إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ )[آل عمران: 102]
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ نْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )[النساء: 1]
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا` يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )[الأحزاب: 70-71]
أما بعد :
فإن الإنسان بطبعه قد جُبِلً على حب مكان ولادته ،وأرض آبائه وأجداده ؛ ففيها جذوره وأصوله وأرحامه ،وقد عبّر النبي ﷺ عن ذلك بقوله -حين خرج من مكان ولادته ونشأته مكة مهاجرا إلى المدينة -: ( وَاَللّهِ إنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللّهِ إلَيّ وَإِنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللّهِ إلَى اللّهِ وَلَوْلَا أَنّ أَهْلَك أَخْرَجُونِي مِنْك مَا خَرَجْت)[1] .
هذا ولمّا كانت ظروف المعيشة متفاوتة بين الناس ؛فإنها كثيرا ما كانت ولا زالت تضطرّ المُعسرينَ منهم إلى ترك ديارهم وبلدانهم ،طلبا للرزق وأسباب الحياة ،فهذا من أبرز أسباب هجران العبد لدياره وأراضيه ،ناهيك عن الهجرة فراراً بالدِّين ؛والتي تعتبر من أعظم أنواع وأسباب الهجرة قديما وحديثا، و قد جعلها الله من أعظم الأعمال بعد الإسلام، وحث عليها في غير موضع من كتابه ،فقال تعالى : ( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً )[النساء:100] ،وقال : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ )[التوبة:20] ،كما حث النبي ﷺ أصحابة على هذا النوع من الهجرة حين اشتد أذى المشركين على المسلمين في مكة وبالغوا في فتنتهم عن دينهم، فأمرهم -صلّى الله عليه وسلم- بإذنٍ من الله بالهجرة إلى الحبشة أولا ثم إلى المدينة ثانيا؛ ولهذا صار للمهاجرين -زمن النبي عليه الصلاة والسلام- ميزة على إخوانهم من الأنصار، وصاروا يقدّمون في الذّكر لشرفهم، لأنّهم تركوا أوطانهم وديارهم وأموالهم وخرجوا، بل تركوا أولادهم وأزواجهم، وخرجوا إلى المدينة من أجل الدين ومن أجل نُصرة الرّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فشكر الله لهم ذلك وأثنى عليهم ووعدهم بجزيل الثواب ،فكانت هجرتهم سنة يتأسى بها المسلمون الذين يفتنون عن دينهم في جميع الأمصار والأعصار ؛ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
إلا أن النّاظر اليوم في أحوال المسلمين يرى عجبا عُجَابَا ،فقد أصبح حالهم بخلاف حماة الدّين الأوائل الذين باعوا أنفسهم لله ،فبينما كانت هجرة أولائك -عليهم رضوان الله- من دار الكفر إلى دار الإسلام، أضحت هجرة بعض الناس اليوم -وأكثرهم من الشّباب- من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر ..كذلك الحسرة كل الحسرة على من نّوره الله بنور الشهادتين فأسلم هناك في بلاد الكفر ، ثم تراه يتشبّث بالمكوث فيها ،فلا هو فكّر يوماً في نفسه بأن يهاجر فيوفّر لها راحة العبادة والإخلاص،ولا هو فكّر يوماً في الإسلام بتكثير سواد أهله ،فوا عجباهُ ..!!
[ أسباب مكوث المسلمين بين أظهر الكفار والمشركين ]
والمتتبّع لحال هؤلاء يتحصّل لديه جملة من الأسباب ؛ دفعت أكثرهم لهذا الفعل المخالف لشريعة الإسلام ،ولكنها في الجملة ترجع إلى ثلاثة أسباب :
الأوّل : ضعف التوكّل على الله ؛ لأنهم في الغالب يرون بلدان الإسلام صعبة المعيشة من ناحية الرزق وطلبه ، وهذا مخالف لما تقرّر في عقيدة المسلمين من أن الرّزق بيد الله وحده،وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إن الرزق ليطلُب العبدَ كما يطلُبه أجلُه )[2]،فالحاصل أنه على هؤلاء أن يتّقوا الله ربّهم ،وأن يتوكّلوا عليه حقّ التوكّل ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا )[الطلاق:2-3]،ويحسنوا الظّن به ؛وقد قَالَ النبي ﷺ : ( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً )[3]. ثم ليحذروا من مثل هذه الاعتقادات أشدّ الحذر ،فقد قال رسول الله -ﷺ-: ( إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي إنْ خيرا فخير، وإنْ شرا فشر )[4].
ألا فليعلم هؤلاء أن الذي يرزقهم في بلاد الكفر هو الذي يرزقهم في بلاد الاسلام..
الثاني : حب الدّنيا والسّعي في جمع حُطامها ؛وتعلّق القلب بوسائل العيش و الرفاهية في بلادهم بحكم كونهم يعيشون حياة مادية ممتعة -في نظرهم- ، فيصعب عليهم عادة أن ينتقلوا إلى بلد إسلامي قد لا يُوفّر لهم فيه وسائل الحياة الكريمة في وجهة نظرهم ... وأي رفاهية هذه التي بسببها يسمع أصحابها شتى أنواع الكفر بالله وطُرُقِ الاستهزاء بدينه ونبيّه -عليه الصلاة والسلام- !!
الثالث : عدم وجودِ الدّاعي إلى هذه الفضيلة -بينهم-[5]،فلا تكاد ترا منهم من يفعل ذلك -إلا من رحم الله-،بل ربما كرِه بعضهم ذكر الهجرة وما يتعلّق بها ،والذي يُؤسِف حقيقة أن قلوب بعضهم تنفر من مثل هذا -إن لم يكن أصحابها ممّن يثبّط الآخرين- ،فإنّا لله وإنّا إليهِ رَاجعُون..!
[ تعريف الهجرة لغة واصطلاحا ]
الهجرة لغة: "اسمٌ من هجر يهجُر هَجْرا وهِجرانا"[6].
قال ابن فارس: "الهاء والجيم والراء أصلان، يدل أحدهما على قطيعة وقطع، والآخر على شد شيء وربطه. فالأول الهَجْر: ضد الوصل، وكذلك الهِجْران، وهاجر القوم من دار إلى دار: تركوا الأولى للثانية، كما فعل المهاجرون حين هاجروا من مكة إلى المدينة"[7].
والهجرة شرعاً: "ترك دار الكفر والخروج منها إلى دار الإسلام"[8].
وأعم منه ما قاله الحافظ ابن حجر: "الهجرة في الشرع ترك ما نهى الله عنه"[9]، وذلك لقوله ﷺ: ( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه )[10]، وهي تشمل الهجرة الباطنة والهجرة الظاهرة، فأما الهجرة الباطنة فهي ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء وما يزيّنه الشيطان، وأما الظاهرة فهي الفرار بالدين من الفتن[11].
ولما كانت الثانية أعظم أمارات الأولى وأكمل نتائجها خص بعض العلماء التعريف بها كما تقدم. ثم لما كانت هجرته ﷺ من مكة إلى المدينة أشرف الهجرات وأشهرها انصرف اللفظ عند الإطلاق إليها.
وأما لفظ الهجرتين فهو عند الإطلاق يراد به الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة[12].
كما أنه من الشناعة بمكان أن يطلق بعضهم لفظ "الهجرة" على السّفر من بلاد الاسلام إلى
[ أنواعها ]
نظرا لما مرّ من تعريف الهجرة ،وجمعا بين النّصوص ؛فإنه يتحصل من إطلاقاتها أنها على نوعين : حسّيّة ،ومعنوية
- الهجرة الحسّيّة : ويمكن أن نجعلها أربعة أنواع :
الأول : الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهذه أشرف الهجرات وأفضلها على الإطلاق ، وهذه خصَّ الله تعالى بها ساداتِ الأولياء من المهاجرين ؛الذين هاجروا من مكة إلى المدينة -رضي الله عنهم وأرضاهم- .
الثاني : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ؛وهي المقصودة من هذه الأسطر- .
الثالث : هجرة أرض المعاصي والفسوق إلى أرض الصلاح والإيمان ،ودليلها قصة قاتل المائة نفس[13].
قال عنها النووي -
- :"قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب، والأخدان المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين والورعين ومن يقتدى بهم، وينتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك توبته"[14].
الرابع : الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن ،فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمْ أَرْضُوهُمْ، تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ، وَتَحْشُرُهُمْ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ )[15].
- الهجرة المعنوية : وهي تُشارِك الأولى في المعنى اللغوي، ففيها معنى الترك والهجر، ولكن ليس للبلدان، وإنما للفواحش والذنوب، فهي هجرة القلوب لا الأبدان؛ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( المسلم مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَن هجَر ما نهى الله عنه )[16]، ومنها نوع آخر وهو الالتزام بالعبادة في زمن الفتنة والقتل، فقال صلى الله عليه وسلم: ( العبادة في الهَرْج كهجرةٍ إليّ )[17].
[ فضائلها ]
من بين تلك الفضائل الجمّة لهذه العبادة الشريفة[18] :
1-تكفير الذنوب:
فعن عمرو بن العاص قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يمينك فلأُبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضتُ يدي، قال: ( ما لك يا عمرو؟ )، قال: قلت: أردت أن أشترطَ، قال: ( تشترط بماذا ؟ )، قلت: أن يغفرَ لي، قال: ( أما علِمتَ أن الإسلام يهدِم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدِم ما كان قبلها، وأن الحج يهدِم ما كان قبله )[19].
2- وقوع أجْر المهاجر على الله -بغضّ النّطر عن إتمام الرّحلة- :
عن سعيد بن جبير أن رجلًا من خزاعة كان بمكة فمرِض، وهو ضمرة بن العيص بن ضمرة بن زنباع، فأمَر أهله، ففرَشوا له على سرير، فحملوه وانطلقوا به متوجهًا إلى المدينة، فلما كان بالتنعيم مات، فنزلت: ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ )[النساء: 100]، وكذلك قاله الحسن وغيره من المفسرين[20]، وقال الإمام البخاري: وقع: وجَب [21].
3- صاحب الهجرة يُقدَّم في الإمامة عند صلاة الجماعة:
فعن أَوْس بن ضَمْعَج، يقول: سمعت أبا مسعود، يقول: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتاب الله، وأقدمُهم قراءةً، فإن كانت قراءتهم سواءً، فليَؤُمَّهم أقدمُهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً، فليَؤْمَّهم أكبرهم سنًّا، ولا تَؤُمَّنَّ الرجل في أهله، ولا في سلطانه، ولا تجلِس على تَكرِمته في بيته، إلا أن يأذَن لك، أو بإذنه ) [22] ، قال العظيم آبادي: "هذا شاملٌ لمن تقدَّم هجرةً؛ سواءً كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، أو بعده؛ كمَن يُهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام" [23].
4- المهاجر في أول زُمرة تدخل الجنة:
فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أُمتي؟ )، قال: الله ورسوله أعلم، فقال: ( المهاجرون يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون، فيقول لهم الخزنة: أَوَقَد حُوسِبتُم؟ فيقولون بأي شيء نُحاسب؟ وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله، حتى مِتنا على ذلك، قال: فيُفتح لهم، فيَقِيلون فيه أربعين عامًا قبل أن يدخلها الناس ) [24].
5- تمنَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون امْرأً من الأنصار لولا الهجرة:
بوَّب الإمام البخاري لهذا الفضل العظيم في "صحيحه" فقال : باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار"، وساق بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لو أن الأنصار سلكوا واديًا، أو شِعْبًا، لسلَكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنتُ امرأً من الأنصار )، فقال أبو هريرة:"ما ظلَم بأبي وأمي، آوَوْه ونصَرُوه، أو كلمةً أخرى"[25].
اختلفت تفاسير السّلف في سرّ هذا الفضل ؛وقد جمع الحافظ ابن حجر -
- شيئا منها فقال :"قال الخطابي: أراد بهذا الكلام تألُّف الأنصار واستطابة نفوسهم، والثناء عليهم في دينهم، حتى رضِي أن يكون واحدًا منهم، لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها، ونسبة الإنسان تقع على وجوه؛ منها: الولادة، والبلادية، والاعتقادية، والصناعية، ولا شك أنه لم يُرِد الانتقال عن نَسَب آبائه؛ لأنه مُمتنع قطعًا، وأما الاعتقادي، فلا معنى للانتقال فيه، فلم يبقَ إلا القسمان الأخيران، وكانت المدينة دار الأنصار والهجرة إليها أمرًا واجبًا؛ أي: لولا أن النسبة الهجرية لا يسعني ترْكها، لانتسبتُ إلى داركم.
قال: ويُحتمل أنه لَمَّا كانوا أخواله - لكون أمِّ عبدالمطلب منهم - أراد أن ينتسب إليهم بهذه الولادة، لولا مانع الهجرة.
وقال ابن الجوزي: لم يُرد صلى الله عليه وسلم تغيُّر نَسَبه ولا مَحْو هجرته، وإنما أراد أنه لولا ما سبق من كونه هاجَر، لا نتسب إلى المدينة وإلى نُصرة الدين، فالتقدير لولا أن النسبة إلى الهجرة نسبة دينيَّة لا يَسَع تركها، لانتسبتُ إلى داركم.
وقال القرطبي: معناه لتسمَّيتُ باسمكم، وانتسبتُ إليكم كما كانوا ينتسبون بالحلف، لكن خصوصية الهجرة وتربيتها، سبقتْ فمنعتْ من ذلك، وهي أعلى وأشرف، فلا تتبدَّلُ بغيرها.
وقيل: التقدير لولا أن ثواب الهجرة أعظم، لاخترتُ أن يكون ثوابي ثوابَ الأنصار، ولم يُرِد ظاهر النَّسب أصلًا.
وقيل: لولا التزامي بشروط الهجرة - ومنها: ترْك الإقامة بمكة فوق ثلاث - لاخترتُ أن أكون من الأنصار، فيُباح لي ذلك"[26].
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ )[آل عمران: 102]
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ نْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )[النساء: 1]
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا` يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )[الأحزاب: 70-71]
أما بعد :
فإن الإنسان بطبعه قد جُبِلً على حب مكان ولادته ،وأرض آبائه وأجداده ؛ ففيها جذوره وأصوله وأرحامه ،وقد عبّر النبي ﷺ عن ذلك بقوله -حين خرج من مكان ولادته ونشأته مكة مهاجرا إلى المدينة -: ( وَاَللّهِ إنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللّهِ إلَيّ وَإِنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللّهِ إلَى اللّهِ وَلَوْلَا أَنّ أَهْلَك أَخْرَجُونِي مِنْك مَا خَرَجْت)[1] .
هذا ولمّا كانت ظروف المعيشة متفاوتة بين الناس ؛فإنها كثيرا ما كانت ولا زالت تضطرّ المُعسرينَ منهم إلى ترك ديارهم وبلدانهم ،طلبا للرزق وأسباب الحياة ،فهذا من أبرز أسباب هجران العبد لدياره وأراضيه ،ناهيك عن الهجرة فراراً بالدِّين ؛والتي تعتبر من أعظم أنواع وأسباب الهجرة قديما وحديثا، و قد جعلها الله من أعظم الأعمال بعد الإسلام، وحث عليها في غير موضع من كتابه ،فقال تعالى : ( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً )[النساء:100] ،وقال : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ )[التوبة:20] ،كما حث النبي ﷺ أصحابة على هذا النوع من الهجرة حين اشتد أذى المشركين على المسلمين في مكة وبالغوا في فتنتهم عن دينهم، فأمرهم -صلّى الله عليه وسلم- بإذنٍ من الله بالهجرة إلى الحبشة أولا ثم إلى المدينة ثانيا؛ ولهذا صار للمهاجرين -زمن النبي عليه الصلاة والسلام- ميزة على إخوانهم من الأنصار، وصاروا يقدّمون في الذّكر لشرفهم، لأنّهم تركوا أوطانهم وديارهم وأموالهم وخرجوا، بل تركوا أولادهم وأزواجهم، وخرجوا إلى المدينة من أجل الدين ومن أجل نُصرة الرّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فشكر الله لهم ذلك وأثنى عليهم ووعدهم بجزيل الثواب ،فكانت هجرتهم سنة يتأسى بها المسلمون الذين يفتنون عن دينهم في جميع الأمصار والأعصار ؛ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
إلا أن النّاظر اليوم في أحوال المسلمين يرى عجبا عُجَابَا ،فقد أصبح حالهم بخلاف حماة الدّين الأوائل الذين باعوا أنفسهم لله ،فبينما كانت هجرة أولائك -عليهم رضوان الله- من دار الكفر إلى دار الإسلام، أضحت هجرة بعض الناس اليوم -وأكثرهم من الشّباب- من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر ..كذلك الحسرة كل الحسرة على من نّوره الله بنور الشهادتين فأسلم هناك في بلاد الكفر ، ثم تراه يتشبّث بالمكوث فيها ،فلا هو فكّر يوماً في نفسه بأن يهاجر فيوفّر لها راحة العبادة والإخلاص،ولا هو فكّر يوماً في الإسلام بتكثير سواد أهله ،فوا عجباهُ ..!!
[ أسباب مكوث المسلمين بين أظهر الكفار والمشركين ]
والمتتبّع لحال هؤلاء يتحصّل لديه جملة من الأسباب ؛ دفعت أكثرهم لهذا الفعل المخالف لشريعة الإسلام ،ولكنها في الجملة ترجع إلى ثلاثة أسباب :
الأوّل : ضعف التوكّل على الله ؛ لأنهم في الغالب يرون بلدان الإسلام صعبة المعيشة من ناحية الرزق وطلبه ، وهذا مخالف لما تقرّر في عقيدة المسلمين من أن الرّزق بيد الله وحده،وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إن الرزق ليطلُب العبدَ كما يطلُبه أجلُه )[2]،فالحاصل أنه على هؤلاء أن يتّقوا الله ربّهم ،وأن يتوكّلوا عليه حقّ التوكّل ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا )[الطلاق:2-3]،ويحسنوا الظّن به ؛وقد قَالَ النبي ﷺ : ( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً )[3]. ثم ليحذروا من مثل هذه الاعتقادات أشدّ الحذر ،فقد قال رسول الله -ﷺ-: ( إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي إنْ خيرا فخير، وإنْ شرا فشر )[4].
ألا فليعلم هؤلاء أن الذي يرزقهم في بلاد الكفر هو الذي يرزقهم في بلاد الاسلام..
الثاني : حب الدّنيا والسّعي في جمع حُطامها ؛وتعلّق القلب بوسائل العيش و الرفاهية في بلادهم بحكم كونهم يعيشون حياة مادية ممتعة -في نظرهم- ، فيصعب عليهم عادة أن ينتقلوا إلى بلد إسلامي قد لا يُوفّر لهم فيه وسائل الحياة الكريمة في وجهة نظرهم ... وأي رفاهية هذه التي بسببها يسمع أصحابها شتى أنواع الكفر بالله وطُرُقِ الاستهزاء بدينه ونبيّه -عليه الصلاة والسلام- !!
الثالث : عدم وجودِ الدّاعي إلى هذه الفضيلة -بينهم-[5]،فلا تكاد ترا منهم من يفعل ذلك -إلا من رحم الله-،بل ربما كرِه بعضهم ذكر الهجرة وما يتعلّق بها ،والذي يُؤسِف حقيقة أن قلوب بعضهم تنفر من مثل هذا -إن لم يكن أصحابها ممّن يثبّط الآخرين- ،فإنّا لله وإنّا إليهِ رَاجعُون..!
[ تعريف الهجرة لغة واصطلاحا ]
الهجرة لغة: "اسمٌ من هجر يهجُر هَجْرا وهِجرانا"[6].
قال ابن فارس: "الهاء والجيم والراء أصلان، يدل أحدهما على قطيعة وقطع، والآخر على شد شيء وربطه. فالأول الهَجْر: ضد الوصل، وكذلك الهِجْران، وهاجر القوم من دار إلى دار: تركوا الأولى للثانية، كما فعل المهاجرون حين هاجروا من مكة إلى المدينة"[7].
والهجرة شرعاً: "ترك دار الكفر والخروج منها إلى دار الإسلام"[8].
وأعم منه ما قاله الحافظ ابن حجر: "الهجرة في الشرع ترك ما نهى الله عنه"[9]، وذلك لقوله ﷺ: ( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه )[10]، وهي تشمل الهجرة الباطنة والهجرة الظاهرة، فأما الهجرة الباطنة فهي ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء وما يزيّنه الشيطان، وأما الظاهرة فهي الفرار بالدين من الفتن[11].
ولما كانت الثانية أعظم أمارات الأولى وأكمل نتائجها خص بعض العلماء التعريف بها كما تقدم. ثم لما كانت هجرته ﷺ من مكة إلى المدينة أشرف الهجرات وأشهرها انصرف اللفظ عند الإطلاق إليها.
وأما لفظ الهجرتين فهو عند الإطلاق يراد به الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة[12].
كما أنه من الشناعة بمكان أن يطلق بعضهم لفظ "الهجرة" على السّفر من بلاد الاسلام إلى
[ أنواعها ]
نظرا لما مرّ من تعريف الهجرة ،وجمعا بين النّصوص ؛فإنه يتحصل من إطلاقاتها أنها على نوعين : حسّيّة ،ومعنوية
- الهجرة الحسّيّة : ويمكن أن نجعلها أربعة أنواع :
الأول : الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهذه أشرف الهجرات وأفضلها على الإطلاق ، وهذه خصَّ الله تعالى بها ساداتِ الأولياء من المهاجرين ؛الذين هاجروا من مكة إلى المدينة -رضي الله عنهم وأرضاهم- .
الثاني : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ؛وهي المقصودة من هذه الأسطر- .
الثالث : هجرة أرض المعاصي والفسوق إلى أرض الصلاح والإيمان ،ودليلها قصة قاتل المائة نفس[13].
قال عنها النووي -
الرابع : الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن ،فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمْ أَرْضُوهُمْ، تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ، وَتَحْشُرُهُمْ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ )[15].
- الهجرة المعنوية : وهي تُشارِك الأولى في المعنى اللغوي، ففيها معنى الترك والهجر، ولكن ليس للبلدان، وإنما للفواحش والذنوب، فهي هجرة القلوب لا الأبدان؛ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( المسلم مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَن هجَر ما نهى الله عنه )[16]، ومنها نوع آخر وهو الالتزام بالعبادة في زمن الفتنة والقتل، فقال صلى الله عليه وسلم: ( العبادة في الهَرْج كهجرةٍ إليّ )[17].
[ فضائلها ]
من بين تلك الفضائل الجمّة لهذه العبادة الشريفة[18] :
1-تكفير الذنوب:
فعن عمرو بن العاص قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يمينك فلأُبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضتُ يدي، قال: ( ما لك يا عمرو؟ )، قال: قلت: أردت أن أشترطَ، قال: ( تشترط بماذا ؟ )، قلت: أن يغفرَ لي، قال: ( أما علِمتَ أن الإسلام يهدِم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدِم ما كان قبلها، وأن الحج يهدِم ما كان قبله )[19].
2- وقوع أجْر المهاجر على الله -بغضّ النّطر عن إتمام الرّحلة- :
عن سعيد بن جبير أن رجلًا من خزاعة كان بمكة فمرِض، وهو ضمرة بن العيص بن ضمرة بن زنباع، فأمَر أهله، ففرَشوا له على سرير، فحملوه وانطلقوا به متوجهًا إلى المدينة، فلما كان بالتنعيم مات، فنزلت: ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ )[النساء: 100]، وكذلك قاله الحسن وغيره من المفسرين[20]، وقال الإمام البخاري: وقع: وجَب [21].
3- صاحب الهجرة يُقدَّم في الإمامة عند صلاة الجماعة:
فعن أَوْس بن ضَمْعَج، يقول: سمعت أبا مسعود، يقول: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتاب الله، وأقدمُهم قراءةً، فإن كانت قراءتهم سواءً، فليَؤُمَّهم أقدمُهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً، فليَؤْمَّهم أكبرهم سنًّا، ولا تَؤُمَّنَّ الرجل في أهله، ولا في سلطانه، ولا تجلِس على تَكرِمته في بيته، إلا أن يأذَن لك، أو بإذنه ) [22] ، قال العظيم آبادي: "هذا شاملٌ لمن تقدَّم هجرةً؛ سواءً كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، أو بعده؛ كمَن يُهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام" [23].
4- المهاجر في أول زُمرة تدخل الجنة:
فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أُمتي؟ )، قال: الله ورسوله أعلم، فقال: ( المهاجرون يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون، فيقول لهم الخزنة: أَوَقَد حُوسِبتُم؟ فيقولون بأي شيء نُحاسب؟ وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله، حتى مِتنا على ذلك، قال: فيُفتح لهم، فيَقِيلون فيه أربعين عامًا قبل أن يدخلها الناس ) [24].
5- تمنَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون امْرأً من الأنصار لولا الهجرة:
بوَّب الإمام البخاري لهذا الفضل العظيم في "صحيحه" فقال : باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار"، وساق بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لو أن الأنصار سلكوا واديًا، أو شِعْبًا، لسلَكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنتُ امرأً من الأنصار )، فقال أبو هريرة:"ما ظلَم بأبي وأمي، آوَوْه ونصَرُوه، أو كلمةً أخرى"[25].
اختلفت تفاسير السّلف في سرّ هذا الفضل ؛وقد جمع الحافظ ابن حجر -
قال: ويُحتمل أنه لَمَّا كانوا أخواله - لكون أمِّ عبدالمطلب منهم - أراد أن ينتسب إليهم بهذه الولادة، لولا مانع الهجرة.
وقال ابن الجوزي: لم يُرد صلى الله عليه وسلم تغيُّر نَسَبه ولا مَحْو هجرته، وإنما أراد أنه لولا ما سبق من كونه هاجَر، لا نتسب إلى المدينة وإلى نُصرة الدين، فالتقدير لولا أن النسبة إلى الهجرة نسبة دينيَّة لا يَسَع تركها، لانتسبتُ إلى داركم.
وقال القرطبي: معناه لتسمَّيتُ باسمكم، وانتسبتُ إليكم كما كانوا ينتسبون بالحلف، لكن خصوصية الهجرة وتربيتها، سبقتْ فمنعتْ من ذلك، وهي أعلى وأشرف، فلا تتبدَّلُ بغيرها.
وقيل: التقدير لولا أن ثواب الهجرة أعظم، لاخترتُ أن يكون ثوابي ثوابَ الأنصار، ولم يُرِد ظاهر النَّسب أصلًا.
وقيل: لولا التزامي بشروط الهجرة - ومنها: ترْك الإقامة بمكة فوق ثلاث - لاخترتُ أن أكون من الأنصار، فيُباح لي ذلك"[26].