من أركان الإيمان وأصوله: الإيمان باليوم الآخر، وهو شامل لكل غيب بعد الموت، فيدخل فيه الإيمان بالبرزخ، والإيمان بأحداث البعث والنشور، والإيمان بالعرض على الله تعالى، والإيمان بالحساب، والإيمان بالميزان، وبالصحف، وبالجزاء بالجنة أو النار. ومن أركان الإيمان: الإيمان بالقدر، وهو أن يسلم العبد ويوقن بأن كل شيء خلقه الله تعالى بقدر.
الإيمان باليوم الآخر:
1 - الجمع في القرآن والسنة بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر:
الإيمان باليوم الآخر هو أحد الأصول الستة التي جاءت في حديث جبريل، ويأتي في القرآن والسنة الجمع بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، وذلك لأن الإيمان بالله هو الأصل الذي تنبني عليه كل الأصول، والإتيان بالإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله للتنبيه على الجزاء، وعلى ما يلقاه الإنسان في الدار الآخرة من الثواب والعقاب، ويأتي في الترغيب والترهيب الجمع بينهما، ويكون المقصود من ذلك في مجال الترغيب العمل بالأمور المشروعة من أجل أن يحصل الإنسان على الثواب، والمقصود من ذلك في الترهيب أن يحذر الإنسان من الوقوع في الأمور المحرمة؛ لئلا يحصل له العقاب.
ومما جاء في القرآن من الجمع بينهما قول الله عز وجل: -يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ -[النساء:59]
وهذا في الترغيب؛ لأنه يتعلق بالرد إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وجاء في سورة الطلاق: -ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ -[الطلاق:2].
وأما في السنة فقد جاء ذلك في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم) وكذلك جاء في الحديث الآخر: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وهذا الحديث من أحاديث الأربعين النووية كما سيأتي، وهو من حديث أبي هريرة ، وكل جملة فيه فيها الجمع بين الإيمان بالله واليوم الآخر، وذلك إما ترغيباً في فعل الخير ليحصل الأجر، وإما ترهيباً من فعل الشر حتى يسلم من الوزر.
إذاً: فالجمع بين الإيمان بالله واليوم الآخر من أجل التنبيه على الاستعداد لذلك اليوم، فيقدَّم الإنسان الأعمال الصالحة، ويحذر من أن يقع في المحرمات؛ ليحصَّل له الثواب في الدار الآخرة وليسلم من العقاب فيها أيضاً.
ويأتي في القرآن -أيضاً- الجمع بين أكثر من أصلين، وذلك بأن يذكر الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وذلك كما في قوله: -لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ -[البقرة:177]، فقد اشتملت الآية على خمسة أصول من أصول الإيمان.
والمقصود بالكتاب الكتب، و(أل) فيه لاستغراق الجنس، وليست للأفراد، ثم إن هذه الخمسة جاءت في سورة النساء في قوله تعالى: -يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً -[النساء:136].
وجاء ذكر هذه الخمسة في آخر سورة البقرة في قول الله عز وجل: -آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ -[البقرة:285]، والخامس أشار إليه بقوله: -وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ -، والمقصود من ذلك هو اليوم الآخر.
فجاءت هذه الأصول الخمسة في هذه الآيات الثلاث مجتمعة: في البقرة في آيتين، وفي النساء في آية واحدة، وأما الإيمان بالقدر فقد جاء مستقلاً في قول الله عز وجل: -إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ -[القمر:49]، وقوله: -مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا -[الحديد:22].
وأكثر ما اجتمع من هذه الأصول خمسة، وأقلها اثنان: الإيمان بالله واليوم الآخر، وتلك الأصول الخمسة التي اجتمعت هي ما دون الإيمان بالقدر.
2- للإنسان بعد موته داران: دار البرزخ، ودار ما بعد البعث والنشور
واليوم الآخر هو مقابل الدنيا، والحد الفاصل بين الدنيا والآخرة بالنسبة لكل إنسان هو موته، فإنه إذا مات قامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، والذين يكونون في آخر الزمان فإن الساعة تقوم عليهم، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى التي تعقبها نفخة البعث فإن كل من كان حياً يموت، فيتساوى بالموت من مات في أول الدنيا ومن مات في آخرها، فالكل يموتون، وهناك بعد الموت داران: دار البرزخ، ودار ما يكون بعد البعث والنشور، فالإنسان إذا كان موفقاً فهو منعم في قبره وبعد ذلك، وإذا كان على خلاف ذلك فإنه يكون معذباً في قبره وبعد ذلك، وقد يكون نصيبه من العذاب هو ما يكون في قبره.
وعلى هذا فكل إنسان في هذه الدار هو في سفر إلى الآخرة، وكل يوم يمضي من عمره فإنه يقربه من الأجل والنهاية، فكل إنسان له أجل ينتهي إليه قد قدره الله وقضاه، وإذا جاء الأجل فليس هناك تقدم ولا تأخر، وإنما يكون في الوقت الذي شاءه الله تعالى، وبأي سبب من الأسباب، فإما أن يموت بالغرق، أو بالحرَق، أو بالقتل، أو يموت على فراشه، أو بغير ذلك من الأسباب، وبذلك ينتهي من دار العمل وينتقل إلى دار الآخرة.
3- إعداد الزاد للآخرة
والزاد للآخرة هو تقوى الله عز وجل، كما الله عز وجل: -وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى -[البقرة:197]، فكما أن الناس في أسفارهم الدنيوية يحتاجون إلى الزاد فكذلك هم في سفرهم إلى الآخرة، بل هم هنا أشد حاجة إلى الزاد، وقد أورد البخاري في صحيحه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في كتاب الرقاق أنه قال: (إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل)، فما ذهب ومضى من حياة المرء فقد ذهب بما فيه من عمل، وإنما عليه أن يصلح حاله في المستقبل، وأن يتدارك أموره إذا كان عنده تقصير؛ لأن كل يوم يمضي عليه يباعده من الدنيا ويقربه من الآخرة، فهناك أناس يشتغلون بالدنيا ويغفلون عن الآخرة، وهناك أناس يشتغلون بالآخرة ولا تكون الدنيا همهم.
يقول رضي الله تعالى عنه: (فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب) أي: في الدنيا (وغداً -يعني: بعد الموت- حساب ولا عمل) أي أن الإنسان ليس عليه عمل في الآخرة، وإنما هي دار جزاء، إن عمل خيراً فجزاؤه خير، وإن عمل شراً فجزاؤه شر، كما قال الله عز وجل: -فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه -[الزلزلة:7-8].
وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)؛ لأنه هو الذي جنى على نفسه ذلك.
- المداومة على الأعمال الصالحة
وبما أن الإنسان لا يدري متى يموت فإن الموفق هو من داوم على الأعمال الصالحة، وكان على صلة وثيقة بالله باستمرار، فإذا وافاه الأجل فإنه يكون على حال طيبة، بخلاف الإنسان الذي يهمل ويغفل في بعض الأوقات وينشط في بعض الأوقات، فإنه قد يأتيه الموت في حال الإهمال والتقصير، وأما إذا داوم على العمل ولو كان قليلاً فإنه يعود عليه بالنفع، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل)، وكما قال تعالى: -يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ -[آل عمران:102] أي: داوموا على الإسلام، وعلى الطاعة، وعلى التقى.
ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في الحديث الطويل: (فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) فقوله: (فلتأت منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر) هو من جنس قوله تعالى: -وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ -[آل عمران:102] أي: أن يكون الإنسان مستقيماً وملازماً للتقوى، وقد ذُكر في ترجمة منصور بن زاذان -وهو من رجال الكتب الستة، وكان من الملازمين للعبادة- أنه قال فيه أحد أصحابه أو العارفين به: لو قيل لـمنصور بن زاذان : إن ملك الموت بالباب لما أمكنه أن يزيد شيئاً عن الذي كان يفعله. لأنه ملازم للعبادة، ففي أي وقت يأتيه الأجل فهو على حالة طيبة من ملازمة التقوى والطاعة لله تعالى، فعلى الإنسان أن يكون مستعداً ومتهيئاً في أي لحظة من اللحظات للموت، فإذا فاجأه الموت فإنه يكون على حالة حسنة طيبة.
وإنّ الإنسان في حال خروج روحه يبشر أو يُخوَّف، فإذا كان من أهل السعادة فإن الملائكة تبشره، ولهذا فإن روحه تخرج بسرعة كما تخرج القطرة من في السقا، وإذا كان بخلاف ذلك وبشر بالعذاب فإن الروح تأبى الخروج من الجسد، فيستخرجونها كما يستخرج السفود من الصوف المبلول، ولهذا جاء في الحديث الذي في صحيح مسلم -وهو أول حديث عند الإمام مسلم في كتاب الزهد- أنه عليه الصلاة والسلام قال: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر)، فالكافر لا يريد أن يخرج من هذه الدنيا؛ لأنه ليس عنده نعيم إلا فيها، فما بعدها إلا العذاب الدائم المستمر، وأما المؤمن فإنه في الدنيا في سجن، أي أنه تحصل له المصائب والنكبات، ومع ذلك فإنه يصبر ويحتسب، ولكنه عندما ينتقل من هذه الدار إلى دار النعيم فكأنه خرج من السجن، فينطلق في نعيم الجنة وخيراتها وما أعده الله له فيها.
الإيمان باليوم الآخر:
1 - الجمع في القرآن والسنة بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر:
الإيمان باليوم الآخر هو أحد الأصول الستة التي جاءت في حديث جبريل، ويأتي في القرآن والسنة الجمع بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، وذلك لأن الإيمان بالله هو الأصل الذي تنبني عليه كل الأصول، والإتيان بالإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله للتنبيه على الجزاء، وعلى ما يلقاه الإنسان في الدار الآخرة من الثواب والعقاب، ويأتي في الترغيب والترهيب الجمع بينهما، ويكون المقصود من ذلك في مجال الترغيب العمل بالأمور المشروعة من أجل أن يحصل الإنسان على الثواب، والمقصود من ذلك في الترهيب أن يحذر الإنسان من الوقوع في الأمور المحرمة؛ لئلا يحصل له العقاب.
ومما جاء في القرآن من الجمع بينهما قول الله عز وجل: -يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ -[النساء:59]
وهذا في الترغيب؛ لأنه يتعلق بالرد إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وجاء في سورة الطلاق: -ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ -[الطلاق:2].
وأما في السنة فقد جاء ذلك في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم) وكذلك جاء في الحديث الآخر: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وهذا الحديث من أحاديث الأربعين النووية كما سيأتي، وهو من حديث أبي هريرة ، وكل جملة فيه فيها الجمع بين الإيمان بالله واليوم الآخر، وذلك إما ترغيباً في فعل الخير ليحصل الأجر، وإما ترهيباً من فعل الشر حتى يسلم من الوزر.
إذاً: فالجمع بين الإيمان بالله واليوم الآخر من أجل التنبيه على الاستعداد لذلك اليوم، فيقدَّم الإنسان الأعمال الصالحة، ويحذر من أن يقع في المحرمات؛ ليحصَّل له الثواب في الدار الآخرة وليسلم من العقاب فيها أيضاً.
ويأتي في القرآن -أيضاً- الجمع بين أكثر من أصلين، وذلك بأن يذكر الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وذلك كما في قوله: -لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ -[البقرة:177]، فقد اشتملت الآية على خمسة أصول من أصول الإيمان.
والمقصود بالكتاب الكتب، و(أل) فيه لاستغراق الجنس، وليست للأفراد، ثم إن هذه الخمسة جاءت في سورة النساء في قوله تعالى: -يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً -[النساء:136].
وجاء ذكر هذه الخمسة في آخر سورة البقرة في قول الله عز وجل: -آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ -[البقرة:285]، والخامس أشار إليه بقوله: -وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ -، والمقصود من ذلك هو اليوم الآخر.
فجاءت هذه الأصول الخمسة في هذه الآيات الثلاث مجتمعة: في البقرة في آيتين، وفي النساء في آية واحدة، وأما الإيمان بالقدر فقد جاء مستقلاً في قول الله عز وجل: -إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ -[القمر:49]، وقوله: -مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا -[الحديد:22].
وأكثر ما اجتمع من هذه الأصول خمسة، وأقلها اثنان: الإيمان بالله واليوم الآخر، وتلك الأصول الخمسة التي اجتمعت هي ما دون الإيمان بالقدر.
2- للإنسان بعد موته داران: دار البرزخ، ودار ما بعد البعث والنشور
واليوم الآخر هو مقابل الدنيا، والحد الفاصل بين الدنيا والآخرة بالنسبة لكل إنسان هو موته، فإنه إذا مات قامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، والذين يكونون في آخر الزمان فإن الساعة تقوم عليهم، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى التي تعقبها نفخة البعث فإن كل من كان حياً يموت، فيتساوى بالموت من مات في أول الدنيا ومن مات في آخرها، فالكل يموتون، وهناك بعد الموت داران: دار البرزخ، ودار ما يكون بعد البعث والنشور، فالإنسان إذا كان موفقاً فهو منعم في قبره وبعد ذلك، وإذا كان على خلاف ذلك فإنه يكون معذباً في قبره وبعد ذلك، وقد يكون نصيبه من العذاب هو ما يكون في قبره.
وعلى هذا فكل إنسان في هذه الدار هو في سفر إلى الآخرة، وكل يوم يمضي من عمره فإنه يقربه من الأجل والنهاية، فكل إنسان له أجل ينتهي إليه قد قدره الله وقضاه، وإذا جاء الأجل فليس هناك تقدم ولا تأخر، وإنما يكون في الوقت الذي شاءه الله تعالى، وبأي سبب من الأسباب، فإما أن يموت بالغرق، أو بالحرَق، أو بالقتل، أو يموت على فراشه، أو بغير ذلك من الأسباب، وبذلك ينتهي من دار العمل وينتقل إلى دار الآخرة.
3- إعداد الزاد للآخرة
والزاد للآخرة هو تقوى الله عز وجل، كما الله عز وجل: -وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى -[البقرة:197]، فكما أن الناس في أسفارهم الدنيوية يحتاجون إلى الزاد فكذلك هم في سفرهم إلى الآخرة، بل هم هنا أشد حاجة إلى الزاد، وقد أورد البخاري في صحيحه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في كتاب الرقاق أنه قال: (إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل)، فما ذهب ومضى من حياة المرء فقد ذهب بما فيه من عمل، وإنما عليه أن يصلح حاله في المستقبل، وأن يتدارك أموره إذا كان عنده تقصير؛ لأن كل يوم يمضي عليه يباعده من الدنيا ويقربه من الآخرة، فهناك أناس يشتغلون بالدنيا ويغفلون عن الآخرة، وهناك أناس يشتغلون بالآخرة ولا تكون الدنيا همهم.
يقول رضي الله تعالى عنه: (فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب) أي: في الدنيا (وغداً -يعني: بعد الموت- حساب ولا عمل) أي أن الإنسان ليس عليه عمل في الآخرة، وإنما هي دار جزاء، إن عمل خيراً فجزاؤه خير، وإن عمل شراً فجزاؤه شر، كما قال الله عز وجل: -فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه -[الزلزلة:7-8].
وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)؛ لأنه هو الذي جنى على نفسه ذلك.
- المداومة على الأعمال الصالحة
وبما أن الإنسان لا يدري متى يموت فإن الموفق هو من داوم على الأعمال الصالحة، وكان على صلة وثيقة بالله باستمرار، فإذا وافاه الأجل فإنه يكون على حال طيبة، بخلاف الإنسان الذي يهمل ويغفل في بعض الأوقات وينشط في بعض الأوقات، فإنه قد يأتيه الموت في حال الإهمال والتقصير، وأما إذا داوم على العمل ولو كان قليلاً فإنه يعود عليه بالنفع، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل)، وكما قال تعالى: -يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ -[آل عمران:102] أي: داوموا على الإسلام، وعلى الطاعة، وعلى التقى.
ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في الحديث الطويل: (فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) فقوله: (فلتأت منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر) هو من جنس قوله تعالى: -وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ -[آل عمران:102] أي: أن يكون الإنسان مستقيماً وملازماً للتقوى، وقد ذُكر في ترجمة منصور بن زاذان -وهو من رجال الكتب الستة، وكان من الملازمين للعبادة- أنه قال فيه أحد أصحابه أو العارفين به: لو قيل لـمنصور بن زاذان : إن ملك الموت بالباب لما أمكنه أن يزيد شيئاً عن الذي كان يفعله. لأنه ملازم للعبادة، ففي أي وقت يأتيه الأجل فهو على حالة طيبة من ملازمة التقوى والطاعة لله تعالى، فعلى الإنسان أن يكون مستعداً ومتهيئاً في أي لحظة من اللحظات للموت، فإذا فاجأه الموت فإنه يكون على حالة حسنة طيبة.
وإنّ الإنسان في حال خروج روحه يبشر أو يُخوَّف، فإذا كان من أهل السعادة فإن الملائكة تبشره، ولهذا فإن روحه تخرج بسرعة كما تخرج القطرة من في السقا، وإذا كان بخلاف ذلك وبشر بالعذاب فإن الروح تأبى الخروج من الجسد، فيستخرجونها كما يستخرج السفود من الصوف المبلول، ولهذا جاء في الحديث الذي في صحيح مسلم -وهو أول حديث عند الإمام مسلم في كتاب الزهد- أنه عليه الصلاة والسلام قال: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر)، فالكافر لا يريد أن يخرج من هذه الدنيا؛ لأنه ليس عنده نعيم إلا فيها، فما بعدها إلا العذاب الدائم المستمر، وأما المؤمن فإنه في الدنيا في سجن، أي أنه تحصل له المصائب والنكبات، ومع ذلك فإنه يصبر ويحتسب، ولكنه عندما ينتقل من هذه الدار إلى دار النعيم فكأنه خرج من السجن، فينطلق في نعيم الجنة وخيراتها وما أعده الله له فيها.
آخر تعديل: