ما أشبَهَ الليلة بالبارحةِ ! ليسجّل التاريخ ولتشهد الأجيال المقبلة
أن المتطاول على الشيخ "الطيب العقبي"
يحذو حذو أسلاف الطرقيين الخرافيين الضالين .
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه . أما بعد :
فقد آلمني كما آلم كل جزائري سني غيور تطاول ذلك الغر النكرة على الشيخ "الطيب العقبي" رحمه الله واصفا إياه كذبا وزورا وبهتانا بالوهابي و التكفيري ، ليحذو بذلك حذو أسلاف الطرقيين و المخرفين الضالين الذين أوجعتهم دعوة الشيخ ورفاقه في جمعية العلماء المسلمين في حياته و بعد مماته بإنتهاجهم رحمهم الله في دعوتهم وسَيرِهِم طريقة السلف الصالح في نشر تعاليم الدين الاسلامي الحنيف في المجتمع الجزائري حينئذ ومحاربتهم لتلبيسات وضلالات و جهالات الطرقيين وكشف عوارهم و حيلهم التي كانت تندثر و تتلاشى وتزول بإنتشار العقيدة الصحيحة وسط عامة الناس ، ولم يجدوا لصد نورها إلا تدبير شتى المكائد للنيل منها ، ومن ذلك ضرب رموز الجمعية و محاولة تشويههم لينفروا الناس عنهم وعن دعوتهم ، فما أشبَهَ الليلة بالبارحةِ ! فقد خرج علينا هذا المتطاول على فضائية من بين الفضائيات الرخيصة التي ابتلينا بها و المجتمعة على حمل راية تهديم كل القيم الغالية في مجتمعنا و عقائد ديننا السليمة ، ليطعن في الشيخ "الطيب العقبي" رحمه الله و يحاول تشويهه بذكره لحادثة مقتل الشيخ كحول ، ناسيا أو متناسيا أن التاريخ لا ينسى و أن كل غيور على عقيدة الجزائريين أحفاد ابن باديس و العقبي و البشير الابراهيمي لن يدخر أدنى جهد في تبرئة أجداده وذلك بالبحث في تراث الجمعية ليضرب به وجه كل كذاب و أفاك وأثيم ، ليعرف العامة الحقيقة كما هي و يتيقنوا أن الطرقيين الصوفيين المخرفين الجهال كانوا و لا يزالون أعداءا لعقيدة الجزائريين التي كانت سلفية صافية في مرحلة ما بشهادة تاريخ أعضاء جمعية العلماء المسلمين .
و مما يسر الله في أن يكون ردا على إثارة ذلك المتطاول لحادثة مقتل الشيخ كحول ، محاولة منه الإنتقاص من الشيخ "الطيب العقبي" رحمه الله بالطعن فيه تلميحا وتصريحا ، مقال فيه تبرئة الشيخ من تلك الحادثة و فيه فضح لمكائد و دسائس الطرقيين ضد دعوة الحق ، مسلول من آثار الإمام محمد البشير الابراهيمي رحمه الله ، منشورة بجريدة "البصائر"، العدد 32، السنة الأولى، الجمعة 15 جمادى الثانية 1355هـ/ 28 أوت 1936م و البصائر: العدد 33، السنة الأولى، الجمعة 17 جمادى الثانية 1355هـ / 4 سبتمبر 1936م، بعنوان :
مقتل الشيخ كحول*
ليسجّل التاريخ ولتشهد الأجيال المقبلة
تحقيقات وتفاصيل مهمة.
لكيد لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، اعتقال الأستاذ الشيخ "الطيب العقبي" ستة أيام بلياليها السود في سجن بربروس بالجزائر، المكيدة مدبّرة فيما يظهر، الخصوم كبار ولكن الله أكبر، ماذا يريد الكائدون من وراء هذه المكيدة؟ تفتيش نادي الترقّي (بيت الأمة الجزائرية)، تفتيش إدارات جريدة "البصائر" وجمعية العلماء والجمعية الخيرية، حجز دفاتر وأوراق الإدارات المذكورة، إغلاق النادي وتلك الإدارات كلها، ضرب الحصار على النادي بقوّات البوليس والحرس المدني والجاندارمة والجيش الأسود، الخروج بالأستاذ العقبي من نادي الترقّي بين هذه المظاهر الرهيبة، الغاية من هذه الإرهابات، تلقي الأمة للصدمة بالصبر والهدوء التام، موقف جمعية العلماء من هذه المظاهر، الإجراءات العدلية وتطوراتها، الإفراج عن الأستاذ العقبي ورفيقه السيد عباس التركي، تجلي شعور الأمّة وعواطفها الصادقة، انهيال البرقيات ورسائل التهنئة من داخل القطر وخارجه، آثار اعتقال الأستاذ في الأمم الإسلامية، فتح نادي الترقّي وابتهاج الأمة بذلك.
سكتنا حتى هدرت الشقاشق وقرّت، وظهرت الحقائق واستقرّت، ونثلت الجرائد كنائنها وأخرجت الصدور دفائنها، وهدأت العاصفة وافتضحت المكيدة، وانجلت الرغوة عن اللبن الصريح.
سكتنا طول هذه المدة، وما كان سكوتنا- علم الله- سكوت المشدوه عقدت الحيرة لسانه، ولا سكوت الجبان المنخوب سكن الهلع جنانه، ولا سكوت الغافل الغرير تفجؤه أحداث الدهر فيجم لها ويطرق، ولا سكوت المبطل يشهر الحق عليه دلائله فيعيا عن البيان، ولكننا سكتنا سكوت المعتد بيقينه، المستبصر في مآخذ شؤونه ومتاركها، الواثق بأن هذه الحوادث- وإن اعتكرت ظلماؤها- غمرات ثم ينجلين، وأن هذه المكائد مردودة في نحور الكائدين وأن العاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
ثارت العاصفة فعلمنا من زمانها ومكانها وجميع ملابساتها أنها موجّهة إلى هدف، وأن جمعية العلماء هي بعض ذلك الهدف، واندفعت الأقلام الخاطئة تكتب في شأنها وتخط، والألسنة الكاذبة تتحكّم في موقفها وتشتط، بل قد تطايرت كلمات الاتهام لجمعية العلماء صريحة من أفواه كان الثرى أولى بها من ذلك، وقذفتها ألسنة لا تترجم عن حق ولا تصدر عن يقين.
أما وقد تبيّن للناس في آخرها ما اعتقدناه نحن في أولها، وهو أن الحادثة من أولها إلى آخرها رواية مخجلة فضح نور الحق ممثليها، فجاءت أخزى ما تكون تخاذلًا في الأجزاء وتشويشًا في الفصول، فقد وجب أن نقول كلمتنا فيها ولا يضيرنا إن كنّا أول الناس اعتقادًا للحقيقة وآخِرَهُم قولًا في بيانها.
مضت على جمعية العلماء خمسة أعوام وهي تدعو إلى الحق والفضيلة، ثابتة الخطى في طريقها متمسّكة بمبدئها مجادلة عنه بالبرهان العلمي، راكبة متن التسامح مع خصومها، متحلية بالأدب القرآني الجليل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.
وكم أقام خصومها حولها من ضجيج، وكم نصبوا في طريقها من عراقيل، وكم بثوا لها من مكائد. وما نقموا منها إلا أنها تدعو إلى الفضيلة، والفضيلة غريبة عند هؤلاء، وتدعو إلى الحق، والحق ثقيل عليهم، وتنهض بالإسلام ولسانه وهما لا يلائمان بعض الأمزجة، ولا نقموا من رجالها إلا أنهم لا يلينون لغامز، ولا يثنيهم الوعيد والتهديد، ولا تستهويهم الوظائف والرتب، ولا يستنزلون عن مبدئهم الحق بالرقى، ولا يتساهلون في واجب، ولو تجلّت عليهم الدنيا بألطافها، ولا يعنون لباغ ولو حشد لحربهم مَنْ بأقطارها.
كبر على الخرافيين الضالين ما تدعو إليه هذه الجمعية من حق ديني واضح، ولو كان كعمود الصبح، ورأوا في هذه الدعوة زعزعة لأركان سلطانهم، وكبر على المستبدين الظالمين ما تدعو إليه من تنقيح للأخلاق التي هي قوام الحياة، ورأوا في هذه الدعوة عنادًا لما بيّتوه من قتل مشاعر هذه الأمة وسدّ منافذ الحياة في وجهها. فأجمع هؤلاء وأولئك أمرهم على حربها وتدبير المكائد لها. واتّبعوا ما تتلو الشياطين عليها، فشدد هؤلاء وضيّقوا، وأعنتوا وأرهقوا، بعد أن صاح أولئك وأعولوا، وبالغوا وهوّلوا.
ثم كانت حركة المؤتمر الإسلامي الجزائري في هذه السنة، فضربت الجمعية في الدعوة إليه بسهم على أنها دعوة إلى الحق والخير، وشاركت في تكوينه والحضور فيه، على أن ذلك جزء من عملها ونوع من إيصال الخير إلى الأمة، وأدمجت مطالبها الدينية في مطالبه على أنها جزء من مطالب الأمة الجزائرية مكمّل لها، بل هو الجزء الذي لا حياة لها بدونه جمعًا للجهود وحصرًا للعمل وتوحيدا للصفوف.
ثم شاركت في اللجنة التنفيذية للمؤتمر على أنها إحدى عناصر القوة الثلاثة التي قام عليها المؤتمر، ثم شاركت في الوفد الإسلامي الذي أوفدته اللجنة التنفيذية إلى باريس، وتجلّت قوة الجمعية بمواقفها الثلاثة: من المؤتمر، واللجنة التنفيذية، والوفد، تمام التجلّي.
هنا ضاق ذرع المبطلين بهذه الجمعية وبالمؤتمر الذي هي إحدى دعائمه، وبالمطالب التي يوشك أن تتحقّق وينتزعها الإنصاف من بين أشداق الأسد، وبالأمة التي أصبحت معلّقة الآمال بالجمعية وبالمؤتمر، وعلم أولئك المبطلون أن الأمر إذا تمادى على هذا الحال فإن سلطان الاستبداد إلى زوال، وإن هذه الحملة ستذهب في نظرهم بقيصر، فلا قيصر بعد اليوم فكانت المكيدة الشنعاء، وكان الاغتيال الشنيع وكان الاعتقال المزعج، وكانت الضجّة التي اتّسع مداها وطبّق الشرق والغرب صداها، وكانت الإثارة والاستفزاز اللذان وقى الله شرّهما وأحسن عاقبتهما، ووازر هذه الشناعات كلها صحف تتأوّل وألسنة تتقوّل، تقابلها من جهتنا عقيدة في الحق لا تتحوّل وثبات لا يتزلزل، وثقة بالله ثم بالقضاء العادل لا تتغير ولا تتبدل.
وقفة على أطلال الحادثة:
عهدنا من حواة العيساويين أنهم يعرضون ألعابهم الغريبة ليمتّعوا لا ليروعوا، وانهم يودعون أسفاطهم الحيات والثعابين من الأرقط وذي الطفيتين حتى إذا جاء وقت العرض أظهروا ذواتهم للناس، ليكون الأنس بمرآهم- وهم من جنس الآدميين- مخففًا من الوحشة لمنظر تلك الحيّات والتنكر منها.
أما عيساويو حادثتنا فإنهم يقومون بألعابهم المفزعة من وراء حجاب كثيف، ويدبّرون المكائد في غسق الليل، ولكن أعمالهم تدل عليهم كما يدلّ أحد المتلازمين تلازمًا طبيعيا على الآخر حتى ليوشك أن يضع العارفون بأسرار المكائد أيديهم عليهم ويقولوا هذا فلان وهذا فلان.
دبّر هذا الفريق المختفي المكيدة التي نتحدّث عنها وأحكموا التدبير، فجاءت وكأنها كتاب يشتمل على مقدمات وفصلين ولواحق، ولكن شاءت الأقدار أن تسقط المقدّمات من نسخة المؤلف فلم يقرأها الناس، ويبقى الفصلان فصل في الاغتيال وفصل في الاعتقال.
ويدلّ أسلوب الفصلين على أن المؤلف كان متوجهًا إلى توليد فصل ثالث من الفصلين وهو فصل في الهيجان. وعلى هذا الفصل تتفرّع اللواحق التي بها يتمّ الكتاب ...
يا لله لهذه الأمة المسكينة! أكلّما طلبت رفدًا أو استنجزت وعدًا أو تعلّقت بسبب من أسباب الحياة وقف لها الكائدون بكل مرصد، وحالوا بينها وبين ما تريد، وركبوا الصعب والذلول في سبيل حرمانها من حقّها في الحياة، وقد كانوا قبل اليوم يركبون جميع الوسائل لمنع صوتها من الوصول إلى آذان العدل؟ فلما أعياهم هذا، واخترق الصوت الحجب على محافتها وأسمع داعيه وأوشك أن يستجاب، عدلوا إلى ما رأيت أثره، وسمعت خبره.
بدت بوارق الأمل في الحكومة الشعبية وآنست الأمة الجزائرية تبدّلًا في الأوضاع، فاجتمعت وعقدت المؤتمر وقرّرت المطالب، وأرسلت الوفد وأعلنت ثقتها بالحكومة الشعبية، لأنها بدأت بالجميل ووضعت كلمة الشفاء في أذن "العليل"، وبدأت بوادر الإصلاح تظهر، هنالك كبر على هؤلاء الكائدين أن يروا هذا الشعب متمتعًا ببعض حقوقه الطبيعية، متحليًا- تحت راية فرنسا- بما يناسب سمعة فرنسا وشرف فرنسا، فاهتبلوا حادثًا بسيطًا عاديًا- إن لم يكونوا سببًا فيه- وبنوا عليه ما أحرج الأمة ليخرجوها عن صوابها فيقع منها ما يسمّى في اصطلاحهم ثورة، ويسمّى مرتكبه في نظرهم ثائرًا، فإذا تمّ لهم ذلك كله تقطعت الصلات بين الأمة الجزائرية وبين الحكومة الشعبية، ولم يبق لجانب ثقة بالجانب الآخر وكان الربح المعجّل لهؤلاء الكائدين هو حرمان هذه الأمة من حقوقها والإمعان في إرهاقها وإذلالها إلى أن لا يبقى فيها عرق ينبض بالمطالبة بحق، ولولا أن الله- وله المنة وحده- فضح الكائدين بظهور الحق في الحادثة، لتمّ لهم ما يريدون وفوق ما يريدون ولقضوا على هذه الأشباح التي تؤرق جفونهم وتقضّ مضاجعهم ولكن تدبير الله فوق كل تدبير.
أول تحدِّ للمكيدة
اغتيل الشيخ كحول في رابعة النهار وفي يوم احتشدت فيه عشرات الألوف من الأمة الإسلامية لتسمع أعمال الوفد من رجاله ولتعلن ابتهاجها بالمرحلة التي قطعتها من حياتها الجديدة وهي إسماع صوتها لفرنسا .. وكانت خطبة أخينا الأستاذ العقبي في هذا الاجتماع الرائع صريحة في تحديد الآراء، فصيحة في التبليغ والأداء، بليغة في النصح بلزوم السكون.
وبلغنا خبر الاغتيال ونحن في غمرة من الفرح بنجاح الوفد في تبليغ أمانة الأمة للحكومة وفي تبليغ جواب الحكومة للأمة، فاستفظعنا الحادثة وقلنا: محال أن تسفك الدم يد صفقت طربا بيوم المؤتمر وبيوم سفر الوفد وبيوم رجوعه، ومحال أن يملي القتل قلب أفعم سرورًا بهذه المشاهد الثلاثة، ومحال أن تعيه أذن واعية للنصائح التي بثّت يوم المؤتمر ويوم الوفد، وهما يومان لهما ما بينهما وما بعدهما، ومحال أن يرتكب هذا الجرم شخص يشعر بما تشعر به الأمة في هذه الأيام، إذًا فالقاتل ليس من الأمة إما حقيقة وإما حكمًا، وإذن فَهُوَ عدو للأمة يريد هو أو يريد من حرّكه للقتل أن يكدّر عليها صفوها وينغّص عليها سرورها، ولعلّ له من وراء ذلك مآرب أخرى أرادها وأدار الجريمة عليها، ولم يكن موضع الغرابة عندنا في ذلك اليوم قاتلًا ومقتولًا فهذا أمر اعتيادي يقع مثله في كثير من الأيام، ولكن موضع الغرابة أن يكون المقتول فلانًا وأن يكون قتله في ذلك اليوم وفي تلك الحصة التي هي منتصف الساعة العاشرة والاجتماع لم ينفضّ بعد.
شممنا رائحة الكيد من تلك اللحظة، ثم قرأنا في بعض الخطب والمقالات جملًا فيها دس وفيها تحريش، وفيها إشارات مبهمة فوكلنا الأمر إلى الله الحق، وانتظرنا التحقيق العدلي وبدأت الألسنة تهرف، والأقلام ترجف، والتحقيق يدور في طريق طامس إلى أن صدر الأمر بتفتيش نادي الترقّي وإدارة جمعية العلماء وإدارة جريدة البصائر، وعقب ذلك اعتقال الأستاذ الشيخ الطيب العقبي.
لم نندهش للتفتيش لعلمنا بنتائجه، ويقيننا أنه شيء اقتضته الاجراءات العدلية، وإنما أخذناه دليلًا مجسمًا على أن الحادثة رواية محبوكة الأطراف، وبعد التفتيش والختم وقع اعتقال الأستاذ العقبي فتجلّت المكيدة وتمّ تمثيل دورها الثاني في جو يدعو إلى الاستفزاز: الجمهور محتشد تتخلله قوات البوليس السري والعلني ومن ورائه الحرس المدني وقوات السينيقال (1) بمعداتها، وهذا المظهر كله يجمعه قولك: جذوة وريح.
وكيف لا يؤثر هذا المنظر في نفوس ترى، مع احترامها للأجراءات العدلية، ان من الحكمة الوصول إلى غايتها بغير هذه الصورة وعلى غير هذا الوجه؟
كانت النفوس ثائرة، ولكن الله لطف فكانت القيادة للعقل لا للعاطفة، وكانت الجماهير المحتشدة عند حسن الظن بها، ومن خفي لطف الله أن كان الأستاذ الأكبر الشيخ (عبد الحميد بن باديس) رئيس جمعية العلماء حاضرًا ومعه الأستاذ (محمد خير الدين) وكاتب هذه الأسطر وجماعة من الأساتذة العاملين في الجمعية فتقدمنا إلى الجمهور الحاشد أن يتلقّى الصدمة بالصبر، وأن يقابل المكيدة بما يحبطها ففعل وانقاد، وبثثنا في الأحياء دعاة يدعون إلى الهدوء والسكينة فامتثل الناس، ومرّت أيام اعتقال الأستاذ المظلوم من دون أن يحدث فيها ما يكدّر الأمن أو يخلّ بالنظام، وكان هذا أول فشل للمكيدة ومدبّريها وردّهم الله بغيظهم لم يبلغوا أملًا والحمد لله.
مستند العدلية في اعقال الأستاذ العقبي:
كان القاتل "عكاشة" في بدء التحقيق معه اعترف بالقتل، وانه إنما قتل بدافع وجداني لا أثر لإيعاز الغير فيه، وذكر السبب الذي أثار هذا الدافع في نفسه، وذكر أنه اشترى السلاح الذي قتل به من محل سماه، ونشرت البلاغات الرسمية تفاصيل هذا التحقيق. ثم بعد أيام، ولأسباب يعلمها علّام الغيوب، رجع عن هذا كله وأدلى للمحققين برواية جديدة ذات فصول وهي: ان الشيخ الطيب العقبي هو الذي أوعز إليه بارتكاب هذه الجريمة، وانه هو الذي أعطاه الموسى التي قتل بها، وانه وعده بثلاثين ألف فرنك أجرة على القتل، وكان ذلك كله بحضور رجلين لم يسمهما ولكنه وصفهما بصفات سطحية تنطبق على كثير من الناس- وان ذلك كله وقع في "نادي الترقي" في عشية يوم معين- فاستندت العدلية على هذا واعتقلت الأستاذ العقبي على الصورة التي ذكرناها بعد أن فتّشت خزائن الإدارات التي ذكرناها وحجزت الكثير من دفاترها وأوراقها.
وهنا محل اندهاش الرأي العام في القطر الجزائري وجمهور عظيم من العقلاء والمفكّرين في غيره ممن يعرفون الأستاذ العقبي معرفة عيان أو معرفة سماع، ويعرفون مكانته في العلم والدين والإصلاح، وممن يعرفون جمعية العلماء ومبادئها وأصول دعوتها، وانها إذا عادت فإنّما تعادي المبادئ لا الأشخاص، وإذا خاصمت فإنما تخاصم في العموميات لا في الشخصيات، وإن الأصول التي بنت عليها دعوتها هي التعليم والتحابب والتسامح.
ومنطق الرأي العام في اندهاشه واستغرابه ينبئ على اعتبارين يرجع أحدهما إلى الجاني عكاشة ويرجع الآخر إلى الشيخ العقبي.
فالاعتبار الأول هو أن عكاشة رجل جان معترف بالجناية، مجرم عريق في الإجرام، وله سوابق مسجّلة.
فينبغي أن تؤخذ أقواله بغاية التروّي والتعقّل وعدم الوقوف عند ظواهرها، وعرضها على ميزان المنطق وعلم النفس، وإلا فإن كل ذي مكانة كمكانة الشيخ العقبي سيتبوّأ مكانه في "بربروس" ما دام كل مجرم كعكاشة.
نعم يجوز أن يكون عكاشة ارتكب الجناية بإيعاز، ويحتمل أن يكون مأجورًا، ولكن الرواية التي قصّها على العدلية ذات أجزاء لا يستقلّ جزء منها عن الآخر ولا يمكن أن ينظر في كل واحد على حدة وإنما ينظر إليها مجموعة، وعمل العقل هنا إنما هو فيما بين هذه الأجزاء من ترابط أو تفكك، فإذا انهار منها جزء انهارت بقية الأجزاء.
والرأي العام لا يهضم هذه الأجزاء التي تألفت منها رواية عكاشة لا مجتمعة ولا مفترقة، ويستحيل في نظره أن موعزًا بالقتل يعطي السلاح للقاتل ويتحكّم في قوّته واختصاصه، وان موعزًا بالقتل مهما كانت درجته في الذكاء والبلادة يتّصل بمجرم لا يعرفه ويفضي إليه بسرّ مثل هذا، وان مؤامرة مثل هذه تدبر في لحظة، وفي "نادي الترقّي" الذي لا ينقطع روّاده وفي يوم جمعة، وبعد درس في الوعظ الديني وتفسير لكلام الله يرقّق القلوب ويسيل المدامع من خشية الله، ومن الواعظ الذي لم يزل لسانه رطبًا بكلام الله.
كما يستبعد أن قاتلًا يقتل للمال ثم لا يأخذ الأجرة بعد تمام العمل، فهل أخذ عكاشة الثلاثين ألفًا؟ ..
وممن أخذها؟ وقد بقي طليقًا مدة يتيسّر له فيها أن يأخذ الأجرة أو بعضها ...
وأما الاعتبار الثاني الراجع إلى الأستاذ العقبي وجمعية العلماء التي هو من أكبر الممثلين لهديها وسيرتها والقائمين بدعوتها، بل هو أبعد رجالها صيتًا في عالم الإصلاح الديني وأعلاهم صوتًا في الدعوة إليه، فإن الرأي العام في القطر الجزائري- من المسلمين وغير المسلمين- ولا نستثني من خصوم الإصلاح إلا القليل، يعرف حق المعرفة من هو الأستاذ العقبي في ورعه وتقواه وعلمه وهداه؟ ويعرف أن ما وصمه به عكاشة هو شيء مصنوع لا مطبوع، وان العقبي لم يخلق قتّالًا وإنما خلق قوالًا للحق أمّارًا بالمعروف، نهاءًا عن المنكر، وقّافًا عند حدود دينه، وان شدّته في الحق لا تعدو بيان الحق وعدم المداراة فيه وعدم المبالاة بمن يقف في سبيله وأنه رجل كفاح ولكن في غير هذه الميادين، وأن الغيلة والدسّ والتحريش كلها مياه لا ترشح من هذا الإناء، وأن رجلًا مثل العقبي أدّبته الأخلاق الإسلامية الصحيحة وطبعته الهداية القرآنية العالية على غرارها يستحيل أن تخالط هذه المقاصد السافلة قلبه أو تجمعه بأصحابها سبيل.
ويعتقد الرأي العام أن الأستاذ العقبي لو لم يمنعه دينه وتقواه مما وصمه به عكاشة لمنعه شرفه وهمّته ومروءته، ولو لم تمنعه هذه الثلاثة لمنعه عقله وذكاؤه. فهل يعقل أن تهمة سخيفة كهذه من مجرم كعكاشة تعلق بمتحصّن بهذه الحصون المنيعة كالعقبي ويكون لها من القيمة ما يصيره متهمًا بالإجرام، ومن الأثر ما يدخله سجن "بربروس"، ومن النتيجة أن يقال له بعد ستة أيام قضاها في السجن: أنت حر ولكن تحت الطلب؟ ...
هذا هو محل اندهاش الرأي العام الجزائري واستغرابه وتساؤله، مع الاحترام الكامل للعدالة الفرنسية، وان استغراب هذه الحادثة لم ينحصر في الجزائر وحدها بل جاوزها إلى حيث تبلغ سمعة الأستاذ العقبي ويصل ذكر جمعية العلماء، فقد قرأنا في مئات البرقيات والرسائل الخاصة الواردة علينا من مختلف الأقطار، وقرأ الناس معنا في الصحف السيّارة، عربية وفرنسية، ان اعتقال الأستاذ العقبي قوبل في جميع الأقطار بامتعاض عام، وان ذلك الامتعاض هو الذي أنطق الألسنة وحرّك الأقلام.
ومعلوم أنه لا يذكر اسم الأستاذ العقبي إلّا وتذكر بذكره جمعية العلماء، وأن الناس ليعرفون من رجال هذه الجمعية المسيّرين لها ما يعرفونه عن الأستاذ العقبي، ويعلمون من مكانتها العظيمة وسمعتها الشريفة وصيتها البعيد مثل ما يعلمون من مكانته وسمعته وصيته، ويعرفون مواقفها المشرّفة في خدمة الإسلام والعربية، وان دعوتها الإصلاحية التي رسخت في القطر الجزائري وتغلغلت في جميع أوساطه وطبقاته دعوة واضحة المعالم بيّنة الحدود مبنية على البرهان لا على السفسطة، وعلى الإقناع لا على المشادَّة، وعلى التحابب لا على التنافر، وعلى الجمع في الحق لا على التفريق في الباطل. وهي تعمل لغايات شريفة بوسائل شريفة، وفي النهار الضاحي لا في الليل المظلم، ومن مباديها أن لا تنتصر بالباطل ولا تنتصر للباطل، ولا تتكثّر بالمبطلين ولا تتزوّد بالكذب ولا تأمر بالشيء حتى تكون أول فاعل له، ولا تنهى عن الشيء حتى تكون أول تارك له.
وإذا كان أساس عملها كله تطهير المجتمع الإسلامي من العقائد الباطلة والأخلاق السافلة ومحاربة الشرّ من أي طريق جاء، فمحال أن ترضى عن الأشرار أو تقبل بالشرّ. وقد لقيت في تاريخ حياتها خصومات عنيفة وواجهت خصومًا أقوياء. وكانت في جميع ذلك مظلومة واحتملت من الأذى والكيد والعدوان والتهم الباطلة ما تنوء به الجبال، فلم تلجأ في جميع مواقفها إلا إلى الحق والصبر.
وإذا نسي الناس فإنهم لم ينسوا حادثة الاعتداء على الأستاذ "عبد الحميد بن باديس" الذي هو رئيس هذه الجمعية منذ تأسست إلى اليوم، فقد تآمر العليويون على اغتياله حيث ثقلت عليهم وطأة الحق الذي كان يقوله ولا زال يقوله فيهم وفي أمثالهم، وانتدب أشقاها لقتله في قسنطينة وضربه الضربة القاضية لولا وقاية الله ولطفه، ففي ذلك المشهد الذي تطيش فيه الألباب وتتفشى فيه روح الانتقام قوى الله الأستاذ- وهو أعزل- فأمسك خصمه الفاتك المسلّح ولبّبه بثيابه، ثم تجلّى على قلبه المطمئن بالرحمة فقال- وجرحه يثعب دمًا- للجمهور المتألّب المتعطّش لدم الجاني: "إياكم أن يمسّه أحد منكم بسوء" حتى تسلموه للمحافظة، ولولا هذه الكلمة لقطعوا الجاني إربًا إربًا، وقد خلد هذه الحادثة شاعر الجزائر الأستاذ محمد العيد في قصيدة يقول فيها:
وكادت يد الجاني المُسَخَّرِ تعتلي … يد الشيخ لولا الله أدركه لولا
وان أنس لا أنس الذين تضافروا … على الفتك بالجاني فقلت لهم مهلا
إن معاملة الأستاذ الرئيس للجاني عليه بالرحمة والاستبقاء واطفاءه لنائرة تلك القلوب التي كانت تغلي حقدًا عليه- بتلك الجملة الرحيمة- لنفحة من نفحات الأخلاق النبوية التي يدعو الأستاذ ورفاقه إليها، وأساس من الأسس التي بنت عليها جمعية العلماء دعوتها، ومثل شرود في الرفق والرحمة والسلام، وحجة قاطعة لألسنة المتقوّلين على هذه الجمعية والرامين لها بالسوء.
المستغربات في هذه الحادثة (2)
الرأي العام الجزائري- ونحن معه- يحترم القضاء الفرنسي إلى أقصى حدود الاحترام، ويعتقد نزاهته واستقلاله عن المؤثرات الخارجية اعتقادًا لا شائبة فيه للريب، ويحمل من الثقة الكاملة به ما لا يحمله لأية سلطة أخرى ولا لأية هيئة سواه، فإذا جاوزنا أفق القضاء، فإن الرأي العام يقف من بعض النقط في هذه الحادثة موقف المستغرب الحيران كما وقف من أصلها موقف المستفظع المستنكر.
والرأي العام الجزائري- بفضل المعاملات الشاذة الجارية بهذا القطر- أصبح يقظًا حسّاسًا دقيق الملاحظة لا تفوته ظاهرة دون التعليق عليها، ونحن لا نزعم للرأي العام صدق الفراسة في كل شيء، وإنما نسوق بعض ما تدور عليه أحاديث الناس في هذه الحادثة للاعتبار وللتدليل على أن هناك رأيًا عامًا لا نستهين به وإن استهان به أقوام.
يستغرب الرأي العام بقاء الجاني بعد اعترافه بارتكاب الجريمة أيامًا وليالي في إدارة الإخبار السري، ويؤيد الرأي العام في هذا الاستغراب بعض أوساط المحاماة.
ويستغرب تفتيش خزانة جمعية العلماء ما دامت التهمة موجّهة نحو شخص معيّن أو أشخاص معينين، ويستغرب إقفال مكتب الخيرية ومسجدها مع أنها تؤدي عملًا دينيًا بمسجدها الذي يصلي فيه الناس، وعملًا إنسانيًا بما يقوم به مكتبها من إحسان للبائسين وإعانة للمنقطعين.
ويستغرب الكلمات السفيهة التي واجه بها رئيس البوليس السرّي وبعض أعوانه الأستاذ العقبي أثناء الذهاب به إلى السجن.
ويستغرب المعاملة الجافية التي عامل بها ذلك الرئيس وأعوانه كلًا من السيدين محمد بن مرابط ورشيد بطحوش، ويستغرب قول ذلك الرئيس للسيد عباس التركي حينما طلب منه التعجيل باستنطاقه "إن نازلتك طويلة فارجع في العشية"، فمن أين علم السيد الرئيس ان نازلة عباس طويلة إلا إذا كان عكاشة قد سمّاه باسمه، والمفروض أنه لم يسمّ واحدًا من الرجلين ...
ويستغرب موقف الجرائد الفرنسية اليومية، فقد كانت منذ اعتقل الأستاذ العقبي تكتب الفصول الطوال بالعناوين الضخمة وتنشر الصور المثيرة ولا تقتضب من البلاغات الرسمية حرفًا ولا كلمة وتصوّر الاحتمالات بصورة الحقائق المسلمة، وتصف حادثة الاغتيال بأنها نتيجة مؤامرة واسعة النطاق وترسل الكلمات الجارحة جزافًا حتى بلغ التهوّر بإحداهنّ أن كتبت في الموضوع بتاريخ يوم الأربعاء الثاني عشر من أوت مقالًا فيه عتاب لقاضي التحقيق المحترم على ما سمّته بزعمها تراخيًا في الإجراءات، وقالت في هذا الفصل بدون حياء ولا خجل: ان الشخص الثاني من شريكي العقبي في المؤامرة قد ركب البحر أمس. ولم يبق عليها إلا أن تقول هو فلال بن فلان. فمن أين لهذه الجريدة أن المسافر هو أحد المتآمرين؟ وما الذي حملها على ذلك لولا التحريش الذي هو جزء من "المكيدة" وما الذي أبقته للقضاء بعد هذا البيان؟ بل ما الذي أبقته لعكاشة؟ مع أن عكاشة الذي هو المحور في القضية لم يسمّ واحدًا من الشريكين الخياليين، وإنما وصفهما بصفات مبهمة. فكيف ساغ لهذه الجريدة التي لم تحترم القضاء ولم تحترم نفسها ولا قرّاءها أن تقول ما قالت وتعتدي على الأبرياءَ وتتدخل فيما هو من اختصاص عكاشة وحده؟
أم كيف لا نعذر في اعتقادنا أن هذه الحادثة من أولها إلى آخرها مكيدة مبيتة، وانها موجّهة إلى هدف مخصوص، ما دمنا نقرأ مثل هذا الكلام في جريدة لا يصدرها الجن ولا يقرأها الجن وإنما يصدرها أبناء آدم ليقرأها أبناء آدم؟
لسنا- والحمد لله- ممن يتهم الأبرياء ولا ممن يقف في طريق العدالة أو يثير في وجهها الغبار ليحجب الحقيقة عنها، ولا ممن يرسل الكلام جزافًا، وقد قلنا في طالعة هذه الكلمة ولا زلنا نقول ان الحادثة مكيدة، ونحن قوم ندين بالقرائن كجميع العقلاء، ونؤمن بالمثل- "لا دخان بلا نار"، وقد حصلنا نصف العلم بهذا يوم قال السيد ميشال في منشوره المعروف ما قال، وأوصى أعوانه تلك الوصايا الأكيدة بمراقبة ما سمّاه الحركة الوهّابية وتتبع خطواتها في الاجتماعات العمومية، وتوجيه التهم التي تقتضي الإحالة على "البركي" (3).
وحصلنا النصف الثاني يوم قالت هذه الجريدة ما قالت، وأوحي إليها بما لم يوحَ إلى عكاشة. وحسب العاقل من الأمور مبادئها وخواتمها.
إننا لا نظن أنّ أمثال صاحب هذه الجريدة يحتكرون لأنفسهم ملكة الاستنتاج والقياس، ولا ان الحرية التي وسعتهم إلى حد مراغمة الحقائق ونبز الأبرياء تضيق بنا إلى أن لا نقول ان هذه النتائج من تلك المقدمات.
ثم كانت خاتمة الغرائب وأم العجائب ان هذه الجرائد التي كانت بالأمس تكتب فتطول، وتحكي فتهول سكتت بعد الإفراج عن الأستاذ العقبي دفعة واحدة وسكنت تلك الأعصاب الهائجة فسكنت بسكونها الأقلام، كأنه لا يعنيها في المسألة جريمة وقتيل، وإنما يعنيها أن ينحرف الحق وتزيغ العدالة فتساق التهمة إلى الأبرياء. فلما استقام الحق في نصابه وجرت العدالة على مِنهاجِها ساءها ذلك فسكتت، وان سكوتها لدليل عند العارفين على كلامها، وقد أصبح الناس كلهم عارفين ...
مرامي الإشاعات الأولى:
تناثرت لأول وقوع حادثة الاغتيال كلمات من مصادر مختلفة متفاوتة في الاعتبار ولم نحملها نحن على أنها تكهّنات من شأنها أن تصدر في مثل هذه الغيلة المحاطة بالغموض، بل حملناها بحسب المقامات التي صدرت عنها على أنها مقصودة وانها ترمي إلى أشياء سيكشفها الزمن.
قال قوم إن القتل سياسي، وقال آخرون إن القتل ديني، وقال غيرهم ان القتل شخصي ...
ومستند الرأي الأول: ان القتيل غمس يده في حركة المعارضة للوفد الإسلامي الجزائري ومطالبه، وكتب التلغراف المعروف يتبرأ فيه من الوفد بنوعيه السياسي والديني، فمغزى هذا الرأي سوق التهمة إلى الوفد.
ومستند الرأي الثاني: ان القتيل عالم ديني أو على الأقل ذو منصب ديني، وقد عرف بالخصومة لحركة الإصلاح الديني، ومغزى هذا الرأي جر التهمة إلى جمعية العلماء أو إلى النادي الذي هو مركزها أو إلى العقبي الذي هو ممثلها الأكبر في العاصمة.
ونحن لا نملك على الناس أهواءهم وألسنتهم، ولا نتحكّم في تخميناتهم واعتقاداتهم، كما اننا لا نذهب ظنون الناس بيقيننا في الطرف السلبي من المسألة وهو ان الاغتيال ليس نتيجة مؤامرة تتصل بالوفد أو بجمعية العلماء أو بالنادي، أما الطرف الآخر الإيجابي، وهو مصدر الاغتيال، فلا شأن لنا به ولا يقين لنا فيه بل نكل علمه إلى الله، ونكل الكشف عنه إلى القضاء العادل.
لا يصحّ الاعتقاد بأن القتل له صلة بالمعارضة للوفد، فالمعارضون كثير والمعارضة معهودة، ولا بالمضادة لحركة الإصلاح الديني، فالمضادة قديمة والقدم مظنة النسيان والخمود، والرجل واحد من عشرات الألوف من هذه الفرقة التي تحقد على الإصلاح الديني وتحمل لأصحابه الحقد والضغينة، ونحن لا نعتبر هذه الفرقة عدوة لنا وإنما نعتبرها بقية من حملة الفكر القديم الخرافي، تعتمد على نظريات سيذهب بها انتشار الإصلاح، وتستند على سناد من القوة التي لها هوى في بقاء ما كان على ما كان، ولا تلتئم مصلحتها مع الإصلاح الديني، وسينهار هذا السناد بظهور الحق، ونحن على يقين ان وجود هذه الفرقة طبيعي، ومن سنن الله التي لا تقاوم، وسيكتسحها الزمن وتقلباته لعدم صلاحية ما هي عليه لهذه التقلبات، فقصارى صنعنا مع هذه الطائفة أن نتربّص بها صنع الله.
وقد تكالبت علينا هذه الفرقة في بعض الأحايين، وجاء بعض أفرادها في باب الكيد لنا بما لم يأت القتيل بعشره، ومع ذلك فلم تحدّثنا أنفسنا أن نلتجى في مقاومتها إلى الطرق السافلة التي تأباها تربيتنا الإسلامية، وتأباها أصول مبدئنا الإصلاحي المبني على التسامح قبل كل شيء.
أما الشيخ كحول الذي يحاول المغرضون جعله ممتازًا في باب المضادة للإصلاح ليبنوا عليه ما تسوّله لهم أنفسهم، فإننا لا ندّعي- بهتانًا- أننا أصدقاء له، ولكننا لا نجيز لأحد أن يدّعي علينا أننا أعداء له بالمعنى العرفي الذي يفهمه الناس من كلمة العداوة وهو الذي يكون من آثاره إضمار الشر والسعي في الانتقام، وإنما نحن معه كشأننا مع بقية الناس، نرى رأيًا في الدين ويرى هو خلافه، والحكم بيننا هو الدليل فإذا لم يقنع فأمره إلى الله.
ونحن لا نعتبر من هذا الرجل بخصوصه وصفه بالعلم وإنما نعتبر علاقته بالحكم، والرجل كما عهدناه ذكي نزاع بطبيعته إلى الاستقلال الفكري، فلو تركته الظروف لكان في عداد المصلحين، وعلى هذا فمعارضته للإصلاح الديني ليست ذاتية وإنما هي مصطنعة، وإذا كان في الرجل ميزة يمتاز بها عن خصوم الإصلاح فهي هذه.
والرجل يجمع إلى وظيفه الديني وظيفًا آخر إداريًا، وكلتا الوظيفتين بطبيعتهما لا تخلو من ملابسات واحتكاكات تغرس لصاحبها البغضاء في نفوس أقوام والمحبة في نفوس آخرين، وصاحب الوظيف الديني في هذا الوطن الشاذ الأوضاع غير محدود العمل ولا مضبوط المسؤولية ولا واضح العلاقة مع رئيسه، وإنما هو كالقدح الفرد يستعمل حينًا آلة كيد وحينًا جارحة صيد، ولذلك كانت معارضة الرجل بالتلغراف المشهور قليلة التأثير في نفوس العقلاء لعلمهم أنه كتب باسمه لا بيده ...
ونحن، للاعتبارات التي ذكرناها، وبطبيعة مبدئنا الإصلاحي الديني نقول بألسنة لم تتعوّد الكذب والمداجاة، ومن أفئدة لم يستقرّ فيها مع الخوف من الله الخوف من المخلوق:
إننا لم نفرح لمصرع الشيخ كحول كما يظن الخراصون، ولم نتمن قط أن تكون خاتمته هذه الخاتمة، بل قابلنا الجريمة عند السماع بها بالأسف العظيم والاستنكار الشديد، واستعذنا بالله من كيد الكائدين ومكر الماكرين وغدر الغادرين، وسألناه توفيقًا يعصم من مصارع السوء ويقي من مزالق الفتن ويحفظ من عواقب المحن.
الإفراج عن الأستاذ العقبي ورفيقه:
لم يخالجنا الشك لحظة في أن مصير الأستاذ العقبي ورفيقه السيد عبّاس التركي هو الإفراج وبراءة الساحة، وان الحق في هذه التهمة الشنعاء سيتجلّى للعيان، ولكننا كنّا نذهب في تقدير المدة مذاهب لا تحكم فيها إلا نتائج التحقيق، وقد لبث الأستاذ في السجن ستة أيام بلياليها، ولبث رفيقه نصفها ولم نمتعض- علم الله- للسجن وان عظم خطبه، ولا للسجين وان جل عندنا قدره، ولكننا كنا نمتعض لحظ هذه الأمة العاثر وطالعها المنكود، فهي كلما أقدمت على خير وشارفت الوصول إليه وبسطت الراحتين لتناوله، رماها الشيطان بفتنة هوجاء، أقل آثارها إطالة المدة، ومضاعفة الشدة، ومع ذلك الامتعاض فإن رجاءنا في الله وحده لم ينقطع، وثقتنا بالعدالة ورجالها لم تتزعزع.
كان اليوم السادس من اعتقال الأستاذ العقبي هو اليوم المعين للتحقيق معه ومقابلته بالجاني، وكنا ننتظر نتيجة هذه المقابلة بوثوق بالحق، واطمئنان إليه. واستدعى قاضي التحقيق الأستاذ من معتقله وجيء بالجاني، وكان محاميا الأستاذ حاضرين، فلما مثل الجاني أمام القاضي وألقى عليه الأسئلة في الموضوع رجع على تلك الوصمة التي رمى بها الأستاذ، واعترف اعترافًا صريحًا بأنه مبطل فيها ومفتر على الأستاذ، وانه يرجو منه في هذا المجلس أن يسامحه ويعفو عنه، وأعلن أنه رجع عن الباطل إلى الحق، وكانت مفاوضة بين القاضي والمحاميين في قانونية إطلاق الأستاذ ورفيقه أسفرت عن لزوم الإفراج عنهما في تلك العشية.
أطلق سراح الأستاذ ورفيقه في لحظة واحدة في منتصف الساعة السادسة وذهب بهما المحاميان إلى بيتيهما من طريق قليلة السلوك تفاديًا من التشويش والهيجان، ولكن الخبر انتشر بسرعة واهطعت الخلائق إلى داري الأستاذ ورفيقه (وكانتا متصاقبتين)، وطفق الناس في الشوارع يهنئ بعضهم بعضًا والبشر يطفح على وجوههم والدموع تسيل فرحًا، وكان مشهد الجموع المتدفقة على الأستاذ للتهنئة والتحقق من سراحه مشهدًا رائعًا، تجلّت فيه عواطف المحبة والأخوة الإسلامية والتقدير للرجال العاملين.
واضطربت أسلاك البرق والتلفون في ذلك المساء تحمل البشرى إلى أطراف القطر وإلى خارج القطر.
ثم تضافرت الأخبار وحملت إلينا الوفود ان تلك الليلة كانت ليلة عيد ضاحك مبتهج في جميع البلدان، وان كثيرًا من الناس أحيوها إلى الصباح في مرح وسرور وابتهاج، وانهم نسخوا بها كل ما اعتراهم من حزن وألم لاعتقال الأستاذ.
ثم انهالت علينا في الأيام الموالية رسائل التهنئة، برقية وبريدية من القطر الجزائري وغيره من الأقطار، وكانت ترد علينا في كل ساعة عشرات البرقيات من الصباح إلى الساعة العاشرة ليلًا، ثم انثالت وفود التهنئة من الأماكن القريبة والبعيدة يحملهم الشوق ويستتفزّهم السرور، لم يثنهم بعد الشقة ولا مس المشقة ولا كثرة الأشغال عن ذلك، ورأينا العجب العجاب من وحدة في الشعور وصدق في الأخوة وقصد في التقدير وتفانٍ في الإخلاص للرجال العاملين ما كنّا نظنّه ولا نطمع فيه، وربّ نقمة في طيّها نعمة.
أما آثار اعتقال الأستاذ في الأمة الجزائرية وغيرها من الأمم الإسلامية ومدى تأثيره في الحركة الإصلاحية على الخصوص، فسنفرد له مقالًا خاصًا.
فتح نادي الترقّي وما يتّصل به:
بقيت النفوس بعد الإفراج عن الأستاذ العقبي متطلعة إلى فتح نادي الترقي وإدارة "البصائر" والخيرية، وكنت ترى على وجوه القوم بقية استياء وتتفرس ان في الصدور همًا. فتقول متعجبًا: أبعد ظهور الحق وانتصاره والإفراج عن الأستاذ يبقى مجال للكدر والاستياء؟ ولكنك لا تلبث أن تعرف ان مبعث هذا الاستياء هو إغلاق نادي الترقّي معقل الأمة التي كانت تأوي إليه كلما نابت نائبة أو حزب كرب، فتؤويها منه الساحة الواسعة والفناء الرحب، وان نادي الترقي لحقيق بهذه المكانة من نفوس الأمة، فكم نبتت فيه من مشاريع نافعة، وكم رنت في أبهائه أصوات مصاقيع خطباء العربية، وكم شبّت في أحضانه جمعيات مفيدة، وكم كان قدوة في الصالحات، وكم نسج الناس على منواله في تأسيس النوادي في أنحاء القطر، وحسبه شرفًا أنه مركز جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وفيه تعقد اجتماعاتها السنوية العامّة، وحسبه فضلًا على الأمة ما له من الأيادي على مؤتمرها العام في هذه السنة، ففيه انعقدت الجلسات التمهيدية للمؤتمر، وفيه انعقدت اللجنة التنفيذية للمؤتمر في أيامه المشهودة، وفيه اقتبلت الأمة الجزائرية وفدها بعد رجوعه من باريس.
لعمرك ان ناديًا هذه أياديه على الأمة وهذه مكانته في النفوس لحقيق بالحزن لإغلاقه والتطلع لفتحه، وقد تمت الإجراءات اللازمة لفتحه عشية يوم الاثنين الرابع والعشرين من أوت، ففتح في تلك العشية وتدفق الناس على رحابه مبتهجين بفتحه مجددين التهنئة لبعضهم بذلك، وأدّى الناس فريضة المغرب من تلك الليلة في مسجد الخيرية. وتمّت الأفراح بخروج الأستاذ العقبي في صبيحة تلك الليلة من داره إلى النادي بعد أن قضى أيامًا لا يخرج من داره التماسًا للراحة والاستجمام.
فرح المؤمنون في هذه الليلة المباركة بنصر الله واعتبروا بلطيف صنعه، وأيقنوا ان العاقبة للصبر والتقوى، وصدق الله وعده وأعزّ جنده وهزم الأحزاب وحده.
المصدر : الشاملة .
هذا وصلى الله على نبينا محمد و صحبه وآله أجمعين .
كتبه أبو إكرام وليد فتحون
غفر الله له .
الإثنين 4 ربيع الثاني 1438 هـ الموافق لـ 02 يناير 2017 م