(الحديث الثاني؛ حديث جبريل في أصول الدين)
حديث جبريل حديث عظيم اشتمل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه؛ لما تضمنه من مراتب الدين، فهو كالأم للسنة، كما سمّيت الفاتحة أم القرآن؛ لما تضمنته من جمعها معاني القرآن.
-شرح حديث جبريل في مراتب الدين
-قال الإمام النووي رحمه الله تعالى:
[ وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه -أيضاً- قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم والصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. فعجبنا يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، وتؤمن باليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. ثم انطلق، فلبثت ملياً، قال: أتدري من السائل؟ قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) ].
فضل حديث جبريل
-هذا حديث عظيم من الأحاديث الجامعة الواسعة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا الذي حصل من جبريل بأنه تعليم للدين، ووصف جبريل بأنه معلم؛ لكونه سأل عن أمور يسمع الصحابة الجواب عنها، فأضيف التعليم إليه؛ لأنه إنما جاء سائلاً ليعلم غيره لا ليتعلم هو، فهو عالم بذلك، ولهذا كان يقول: (صدقت) بعد أن يبين النبي صلى الله عليه وسلم الأشياء المسئول عنها.
تخريج حديث جبريل
وهذا الحديث أورده الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه، وهو أول حديث عنده في كتاب الإيمان، وسبق أن ذكرت أن الإمام النووي رحمه الله ابتدأ الأربعين بأول حديث في صحيح البخاري ، وثنى بأول حديث في صحيح مسلم ، وأن البغوي رحمه الله قد سبقه إلى ذلك في كتاب (مصابيح السنة)، وكتاب (شرح السنة)، فبدأ بحديث: (إنما الأعمال بالنيات)، وثنى بحديث جبريل.
فحديث جبريل حديث عظيم بيّن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام والإحسان، وبين فيه شيئاً من أشراط الساعة وعلاماتها، وبيّن أن جبريل إنما سأل ليعلم الناس الدين.
سبب تحديث ابن عمر بحديث جبريل
وهذا الحديث يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو من رواية صحابي عن صحابي، ومن رواية ابن عن أب.
وسبب تحديثه به أنه جاء رجلان من العراق حاجين أو معتمرين وهما يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري ، يقول يحيى بن يعمر -وهو الذي يروي القصة، كما في صحيح مسلم -: (كان أول من قال بالقدر في البصرة معبد الجهني ، فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: فنسأله، ونبدي له ما حصل في بلدنا من هذا الرأي الباطل والقول المحدث، وهو أنه لا قدر.
قال: (فوفق لنا عبد الله بن عمر ، فاكتنفاه، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ) يعني أن صاحبه سكت ولم يتكلم، ففهم يحيى بن يعمر أنه يريد منه أن يتكلم.
فبدأ يحيى بن يعمر بالكلام، فقال: (إنه ظهر قبلنا أناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم) يعني: أن عندهم اجتهاداً في القرآن وفي العلم (ويقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف) أي أنه لم يسبق قدر، فلم يسبق كتابة وتقدير، ولم يسبق علم بالأشياء التي يأتي بها الناس، وأن العباد يخلقون أفعالهم.
قال: (فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أنني بريء منهم، وأنهم مني برآء، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لا يؤمن أحدهم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره).
ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: (بينما نحن جلوس ..)، وأتى بالحديث بطوله، وذلك من أجل جملة: (وتؤمن بالقدر خيره وشره) وأنه أصل من أصول الإيمان.
الرجوع إلى أهل العلم في أمور الدين
-وهذا يبين لنا أن سلف هذه الأمة هم المرجع، فالصحابة كانوا هم المرجع للتابعين، فيرجعون إليهم في أمور الدين، فالواجب في كل زمان ومكان الرجوع إلى أهل العلم عندما تحصل الأمور المشكلة الأمور المعضلة، ولا يتخرص كل متخرص ويقول كل قائل ويتحدث كل متحدث، وإنما يرجع في ذلك إلى أهل العلم، كما أن الأمور الدنيوية من الصناعات والمهن والحرف إنما يرجع فيها إلى أصحاب الاختصاص، ولا يقدم عليها بدون علم، فأمور الشريعة أولى بأن يكون المرجع فيها إلى أهلها ومن عندهم علم بها.
فكان هذا شأن سلف هذه الأمة، فالتابعون يرجعون إلى الصحابة في معرفة ما يجد وما ينزل من أمور تظهر مخالفتها لما هو معروف في الكتاب والسنة، أو يكون فيها اشتباه، يقول الله تعالى: -فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ -[النحل:43].
فـعبد الله بن عمر عندما أجاب أجاب أولاً ببيان منزلة هؤلاء وحالهم، وأنه بريء منهم، وأنهم برآء منه، وأن من لا يؤمن بالقدر فلا يقبل منه شيء من العمل، ولا يدخل الجنة حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، ثم أتى بالدليل، وهذا فيه -أيضاً- بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من بيان الحكم بدليله.
ميزة الإمام مسلم في طريقة رواية الأحاديث
إن طريقة الإمام مسلم رحمه الله أنه يأتي بالأحاديث كما هي، ويأتي بالألفاظ كما وردت، ولا يختصر الأحاديث، ولا يفرقها ويجزئها في أماكن متعددة كما يصنع البخاري ، ولهذا أورده الإمام مسلم رحمه الله هنا بتمامه ولم يختصره، ولم يأت بمحل الشاهد فقط، وهذه من ميزاته التي تميز بها عن غيره كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في ترجمته من (تهذيب التهذيب)، فبعد أن ذكر كلاماً نقله المزي في تهذيب الكمال قال: قلت: وقد حصل حظ عظيم مفرط للإمام مسلم لم يحصل لغيره، وذلك بعنايته بالمحافظة على الألفاظ، وعدم الرواية بالمعنى، وعدم الاختصار، وأنه يأتي بالشيء كما كان، فلا يحصل منه شيء من التغيير والتبديل بروايته بالمعنى أو باختصار أو بغير ذلك، وهذه من ميزاته التي تميز بها.
وهذه طريقة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فعندما يأتون بالحكم فإنهم يأتون بدليله ولو لم يطلب منهم، وذلك لأن الدليل هو الأساس الذي يبنى عليه، والسائل عندما يسمع الدليل من الكتاب أو السنة يطمئن، فالناس متعبدون بالالتزام بالكتاب والسنة، فإذا أجاب المسئول السائل عن مسألته، وأتى بعد ذلك بالدليل فهذا من تمام الإجابة ومن تمام الإحسان، فيطمئن السائل إلى أن الجواب الذي أجيب به مبني على نص من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
حديث جبريل حديث عظيم اشتمل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه؛ لما تضمنه من مراتب الدين، فهو كالأم للسنة، كما سمّيت الفاتحة أم القرآن؛ لما تضمنته من جمعها معاني القرآن.
-شرح حديث جبريل في مراتب الدين
-قال الإمام النووي رحمه الله تعالى:
[ وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه -أيضاً- قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم والصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. فعجبنا يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، وتؤمن باليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. ثم انطلق، فلبثت ملياً، قال: أتدري من السائل؟ قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) ].
فضل حديث جبريل
-هذا حديث عظيم من الأحاديث الجامعة الواسعة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا الذي حصل من جبريل بأنه تعليم للدين، ووصف جبريل بأنه معلم؛ لكونه سأل عن أمور يسمع الصحابة الجواب عنها، فأضيف التعليم إليه؛ لأنه إنما جاء سائلاً ليعلم غيره لا ليتعلم هو، فهو عالم بذلك، ولهذا كان يقول: (صدقت) بعد أن يبين النبي صلى الله عليه وسلم الأشياء المسئول عنها.
تخريج حديث جبريل
وهذا الحديث أورده الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه، وهو أول حديث عنده في كتاب الإيمان، وسبق أن ذكرت أن الإمام النووي رحمه الله ابتدأ الأربعين بأول حديث في صحيح البخاري ، وثنى بأول حديث في صحيح مسلم ، وأن البغوي رحمه الله قد سبقه إلى ذلك في كتاب (مصابيح السنة)، وكتاب (شرح السنة)، فبدأ بحديث: (إنما الأعمال بالنيات)، وثنى بحديث جبريل.
فحديث جبريل حديث عظيم بيّن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام والإحسان، وبين فيه شيئاً من أشراط الساعة وعلاماتها، وبيّن أن جبريل إنما سأل ليعلم الناس الدين.
سبب تحديث ابن عمر بحديث جبريل
وهذا الحديث يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو من رواية صحابي عن صحابي، ومن رواية ابن عن أب.
وسبب تحديثه به أنه جاء رجلان من العراق حاجين أو معتمرين وهما يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري ، يقول يحيى بن يعمر -وهو الذي يروي القصة، كما في صحيح مسلم -: (كان أول من قال بالقدر في البصرة معبد الجهني ، فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: فنسأله، ونبدي له ما حصل في بلدنا من هذا الرأي الباطل والقول المحدث، وهو أنه لا قدر.
قال: (فوفق لنا عبد الله بن عمر ، فاكتنفاه، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ) يعني أن صاحبه سكت ولم يتكلم، ففهم يحيى بن يعمر أنه يريد منه أن يتكلم.
فبدأ يحيى بن يعمر بالكلام، فقال: (إنه ظهر قبلنا أناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم) يعني: أن عندهم اجتهاداً في القرآن وفي العلم (ويقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف) أي أنه لم يسبق قدر، فلم يسبق كتابة وتقدير، ولم يسبق علم بالأشياء التي يأتي بها الناس، وأن العباد يخلقون أفعالهم.
قال: (فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أنني بريء منهم، وأنهم مني برآء، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لا يؤمن أحدهم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره).
ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: (بينما نحن جلوس ..)، وأتى بالحديث بطوله، وذلك من أجل جملة: (وتؤمن بالقدر خيره وشره) وأنه أصل من أصول الإيمان.
الرجوع إلى أهل العلم في أمور الدين
-وهذا يبين لنا أن سلف هذه الأمة هم المرجع، فالصحابة كانوا هم المرجع للتابعين، فيرجعون إليهم في أمور الدين، فالواجب في كل زمان ومكان الرجوع إلى أهل العلم عندما تحصل الأمور المشكلة الأمور المعضلة، ولا يتخرص كل متخرص ويقول كل قائل ويتحدث كل متحدث، وإنما يرجع في ذلك إلى أهل العلم، كما أن الأمور الدنيوية من الصناعات والمهن والحرف إنما يرجع فيها إلى أصحاب الاختصاص، ولا يقدم عليها بدون علم، فأمور الشريعة أولى بأن يكون المرجع فيها إلى أهلها ومن عندهم علم بها.
فكان هذا شأن سلف هذه الأمة، فالتابعون يرجعون إلى الصحابة في معرفة ما يجد وما ينزل من أمور تظهر مخالفتها لما هو معروف في الكتاب والسنة، أو يكون فيها اشتباه، يقول الله تعالى: -فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ -[النحل:43].
فـعبد الله بن عمر عندما أجاب أجاب أولاً ببيان منزلة هؤلاء وحالهم، وأنه بريء منهم، وأنهم برآء منه، وأن من لا يؤمن بالقدر فلا يقبل منه شيء من العمل، ولا يدخل الجنة حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، ثم أتى بالدليل، وهذا فيه -أيضاً- بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من بيان الحكم بدليله.
ميزة الإمام مسلم في طريقة رواية الأحاديث
إن طريقة الإمام مسلم رحمه الله أنه يأتي بالأحاديث كما هي، ويأتي بالألفاظ كما وردت، ولا يختصر الأحاديث، ولا يفرقها ويجزئها في أماكن متعددة كما يصنع البخاري ، ولهذا أورده الإمام مسلم رحمه الله هنا بتمامه ولم يختصره، ولم يأت بمحل الشاهد فقط، وهذه من ميزاته التي تميز بها عن غيره كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في ترجمته من (تهذيب التهذيب)، فبعد أن ذكر كلاماً نقله المزي في تهذيب الكمال قال: قلت: وقد حصل حظ عظيم مفرط للإمام مسلم لم يحصل لغيره، وذلك بعنايته بالمحافظة على الألفاظ، وعدم الرواية بالمعنى، وعدم الاختصار، وأنه يأتي بالشيء كما كان، فلا يحصل منه شيء من التغيير والتبديل بروايته بالمعنى أو باختصار أو بغير ذلك، وهذه من ميزاته التي تميز بها.
وهذه طريقة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فعندما يأتون بالحكم فإنهم يأتون بدليله ولو لم يطلب منهم، وذلك لأن الدليل هو الأساس الذي يبنى عليه، والسائل عندما يسمع الدليل من الكتاب أو السنة يطمئن، فالناس متعبدون بالالتزام بالكتاب والسنة، فإذا أجاب المسئول السائل عن مسألته، وأتى بعد ذلك بالدليل فهذا من تمام الإجابة ومن تمام الإحسان، فيطمئن السائل إلى أن الجواب الذي أجيب به مبني على نص من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
آخر تعديل: