كانَتْ لنا بَرْدًا على الأكبادِ....
الشاعر حليم داموس
اللغة والانتماء:
إن قوة اللغة هي نتاج لقوة الأمة التي تتحدثها، وركيزة قوية لبقائها ووَحْدتها، ولقد أدرك الكثيرون من المفكرين أن اللغة واحدة من الوسائل التي تسهم في وَحدة الأمم وتعميق التواصل والتعارف بينها؛ يقول الفيلسوف الألماني (فيخته): "اللغة تجعل من الأمة الناطقة بها كُلًّا متراصًّا خاضعًا لقوانين،إنها الرابطة الحقيقية بين عالم الأجسام وعالم الأذهان"،ولا شك أن استغلال وجود لغة واحدة يجتمع تحت ظلالها الجميع يمثِّل خطوة كبرى في طريق الوحدة إذا أُحسن استغلالها، فإنها تكون مِن أهم وسائل الترابط الذي نحن في أمس الحاجة إليه،وبضعفها نكون قد فقدنا واحدة من أكبر الوسائل للقوة والتوحُّد.
كما أن لغة أي أمة هي تخليد لحضارتها، وبيان أثرها في التاريخ، وأساس لقدرتها وبناء مستقبل أبنائها، وبها تتشكل إبداعات الأمة الفكرية والأدبية، وبضعفها تضعُفُ قوة أي أمة على التنافس وإثبات الذات والثبات أمام التيارات المخالفة لتكوينها وفكرها وثقافتها، ويكون نتاج هذا الضعف هو الانهزام والتقهقر والتخلف، ومن ثم رأينا الأمم القوية دائمًا تسعى إلى نشر لغاتها التي هي الطريق لفرض الهيمنة الثقافية وإذابة هوية الآخر وأسره داخل إطارها الحضاري بعد إضعاف جذوره الفكرية وخلخلة قِيم الانتماء لديه، وهي في نفس الوقت تسعى إلى تشويه وإضعاف كل ما يمكن أن يُشعِره بأصالة حضارته، أو يظهر له مواطن قوتها، ومن خلال ذلك يتم غرس مشاعر الإحساس بالدونية الحضارية الذي هو نتاج للجهل اللغوي والتاريخي؛يقول مصطفى صادق الرافعي: "ما ذلَّت لغةُ شعبٍ إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهابٍوإدبارٍ، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضًا على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثةً في عملٍ واحدٍ: أما الأول فحبس لغتهم في لغته سجنًا مؤبدًا، وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محوًا ونسيانًا، وأما الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها؛ فأمرهم مِن بعدها لأمره تَبَعٌ"، ولقد أدرك بعض رجال أمتنا هذه الحقيقة فأضافوا إلى أساليب مقاومة المحتل الحفاظَ على الهوية عبر التمسك بالدين واللغة، وقد بين الفرنسي (جاك بيرك) كيف استطاع المغربُ العربي الحفاظ على انتمائه قائلًا: "إن أقوى القوى التي قاومت الاستعمار الفرنسي في المغرب هي اللغة العربية، بل اللغة العربية الكلاسيكية الفصحى بالذات، فهي التي حالَتْ دون ذوبان المغرب في فرنسا، إن الكلاسيكية العربية هي التي بلورت الأصالة الجزائرية، وقد كانت هذه الكلاسيكية العربية عاملًا قويًّا في بقاء الشعوب العربية".
أهمية اللغة العربية:
يكفي اللغةَ العربية شرفًا أنها اللغة التي اختارها الله عز وجل لكتابه الكريم، الذي يتلى الآن في ربوع الأرض، ويتبارى المسلمون - عربًا وغير عرب - في حفظه وتلاوته، كما يسعى الكثيرون إلى فهمه ودراسته وبيان أسراره ومعرفة أحكامه وفقه شريعته، وذلك لا يتم إلا بدراسة اللغة التي نزل بها، والتنقيب عما تحويه من مزايا جعلتها المؤهَّلة لتكون لغة الوحي المعجِز، ذلك الذي جعل "الإقبال على تفهمها من الديانة؛ إذ هي أداة العلم، ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد" على حد تعبير أبي منصور الثعالبي، ولقد قال سيدنا عمر بن الخطاب من قبل: "تعلَّموا العربية؛ فإنها من دينكم"، كما قال رضي الله عنه: "أما بعد، فتفقهوا في السنَّة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآنَ؛ فإنه عربي".
واللغة العربية هي لغة ثلاثمائة مليون شخص، ويتعبد بها أكثرُ مِن مليار مسلم، ولقد عرفتُ الكثيرين من المسلمين غير العرب ممن يرون إتقان العربية هو واحدًا مِن أكبر أمانيهم، في الوقت الذين لا نعتني بها نحن العرب حق عنايتها، ولا نعطيها حقها في أن تكون لغة الحياة والعلم، وهي الغنيَّة بخصائصها، التي تتفوق على غيرها بروعة بيانها ودقة أساليبها، وغزارة معجمها، وجمال معانيها، واللغة هي الوسيلة لتعارف هذه الأمة وترابطها، والاحتفاظ بتراثها الحضاري، وحفظ هويتها.
السلف واللغة:
عُنِيَ سلفنا الصالح باللغة غاية العناية، وكان مبعثهم على ذلك العناية بكتاب الله وسنَّة رسوله، إضافة إلى حبهم للغتهم ومعرفتهم لما فيها من الجمال والروعة، وكانوا ينفِرون من اللحن في الكلام ويرونه عيبًا يستحق أن يعاقب مَن يقع فيه، ومِن ذلك ما يروى أن عمر رضي الله عنه أمر بعزل كاتب أبي موسى الأشعري وجلده سوطًا؛ لعدم تمكنه من قواعد العربية؛ إذ كتب خطابًا إلى عمر يقول في مفتتحه: مِن أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب، والصواب: مِن أبي موسى،وعن عمرو بن دينار: "أن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما كانا يضربان أولادَهما على اللحن"، وكان عبدالملك بن مروان يقول: "اللحن في الكلام أقبحُ مِن التفتيق في الثوب، والجدريِّ في الوجه"، وكان يقول: "شيَّبني طلوع المنابر وخوفُ اللَّحْن".
وضعفُ اللغة العربية يترتب عليه عجز عن إدراك علوم الشرع ومعرفة متطلباته، بل الوقوع في تأويلات خاطئة تتنافى مع المقصود من النصوص الشرعية؛ ولهذا يقول مالك رحمه الله:"لا أوتى برجل غير عالمبلغةالعرب يفسر كتاب الله إلا جعلتُه نكالًا"، وجعل علماء أصول الفقه من شروط المجتهد أن يكون عالمًا بالعربية؛ قال الأنصاري الحنفي: "مِن شروط المجتهد أنه لا بد من معرفة التصريف والنحو واللغة"، وهكذا في كل علوم الشرع، بل كان العلماء منهم يحبون لغتهم ويعتزون بها للدرجة التي جعلت أبا الريحان البيروني يقول: "لأن أُشتَمَ بالعربية أحبُّ إليَّ مِن أن أمدح بالفارسية".
ولقد أدرك السلف أن قوة أمتهم من قوة لغتهم، وأن غيابها أو ضعفها سيؤدي إلى التشتت، وأن الحفاظ عليها هو حفاظ على الحضارة الإسلامية التي مهما طال ضعفها فإنه يبقيها ويعيدها إلى ما كانت عليه من قوة اجتماعها حول محوري الدِّين واللغة.
شَهادات غير العرب للغة العربية:
لقد شهد الكثيرون من غير العرب الذين عرَفوا العربية وأدركوا روعتها وعاينوا ما فيها من موسيقا وجمال وغِنى وتنوع ودقة وفخامة في تراكيبها وروعة في أساليبها - شهادة تجعلنا نرى الفرق بوضوح بين مَن ذاق فعرف وإن كان غريبًا أجنبيًّا، ومن جهل فانصرف وإن كان بالوراثة يسمى عربيًّا؛ يقول العالم الغربي الكبير (كارلو نلينو): "اللغة العربية تفوق سائر اللغات رونقًا وغِنى، ويعجز اللسان عن وصف محاسنها"، وتتشابه شهادات كثيرة مع هذه الشهادة التي تفضل اللغة العربية على كثير من اللغات، مثل شهادة العالم الأمريكي (فان ديك) والألماني (فرنباغ)، ومن أكثر الشهادات التي تستشعر فيها عشق اللغة العربية والتأثر بسحر بيانها شهادة (هيرين سيركا)، المرأة التي أسلمت وتسمت باسم (فاطمة)، حيث تقول: "أرجو أن تفخروا بلغتكم؛ فهي أعظم اللغات بيانًا وجمالًا،استعملوها في سائر مجالات حياتكم، وشجِّعوا أطفالكم على أن يفعلوا ذلك، لا تهملوا أدبكم الرفيع، إن الله قد وهبكم هذه اللغة فلا تتخلَّوْا عنها، انشروها قدر إمكانكم".
الآخَرون يدافعون عن لغاتهم:
في الوقت الذي تتعرض فيها اللغةُ العربية لهجمات شرسة من أبنائها ويسعى البعض إلى إضعافها واستبدال اللهجات العامية بها، بحجة صعوبتها وكثرة قواعدها، ويفضل كثيرون استخدام لغات أخرى بحجة أنها المتماشية مع العصر، نرى الدول الأخرى تخدم لغاتها وتسعى إلى نشرها، وتحاول في داخلها أن تحُدَّ من استخدام اللهجات المحلية؛ ففرنسا فرضت منذ أعوام غرامة ألفي فرنك فرنسي على كل من يستخدم كلمة أجنبية واحدة يوجد لها مقابل في الفرنسية، وفي فرنسا أيضًا ومنذ زمن طويل وبالتحديد في 4 يونيو 1794 قام العالم والزعيم الفرنسي القس غريغوار بتقديم تقرير تحدَّث فيه عن ضرورة القضاء المبرم على اللهجات، وتعميم استعمال اللغة الفرنسية، يرفض فيه أن تسلم مفاتيح الإدارة في البلاد إلى مَن لا يجيدون الفرنسية الفصيحة، ويطالب من أجل المساواة أن تعالج هذه المشكلة معالجة جدية؛ وذلك بمحاربة اللهجات المحلية، ونشر اللغة الفرنسية الفصيحة بين جميع المواطنين.
وفي بريطانيا تراقب وزارة التربية والتعليم والثقافةِ الإنجليزيةَ الفصحى؛ خشية أن تضعُفَ أو تنحدر، ويحكي أحد الكتَّاب العرب المغاربة من الذين عاشوا في بريطانيا أنه شاهد برنامجًا تليفزيونيًّا يناقش خطر دخول بعض المفردات والتعابير، وقد استضاف ثلةً من المتخصصين في علم النفس وعلماء الاجتماع من أجل إيجاد حل لتلك المسألة، فكان الاقتراح الذي وصولوا إليه هو السخريَّة من مستعملي المفردات، التعبيرات الدخيلة على الإنجليزية، والإيغال في التهكم بكل مَن يجهر بمثل تلك التعبيرات المتمردة على قواعد الإنجليزية! يقول الكاتب: "ولذا فالمتتبعُ للأفلام التهريجية والفكاهية البريطانية يلاحظ أن السخريَّة تنصب على من لا يتقن الإنجليزية، وليس على من يستعمل اللغة المعيارية، على عكس التوجه المفلس لأفلام الفكاهة التافهة في الدول العربية، التي اندرج بعضها في سلك السخرية من الفصحى دون أن يدرك بعض الممثلين لبلادتهم، ودنو مستوى تحصينهم الحضاري، أنهم بذلك يروجون بكل عمًى لدسائس أعداء أمتهم، وتراثهم وثقافتهم"؛ اهـ.
هذانِ نموذجان للدول التي تسعى إلى الحفاظ على هويتها الحضارية ونموذجها الفكري وثقافتها، وتحافظ مع كل ذلك على وَحْدة شعبها وترابطه، والحديث عن البلدان التي تبذل غاية جهدها في الحفاظ على لغتها الفصيحة يحتاج إلى صفحات طويلة، وهناك نماذج عديدة لدول اعتنت أكبر العناية بلغتها الفصيحة ورفعت من شأنها وجعلَتْ لها مكانة كبيرة في حياة أبنائها، مثل كوريا الجنوبية والصين وفيتنام واليابان، ولا شك أن دراسة تجارِبها ستكون مفيدة للغاية إذا كانت هناك نية في إنهاء ما نعانيه من تضييع للغة العربية ووضعها بين مطرقة اللهجات وسندان اللغات الأجنبية.
هل اللغة العربية صعبة حقًّا؟
الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب تكاد تكون رد الغالبية العظمى ممن يوجه إليهم، وقد لاحظت أيضًا أن بعض المحبين للغتهم يفتخرون بتصويرهم لصعوبة اللغة العربية، وكأن صعوبة لغة القوم مزيَّة تستحق التفاخر، ولعلهم استقوا منظورهم من كثرة القواعد النحوية وتفريعاتها واختلافات العلماء فيها، أو لعلهم رأوا في غناها بالمفردات وتنوع تراكيبها ودقة أساليبها نوعًا من الصعوبة، فأرادوا أن يريحوا ضمائرهم، ولا يكلفوا أنفسهم عناء تعلمها والحديث بها، وإن كان في ذلك من المتعة والرقي ما فيه، وفي الرد على هذه الفكرة التي غرست غرسًا في نفوس الكثيرين، سنتحدث عن تجرِبة هي في غاية الروعة لأستاذ عشق لغته واستطاع ببراعة أن يجعل أطفالًا صغارًا يتحدثون العربية الفصحى بلباقة عجيبة دون أن يقعوا في الأخطاء التي تشوه جمالها وتكدر صفوها ونقاءها، إنه الدكتور عبدالله الدنان صاحب كتاب: "نموذج تربوي متكامل لتعليم اللغة العربية الفصحى للأطفال بالفطرة: النظرية، والتطبيق"، هذه النظرية التي طبقها على ولده باسل، المولود عام 1977م، وقد بدأ يتحدث معه في سنته الأولى بالفصحى، بينما كانت والدته تتحدث معه بالعامية، وعندما بلغ باسلٌ الثالثةَ بدأ يتحدث مع أبيه الفصحى ببراعة، بينما كان يتحدث مع والدته بالعامية، ولباسل ووالده وهما يتحدثان شريط تسجيل يثير الإعجاب والسعادة لكل محب للعربية على موقع اليوتيوب، وقد طبق الدكتور الدنان نفس التجربة مع ابنته لونا ونجحت نفس النجاح، والجميل والموقظ للأمل أن تجرِبته هذه لم تحبس بين جدران العائلة، بل قررت دولة مثل عمان تطبيقها في كل مدارس العاصمة مسقط، كما أنها انتشرت في الكثير من المدارس في الدول العربية.
والحقيقة أن هذا الأمر يؤكد لنا أن صعوبة اللغة العربية تكمن في أننا لم نعوِّدْ ألسنتنا عليها، لم نعايشها كما يجب، ابتعدنا عنها فابتعدت عنا، وأن الكثيرين منا يدرسون القواعد وقد يحفظونها، لكن دون تطبيق، فتكون النتيجة مخيبة للآمال، ويأتي وصفها بالصعوبة ليكون ظلًّا من الوهم نركن إليه بعد أن قطعنا شوطًا بعيدًا في الطريق الخاطئ، إن الدراسات التي أجريت في الصين أظهرت أنمحو الأمية الكاملة يتطلب معرفة من بين ثلاثة وأربعة آلاف حرف، ورغم ذلك استطاع الصينيون أن يجعلوا من لغتهم لغة عالمية غزت الكون، ويسعى العالم إلى تعلمها رغم صعوبتها الواقعية.
هل هناك أمل في نهضة لغوية؟
القارئ عن محاولات المستشرقين ومَن دار في فلَكهم من أبناء جلدتنا لهدم اللغة العربية وإحلال العامية محلها، أو الكتابة بالحروف اللاتينية - سيعلم أن العربية واجهت حربًا ضَروسًا، لو أن لغة أخرى ليس لها ما للعربية من قوة ومن مكانة دينية في النفوس للقيت مصرعها وتنازعت عرشَها اللهجاتُ العامية، أو لرفعت الراية البيضاء للغة المستعمر لتحتلَّ ألسنة أبنائها، لقد حاولوا ولا يزالون بدءًا بالمستشرق الألماني (ولهم سبيتا) الذي ألف في 1881م كتابًا أسماه (قواعد اللغة العامية في مصر) مرورًا بمجموعة على رأسها المهندس الإنجليزي وليم ولكوكس الذي اتسم بحماسة مشتعلة في صراعه مع العربية، أما الظلم الأشد مرارة من وقع الحسام المهنَّد فكان العقوق الذي سل خَنجره مجموعة من العرب، مثل عيسى إسكندر المعلوف الذي كتب قائلًا: "وما أحرى أهل بلادنا أن ينشطوا من عقالهم طالبين التحرر من رق لغةٍ صعبة المراس قد استنزفت أوقاتهم..ولي أمل أن أرى الجرائد العربية قد غيرت لغتها"..ومثل عبدالعزيز فهمي باشا الذي رفع راية الدعوة إلى الكتابة بالحروف اللاتينية، وليس آخر هؤلاء زكريا أزون الذي ألف كتابًا سماه "جناية سيبويه".
لقد تحدى بعض هؤلاء أن تبقى اللغة العربية وراهنوا على نهايتها، لكنها بقيت وستبقى، ودائمًا ما يسخر الله لها المخلِصين.
وأقول للذين انغمسوا في حالة من اليأس نتيجة لإحساسهم بما تعانيه اللغة من تهميش من كثيرين من أبنائها الذين اتجهوا للغات الأجنبية يتداولونها، أو نتيجة لانتشار اللحن وعدم مقدرة الكثيرين أيضًا على التحدث بلغة سليمة، أقول لهم: اقرؤوا ذلك الكلام الذي استهل به أحد علماء العربية كتابه، مبينًا السبب الذي من أجله كتب هذا الكتاب، وخمنوا متى كتب هذا الكلام؟ يقول ذلك العالم: "وذلك لما رأيته قد غلب، في هذا الأوان، من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحن في الكلام يعد لحنًا مردودًا، وصار النطق بالعربية من المعايب معدودًا،وتنافس الناس في تصانيف الترجمانات في اللغة الأعجمية، وتفاصحوا في غير اللغة العربية، فجمعت هذا الكتاب في زمنٍ أهلُه بغير لغته يفخرون، وصنعتُه كما صنع نوح الفُلك وقومه منه يسخرون".
قد يخيل لمن لا يعرف أن هذا الكلام كتب في العقد الأخير أو على أقصى تقدير لا يتجاوز زمن كتابته القرن العشرين، لكن الحقيقة أن كاتب هذا الكلام هو ابن منظور (1233: 1311م) (630هـ: 711هـ) في مقدمة لسان العرب، ولو أن ابن منظور استسلم لليأس لمَا وصل إلينا مثل هذا المعجم الذي لا يستغني عنه طالب علم.
وأقول أيضًا لهؤلاء: إن اللغة العبرية كانت قد ماتت ودُفنت، لكن أهلها بعثوها من جديد لغة للحياة اليومية، أما العربية فإن لها ميادينها في كل ربوع الأمة، وما نتمناه أن تصبح كل ربوع الأمة ميدانها دون ما عداها.
كما أن هناك حرصًا كبيرًا على تعلم اللغة العربية في العديد من الدول الإسلامية وغير الإسلامية، وقد بينت بعض الصحف أنه قد أشارت دراسة للمجلس الثقافي البريطاني إلى أن اللغة العربية هي ثاني أهم لغة في المستقبل من اللغات التي تدرس في المدارس؛ولهذا بدأ المجلس مبادرة للترويج لها في المدارس البريطانية، ومنها: مدرسة هورتون الابتدائية في برادفورد، حيث يتعلم فيها الطلاب اللغة العربية منذ ثلاث سنوات.
كذلك نحن لا نزال نسمع عن جهود وأفكار لتعليم اللغة العربية ونشرها، ونرى مواقعَ وقنوات تهتم بذلك وتحرص عليه، وذلك نتاج لذكاء أصحابها الذين أرادوا أن يصلوا إلى أعلى نسب للمشاهدة، وأدركوا أن التقوقعَ في زاوية اللهجات المحلية لن يمنحهم تلك الفرصة فلجؤوا إلى الفصحى التي لم تخذلهم في تحقيق غايتهم، ولعل قنواتِ الأطفال التي تستخدم العربية الفصحى وتجذب إليها فِلذات أكبادنا في عالمنا العربي على امتداده هي أكبرُ دليل يمكنه أن يخرس ألسنة المخلصين لأعداء أمتهم، ويدحض ادعاءاتهم المزيفة.
وإن كان كل ما سبق ليس كافيًا، فإنها خطوات تحتاج إلى تكاتف المؤسسات، وإلى إصلاح مسار العديد منها؛ حتى نصل إلى أن نجعل عربيتنا هي لغة التعامل والعلم، ونسعى إلى نشرها في ربوع العالم