عبد الله بن المبارك (118-181)
عَبْدُ اللّهِ بنُ المُبَارَك بن وَاضِح الحَنْظَلِيّ التّمِيْمِيّ، مولاَهُم أَبو عَبْدِ الرّحْمَن المَرْوَزِيّ، أحد الأئمة الذين قلَّ بعد الصحابة والتابعين نظراؤهم وطاب مدح العلماء لهم وطال عليهم ثناؤهم، وقد اجتمع في هذا الإمام من حميد الصفات وعجيب الكمالات ما يندر أن يحصل لغيره فرضي الله تعالى عنه وعن سائر أئمة هذه الأمة، ونفعنا الله بما ورثوه وبلغوه من علوم النبوة.
ولابن المبارك تراجم مبسوطة في كتب كثيرة؛ راجع ترجمته في التاريخ الكبير ج5ص212 والتاريخ الصغير ج2ص225 وتاريخ الثقات للعجلي ص275-276 الجرح والتعديل ج1ص260-280 وج5ص179 ومشاهير علماء الأمصار ص194 وحلية الأولياء ج8ص162 والارشاد للخليلي ج1ص272 وج3ص887-890 وتاريخ بغداد ج10ص152 وتهذيب الكمال وفروعه وتذكرة الحفاظ ج1ض274 وسير أعلام النبلاء ج8ص378-421 والعبر ج1ص280 وشذرات الذهب ج1ص295 .
بل قد أفرد ترجمته بالتأليف غير واحد من العلماء والمؤرخين والباحثين، منهم الحافظ الذهبي فقد ألف في ترجمته كتاباً أسماه (قضِّ نهارك بأخبار ابن المبارك)، ذكره الصفدي في (الوافي بالوفيات) (2/164) وفي (نكْت الهميان) (ص243) وابن شاكر الكتبي في (عيون التواريخ) وغيرُهما.
ومما يحسن التنبيه عليه هنا أن الذهبي كان قد افرد بالتأليف سير جماعة من الأئمة وغيرهم من الأعلام، وقد ضاع بعضها إلا انه - بحسب ما قاله الصفدي في ترجمة الذهبي من (الوافي بالوفيات) وابن شاكر الكتبي فيها من (فوات الوفيات) - أدخل الجميع في (سير أعلام النبلاء).
قال الصفدي في الموضعين المشار إليهما: (وله [يعني للذهبي] تراجم في الأعيان، لكل واحد مصنف قائم الذات، مثل الأئمة الأربعة ومن جرى مجراهم، ولكنه أدخل الكل في (النبلاء)---)؛. وكذا قال ابن شاكر الكتبي.
ولكن قال د . بشار في (الذهبي ومنهجه) (ص202): (وقول الصفدي هذا لا يعني أن الذهبي أدخل التراجم والسير المستقلة بأكملها في (سير أعلام النبلاء) لكنه قد يكون أدخل مختصراتها)؛ ثم ذكر على هذا أدلة قوية واضحة.
وقال الذهبي في (التذكرة) (1/274-279):
(والله إني لأحبه في الله، وأرجو الخير بحبه، لما منحه الله من التقوى والعبادة والإخلاص والجهاد وسعة العلم والاتقان والمواساة والفتوة والصفات الحميدة)؛ ثم راح يذكر من مناقبه وثناء الأئمة عليه وعلى علمه وحفظه وإتقانه؛ رحمه الله تعالى.
*******
وأما خصائصه في علمه بالرجال والعلل فيتلخص أهمها بما يلي:
1- كان ابن المبارك من كبار الحفاظ ومن العارفين بالحديث وعلله، وانظر ما يأتي من كلام ابن رجب في آخر هذا البحث.
2-كان من أكثر أهل عصره اجتهاداً في طلب العلم ومثابرة فيه، فكان واسع الاطلاع عظيم الحفظ، قال ابن حجر في (التهذيب):
(وقال أحمد: لم يكن في زمن ابن المبارك أطلب للعلم منه، رحل إلى اليمن، وإلى مصر والشام والبصرة والكوفة؛ وكان من رواة العلم، وكان أهلَ ذاك؛ كتب عن الصغار والكبار وجمع أمراً عظيماً؛ ما كان أحد أقل سقطاً من ابن المبارك؛ وكان يحدث من حفظه، ولم يكن ينظر في كتاب----.
وعن الثوري قال: ابن المبارك أعلم أهل المشرق وأهل المغرب.
وعن ابن عيينة قال: ابن المبارك عالم المشرق والمغرب وما بينهما----.
وعن أبي أسامة قال: كان ابن المبارك في أصحاب الحديث مثل أمير المؤمنين في الناس----.
3- كان يحب الاشتغال بالحديث الصحيح دون غيره من الضعاف والغرائب، قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب): وكان ابن المبارك يقول: (لنا في صحيح الحديث شغل عن سقيمه).
[قلت: إلا أنه أورد في كتابه (الزهد) أحاديث ضعيفة، ولعل عذره في ذلك أن الكتاب في الترغيب والترهيب والفضائل؛ فمثله صنيع الإمام أحمد في (زهده)].
وقال: العلم ما يجيئك من ها هنا وها هنا، يعني المشهور.
4- كان ابن المبارك من أهل الورع في النقد والتوقي فيه، ولعله لم يكن ليتكلم في أحد من الرواة إلا عند وضوح الحاجة إلى ذلك، ولذلك كان من مزاياه في نقده أنه كان فيه عف اللسان خفيف اللفظة، يكاد يستغني بالإشارة إلى جرح الراوي عن التصريح به، فإذا اقتضى أمر الدين وواجب النصح أن يجرح ويحذر لم يقصر، ولكن مع التزام الأدب والورع والتقوى والإنصاف.
قال عبد الله بن الإمام أحمد كما في ترجمة عبد السلام بن حرب من (ضعفاء العقيلي) و(تهذيب الكمال) (18/68) عن الحسن بن عيسى: سمعت عبد الله بن المبارك وسألته عن عبد السلام بن حرب الملائي، فقال: قد عرفته؛ وكان إذا قال: قد عرفته، فقد أهلكه).
وقال عبد الله أيضاً: قال أبي: وقيل لابن المبارك في عبد السلام؟ فقال: ما تحملني رجلي إليه).
وقال مسلم في مقدمة (الصحيح) (1/11): (وقال محمد [يعني ابن عببد الله بن قهزاذ]: سمعت علي بن شقيق يقول: سمعت عبد الله بن المبارك يقول على رؤوس الناس: دعوا حديث عمرو بن ثابت، فإنه كان يسب السلف).
وقال مسلم (1/12): (وحدثني محمد بن عبد الله بن قهزاذ من أهل مرو قال: أخبرني علي بن حسين بن واقد قال: قال عبد الله بن المبارك: قلت لسفيان الثوري: إن عباد بن كثير من تعرف حاله، وإذا حدث جاء بأمر عظيم فترى أن أقول للناس: لا تأخذوا عنه؟ قال سفيان: بلى؛ قال عبد الله: فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عباد أثنيت عليه في دينه وأقول: لا تأخذوا عنه!.
وقال محمد حدثنا عبد الله بن عثمان قال: قال أبي: قال عبد الله بن المبارك: انتهيت إلى شعبة فقال: هذا عباد بن كثير فاحذروه).
وقال مسلم في مقدمة (صحيحه) (1/18): (حدثني أحمد بن يوسف الأزدي قال سمعت عبد الرزاق يقول: ما رأيت ابن المبارك يفصح بقوله (كذاب) إلا لعبد القدوس، فإني سمعته يقول له: كذاب).
5- كان ابن المبارك في نقده معتدلاً بل لعله كان فيه أقرب إلى التساهل، وقد وصفه ابن حزم في (المحلى) (7/241) بجمود اللسان وشدة التوقي؛ ووصفه العلامة المعلمي في تعليقه على (الفوائد المجموعة) (ص214) بأنه ليس ممن يشدد يعني في نقد الرواة؛ وعبارة المعلمي هذه قد تكون مشعرة بأن ابن المبارك كان فيه شيء يسير من التساهل في الكلام على الرواة؛ والله أعلم.
6- كان ابن المبارك لا يرضى أن يُحمل عنه شيء في المذاكرة؛ قال الذهبي في (السير) (13/80): (وقال احمد بن محمد بن سليمان: سمعت أبا زرعة يقول: لا تكتبوا عني بالمذاكرة، فإني أخاف أن تحملوا خطأ، هذا ابن المبارك كره أن يحمل عنه بالمذاكرة، وقال لي إبراهيم بن موسى: لا تحملوا عني بالمذاكرة شيئاً).
****************
هذا وقد عقد ابن أبي حاتم في تقدمة (الجرح والتعديل) باباً أسماه (باب ما ذكر من معرفة ابن المبارك برواة الآثار وناقلة الأخبار وكلامه فيهم) فانظره فيها (ج1 ص269-274) منه.
*****************
ومما اشتهر من كلمات ابن المبارك رحمه الله تعالى أنه قيل له: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة.
ومن أقواله التي اشتهرت عنه: (الإسناد عندي من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، فإذا قيل له: من حدثك؟ بقي).
أخرجه مسلم في مقدمة الصحيح وكثير من المصنفين؛ وقد جمع طرق هذا الخبر عدد من المعاصرين، ومنهم من افرده بالتصنيف.
*****************
ومن أقواله المهمة قوله (حديث أهل المدينة أصح وإسنادهم أقرب)؛ ذكره السيوطي في (التدريب) (1/85).
وقوله (ما رأيت رجلاً أطعن في الرجال من شعبة)؛ رواه عنه أبو زرعة في (الضعفاء) (ص618).