خلق الله الإنسان في هذه الحياة وأمره بالطَّاعة والعبادة؛ لقوله سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)،[١] ونهاه في المقابل عن الإثم والعصيان، ولكنَّ الزَّلل والتّقصير والخطأ واردٌ على الإنسان؛ لذا شَرَع الله تعالى الاستغفار واستحبَّه لكلِّ عباده المُذنبين منهم وغير المُذنبين، بل كان من أسمائه الحسنى الغفور؛ حتّى يعود العباد إليه تائبين مُنيبين، دون أن ينتابهم اليأس والفتور بعد الوقوع في المعصية أو عند التّقصير في العبادات. معنى الاستغفار الاستغفار لغةً الاستغفار في اللّغة من غَفَرَ، الغين والفاء والرّاء أصلٌ يفيد التّغطية والسّتر، وغَفَر الله تعالى الذّنوب أي سَتَرها.[٢] الاستغفار اصطلاحاً أورد العلماء تعريفاتٍ مُتقاربةً للاستغفار؛ فعرّفه الجرجانيّ بأنَّه: (طلب العبد المغفرة من الله تعالى بعد رؤية قبح المعصية، والإعراض عنها)،[٣] وعُرِّف بأنَّه طلب العفو من الله تعالى عمَّا اقترف العبد من ذنوبٍ وآثام.[٤] فضل الاستغفار وأثرها إنَّ للاستغفار ثمرات وفوائد يحوزها من لزمهما وداوم عليهما، دلَّت عليه آياتٌ كريمةُ وأشارت إليه أحاديثٌ شريفةٌ كثيرةٌ، ومن فضله: محو الذّنوب وتكفير السيّئات، فالمسلم إذا ارتكب ذنبًا فإنَّه لن يبقى حبيساً لهذا الذّنب، يسكنه شعور باليأس على ما اقترف؛ لأنَّه بالاستغفار سيُمحى ما كان منه من آثامٍ، ومن ذلك قول الله تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا).[٥] محبّة الله تعالى للمُستغفرين ورضاه عنهم، وفرحته بتوبتهم ورجوعهم إليه.[٦] استجلاب الخيرات وحلول البركات بفضل مداومة الاستغفار، ودليل هذا دعاء نبيّ الله نوح عليه السّلام لقومه بأن يستغفروا: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا).[٧] النّجاة من عذاب الله وصرف عقابه عن المُستغفرين والتّائبين، ودليل ذلك قول الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).[٨] تفرِيج الكروب وإزالة الهموم، والشّاهد على ذلك ما رُوِي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب).[٩] في الاستغفار اقتداءٌ بالأنبياء والرُّسل عليهم السّلام؛ إذ إنَّهم كانوا من المُستغفرين في مواطنَ كثيرةٍ، منها الشّدة والكرب، وفي مُعاناتهم مع أقوامهم، فأبو البشر آدم عليه السّلام وزوجه حوّاء طلبا المغفرة من الله تعالى بعد مُخالفة أمره بأكلهم من الشّجرة التي نهاهم عنها، وذلك في قول الله تعالى: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)،[١٠] وكذلك استغفار نبي الله موسى عليه السّلام بعد ندمه على وكز الرّجل ممّا أودى بحياته، فقال الله تعالى على لسان موسى عليه السّلام: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)،[١١] وغيرها من الشّواهد لاستغفار الأنبياء عليهم السّلام وهم القدوة للعباد. فالاستغفار نعمةٌ عظيمةٌ أنعم الله بها على عباده؛ كي لا ييأسوا من عفوه، ولا يقنطوا من رحمته، بل يعودوا ويُنِيبوا إليه إن أذنبوا وقصَّروا، ويُجدّدوا صلتهم به سبحانه وتعالى، مُطمئنّين بأنَّ عفو الله ومغفرته أعظم من ذنوبهم، وأنَّ رحمته وسعت كلَّ شيء. صيغ الاستغفار للاستغفار صيغٌ وألفاظٌ مُتعدّدةٌ وردت في القرآن الكريم والسُنّة الشّريفة، منها: من القرآن الكريم قول الله تعالى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).[١٢] قول الله تعالى: (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ).[١٣] قول الله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).[١٤] قول الله تعالى: (وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).[١٥] قول الله تعالى: (رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).[١٦] ففي الآيات الكريمة السّابقة وغيرها من الآيات صيغٌ مُتقاربةٌ للاستغفار، مضمونها طلب العباد من الله ستر ذنوبهم والعفو عنها وترك عقوبتهم عليها.[١٧] من السُنّة النبويّة الشّريفة سيد الاستغفار الذي ورد في حديث شدّاد بن أوس رضي الله عنه عن النَّبي صلّى الله عليه وسلّم: (سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ قَالَ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)،[١٨] وهو أفضل الاستغفار؛ لأنَّه يبدأ بالثّناء على الله تعالى، ثمَّ الاعتراف بالذّنب، ثمَّ سؤال المغفرة منه سبحانه.[١٩] ما روي عن أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي، قَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ).[٢٠] ما روي عن أبي موسى الأشعرّي رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو: (رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ وَعَمْدِي وَجَهْلِي وَهَزْلِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)،[٢١] وقد جاء الاستغفار بهذه الصّيغة عامّاً وشاملاً؛ ليأتي الاستغفار على ما علم العبد من ذنوبه وما لم يعلمه.[٢٢] ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلمّ كان يقول بين التشهّد والتّسليم: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ).[٢٣] ما روي عن زيد مولى النَّبي صلّى الله عليه وسلّم، أنَّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، غُفِرَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ).[٢٤] ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).[٢٥] وغيرها من صيغ الاستغفار التي وردت على لسان النَّبي صلّى الله عليه وسلّم، وسمعها منه الصّحابة رضوان الله عليهم. العلاقة بين الاستغفار والتّوبة التّوبة لغةً من تَوَب، التّاء والواو والباء أصلٌ واحدٌ دالٌّ على الرّجوع، فيقال تاب من ذنبه أي رجع عنه.[٢٦] التّوبة اصطلاحاً يرتبط معنى التّوبة في اللغة مع معناها في الاصطلاح، فقد عرَّفها ابن قيم بأنَّها الرّجوع إلى الله والعودة من مُخالفته إلى طاعته.[٢٢] بين الاستغفار والتّوبة ثمَّة علاقةٌ بين الاستغفار والتّوبة، وهي علاقة عمومٍ وخصوص؛ إذ إنَّ التّوبة أعمُّ من الاستغفار، حيث تشمل التّوبة الماضي والحاضر والمُستقبل، وذلك بأنَّ في التّوبة ندمٌ على ما كان في الماضي، وإقلاع عن الذّنب الحاضر، والعزم على عدم العودة إليه في المُستقبل، أمّا الاستغفار فيُفيد طلب العفو والمغفرة بالسّتر على الذّنوب والوقاية من الشرّ والعِقاب المُترتّب عليها، كما أنَّ التّوبة لا تكون إلا من العبد لنفسه فقط، في حين أنَّ الاستغفار مُمكن من العبد لنفسه أو لأهله أو المسلمين أجمع؛ فيقول: ربي اغفر لي ولوالدَيّ وللمسلمين، أما التّوبة فللنّفس التّائبة فقط، ومن العُلماء من يرى أنَّ الاستغفار والتّوبة بمعنى واحدٍ إذا وردا في سياقين مختلفين، أمَّا إذا وردا معاً في موطنٍ واحدٍ فيختلفان.[٢٧] المراجع ↑ سورة الذاريات، آية: 56. ↑ ابن منظور (1414هـ)، لسان العرب (الطبعة الثالثة)، بيروت: دار صادر، صفحة 25، جزء 5. بتصرّف. ↑ الجرجاني (1983)، التعريفات (الطبعة الأولى)، بيروت: دار الكتب العلمية، صفحة 18. ↑ محمد رواس قلعجي، حامد قنيبي (1988)، معجم لغة الفقهاء (الطبعة الثانية)، عَمَّان: دار النفائس، صفحة 2755. بتصرّف. ↑ سورة النساء، آية: 110. ↑ أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، بيروت: دار المعرفة، صفحة 5، جزء 4. بتصرّف. ↑ سورة نوح، آية: 10-12. ↑ سورة الأنفال، آية: 33. ↑ رواه ابن ماجه، في سنن ابن ماجه، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم: جزء 2، صفحة 1254، حديث رقم: 3819. ↑ سورة الأعراف، آية: 23. ↑ سورة القصص، آية: 16. ↑ سورة آل عمران، آية: 16. ↑ سورة آل عمران، آية:193. ↑ سورة المؤمنون، آية: 109. ↑ سورة المؤمنون، آية: 118. ↑ سورة نوح، آية: 28. ↑ الطبري (2000)، جامع البيان في تأويل القرآن (الطبعة الأولى)، بيروت: مؤسسة الرسالة، صفحة 263، جزء 66. بتصرّف. ↑ رواه البخاري، في الصحيح، عن شداد بن أوس، الصفحة أو الرقم: جزء8، صفحة67، حديث رقم: 6306. ↑ ابن رجب الحنبلي (2001)، جامع العلوم والحكم (الطبعة السابعة)، بيروت: مؤسسة الرسالة، صفحة 412، جزء 22. بتصرّف. ↑ رواه البخاري، في الصحيح، عن أبي بكر، الصفحة أو الرقم: جزء1، صفحة 166، حديث رقم: 834. ↑ رواه البخاري، في الصحيح، عن أبي موسى الأشعري، الصفحة أو الرقم: جزء8، صفحة84، حديث رقم: 6398. ^ أ ب ابن قيّم الجوزية (1996)، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (الطبعة الثالثة)، بيروت: دار الكتاب العربي، صفحة 283، جزء 11. بتصرّف. ↑ رواه مسلم، في الجامع الصحيح، عن علي بن أبي طالب، الصفحة أو الرقم: جزء 2، صفحة 185، حديث رقم: 1848. ↑ رواه أبو داود، في سنن أبي داود، عن زيد مولى النبي، الصفحة أو الرقم: جزء 2، صفحة 85، حديث رقم: 1517. ↑ رواه أبو داود، في سنن أبي داود، عن عبد الله بن عمر، الصفحة أو الرقم: جزء 2، صفحة 85، حديث رقم: 1516. ↑ ابن فارس (2002)، مقاييس اللغة، دمشق: اتحاد الكتاب العرب، صفحة 326، جزء 1. بتصرّف. ↑ المباركفوري (1984)، مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (الطبعة الثالثة)، الهند: إدارة البحوث العلمية-الجامعة السلفية، صفحة 2-3، جزء 8. بتصرّف