بلاد النوبة
كان من أهم أعمال عبد الله بن سعد بن أبي السرح غزوه لبلاد النوبة وتسمى غزوة الأساودة أو غزوة الحبشة عند بعض المؤرخين، وقد وقعت هذه الغزوة سنة 311هـ، فقد كان عمرو بن العاص قد شرع في فتح بلاد النوبة بإذن من الخليفة عمر، فوجد حربا لم يتدرب عليها المسلمون وهي الرمي بالنبال في أعين المحاربين حتى فقدوا مائة وخمسين عينا في أول معركة، ولهذا قبل الجيش الصلح, ولكن عمرو بن العاص رفض؛ للوصول إلى شروط أفضل، وعندما تولى عبد الله بن سعد ولاية مصر غزا النوبة في عام 31هـ فقاتله الأساود من أهل النوبة قتالا شديدا، فأصيبت يومئذ عيون كثيرة من المسلمين، منها عين معاوية بن حديج رضي الله عنه، فقال الشاعر يومئذ:

لَمْ تَرَ عَيْنِي مِثْلَ يَوْمِ دَمْقَلَه *** الْخَيْلُ تعدو بالدروع مُثْقَلَهْ

فسأل أهل النوبة عبد الله بن سعد المهادنة، فهادنهم هدنة بقيت إلى ستة قرون، وعقد لهم عقدا يضمن لهم استقلال بلادهم ويحقق للمسلمين الاطمئنان إلى حدودهم الجنوبية، ويفتح النوبة للتجارة والحصول على عدد من الرقيق في خدمة الدولة الإسلامية، وقد اختلط المسلمون بالنوبة والبجة، واعتنق كثير منهم الإسلام [4]. ويعتبر عبد الله بن سعد بحق أول قائد مسلم تمكن من اقتحام النوبة، وقاتل أهلها وفرض عليهم الجزية، واستقرت الحال على ذلك في أيامه بين أهل النوبة والمسلمين.

فاتح إفريقية
وقد قام عبد الله بن سعد أثناء ولايته على مصر بالجهاد في عدة مواقع، فكانت له فتوح مختلفة لها شأن عظيم، فكان من غزواته غزوة إفريقية سنة 27هـ وفتوحه فيها, فقد وجَّه الخليفة عثمان بن عفان عامله على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى شمالي إفريقيا وقال له: "إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكَ غَدًا إِفْرِيقِيَّةَ، فَلَكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ نَفْلا"، فتقدم عبد الله بن سعد نحو إفريقية وقتل ملكها جرجير، وكان يصاحبه في تلك الغزوات مجموعة من الصحابة، منهم: عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيرهم، وانتهت الغزوة بصلح مع بطريرك أفريقيا على تأدية الجزية للمسلمين. وقد عاد ابن أبي السرح إلى أفريقية مرة أخرى ووطد فيها الإسلام وذلك في سنة 33هـ [5].
وإن فتح إفريقيا يضيف نقطة بيضاء في سجل الفتح والجهاد الذي خطه بن ابي السرح، فها هو يفتح للمسلمين مجاهل لم يكن يعرفونها ويضعهم علي نقطة انطلاق في أرض البربر الواسعة الممتدة حتي المحيط والسوس الأقصي، وبذلك يسجل مساهمة حقيقية في نشر وتوطين الإسلام في الشمال الإفريقي كله، ويفتح الطريق لمن يأتي بعده لمواصلة الفتوحات.

فتح قبرص
ففي سنة 28هـ ركب معاوية بن أبي سفيان والي الشام للخليفة عثمان البحر من ميناء عكا إلى قبرص في جيش كثيف، ولحق به من الجانب الآخر عبد الله بن سعد بن أبي السرح، فالتقيا على أهلها فقتلوا خلقا كثيرا وسبوا سبايا كثيرة وغنموا مالا جزيلا جيدا، ولما جيء بالأسارى جعل أبو الدرداء يبكي، فقال له جبير بن نفير: أتبكي وهذا يوم أعزّ الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك! إن هذه كانت أمة قاهرة لهم مُلك، فلما ضيعوا أمر الله صيرهم إلى ما ترى، سلط عليهم السبي، وإذا سلط على قوم السبي فليس لله فيه حاجة، وقال: ما أهون العباد على الله تعالى إذا تركوا أمره. ثم صالحهم معاوية على سبعة آلاف دينار في كل سنة وهادنهم [6].
وهذه الغزوة تحمل منقبة عظيمة لمعاوية وعبد الله بن سعد بن أبي السرح رضي الله عنهما، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجيش: "أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا". قالت أم حرام بنت ملحان: قلت يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال: "أنت فيهم". وقد استشهدت أم حرام في تلك الغزوة [7].

قائد معركة ذات الصواري
هنا تكمن احدي الإنجازات العظيمة في الفتح الإسلامي التي تحسب لعبد الله بن سعد بن أبي السرح، فالمصادر تذكر عموما عن إنجازاته أنه ولي مصر وغزا فيها ثلاث غزوات كلهن لها شأن: إفريقية والأساود ويوم ذي الصواري.
لقد كان من أهم أعمال عبد الله بن سعد بن أبي سرح العسكرية غزوة ذات الصواري سنة 35هـ/6555م، وقد انتصر فيها المسلمون على الروم بقيادة قسطنطين بن هرقل، الذي جاء بألف سفينة لضرب المسلمين ضربة يثأر لها لخسارته المتوالية في البر، فأذن عثمان رضي الله عنه لصد العدوان، فأرسل معاوية مراكب الشام بقيادة بسر بن أرطأة، واجتمع مع عبد الله بن سعد بن أبي السرح في مراكب مصر، وكانت كلها تحت إمرته، ومجموعها مائتا سفينة فقط، وسار هذا الجيش الإسلامي وفيه أشجع المجاهدين المسلمين. حيث كانت ذات الصواري أول معركة حاسمة في البحر خاضها المسلمون، أظهر فيها الأسطول الفتيُّ الصبر والإيمان، والجَلَد والفكر السليم بما تفتَّق عنه الذهن الإسلامي من خطة جعلت المعركة صعبة على أعدائهم، فاستحال عليهم اختراق صفوف المسلمين بسهولة، وحوَّل العرب قتال البحر إلى قتال برٍّ، وربطوا السفن العربية بالسفن البيزنطية.
وصفَّ عبد الله بن سعد المسلمين على نواحي السفن، وجعل يأمرهم بقراءة القرآن الكريم والصبر، فوثب الرجال على الرجال يتضاربون بالسيوف على ظهر السفن، فدارت الدائرة على الروم، وانهزم فيها الإمبراطور قسطنطين الثاني، الذي حضر بنفسه المعركة، وفرَّ يطلب النجاة. سُمِّيتْ هذه المعركة بذات الصواري لكثرة صواري السفن التي شاركت فيها من الطرفين، وقد عدَّ المؤرخون هذه المعركة يرموكًا ثانية. حيث انتصر المسلمون وأصبح البحر المتوسط بحيرة إسلامية، وصار الأسطول الإسلامي سيد مياه البحر المتوسط [8].

عبد الله بن سعد والفتنة الكبرى
أخذ عبد الله بن سبأ يؤلِّبُ الناس على الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعلى ولاته في مصر والبصرة والكوفة، واختلف الناس عليه، وتكلم فيه من تكلم، وقالوا: آثرَ الغرباء، وخَمَسَ الخُمُسَ، وآوى الحَكَمَ بن العاص وعبد الله بن سعد طريدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل الخليفة عثمان إلى معاوية وعبد الله وغيرهما ليشاورهم في الأمر، وما طُلِب منه وما بلغه عنهم. فسارع عبد الله إلى المدينة يريد نصرة الخليفة، وعند عودته منعه المصريون الثائرون بقيادة محمد بن أبي حذيفة من دخول مصر، وكان على تخوم مصر حين علم بمقتل الخليفة عثمان، ولما وقعت الفتنة بمقتل عثمان رضي الله عنه اعتزلها عبد الله بن سعد وسكن عسقلان، أو الرملة في فلسطين.
وفاته رضي الله عنه
روى البغوي بإسناد صحيح عن يزيد بن أبي حبيب قال: خرج ابن أبي السرح إلى الرملة بفلسطين، فلما كان عند الصبح قال: اللهم اجعل آخر عملي الصبح، فتوضأ ثم صلى، فقرأ في الركعة الأولى بأم القرآن والعاديات، وفي الثانية بأم القرآن وسورة، ثم سلم عن يمينه ثم ذهب يسلم عن يساره فقبض الله روحه رضي الله عنه، وكان ذلك سنة 36 أو 37هـ / 657م [9].



[1] ابن سعد: الطبقات الكبرى، متمم الصحابة، ص447. الهبي: سير أعلام النبلاء، 3/ 33. ابن عبد البر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 3: 918. الفاسي: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، 2/ 196.
[2] أبو داوود: السنن، (4359)، 2/ 532. ابن سعد: الطبقات الكبرى، ص448 – 339.
[*] علي الصلابي: تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه - شخصيته وعصره، الناشر: دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة – مصر، الطبعة: الأولى، 1423 هـ / 2002م.
[3] انظر: تاريخ ابن يونس، ص269. الاستيعاب، 3/ 918. فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، ص77. تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص418. الولاية على البلدان، 1/ 180. الخطط للمقريزي، 1/ 299. سير أعلام النبلاء للذهبي3/ 33 – 34. الولاية على البلدان، 1/ 178، 179، 186. النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي، 1/ 77. ولاة مصر للكندي، ص33, فتوح مصر وأخبارها، ص173. فتوح البلدان، ص217.
[4] تاريخ ابن أبي زرعة، ص186.الخلافة والخلفاء الراشدون، ص229. قادة الفتح لبلاد المغرب، 1/ 61 – 63.
[5] فتوح مصر وأخبارها، ص183، الولاية على البلدان، 1/ 180. النجوم الزاهرة، 1/ 80.
[6] ابن كثير: البداية والنهاية، 7/ 153.
[7] البخاري: الصحيح، رقم (2636، 2766).
[8] انظر التفاصيل، علي الصلابي: تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان، ص204 – 205.
[9] الاستيعاب، 3/ 930. الفاسي: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، 2/ 196. مخلوف: شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، 2/ 107.
 
السلام عليكم

حبيب بن مسلمة .. قاهر الروم وفاتح أرمينية
حبيب بن مسلمة الفهري القرشي، له صحبة، وهو أحد كبار قادة الفتوح في صدر الإسلام، وكان يقال له حبيب الدروب، وحبيب الروم؛ لكثرة دخوله عليهم ونيله منهم، وكان ممن شارك في فتوحات الشام، وهو فاتح بلاد أرمينية.

نسب حبيب بن مسلمة
هو حبيب بن مسلمة بن مالك الأكبر بن وهب بن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر بن مالك بن النضر القرشي الفهري، يكنى أبا عبد الرحمن، وقيل أبا مسلمة.

مولد حبيب بن مسلمة ونشأته
ذكر في أُسد الغابة، أن حبيب بن مسلمة كان له من العمر لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، اثنتا عشرة سنة. وقد كانت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، في صفر من سنة 11هـ، ولذا فيكون مولد حبيب قبل الهجرة بسنتين، فهو مكي المولد إسلامي النشأة.

صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم
وقد اختلفوا في: هل كانت له صحبة أم لا؟، وأكثرهم يقول كان له صحبة، إلا أنه لم يغز مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية لابن عساكر، عن ابن أبي مليكة عن حبيب بن مسلمة الفهري، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأدركه أبوه، فقال: يا نبي الله يدي ورجلي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجع معه فإنه يوشك أن يهلك" [1]، فهلك أبوه في تلك السنة. وروي أن حبيب بن مسلمة قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نَفَل الثلث [2].

وفي رواية له أيضًا، أنه رجع إلى المدينة وغزا مع النبي آخر غزوة، وهي غزوة تبوك، وهذه الرواية تؤيد قول من قال: إن له صحبة. وقد كان حبيب من أشرف قريش، كما في رواية الزبير بن بكار، ذكرها في أسد الغابة. بل كان من شجعانهم وسراتهم ورافعي راية مجدهم، وهو كما قيل عنه من طبقة خالد بن الوليد، وأبي عبيدة، في الشجاعة والإقدام والأثر الجميل في الفتح، ذلك لأنه شب منذ نعومة الأظفار على الحرب، وألِف من صغره الطعن والضرب، فقضى معظم أيام حياته في الحروب. فكان له في تشييد دعائم الإسلام في البلاد القاصية، والممالك النائية، جهاد طويل، وعمل في الفتح جليل، لاسيما في الجزيرة وأرمينية والقوقاز.

ومما يدل أنه نشأ منذ صغر سنه على الحرب، ما رواه ابن عساكر أن حبيب بن مسلمة ذهب في خلافة أبي بكر الصديقإلى الشام للجهاد، فكان على كردوس من الكراديس في اليرموك. لذا لما أدمن الحرب من صغر سنه، نشأ قائدًا محنكًا من أعاظم قواد الفتح في عصره.

فتوحات حبيب بن مسلمة
اختلف الرواة هل ولىَّ عمر بن الخطاب حبيب بن مسلمة في خلافته أم لا؟، والأرجح أن حبيب بن مسلمة دخل دمشق مع القائد الفاتح أبي عبيدة عـامر بن الجـراح وشارك في فتح قنسرين وحلب تحت قيادة أبي عبيدة. ثم وجه أبو عبيدة بن الجراح حبيب إلى أنطاكية مع عياض بن غنم ففتحاها على الصلح الأول، وكان أهلها قد نقضوا شروط صلحهم، ومن أنطاكية سار ابن مسلمة إلى الجرجومة في جبل اللكام، وكان يقال لهم الجراجمة، فافتتحها صلحًا على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين في جبل اللكام وألا يؤخذوا بالجزية.

وفي سنة 22هـ أرسل الخليفة عمر ابن الخطاب حبيب بن مسلمة مددًا لسراقة بن عمرو، فاشترك معه في فتح الباب (مدينة على بحر الخزر) وبعد مفاوضات سُلِّمت المدينة على شرط إسقاط الجزية عن أهلها الذين يناصرون المسلمين في حربهم ضد أعدائهم، أما من استغنى عنه منهم وقعد فعليه دفع الجزية. ووجه سراقة بعد ذلك حبيب بن مسلمة إلى تفليس (مدينة من ولاية أرمينية) ولكن سراقة توفي قبل أن يتم فتحها.

ثم لما سار عياض بن غنم إلى فتح الجزيرة، كان حبيب في جملة قواده، ففتح سميساط وقرغيزيا وقرى حولها، ثم فتح شمشاط وملطية وغيرها، ثم سار إلى أرمينيا بأمر عمر، ففتح منها ما فتح، وذلك الفتح الأول الذي انتفضت بعده، وقصدها مرة ثانية على عهد عثمان.

وعندما جمع الخليفة عثمان بن عفان (23 - 35هـ) لمعاوية الشام والجزيرة، غدت مسائل الحدود تعالج بنشاط أكبر، فأرسل معاوية بناء على أمر من عثمان حبيب بن مسلمة في ستة آلاف ويقال في ثمانية آلاف من أهل الشام والجزيرة إلى أرمينية، فاستولى على قليقلا، عاصمة أرمينية البيزنطية "تيودوبولس" وجلا كثير من أهلها إلى بلاد الروم، فأقام بها حبيب ومن معه أشهرًا.

فلما وجَّه بطريق بند أرمنياكس جيشًا كبيرًا انضم إليه أهل اللان والخزر، كتب حبيب إلى عثمان يستمده، فكتب عثمان إلى معاوية يسأله أن يشخص إليه من أهل الشام والجزيرة قومًا ممن يرغب منهم في الجهاد، فأرسل إليه معاوية ألفي رجل أسكنهم قليقلا وأقطعهم بها القطائع، وجعلهم مرابطة بها، كما أرسل عثمان إلى سعيد بن العاص واليه على الكوفة (30 - 35هـ) يأمره بإمداد حبيب بن مسلمة، فوجه سعيد سلمان بن ربيعة الباهلي في ستة آلاف من أهل الكوفة، ولكن سلمان وصل وقد فرغ المسلمون من عدوِّهم.

بعد أن استولى حبيب على قليقلا، جرت بينه وبين الروم البيزنطيين على أرض أرمينية معارك عديدة، انتهت بسيطرة العرب على أرمينية البيزنطية، ثم تابع حبيب زحفه على القسم الفارسي حتى بلغ دبيل (دفين Dwin)، وأتم حبيب فتح أرمينية بوصوله إلى تفليس، حيث عقد صلحًا مع أهلها مقابل اعترافهم بالسيادة الإسلامية؛ وقد همَّ عثمان أن يُولي حبيبًا جميع أرمينية، ثم رأى أن يجعله غازيًا لثغور الشام والجزيرة فعاد حبيب ونزل حمص.

بقي ابن مسلمة مواليًا لمعاوية بن أبي سفيان، واشترك معه في صفين فكان على ميسرة جيشه. وحينما أخذ الحكمانعمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري المواثيق والعهود من علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان أن يرضيا بحكم الحكمين أشهدا على ذلك فريقًا من أتباع علي وفريقًا من أتباع معاوية، وكان حبيب بن مسلمة من بينهم.

حبيب بن مسلمة قاهر الجراجمة
كان حبيب بن مسلمة مع أبي عبيدة بن الجراح، في حروبه في شمال سورية، ولما فتح أبو عبيدة أنطاكية الفتح الثاني بعد انتفاضها، ولى عليها حبيب بن مسلمة فتولاها، وقاد الجند بنفسه لأول مرة على أكثر الظن، فقصد جبل اللكام، وكان فيه قوم أشداء يسمون الجراجمة، فلم يقاتلوه، بل بدروا إلى طلب الأمان والصلح، فصالحوه على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين، وعيونًا ومسالح في جبل اللكام، وأن لا يؤخذوا بالجزية ماداموا من أعوان المسلمين وجندهم.

ودخل معهم في هذا الصلح، وعلى هذا الشرط كثير من الأنباط وأهل القرى، فكانوا يستقيمون تارة للولاة ويعوجون أخرى، حتى غزاهم مسلمة بن عبد الملك، وأجلاهم عن جبل اللكام، وأن ينزلوا حيث أحبوا من البلاد، ويكونوا جندًا للدولة ويبقوا على نصرانيتهم، ولا تؤخذ منهم الجزية، وأن يجري عليهم الرزق كبقية الجند، فنزل بعضهم حمص، وبعضهم تيزين (من عمالة حماة) وغيرها، ولعل الحي الموجود إلى هذا العهد في مدينة حماه، المعروف مجارة الجراجمة، ينسب إلى أولئك القوم لأنه نزل منهم فريق فيه.

حبيب بن مسلمة .. يوم فتح المسلمون أرمينية
"واجه جيش مسلم تعداده 6 آلاف يقوده حبيب بن مسلمة، جيشًا نصرانيًا تعداده 80 ألفًا يقوده موريان، وانتصر المسلمون انتصارًا ساحقًا في فتح أرمينية".

بدأ المسلمون فتحَ أرمينية في عهد خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضمن فتوح بلاد ما وراء النهر، والتي كانت جزءًا منها؛ حيث توجَّه الصحابيُّ "عياض بن غَنْم" رضي الله عنه إلى أرمينية ودخل بدليس، ثمَّ تقدَّم إلى خلاط في قلب أرمينية، وهنا ارتأى أهلُ تلك البلاد مُصالَحة المسلمين، ورَغْبَتهم في إقرار المسلمين بطريَرْكَهم على حكم البلَد، فقبِل المسلمون الصلحَ، وذلك سنة 20هـ.

ثمَّ حدث تمرُّد على المسلمين من جانب أهلِ أرمينية في عهد خلافة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، فأرسل إليهم "حبيب بن مسلمة الفهري" لفتح البلَد، وذلك عام 31هـ على أرجح الأقوال، وذلك في جَيش مكوَّن من ستة آلاف، وقيل: ثمانية آلاف من أهل الشام والجزيرة، فوصل إلى مدينة "قالقيليا" في أقصى شمال أرمينية على حدود الرُّوم، فتجمَّع ضدَّه جيشٌ من الروم والخزر من النصارى قادَه "موريان"، بلغ تعدادُ هذا الجيش في أغلب المصادر ثمانين ألف جنديٍّ وفارس، وقد أبلى المسلمون بلاءً حسنًا في القِتال مع الروم، واستطاع حبيب بن مسلمة بحُنْكته القتاليَّة ودربته في إدارة المعركة أن ينتصر انتصارًا ساحقًا، ويقتل ويأسر من الرُّوم العددَ الكثير.

وعلى إثر هزيمة الرُّوم والخزر في تلك المعركة العجيبة، أدرك حبيب بخبرتِه القتاليَّة أنَّ الأمر لن يستتبَّ للمسلمين في أرمينية إلاَّ بمحاولة موازنة القوى واستيطان عددٍ كبير من المسلمين بها في مقابل أعدادِ الروم والخزر، فأرسل حبيب إلى الخليفة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه أن يبعثَ إليه جماعةً من أهل الشَّام وجزيرة الفرات ممَّن يحبُّون الجهادَ وقتال الروم، فبعث إليه معاويةَ بن أبي سفيان بألفَي رجلٍ أسكنهم حبيب بلدةَ قالقيليا، وجعلهم مرابطين بها، ثمَّ واصل فتوحَه ببلدان أرمينية؛ ففتح مدينة شمشاط وصالَح أهلَها وكتب لهم كتابًا يؤمِّنهم فيه على أموالهم وأولادِهم مقابل دفع الجِزية للمسلمين، واستقرَّ بها القائدُ المسلم "صفوان بن معطل السلمي".

وبعد فتح شمشاط توجَّه الجيش الإسلامي إلى بُحيرة أرجيش (وان)، وأتاه بطريرك بلدة "خلاط" ومعه كتاب الأمان الذي أعطاه الصحابيُّ "عياض" رضي الله عنه للمدينة في سنة 20هـ، فقِبَله حبيب وأقرَّه، ثمَّ وجَّه إلى قرى "أرجيش" و"باجنيس" مِن قادة جيشه مَن غلبَهم وجَبى له جزية رؤوس أهلها، وواصل الجيشُ الإسلاميُّ تقدُّمَه إلى "دبيل"، فتحصَّن أهلُها بها ورمَوه بالسهام، فوضع على أسوار المدينة منجنيقًا وظلَّ يرميهم حتى أَيقن أهل "دبيل" أنَّه لا قدرة لهم على مواصلة القتال، فطلب أهلُها الصلحَ والأمان، فاستجاب لهم حبيبُ بن مسلمة، وكتب لهم كتابًا كان صفتُه كما يذكر "البلاذري" في "فتوح البلدان": "بسم الله الرَّحمن الرحيم: هذا كتابٌ من حبيب بن مسلمة لنصارى أهل دبيل ومجوسِها ويهودِها شاهدِهم وغائبهم: إنِّي أمَّنتكم على أنفسكم وأموالِكم وكنائسكم وبِيَعكم وسُور مدينتكم، فأنتم آمِنون، وعلينا الوفاء لكم بالعهدِ ما وفَّيتم وأدَّيتم الجزيةَ والخراجَ، شهِدَ الله وكَفى بالله شَهيدًا. (وختم: حبيب بن مسلمة)".

ثمَّ وصل المسلمون مدينةَ "تفليس" ومنطقةَ "أران"، فصالحَهم على الجزية، وكتب لهم كتابًا مثل صفة كتاب دبيل، جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتابٌ من حبيب بن مسلمة لأهل تفليس من منجليس من جرزان القرمز - بالأمانِ على أنفسهم وبِيَعِهم وصوامعهم وصلوَاتهم ودينهم على إقرار بالصَّغَار والجزية على كلِّ أهل بيتٍ دينار".

وبذلك قام حبيب بن مسلمة بفتح كامل بلاد أرمينية في فترةٍ وجيزة، ونتيجة لمعاهدات الصُّلح بين أغلب بَلْداتها اعتنقَ كثيرٌ من الأرمن الإسلامَ؛ حيث شهدَت خلافةُ عثمان بن عفان رضي الله عنه تثبيتَ الإسلام بأرمينية.

كان مجاب الدعوة
أجمع الرواة على أن أهل الشام كانوا يثنون على حبيب بن مسلمة ثناء حسنًا، ويعتقدون فيه منتهى الصلاح، لهذا كانوا يقولون "كان مجاب الدعوة"، وقد أورد ابن عساكر في خصاله وحسنِ أخلاقه فصلًا في "تاريخ دمشق".

ومما يدلك على صلاحه، ما رواه ابن عساكر أن حبيب بن مسلمة دخل العلياء بحمص فقال: وهذا من نعيم ما ينعم به أهل الدنيا، ولو مكثت فيه ساعة لهلكت، ما أنا بخارج منه حتى أستغفر الله تعالى فيه ألف مرة، قال فما فرغ حتى ألقى الماء على وجهه مرارًا (لأنه كان يخشى عليه).

ومن شدة تقواه وصلاحه، كان دائمًا يلح على معاوية بالعمل بسيرة أبي بكر وعمر، وكان معاوية يخشاه لهذا السبب، فقد روى ابن عساكر عن ابن عجلان قال: لما أتى معاوية موت حبيب بن مسلمة سجد، ولما أتاه موت عمرو بن العاص سجد، فقال له قائل: يا أمير المؤمنين سجدت لوفدين وهما مختلفان. فقال أما حبيب: فكان يأخذني بسنة أبي بكر وعمر، وأما عمرو بن العاص: فيأخذني بالإمرة فلا أدري ما أصنع.

من مناقبه القيادية
وقد كان القائد المسلم "حبيب بن مسلمة" مِن كبار قادَة صدر الإسلام، نشأ منذ حداثَته على حبِّ الجهاد، روى ابن عساكر أنَّ حبيبًا ذهب في خلافة أَبي بكر إلى الشَّام للجهاد وهو صغير، فكان على كردوس من الكراديس في اليرموك؛ حيث اعتادَ على حنكة القِتال وضراوة المعارك.

وكان يُقال لحبيب بن مسلمة: "حبيب الرومي" و"حبيب الروم"؛ لكثرةِ جهاده فيهم، ولدربَتِه في مقابلتهم والتغلُّب عليهم. وقد أجمع الرواة أنه كان رفيقًا بالجند، مع رِقَّةٍ وزُهدٍ كانا فيه على شجاعتِه وبسالَته.

وروى ابن عساكر أن حبيب بن مسملة كان رجلا تام البدن، فدخل على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال له عمر: إنك لجيد القناة، قال حبيب: إني جيد سنانها، فأمر به عمر يدخل دار السلاح، فأدخل فأخذ منها سلاحًا ورحل.

وروي أن حبيب بن مسلمة كان يستحب إذا لقي عدوًا أو ناهض حصنًا قول "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، وإنه ناهض يومًا حصنًا فانهزم الروم، فقالها المسلمون فانصدع الحصن.

ولإدمان حبيب بن مسلمة الحرب أصبح مشهورًا بالشجاعة، محبوبًا من الناس، منوهًا باسمه على ألسن الشعراء، وفيه يقول حسان بن ثابت بعد حادث مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه:

يا أيها النـــاس أبدوا ذات أنفســــــــكم **** لا يستوي الصدق عند الله والكذب
قوموا بحق مليك الناس تعترفوا **** بغارة عصب من بعدها عصب
فيهم حبيب شهاب المـــوت يقدمهم **** مستلئمًا قد بدا في وجهه الغضب

ويقول شريح بن الحارث:

ألا كل من يدعى حبيبًا ولو بدت *** مروءته يفدي حبيب بني فهر
همــــام يــــقود الخـــــيل حـــتى كأنما *** يطأن برضراض الحصا جاجم الجمر

وفاة حبيب بن مسلمة رضي الله عنه
قد اختلف المؤرخون في محل وفاته، فقال البلاذري في فتوح البلدان: إنه لما أمره عثمان بالانصراف إلى الشام، نزل حمص فنقله معاوية إلى دمشق، فتوفي فيها سنة 42هـ وهو ابن 35 سنة.

وقال ابن عبد البر: إن معاوية وجهه إلى أرمينية واليًا عليها، فتوفي فيها سنة 42هـ، وكذلك قال ابن سعد وابن عساكر، وإنه مات فيها ولم يبلغ الخمسين، فرحمه الله ورضي عنه.

[1] ابن سعد: الطبقات الكبرى، ط؛ دار صادر، 7/ 409 - 410.
[2] أخرجه أبو داود (2750) في الجهاد: باب فيمن قال: الخمس قبل النفل، من طريق مكحول، عن زياد بن جارية التميمي، عن حبيب بن مسلمة الفهري، قال: " شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة، والثلث في الرجعة " وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (1672).

المصادر والمراجع:
- البلاذري: فتوح البلدان، الناشر: دار ومكتبة الهلال- بيروت، عام النشر: 1988م.
- ابن عبد البر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق: علي محمد البجاوي، الناشر: دار الجيل، بيروت
الطبعة: الأولى، 1412هـ / 1992م.
- ابن الأثير: أسد الغابة، الناشر: دار الفكر – بيروت، عام النشر: 1409هـ / 1989م.
- ابن عساكر: تاريخ دمشق، تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عام النشر: 1415هـ / 1995م.
- رفيق العظم: أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة، ط، 1909م.
عبد الكريم العلي: حبيب بن مسلمة الفهري. الموسوعة العربية.
- محمود ثروت أبو الفضل: غزاة حبيب بن مسلمة .. يوم فتح المسلمون أرمينية. شبكة الألوكة.
 
السلام عليكم

عمرو بن عبسة رضي الله عنه
اسمه ونسبه
الإمام الأمير أبو نجيح ويقال أبو شعيب عمرو بن عَبَسَةَ بن خالد بن حذيفة السُّلَمِيّ البجلي، أحد السابقين الأولين، وبنو بجيلة: رهط من سليم، وكان عمرو بن عبسة السلمي يرى أنه رابع أربعة هم أول المسلمين. قال عن نفسه: "فلقد رأيتني إذ ذاك ربع الإسلام[1].

قصة إسلام عمرو بن عبسة
روى الواقدي أن عمرو بن عبسة، قال: رغبت عن آلهة قومي، فلقيت يهوديا من أهل تيماء، فقلت: إني ممن يعبد الحجارة، فيترك الحي، فينزل الرجل، فيأتي بأربعة حجارة، فينصب ثلاثة لقدره، ويجعل أحسنها إلها يعبده. فقال: يخرج من مكة رجل يرغب عن الأصنام، فإذا رأيته فاتبعه، فإنه يأتي بأفضل دين.

وعند الآجري في كتاب الشريعة عن أبي أمامة الباهلي يحدث عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه، قال: "رَغِبْتُ عَنْ آلِهَةِ قَوْمِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَرَأَيْتُ أَنَّهَا آلِهَةٌ بَاطِلَةٌ, يَعْبُدُونَ الْحِجَارَةَ وَرَأَيْتُ الْحِجَارَةَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، قَالَ: فَلَقِيتُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ, فَسَأَلْتُهُ عَنْ أَفْضَلِ الدِّينِ؟ فَقَالَ: يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ مَكَّةَ, وَيَرْغَبُ عَنْ آلِهَةِ قَوْمِهِ، وَيَدْعُو إِلَى غَيْرِهَا, وَهُوَ يَأْتِي بِأَفْضَلِ الدِّينِ, فَإِذَا سَمِعْتَ بِهِ فَاتَّبِعْهُ, فَلَمْ يَكُنْ لِي هَمٌّ إِلَّا مَكَّةَ، آتِيهَا أَسْأَلُ: هَلْ حَدَثَ فِيهَا أَمْرٌ؟ فَيَقُولُونَ: لَا، فَأَنْصَرِفُ إِلَى أَهْلِي وَأَهْلِي مِنَ الطَّرِيقِ غَيْرُ جَدِّ بَعِيدٍ فَأَعْتَرِضُ الرُّكْبَانَ خَارِجِينَ مِنْ مَكَّةَ، فَأَسَأَلُهُمْ: هَلْ حَدَثَ فِيهَا خَبَرُّ أَوْ أَمْرٌ؟ فَيَقُولُونَ: لَا، فَإِنِّي لَقَاعِدٌ عَلَى الطَّرِيقِ، إِذْ مَرَّ بِي رَاكِبٌ فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قَالَ: مِنْ مَكَّةَ، قُلْتُ: هَلْ حَدَثَ فِيهَا خَبَرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، رَجُلٌ رَغِبَ عَنْ آلِهَةِ قَوْمِهِ، وَدَعَا إِلَى غَيْرِهَا، قُلْتُ: صَاحِبِي الَّذِي أُرِيدُ، فَشَدَدْتُ رَاحِلَتِي، فَجِئْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ أَنْزِلُ فِيهِ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ؟ فَوَجَدْتُ مُسْتَخْفِيًا شَأْنَهُ، وَوَجَدْتُ قُرَيْشًا عَلَيْهِ جُرَآءَ، فَتَلَطَّفْتُ لَهُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ .." ثم ذكر الحديث.

وفي رواية الإمام مسلم عن أبي أمامة الباهلي يحدث عن عمرو بن عبسة قال: "كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شئ وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيًا جرءاء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة.

فقلت له: ما أنت؟ قال: أنا نبي. فقلت وما نبي؟ قال: أرسلني الله. فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان، وأنه يوحد الله لا يشرك به شيء. قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد. قال: ومعه يومئذ أبو بكروبلال ممن آمن به. فقلت: إني متبعك. قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس!! ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني.

قال: فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة حتى قدم على نفر من أهل يثرب، من أهل المدينة، فقلت: ما فعل الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتله، فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة، فدخلت عليه، فقلت: يا رسول الله أتعرفني؟، قال:نعم، أنت الذي لقيتني بمكة ؟ قال: فقلت: بلى، فقلت: يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة ؟

قال: صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار.

قال: فقلت: يا نبي الله فالوضوء؟ حدثني عنه، قال: ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه" [2].

نظرات في قصة إسلام عمرو بن عبسة
1- أن عمرو بن عبسة رضي الله عنه كان من الحنفاء المنكرين لعبادة غير الله تعالى في الجاهلية.
2- كانت الحروب الإعلامية الضروس التي شنتها قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم سببًا في تتبع عمرو بن عبسة لأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم.
3- جرأة وشدة قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد وجده عمرو بن عبسة مستخفيًا وقومه جرآء عليه.
4- الأدب في الدخول على أهل الفضل والمنزلة, قال عمرو بن عبسة: "فتلطفت حتى دخلت عليه".
5- الرسالة المحمدية تقوم على ركيزتين: حق الله، وحق الخلق، قال صلى الله عليه وسلم: "أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان". وفي هذا دليل على أهمية صلة الأرحام حيث كان هذا الخلق العظيم ألصق ما يكون بدعوة الإسلام، مع اقترانه بالدعوة إلى التوحيد، وقد ظهر في هذا البيان الهجوم على الأوثان بقوة, مع أنها كانت أقدس شيء عند العرب، وفي هذا دلالة على أهمية إزالة معالم الجاهلية، وأن دعوة التوحيد لا تستقر ولا تنتشر إلا بزوال هذه المعالم.
ووفي اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم المبكر بإزالة الأوثان مع عدم قدرته على تنفيذ ذلك في ذلك الوقت دلالة على أن أمور الدين لا يجوز تأخير بيانها للناس بحجة عدم القدرة على تطبيقها، فالذين يبينون للناس من أمور الدين ما يستطيعون تطبيقه بسهولة وأمن، ويحجمون عن بيان أمور الدين التي يحتاج تطبيقها إلى شيء من المواجهة والجهاد, هؤلاء دعوتهم ناقصة، ولم يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي واجه الجاهلية وطغاتها وهو في قلة من أنصاره، والسيادة في بلده لأعدائه.
6- حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أمان صحابته وتوفير الجو الآمن، والسير بهم إلى بر الأمان وإبعادهم عن التعرض للمضايقات، قال لعمرو بن عبسة: "إنك لا تستطيع يومك هذا".
7- تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحوال أصحابه وعدم نسيان مواقفهم، قال: "أنت الذي لقيتني بمكة".
8- في قصة إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه يبدو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخبره بأسماء سائر من أسلم وإنما سمي أبا بكر وبلالًا فقط حرصا على سلامة من أسلم من الأذى، وربما لأنه إنما أسلم بعد إجابة سؤاله عمن أسلم يومئذ وتعبير عمرو بن عبسة: "فلقد رأيتني إذ ذاك ربع الإسلام"، إنما هو بحسب ما بدا له. وإلا فقد كان عدد المسلمين أكثر من ذلك في المرحلة التي أظهرت فيها قريش جرأتها على الإسلام وأذاها للمسلمين كما يدل قول الرسول: ألا ترى حالي وحال الناس!!
ومما يدل على أن المسلمين كانوا متكتمين في أمر إسلامهم أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه كان يرى نفسه رابع الإسلام أيضًا. وقد علل بعض الرواة تعارض كلام أبي ذر مع كلام عمرو بن عبسة فقال: "كلاهما لا يدري متى أسلم الآخر". مما يشير إلى أن مبدأ سرية الدعوة كان يراعى في بعض الحالات حتى مرحلة الدعوة الجهرية تبعا لما تقتضيه مصلحة الدعوة الناشئة.
9- لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعطي كل من أسلم قائمة بأسماء أتباعه، فهذا ليس للسائل منه مصلحة ولا يتعلق به بلاغ؛ ولذلك لما سأل عمرو بن عبسة عمن تبعه قال: "حر وعبد"، وهذه تورية كما قال ابن كثير: "بأن هذا اسم جنس فهم منه عمرو أنه اسم عين".
10- في قوله صلى الله عليه وسلم: "ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي ظهرت فأتني"، نأخذ منه درسًا في الدعوة: إن تكديس المريدين والأعضاء حيث المحنة والإيذاء ليس هو الأصل، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه نحو الرجوع إلى الأقوام، وأمر كما نرى بالهجرتين إلى الحبشة، فذلك تخفيف عن المسلمين وإبعاد لهم عن مواطن الخطر وستر لقوة المسلمين، وإعطاء فرصة للقائد حتى لا ينشغل، وضمان للسرية، وإفادة للمكان المرسل إليه، وإعداد للمستقبل وملاحظة لضمان الاستمرار وتجنب الاستئصال [3].

عمرو بن عبسة بعد إسلامه
ظل عمرو بن عبسة في قومه على إسلامه، ثم كان قدومه المدينة بعد غزوات بدر، وأحد، والخندق، ثم قدم المدينة فسكنها. وعن معاوية بن صالح بإسناد حسن، عن سليم بن عامر، عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه، قال: أسلمت، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "الحق بقومك". ثم أتيته قبل الفتح.

وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم نزل عمرو بن عبسة الشام، لذلك يعد رضي الله عنه في الشاميين.

روى عنه من كبار الصحابة: عبد الله بن مسعود، وأبو أمامة الباهلي، وسهل بن سعد الساعدي. ومن كبار التابعين: أبو إدريس الخولاني، وجبير بن نفير، وكثير بن مرة، وضمرة بن حبيب، وعدي بن أرطاة، وحبيب بن عبيد، وسليم بن عامر، ومعدان بن أبي طلحة، وأبو ظبية الشامي، وعدة.

وكان عمرو بن عبسة رضي الله عنه من أمراء جيش المسلمين يوم معركة اليرموك [4].
وقد اشترك عمرو بن عبسة رضي الله عنه في حصار الطائف، روى أحمد وأبو داوود وابن حبان اولحاكم عن عن معدان بن أبي طلحة عن أبي نجيح السلمي (عمرو بن عبسة) رضي الله عنه قال: حاصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الطائف، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بلغ بسهم فله درجة في الجنة"، فبلغتُ يومئذ ستة عشر سهمًا. وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر ،ومن شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة، وأيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما فإن الله جاعل كل عظم من عظامه وفاء (في رواية: وقاء)كل عظم بعظم منه من النار، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله جاعل كل عظم من عظامها وفاء كل عظم من عظام محررها من النار" [5].

وفاة عمرو بن عبسة
أخرج أبو نعيم من طريق حصين بن عبد الرحمن، عن عمران بن الحارث، عن مولى لكعب. قال: انطلقنا مع عمرو بن عبسة والمقداد بن الأسود، ونافع بن حبيب الهذلي، وكان على كل رجل منا رعية، فخرج عمرو بن عبسة يوما للرعية، فانطلقت نصف النهار -يعني لأراه، فإذا سحابة قد أَظَلَّتْهُ، ما فيها عنه مفصل، فَأَيْقَظْتُهُ. فقال: "إِنَّ هَذَا شَيْءٌ أُتِينَا بِهِ، لَئِنْ عَلِمْتُ أَنَّكَ أَخْبَرْتَ بِهِ لَا يَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ خَيْرٌ"، فَوَاللهِ مَا أَخْبَرْتُ بِهِ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللهُ.

قال الحافظ ابن حجر: "ويقال: إنه مات بحمص، قلت: وأظنه مات في أواخر خلافة عثمان، فإنني لم أر له ذكرا في الفتنة، ولا في خلافة معاوية"

وقال الذهبي: لم يؤرخوا موته. ثم قال: لعله مات بعد سنة ستين، فالله أعلم [6].

[1] أحمد: مسند أحمد، 4/ 112. ابن سعد: طبقات ابن سعد، 4/ 215. الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/ 456. الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 2/ 315 بإسناد حسن. الحاكم: مستدرك الحاكم، 3/ 65، 66 وصحح إسناده.
[2] مسلم: صحيح مسلم، 1/ 596، وقارن برواية الآجري: الشريعة (رقم: 977)، بإسناد حسن فيه إسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن الشاميين كما هو الحال في هذا السند، وفيه عمرو بن عبد الله السيباني مقبول فقد توبع هنا من قبل أبي سلام الدمشقي.
[3] أكرم ضياء العمري: السيرة النبوية الصحيحة، 1/ 139 – 140. علي الصلابي: السيرة النبوية، ص138 – 139.
[4] ابن الأثير: أسد الغابة، 3/ 749. الذهبي: سير أعلام النبلاء، 2/ 457، 459.
[5] سنن أبي داوود، (3965)، مسند أحمد، (17063، 19447، 19448). صحيح ابن حبان، (4309، 4615). مستدرك الحاكم، (2469، 2560، 4371). وقال الألباني: صحيح.
[6] أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، 2/ 16. الذهبي: سير أعلام النبلاء، 2/ 459 – 460. ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة، ط: دار الكتب العلمية، 4/ 547.
 
السلام عليكم

يزيد بن أبي سفيان

هو يزيد بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي الأموي. أخو معاوية من أبيه، وقال أبو عمر: كان أفضل أولاد أبي سفيان وكان يقال له: يزيد الخير، وأمه أم الحكم زينب بنت نوفل بن خلف من بني كنانة، يكنى أبا خالد..

حال يزيد بن أبي سفيان في الجاهلية: كان من العقلاء الألباء، والشجعان المذكورين..

قصة إسلام يزيد بن أبي سفيان: أسلم يوم الفتح، وحسن إسلامه، وشهد حنين..

بعض مواقف يزيد بن أبي سفيان مع الرسول r : شهد حنينا، فقيل: إن النبي r; أعطاه من غنائم حنين مائة من الإبل وأربعين أوقية فضة.

بعض مواقف يزيد بن أبي سفيان مع الصحابة : وصية أبي بكر له: كان مما قاله أبو بكر ليزيد: "إني وليتك لأبلوك وأجربك وأخرجك فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك وإن أسأت عزلتك فعليك بتقوى الله فإنه يرى من باطنك مثل الذي من ظاهرك وإن أولى الناس بالله أشدهم توليا له وأقرب الناس من الله أشدهم تقربا إليه بعمله وقد وليتك عمل خالد فإياك وعبية الجاهلية فإن الله يبغضها ويبغض أهلها وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم وابدأهم بالخير وعدهم إياه وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضا وأصلح نفسك يصلح لك الناس وصل الصلوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها..

وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرمهم وأقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به ولا ترينهم فيروا خيلك ويعلموا علمك وأنزلهم في ثروة عسكرك وامنع من قبلك من محادثتهم وكن أنت المتولي لكلامهم ولا تجعل سرك لعلانيتك فيختلط أمرك وإذا استشرت فاصدق الحديث تصدق المشورة ولا تخزن عن المشير خبرك فتؤتى من قبل نفسك واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار وتنكشف عنك الأستار وأكثر حرسك وبددهم في عسكرك وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك..

فمن وجدته غفل عن حرسه فأحسن أدبه وعاقبه في غير إفراط وأعقب بينهم بالليل واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة فإنهما أيسرهما لقربهما من النهار ولا تخف من عقوبة المستحق ولا تلجن فيها ولا تسرع إليها ولا تخذلها مدفعا ولا تغفل عن أهل عسكرك فتفسدهم ولا تتجسس عليهم فتفضحهم ولا تكشف الناس عن أسرارهم واكتف بعلانيتهم.

ولا تجالس العباثين وجالس أهل الصدق والوفاء وأصدق اللقاء ولا تجبن فيجبن الناس, واجتنب الغلول (الخيانة في المغنم) فإنه يقر بالفقر ويدفع النصر وستجدون أقوامًا حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما حبسوا أنفسهم له".

- وهو أحد الأمراء الأربعة الذين ندبهم أبو بكر لغزو الروم، عقد له أبو بكر ومشى معه تحت ركابه يسايره، ويودعه، ويوصيه، وما ذاك إلا لشرفه وكمال دينه، ولما فتحت دمشق، أمره عمر عليه. وقال إبراهيم بن سعد: كان يزيد بن أبي سفيان على ربع، وأبو عبيدة على ربع، وعمرو بن العاص على ربع، وشرحبيل بن حسنة على ربع، يعني يوم اليرموك.

ولم يكن يومئذ عليهم أمير، وأمَّره أبو بكر الصديق لما قفل من الحج سنة اثنتي عشرة أحد أمراء الأجناد، وأمَّره عمر على فلسطين، ثم على دمشق لما مات معاذ بن جبل، وكان استخلفه فأقره عمر.

وفاة يزيد بن أبي سفيان : موقف الوفاة والمكان: توفي يزيد في الطاعون سنة ثماني عشرة، ولما احتضر، استعمل أخاه معاوية على عمله، فأقره عمر على ذلك احترامًا ليزيد، وتنفيذًا لتوليته.

ومات هذه السنة في الطاعون أبو عبيدة أمين الأمة، ومعاذ بن جبل سيد العلماء، والأمير المجاهد شرحبيل بن حسنة حليف بني زهرة، وابن عم النبي r الفضل بن العباس وله بضع وعشرون سنة، والحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي أبو عبد الرحمن من الصحابة الأشراف، وهو أخو أبي جهل، وأبو جندل بن سهيل بن عمرو العامري، y.

المراجع : الإصابة في تمييز الصحابة - ابن حجر العسقلاني. [1] عمدة القاري [ جزء 16 - صفحة 891 ] [2] الطبقات الكبرى [ جزء 5 - صفحة 533 ] [3] تاريخ الطبري [ جزء 2 - صفحة 209 ]


موقع قصة الاسلام
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top