هنا مولدي .. بين جبلين وغيمة .. شهدت السماء بذلك .. احتضنني التراب وقبلني .. وصبغتني الأرض بسمرتها .. تقول أمي إن الأشجار أقامت حفلة ذلك المساء احتفاءً بالقادم الصغير .. وأن السماء بكت فرحاً بمولدي .. وكان القمر يراقب من بعيد كيف أن الإنسان يولد من رحم الأرض .. وأن الأرض وحدها .. الأرض وحدها .. هي الأم والأب والقبيلة والوطن .. هنا نشأت العلاقة الأولى بيني وبين الحروف .. كنا نلعب سوياً .. وكانت الحروف تتعبني وانا أطاردها .. وكلما اصطدت حرفاً جديداً اكتشفت معنى آخر للغة .. ومعنى آخر لوجودي ..
صادقت الطيور والأحجار والرمال .. تعثرت مرة وأنا ألهو مثلما يفعل الصبيان فانجرحت ساقي .. هل تصدقون أنني لم أشعر بالألم .. رغم أن قطرات من دمي صافحت أديم الأرض .. عندما كبرت أدركت لماذا لم أشعر بالألم .. الأم لا يمكن أن تقسو على صغارها .. وليذهب دمي فداءً لأمي .. كبرت .. أصبحت مثل أبي الذي كان هو مثل جدي وكان جدي أيضاً يشبه والده .. إننا جميعاً نشبه الجبال التي تقف راسخة هناك .. أنا .. أنت .. نحن .. إننا نشبه أرضنا .. بعطائها وخصبها .. بجفافها وقحطها .. ألم ترَ أنه حتى جلودنا منحوتة منها ..
بدأ حبي للأرض يظهر إلى الوجود .. بعد أن كان مكنوناً في صدري .. مرة في صورة نحيب حين أهجرها ومرة في هيئة صرخة حين تعرض عني .. ومرة كلمة .. مجرد كلمة أقاتل بها منتهكي أعراض الأرض .. الذين لم يراعوا حرمتها .. فابتذلوها .. وأهانوها .. وجعلوها أشبه بعاهرة يقضون فيها أوطارهم .. فإذا انتهوا منها .. وأشبعوا منها رغباتهم قذفوا بها للكلاب .. لتنهش ما تبقى منها وما تبقى منا من كرامة ..
يا سادة الأرض والسماء والمطر .. نحن لسنا عبيداً .. نحن أبناء هذه الأرض ..يا من تحاولون جعل أرضنا أَمَةً في قصوركم .. وتحاولون اقتلاعنا من جذورنا كما تقتلع الأشجار ..يامن تريدون منا أن نكون ماسحي أحذية وجوخ .. وأعراباً بلا شموخ ..وجه أرضنا الطاهر أغلى مما تخيلون .. وأبعد مما تتمنون .. حتى وإن كنا نعيش فيها كالغرباء .. فإننا معجونون بترابها .. مسكونون بهمها .. وستبقى في قلوبنا كأغلى درة .. وأعز ولد .. وأثمن ما يمكن أن يمتلك ..
آخر تعديل بواسطة المشرف: