دفع كيد المغرضين بدفاع الشيخ أحمد حماني عن محمد بن عبد الوهاب وبلاد الحرمين
الحمد لله وَحْدَه، والصلاةُ والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده وعلى آله وصحبِه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فلا تزال دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله محل ثناء وتبجيل عند العلماء قديما وحديثا، ذلك لأن دعوة الشيخ رحمه الله دعوة إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الأمة، وهذه دعوة كل مصلح وكل مجدد، فلو قارنت بين دعوة الشيخ رحمه الله ودعوة الشيخ ابن باديس مثلا في الجزائر لوجدتهما دعوة واحدة، وذلك لاشتراكهما في المبدإ والغاية مِنَ الدعوة للتوحيد والاتِّباع، ونبذِ كُلِّ ما يُناقِضُ ذلك مِنَ الشرك والابتداع والتقليد، ولا أدل مما جاء في تقرير جمعيّة العلماء على رسالة الشِّرك ومظاهره: «فإن الدعوة الإصلاحية التي يقوم بها دعاة الإصلاح الإسلامي في العالم الإسلامي عامة، وتقوم بها جمعية العلماء في القطر الجزائري خاصة، تتلخص في دعوة المسلمين إلى العلم والعمل بكتاب ربهم ونبيهم، والسير على منهاج سلفهم الصالح في أخلاقهم وعباداتهم القولية والاعتقادية والعملية، وتَطبِيق ما هُم عليهِ اليومَ مِن عقائد وأعمال وآداب على ما كان في عَهْدِ السَّلَف الصَّالح؛ فما وَافَقَهُ؛ عَددنَاهُ مِن دِينِ اللهِ، فعَمِلنا به، واعتبرنا القائم به قائما بدين الله، ومالم يَكُن مَعروفًا في عهدِ الصّحابةِ، عَدَدناهُ ليسَ مِن دينِ اللهِ»(1).
وقال الشيخ الطيِّب العقبي رحمه الله: «هذا، وإنّ دعوتنا الإصلاحيّة قبل كلِّ شيء وبعده هي دعوة دينيّة محضة ... وهي تتلخَّص في كلمتين: أن لا نعبد إلا الله وحده، وأن لا تكون عبادتُنا له إلا بما شرعه وجاء من عنده»(2).
وهذا يدل على أنَّ دعوة أهل السنَّة والجماعة واحدةٌ وإِنْ تَعدَّدَ مجدِّدوها، وتَغايَرَ ما لقَّبها به نابِزُوها، وتَباعدَتْ أقطارُها وأمصارها، واختلفَتْ أزمانُها وأعصارها، لهذا أردت أن أبين من خلال هذا المقال ثناء الشيخ أحمد حماني رحمه الله عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وإن كان الشيخ حماني ليس وحده من دافع عن هذه الدعوة المباركة، فهذا الشيخ عمر بن البسكري في مناظرته المعروفة بـ: «مناظرة المصلح والمحافظ»، يقول: « نحن لا نعرف للوهابية مذهبا خاصا حتى نتمكن من نشره والدعوة إليه بل الوهابية عبارة على قوم يتبعون مذهب الإمام أحمد بن حنبل وينسبون لمحمد بن عبد الوهاب من حيث أنه من العلماء الناهضين الداعين إلى الله المجددين لمذهب إمامه أحمد بن حنبل كالشيخ خليل عندنا، والشيخ السيوطي عند الشافعية وغير هؤلاء»(3).
وقال الشيخ عبد القادر بن إبراهيم المَسْعَدي رحمه الله في ردِّهِ على أصحاب الطُّرُق الصُّوفيَّة مِمَّن كانَ ينبِزُ علماء الجمعية السَّلَفِيّينَ بالوهابية: «لاَ طريقةَ تُوصِلُ إلى مَرضاةِ اللهِ غَير طريق محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأَصحابِهِ والأئمة الراشدين.
أُولئِك آبائي فجِئني بِمِثلهم*** إذا جمعتنا يا جريرُ المجامِع.
وإِن كُنتِ تَنْسِبِينَهم أَيَّتُهَا الوَرَقَةُ الضَّالَّةُ المُضِلَّة! إلى ابنِ عبدِ الوهاب إلا أَنَّهُ حنبليٌّ مُتصَلِّبٌ في دِينِهِ جَزاهُ اللهُ عَن الأُمَّة والمِلَّة خَيرًا كسَائِر أَئِمَّة المسلِمِين الهَادِين المُهتَدِين:
فَلاَ عَيْبَ فِيهِم غير أَنَّ سُيُوفهم*** بهن فُلُولٌ مِن قِراع الكتائِب.
وإِلاَّ فَعَادِلِي بَينَ مَذهبِهِ السُّنِّي السَّنِيّ وبَينَ مَشْرَبِك البَاطِنِي الإِلْحَادي الإِسماعِيلي الرَّافِضِي مَذهبِ الرَّقْص والشَّخِير والضَّرْب على الأَسْتَاه بِالبِندِير فَأَينَ الثَّرَى مِن الثُّرَيَّا؟»(4).
وقال الأستاذ محمّد السّعيد الزّاهريّ رحمه الله في رده على من وَصَفَ النَّجْديِّين بِالغُلُوِّ: «... أنا لا أُوافِقُهُ على أنَّ إخواننا المؤمنين السَّلفيِّين في نَجْدٍ والحجاز قد غَلَوْا في الإصلاح الإسلاميِّ، ولا أَصِفُهُم بالغُلُوِّ؛ لأنَّ الغُلُوَّ في الشّيءِ هُوَ الخروجُ عنه أو عن حُدودِه المشروعة، وإخوتُنا في نَجْدٍ والحجاز إنَّما يَدعُونَ إلى ما دَعَا اللهُ إليهِ، لا يَغْلُونَ في ذلك ولا يَخرُجُون في إصلاحهم عن الحُدُود المشروعة»(5).
وقال الأديب محمد بن العابد الجَلاَّلِي البسكري رحمه الله في تقريظ كتاب «صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان»:» هذا الكتاب أَلَّفَهُ أَحدُ عُلماء الهِند الأعلام، وهو العلامة الفقيه الأصولي المحدث مولانا الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي ... رَدَّ بِهِ على رسالة الشيخ أحمد زيني دحلان المسمَّاة: «الدرر السنية في الرد على الوهابية»! ودَحْلاَنُ هذا هُو أَحَدُ رُؤُوس الضَّلال الذين أَعَادُوا لِوَثَنِيَّةِ القُبُور مَاضِي شَبَابِهَا بِمَا أَلَّفُوهُ وكَتَبُوهُ مِن الوساوِس والضَّلالاَت... وبِواسطةِ عُلماء السُّوء أمثال دَحْلاَن والنَّبْهَانِي انتشَرَ كثيرٌ مِن الفِتَن التي ما زالت الأُمَّةُ الإِسلامية تُعَانِي وَيْلاَتِها»(6).
هذا وقد قمت بجمع كلام الشيخ أحمد حماني رحمه في الدفاع عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعن مؤسس الدولة السعودية محمد بن سعود رحمهما الله حتى تكون حجة على من يطعن ويلمز فيهما بالجهل والكذب والبهتان.
وقد رتبت كلام الشيخ رحمه الله ترتيبا يتوافق مع مضمون المقال، بحيث خصصت لكل فقرة عنوانا يناسبها فنسأل الله التوفيق والسداد.
أولا: ما هي دعوة محمد بن عبد الوهاب؟:
لا شك أن دعوة محمد بن عبد الوهاب دعوة إصلاحية دينية جاءت لتقضي على الخرافات والبدع، وليست دينا جديدا ومذهبا مخترعا، بل هي دعوة إصلاحية تدعو إلى الكتاب والسنة، وفي هذا يقول الشيخ أحمد حماني رحمه الله: «لم تكن دعوة محمد بن عبد الوهاب دينا جديدا، ولا بدعة مستهجنة، وإنما كانت دعوة إلى تصحيح العقائد الزائفة التي شابها الشرك، وإلى إصلاح الأعمال الفاسدة، وإلى العودة إلى الدين الصحيح المستمد من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقائد وفي العبادات وفي المعاملات، وإلى القضاء على آثار الشرك التي من مظاهرها زيارة القبور والتوسل بأصحابها من الأولياء ودعوتهم والتمسح بالأشجار والأحجار وتأليهها، كانت هذه الدعوة محاولة لإيقاظ المسلمين وإصلاح شأنهم والنهوض بهم، وكانوا قد بلغوا أقصى درجات الانحطاط الفكري والديني والسياسي.
ولد ابن عبد الوهاب أوائل القرن الثاني عشر في السنة 1016 من الهجرة، القرن الثامن ميلادي في عام 1700 من الميلاد، ودرس بـ: نجد، ثم ذهب إلى المدينة وإلى العراق وإلى الشام، وإلى بلاد الأكراد وفارس، وهناك درس القرآن وعلوم القرآن، من قراءات، ومن تفسير، والحديث والفقه والعربية، ولكنه اعتنى عناية عظيمة بكتب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية وبكتب تلميذه ابن القيم الجوزية، وهذان الإمامان العظيمان حاولا أن يجددا الإسلام أثناء القرن السابع والثامن الهجري، ولكن حوربا حربا شديدة، ومات ابن تيمية رحمه الله في السجن، وعذب تلميذه ابن القيم، وقد ترك كل منهما كتبا نفيسة جدا في التفسير وفي الحديث وفي الفتاوى وفي علاج الأمراض التي اعترت المسلمين، فانكب ابن عبد الوهاب على كتبهما واقتنع بدعوتهما، ثم بعد ذلك رجع إلى بلاده، وسكت مدة أشهر، ثم بعد ذلك أخذ يشن الغارات على القبور وعلى المزارات، وعلى كل أنواع الشرك التي كانت قد لابست العقيدة الإسلامية، وكانت حالة المسلمين في كل أقطار الإسلام سيئة الأحوال».
وجاء هذا الكلام إثر محاضرة ألقاها الشيخ بالمركز الثقافي الإسلامي بالعاصمة يوم: 24 جانفي 1971م، وهو نفس المركز الذي يترأسه بوزيد بومدين الذي طعن في الشيخ العقبي فتنبه(7).
ثانيا: محمد بن عبد الوهاب من المجددين الذين يشملهم حديث على كل رأس قرن يبعث الله من يجدد لها الدين:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»(8).
والحديث يشمل كل فرد من آحاد العلماء من هذه الأعصار ممن يقوم بفرض الكفاية في أداء العلم، وهذا ينطبق على الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وفي هذا يقول الشيخ أحمد حماني رحمه الله: «وفي هذا العصر جاء ابن عبد الوهاب ولعله مشمول بالحديث الذي ينص على أن الله سبحانه وتعالى يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل قرن من يجدد لها الدين.
جاء بدعوة سلفية كانت بداية كل أمم الشرق الإسلامي العربي.
وقد أراد بهذا تصحيح الدين وإنقاذ المسلمين، واستعادة المجد الإسلامي...» (9).
ثالثا: أول صوت ارتفع بالإصلاح والإنكار على البدعة هو صوت محمد بن عبد الوهاب:
بعد تدهور حالة المسلمين دينيا واجتماعيا وسياسيا، وبعد أن سيطرت البدع والخرافات على مجتمعاتنا الإسلامية كان أول صوت ارتفع في وجه الخرافات والبدع، ووجوب الرّجوع إلى كتاب الله والتّمسّك بسُنّة رسول الله صلّى الله عليهِ وسلّم، هو صوت الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهذا ما أكده الشيخ حماني رحمه الله حين قال: «أوّلُ صوتٍ ارتفعَ بالإصلاح والإنكار على البدعة والمُبتدِعين ووجوب الرّجوع إلى كتاب الله والتّمسّك بسُنّة رسول الله صلّى الله عليهِ وسلّم، ونَبْذِ كلِّ ابتداعٍ ومقاومةِ أصحابه، جاء مِن الجزيرة العربيّة، وأَعْلَنَهُ في النّاس الإمامُ محمّد بن عبد الوهّاب أثناء القرن الثّامن عشر .... ولمّا كانت نشأةُ هذه الدّعوة في صميم البلاد العربيّة ونجحت على خصومها الأوّلين في جزءٍ منها، وكانت مبنيّةً على الدّين وتوحيد الله - سبحانه - في أُلوهيّته وربوبيّته، ومَحْوِ كلّ آثار الشّرك - الّذي هو الظّلم العظيم -، والقضاء على الأوثان والأَنْصَاب الّتي نُصِبت لتُعْبَدَ مِن دونِ الله أو تُتّخَذ للتّقرّب بها إلى الله، ومنها القُبَاب والقُبور في المساجد والمَشَاهد - لمّا كان كذلك فقد فَهِمَ أعداءُ الإسلام قِيمتها ومَدَى ما سيكون لها مِن أبعادٍ في يقظةِ المسلمين ونهضة الأُمّة العربيّة الّتي هي مادّة الإسلام وعِزُّهُ، إذْ ما صلح أمرُ المسلمين أَوَّلَ دولتهم إلّا بما بُنِيَت عليه هذه الدّعوة، وقد قال الإمام مالكٌ: «لا يَصْلُحُ آخِرُ هذه الأُمّة إلّا بما صَلح به أَوَّلُها».
لهذا عزموا على مُقاومتها وسَخّروا كلَّ إمكانيّاتهم المادّيّة والفكريّة للقضاء عليها، وحشدوا العلماء القُبُوريِّين الجامِدين أو المَأْجُورِين للتَّنْفِير منها وتضليل اعتقاداتها، وربّما تكفير أهلها، كما جَنَّدُوا لها الجنود وأَمَدُّوها بكلّ أنواع أسلحة الفَتْكِ والدّمار للقضاء عليها .
تَحرَّشَ بها الإنكليز والعثمانيّون والفُرس، واصطدموا بها، وانتصر عليهم السُّعوديُّون في بعض المعارك، فالتجأت الدّولة العثمانيّة إلى مصر، وسَخَّرت لحَرْبِهَا محمّد علي وأبناؤُه - وهو الّذي كانوا سَخَّرُوه لحَرْبِ دولةِ الخِلافة وتَهوِينها - وكان قد جَدَّدَ جيشَهُ على أَحْدَثِ طرازٍ عند الأوروبيِّين آنذاك، فاستطاع الجيش المصريّ أن يَقضي على هذه القوّة النّاشئة، وظنّوا أنّهم استراحوا منها، وكان مِن الجرائم المُرتكَبَة أنّ أمير هذه الإِمارة السَّلَفِيَّة المُصْلِحَة أُسِرَ وذُهِبَ به إلى مصر، ثمّ إلى إسطمبول حيثُ أُعْدِمَ كما يُعْدَمُ المجرمون.
وهكذا يكون هذا الأميرُ المسلم السَّلَفِيُّ المُصْلِحُ مِن الّذين سُفِكَت دماؤُهم في نَصْرِ السُّنَّةِ ومُقاومة البدعة -رحمه الله-» (10).
رابعا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب من العلماء الذين أدوا واجبهم، وأحيوا سنة نبيهم:
لا شك في أنَّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان من العلماء الذين أدوا واجبهم الديني كمسؤولين عن الأمة، لهذا قال الشيخ أحمد حماني كما في مجموع فتاويه: «فمسؤوليّة العلماء أعظمُ من مسؤوليّة الحكّام والأمراء والوزراء، ذلكَ أنّ العامَّةَ قد لا تُفتنُ بهم ولا تتّخذهم قدوةً في الدِّين، وإِن كانَ مِن أَوْكَدِ واجباتهم حمايةُ وصيانةُ المسلمين في أموالهم وأرواحهم وأنفسهم ودينهم ودنياهم. على أنَّ كثيراً مِن علماء المسلمين –أزهريين وغير أزهريين، قدماء ومُحْدَثين- أدَّوا واجبهم، وأحيوا سنّة نبيِّهم، وبَصَّروا المسلمين بما جاء به دينهم، وحذَّروهم من البِدع والضلالات ومِن فتنة القبور والمشاهد، وعلى رأس هؤلاء، شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قَيِّم الجوزية، وأبو إسحاق الشاطبي، وابن عبد الوهاب...»(11).
خامسا: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي أخذ بها محمد بن سعود دعوة أيقظت المسلمين:
نقل الشيخ أحمد حماني كلاما للمستشرق الأمريكي: «لوثروب ستودارد»، يشهد فيه على أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي بداية اليقظة الكبرى للمسلمين، كما في كتابه: «حاضر العالم الإسلامي»(12)، حيث جاء فيه: «فيما العالم الإسلامي مستغرق في هجعته، ومدلج في ظلمته، إذا بصوت يدوي من قلب الصحراء، شبه الجزيرة، مهد الإسلام، يوقظ المؤمنين، ويدعوهم إلى الإصلاح والرجوع إلى سواء السبيل، وكان هذا الصارخ بهذا الصوت إنما هو المسلم المشهور محمد بن عبد الوهاب الذي أشعل نار الوهابية فاشتعلت واقتدت، واندلعت ألسنتها في كل زاوية من زوايا العالم الإسلامي، ثم أخذ هذا الداعي يحث المسلمين على إصلاح النفوس واستعادة المجد الإسلامي، اليقظة الكبرى في عالم الإسلام».
وعلق الشيخ أحمد حماني على كلام هذا المستشرق فقال: «هكذا يقول هذا المستشرق عن هذا الإمام محمد بن عبد الوهاب، وهي شهادة من كاتب أجنبي منصف، وعالم خبير بفنه، يشهد بأن دعوة ابن عبد الوهاب التي أخذ بها محمد ابن سعود كانت بداية اليقظة الكبرى في عالم الإسلام، وإنما كان بهذه الدعوة الأثر العظيم لأنها مبنية على دعوة المسلمين إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله، فقد كانت أول حادثة لابن عبد الوهاب أنه كان قاضيا فطبق حكما من أحكام القرآن الكريم، هو حكم حد الزاني، رفعت إليه امرأة ثبتت عليها جريمة الزنا ولم تنكرها، فحكم عليها بالحكم الشرعي وأقام عليها الحد، وسمع به أمير البلاد، فبعث إلى والي المدينة يأمره بقتله، وكان أمير المدينة صديقا له، فعزَّ عليه أن يقتله فأخبره، فخرج من العوينة بلاده والتجأ إلى الدرعية بلاد الأمير السعودي محمد بن سعود، فدعاه إلى نصرته وإلى حمايته، وإلى الأخذ بالمبادئ، فقبل ابن سعود هذه الدعوة وذلك في أواسط القرن الثاني عشر حوالي 1157 من الهجرة، فالتقيا على الحكم بالشريعة الإسلامية، والدعوة لدين الحق، مبرءا من البدع، منزها عن الانحراف، وتعاهد الرجلان: الإمام والشيخ، على نشر العقيدة وإقامة الشريعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى قامت الحكومة الإسلامية الأولى، وقد كانت هذه الحكومة على منهاج حكومة الخلفاء الراشدين»(13).
سادسا: محمد بن سعود رجل عظيم، وشخصية لها مكان في تاريخ اليقظة الإسلامية:
لا شك أن الملك محمد بن سعود رجل عظيم وشخصية مهمة في التاريخ الإسلامي الحاضر، فلا تعجب من الشيخ حماني لما وصفه بالرجل العظيم.
جاء في مقال للشيخ أحمد حماني بعنوان: «مؤتمر الفقه الإسلامي وجامعة محمد بن سعود»، ما يلي: «... سأبدأ بالحديث عن الجامعة، وعن الرجل العظيم الذي تحمل اسمه هذه الجامعة ... أعطيت هذه الجامعة اسم شخصية لها مكان في تاريخ اليقظة الإسلامية، والنهضة العربية، أسست هذه الجامعة عام 1394، وهي تحمل اسم الإمام محمد بن سعود رحمه الله، ومحمد بن سعود هو مؤسس الدولة السعودية وباني الحكومة الإسلامية، ومحي عهد الخلفاء الراشدين، حكم بلاده أثناء القرن الثاني عشر هجري والثامن عشر الميلادي، وكان قبل اتصاله بالإمام محمد بن عبد الوهاب إلى الدعوة الجديدة تلقاها بالقبول النجدية العتيدة، فلما دعاه ابن عبد الوهاب إلى الدعوة الجديدة تلقاها بالقبول وجعل الدولة السلفية شعار إمارته، واتخذ مدينة الدرعية عاصمة لهذه الإمارة، وأخذ يبث الدعوة الجديدة، وهي الدعوة السلفية، ويؤيدها بالقوة وحد السيف، فاستولى على العوينة، وهي مدينة ابن عبد الوهاب التي أخرج منها»(14).
وقال رحمه الله: «... ولا شك أنكم أدركتم أنها دعوة إلى اليقظة وإلى النهضة وإلى بناء الحكم على القواعد الصحيحة السليمة، دولة قوية مكينة، تبني حكمها على قواعد الدين الصحيح، بالشورى بين المسلمين ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ][الشورى:38]، وبالعدل المطلق، وبث العلم والتهذيب، وبتشييد المدارس في كل زاوية من زوايا البلاد، وبانتداب المعلمين، وبالقضاء على التعدي والسرقات، لابد أن تنهض بشعبها وأمتها نهضة سريعة قوية متينة، وأن ينشر فيها الأمن والطمأنينة والرجاء، وأن تقبل حكمها ودعوتها الجماهير الإسلامية، وهكذا لم يدم الأمر طويلا حتى ذابت الإمارات في هذه الدولة، ودخل الناس أفواجا تحت راياتها، وامتد نفوذها وظهرت تباشير اليقظة العامة في أمة المسلمين، ولكن هذه اليقظة أزعجت الملوك والأمراء المستبدين، والدول العظمى من أعداء المسلمين المتربصين، فأخذوا يكيدون لهذه الدولة ولهذه اليقظة في الأمة العربية حتى خيل لهم أنهم قضوا عليها، ولكن هيهات، ففي أوائل القرن الرابع عشر الهجري، والعشرين الميلادي وتب الملك عبد العزيز ابن سعود(15). فجدد هذه الدولة وأقام أركانها، ووحد أطراف الجزيرة العربية إلا أقلها، وطهر الحرمين الشريفين من آثار الاستبداد ومن آثار اللصوص والفساد، ثم جاء الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه يشييد الكليات والجامعات وفاءا لعهد جده الإمام محمد بن سعود الذي بنى حكم الدولة الإسلامية على العلم وعلى التهذيب، وهو الذي أصدر أمر ملكي بإنشاء هذه الجامعة، جامعة الإمام محمد بن سعود، إحياء لذكرى هذا الإمام الذي بنى حكمه على الدين الصحيح، وعلى العدل، وعلى تطبيق أحكام الشريعة في العبادات وفي المعاملات وفي الدين وفي الدنيا»(16).
سابعا: تعليق الشيخ أحمد حماني على كلمة الأمير فهد بن عبد العزيز رحمه الله:
إثر انعقاد مؤتمر الفقه الإسلامي بالرياض نقل الشيخ حماني كلام الأمير فهد بن عبد العزيز رحمه الله فقال: «في افتتاح الجلسة الأولى تكلم سمو الأمير فهد بن عبد العزيز (ولي العهد) فرحب بالمؤتمرين باسم جلالة الملك خالد الذي كان غائبا، وقال: «إن المسلمين في وحدة عقيدتهم وتشريعهم ونظمهم أمة لا نظير لهم بين الأمم، وشريعة الإسلام شريعة عامة لجميع الناس، شاملة لكل قضايا الحياة، وشؤونها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية صالحة لكل زمان ومكان، وعلماء المسلمين في عصورهم الزاهية لم يقفوا أمام أية مشكلة تجدُّ دون استنباط حل لها من أدلة الشريعة وقواعدها العامة التي أتم الله النعمة على هذه الأمة بأكملها، قال تعالى : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا] {المائدة:3}، وهذا يعني استقلال الشريعة الإسلامية في أصولها وفروعها، وعدم حاجة المسلمين في تشريعاتهم إلى رأي نظام من نظم البشر، وقد أثبت التاريخ لنا نحن المسلمين أننا كلما طبقنا شريعة الله صلحت أحوالنا ونهضنا بين الأمم، وكلما تخلينا عنها دبَّ الخلاف بيننا وتردَّت أحوالنا».
وعلق الشيخ حماني على كلام الأمير فهد قائلا: «هذه فقرات من الكلمة النفسية التي ألقاها هذا الأمير الكريم ونستفيد منها اعتزازه بأمة الإسلام، واعتباره أنها خير أمة أخرجت للناس، وأن الشريعة الإسلامية فيها كل ما يصلح حال المسلمين في اقتصادهم واجتماعهم، وفي سياستهم، في كل زمان ومكان، وأنَّ وحدة المسلمين ونهضتهم وقوتهم إنما تكون إذا طبقوا أحكام الشريعة الإسلامية، فإنهم حينئذ يصلحون وينهضون بين الأمم، وإذا تخلوا عن أحكام الشريعة فإنه يدبُّ الخلاف بينهم، ويتقهقرون في أحوالهم.
هذا ما يستفاد من هذه الكلمة النفسية، كلمة حق» (17).
نعم كلمة نفيسة بحق، فالمسلمون ليسوا بحاجة في تشريعاتهم إلى رأي نظام من نظم البشر الذي ابتلي العالم الإسلامي به إلا من رحم ربي كدولة التوحيد وفي مثل هذا يقول الشيخ أحمد حماني رحمه الله: «وكادت هذه البلوى تعم أقطار المسلمين إلا من رحم رب العالمين، والحمد لله أن طهر منها أرض الحرمين» (18).
هذا ما استطعت جمعه من كلام الشيخ أحمد حماني رحمه الله، وهو كلام نفيس أتى بحقائق تاريخية ستكون شاهدة على هؤلاء الدجالين الذين وصفوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنها دعوة تكفيرية إرهابية.
فإلى الله المشتكى وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم وأن ينفع به شباب وطني الغالي إنه على كل شيء قدير وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
===
(1): تقرير جمعيّة العلماء على رسالة الشِّرك ومظاهره: (ص:27-29)، ت: أبي عبد الرحمن محمود.
(2): جريدة السنة: (2/7).
(3): مناظرة المصلح والمحافظ: الحلقة الثامنة: «الشِّهَاب», الجزء (9) ص270، صفر1352هـ/جوان1933م.
(4): «البصائر»، عدد 168، ( ص4-5).
(5): مجلّة «الفتح» القاهريّة، السنة 4، العدد (168)، 7 جمادى الأولى 1348هـ/ 10 أكتوبر 1929م، (ص: 6-7).
(6): الشِّهَاب، جزء شوال 1352، (ص: 85-86).
(7): أنظر هذه المحاضرة في: محاضرات ومقالات الشيخ أحمد حماني/ جمع وترتيب عبد الرحمن دويب/ تقديم الأستاذ محمد الهادي حسني، (1/151). طبعة عالم المعرفة.
(8): رواه أبو داود برقم: (4291) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم(599).
(9): محاضرات ومقالات الشيخ أحمد حماني/ جمع وترتيب عبد الرحمن دويب/ تقديم الأستاذ محمد الهادي حسني، (1/153). طبعة عالم المعرفة.
(10): صراعٌ بين السُّنَّة والبدعة (1/ 50).
(11): فتاوى الشّيخ أحمد حمّانيّ: استشارت شرعيّة ومباحث فقهيّة (2/90). طبعة عالم المعرفة - الجزائر-.
(12): وهو كتاب ضخم يقع في أربع مجلدات، قام بتحقيقه: شكيب أرسلان - عجاج نويهض.
(13): محاضرات ومقالات الشيخ أحمد حماني/ جمع وترتيب عبد الرحمن دويب/ تقديم الأستاذ محمد الهادي حسني، (1/154). طبعة عالم المعرفة.
(14): محاضرات ومقالات الشيخ أحمد حماني/ جمع وترتيب عبد الرحمن دويب/ تقديم الأستاذ محمد الهادي حسني، (1/150). طبعة عالم المعرفة.
(15):وقد أثنى الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله على الملك عبد العزيز ابن سعود ووصفه بالملك العربي السلفي حين قال: «كان لقصة بناء الكعبة التي نشرناها بالجزء الماضي بمناسبة أشهر الحج أحسن موقع عند القراء، فرأينا أن نتبعها بقصة من نوعها لمثل مناسبتها، هي صفحة من تاريخ الملك العربي السلفي عبد العزيز آل سعود، الذي شرفه الله بخدمة ذلك البيت العظيم في هذا العهد، ومد تعالى بملكه رواق الأمن والعدل والتهذيب والدين الخالص عن ربوع الحجاز أرض الحرمين الشريفين. وأن في نهضة هذا الملك العظيم وفي حياته وصفاته لدرسا عميقا ومجالا واسعا للعبرة والتفكير» [آثار ابن باديس (4/230). مقال بعنوان: ملك العرب].
(16): محاضرات ومقالات الشيخ أحمد حماني/ جمع وترتيب عبد الرحمن دويب/ تقديم الأستاذ محمد الهادي حسني، (1/154-155). طبعة عالم المعرفة.
(17): محاضرات ومقالات الشيخ أحمد حماني/ جمع وترتيب عبد الرحمن دويب/ تقديم الأستاذ محمد الهادي حسني، (1/162). طبعة عالم المعرفة.
(18): روح الشريعة الإسلامية محاضرة ألقيت في ملتقى الفكر الإسلامي السابع المنعقد بتيزي وزو سنة 1974م، بواسطة الثمر الداني من محاضرات أحمد حماني لأبي أسامة عمر خلفة (ص:63).
الحمد لله وَحْدَه، والصلاةُ والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده وعلى آله وصحبِه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فلا تزال دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله محل ثناء وتبجيل عند العلماء قديما وحديثا، ذلك لأن دعوة الشيخ رحمه الله دعوة إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الأمة، وهذه دعوة كل مصلح وكل مجدد، فلو قارنت بين دعوة الشيخ رحمه الله ودعوة الشيخ ابن باديس مثلا في الجزائر لوجدتهما دعوة واحدة، وذلك لاشتراكهما في المبدإ والغاية مِنَ الدعوة للتوحيد والاتِّباع، ونبذِ كُلِّ ما يُناقِضُ ذلك مِنَ الشرك والابتداع والتقليد، ولا أدل مما جاء في تقرير جمعيّة العلماء على رسالة الشِّرك ومظاهره: «فإن الدعوة الإصلاحية التي يقوم بها دعاة الإصلاح الإسلامي في العالم الإسلامي عامة، وتقوم بها جمعية العلماء في القطر الجزائري خاصة، تتلخص في دعوة المسلمين إلى العلم والعمل بكتاب ربهم ونبيهم، والسير على منهاج سلفهم الصالح في أخلاقهم وعباداتهم القولية والاعتقادية والعملية، وتَطبِيق ما هُم عليهِ اليومَ مِن عقائد وأعمال وآداب على ما كان في عَهْدِ السَّلَف الصَّالح؛ فما وَافَقَهُ؛ عَددنَاهُ مِن دِينِ اللهِ، فعَمِلنا به، واعتبرنا القائم به قائما بدين الله، ومالم يَكُن مَعروفًا في عهدِ الصّحابةِ، عَدَدناهُ ليسَ مِن دينِ اللهِ»(1).
وقال الشيخ الطيِّب العقبي رحمه الله: «هذا، وإنّ دعوتنا الإصلاحيّة قبل كلِّ شيء وبعده هي دعوة دينيّة محضة ... وهي تتلخَّص في كلمتين: أن لا نعبد إلا الله وحده، وأن لا تكون عبادتُنا له إلا بما شرعه وجاء من عنده»(2).
وهذا يدل على أنَّ دعوة أهل السنَّة والجماعة واحدةٌ وإِنْ تَعدَّدَ مجدِّدوها، وتَغايَرَ ما لقَّبها به نابِزُوها، وتَباعدَتْ أقطارُها وأمصارها، واختلفَتْ أزمانُها وأعصارها، لهذا أردت أن أبين من خلال هذا المقال ثناء الشيخ أحمد حماني رحمه الله عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وإن كان الشيخ حماني ليس وحده من دافع عن هذه الدعوة المباركة، فهذا الشيخ عمر بن البسكري في مناظرته المعروفة بـ: «مناظرة المصلح والمحافظ»، يقول: « نحن لا نعرف للوهابية مذهبا خاصا حتى نتمكن من نشره والدعوة إليه بل الوهابية عبارة على قوم يتبعون مذهب الإمام أحمد بن حنبل وينسبون لمحمد بن عبد الوهاب من حيث أنه من العلماء الناهضين الداعين إلى الله المجددين لمذهب إمامه أحمد بن حنبل كالشيخ خليل عندنا، والشيخ السيوطي عند الشافعية وغير هؤلاء»(3).
وقال الشيخ عبد القادر بن إبراهيم المَسْعَدي رحمه الله في ردِّهِ على أصحاب الطُّرُق الصُّوفيَّة مِمَّن كانَ ينبِزُ علماء الجمعية السَّلَفِيّينَ بالوهابية: «لاَ طريقةَ تُوصِلُ إلى مَرضاةِ اللهِ غَير طريق محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأَصحابِهِ والأئمة الراشدين.
أُولئِك آبائي فجِئني بِمِثلهم*** إذا جمعتنا يا جريرُ المجامِع.
وإِن كُنتِ تَنْسِبِينَهم أَيَّتُهَا الوَرَقَةُ الضَّالَّةُ المُضِلَّة! إلى ابنِ عبدِ الوهاب إلا أَنَّهُ حنبليٌّ مُتصَلِّبٌ في دِينِهِ جَزاهُ اللهُ عَن الأُمَّة والمِلَّة خَيرًا كسَائِر أَئِمَّة المسلِمِين الهَادِين المُهتَدِين:
فَلاَ عَيْبَ فِيهِم غير أَنَّ سُيُوفهم*** بهن فُلُولٌ مِن قِراع الكتائِب.
وإِلاَّ فَعَادِلِي بَينَ مَذهبِهِ السُّنِّي السَّنِيّ وبَينَ مَشْرَبِك البَاطِنِي الإِلْحَادي الإِسماعِيلي الرَّافِضِي مَذهبِ الرَّقْص والشَّخِير والضَّرْب على الأَسْتَاه بِالبِندِير فَأَينَ الثَّرَى مِن الثُّرَيَّا؟»(4).
وقال الأستاذ محمّد السّعيد الزّاهريّ رحمه الله في رده على من وَصَفَ النَّجْديِّين بِالغُلُوِّ: «... أنا لا أُوافِقُهُ على أنَّ إخواننا المؤمنين السَّلفيِّين في نَجْدٍ والحجاز قد غَلَوْا في الإصلاح الإسلاميِّ، ولا أَصِفُهُم بالغُلُوِّ؛ لأنَّ الغُلُوَّ في الشّيءِ هُوَ الخروجُ عنه أو عن حُدودِه المشروعة، وإخوتُنا في نَجْدٍ والحجاز إنَّما يَدعُونَ إلى ما دَعَا اللهُ إليهِ، لا يَغْلُونَ في ذلك ولا يَخرُجُون في إصلاحهم عن الحُدُود المشروعة»(5).
وقال الأديب محمد بن العابد الجَلاَّلِي البسكري رحمه الله في تقريظ كتاب «صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان»:» هذا الكتاب أَلَّفَهُ أَحدُ عُلماء الهِند الأعلام، وهو العلامة الفقيه الأصولي المحدث مولانا الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي ... رَدَّ بِهِ على رسالة الشيخ أحمد زيني دحلان المسمَّاة: «الدرر السنية في الرد على الوهابية»! ودَحْلاَنُ هذا هُو أَحَدُ رُؤُوس الضَّلال الذين أَعَادُوا لِوَثَنِيَّةِ القُبُور مَاضِي شَبَابِهَا بِمَا أَلَّفُوهُ وكَتَبُوهُ مِن الوساوِس والضَّلالاَت... وبِواسطةِ عُلماء السُّوء أمثال دَحْلاَن والنَّبْهَانِي انتشَرَ كثيرٌ مِن الفِتَن التي ما زالت الأُمَّةُ الإِسلامية تُعَانِي وَيْلاَتِها»(6).
هذا وقد قمت بجمع كلام الشيخ أحمد حماني رحمه في الدفاع عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعن مؤسس الدولة السعودية محمد بن سعود رحمهما الله حتى تكون حجة على من يطعن ويلمز فيهما بالجهل والكذب والبهتان.
وقد رتبت كلام الشيخ رحمه الله ترتيبا يتوافق مع مضمون المقال، بحيث خصصت لكل فقرة عنوانا يناسبها فنسأل الله التوفيق والسداد.
أولا: ما هي دعوة محمد بن عبد الوهاب؟:
لا شك أن دعوة محمد بن عبد الوهاب دعوة إصلاحية دينية جاءت لتقضي على الخرافات والبدع، وليست دينا جديدا ومذهبا مخترعا، بل هي دعوة إصلاحية تدعو إلى الكتاب والسنة، وفي هذا يقول الشيخ أحمد حماني رحمه الله: «لم تكن دعوة محمد بن عبد الوهاب دينا جديدا، ولا بدعة مستهجنة، وإنما كانت دعوة إلى تصحيح العقائد الزائفة التي شابها الشرك، وإلى إصلاح الأعمال الفاسدة، وإلى العودة إلى الدين الصحيح المستمد من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقائد وفي العبادات وفي المعاملات، وإلى القضاء على آثار الشرك التي من مظاهرها زيارة القبور والتوسل بأصحابها من الأولياء ودعوتهم والتمسح بالأشجار والأحجار وتأليهها، كانت هذه الدعوة محاولة لإيقاظ المسلمين وإصلاح شأنهم والنهوض بهم، وكانوا قد بلغوا أقصى درجات الانحطاط الفكري والديني والسياسي.
ولد ابن عبد الوهاب أوائل القرن الثاني عشر في السنة 1016 من الهجرة، القرن الثامن ميلادي في عام 1700 من الميلاد، ودرس بـ: نجد، ثم ذهب إلى المدينة وإلى العراق وإلى الشام، وإلى بلاد الأكراد وفارس، وهناك درس القرآن وعلوم القرآن، من قراءات، ومن تفسير، والحديث والفقه والعربية، ولكنه اعتنى عناية عظيمة بكتب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية وبكتب تلميذه ابن القيم الجوزية، وهذان الإمامان العظيمان حاولا أن يجددا الإسلام أثناء القرن السابع والثامن الهجري، ولكن حوربا حربا شديدة، ومات ابن تيمية رحمه الله في السجن، وعذب تلميذه ابن القيم، وقد ترك كل منهما كتبا نفيسة جدا في التفسير وفي الحديث وفي الفتاوى وفي علاج الأمراض التي اعترت المسلمين، فانكب ابن عبد الوهاب على كتبهما واقتنع بدعوتهما، ثم بعد ذلك رجع إلى بلاده، وسكت مدة أشهر، ثم بعد ذلك أخذ يشن الغارات على القبور وعلى المزارات، وعلى كل أنواع الشرك التي كانت قد لابست العقيدة الإسلامية، وكانت حالة المسلمين في كل أقطار الإسلام سيئة الأحوال».
وجاء هذا الكلام إثر محاضرة ألقاها الشيخ بالمركز الثقافي الإسلامي بالعاصمة يوم: 24 جانفي 1971م، وهو نفس المركز الذي يترأسه بوزيد بومدين الذي طعن في الشيخ العقبي فتنبه(7).
ثانيا: محمد بن عبد الوهاب من المجددين الذين يشملهم حديث على كل رأس قرن يبعث الله من يجدد لها الدين:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»(8).
والحديث يشمل كل فرد من آحاد العلماء من هذه الأعصار ممن يقوم بفرض الكفاية في أداء العلم، وهذا ينطبق على الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وفي هذا يقول الشيخ أحمد حماني رحمه الله: «وفي هذا العصر جاء ابن عبد الوهاب ولعله مشمول بالحديث الذي ينص على أن الله سبحانه وتعالى يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل قرن من يجدد لها الدين.
جاء بدعوة سلفية كانت بداية كل أمم الشرق الإسلامي العربي.
وقد أراد بهذا تصحيح الدين وإنقاذ المسلمين، واستعادة المجد الإسلامي...» (9).
ثالثا: أول صوت ارتفع بالإصلاح والإنكار على البدعة هو صوت محمد بن عبد الوهاب:
بعد تدهور حالة المسلمين دينيا واجتماعيا وسياسيا، وبعد أن سيطرت البدع والخرافات على مجتمعاتنا الإسلامية كان أول صوت ارتفع في وجه الخرافات والبدع، ووجوب الرّجوع إلى كتاب الله والتّمسّك بسُنّة رسول الله صلّى الله عليهِ وسلّم، هو صوت الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهذا ما أكده الشيخ حماني رحمه الله حين قال: «أوّلُ صوتٍ ارتفعَ بالإصلاح والإنكار على البدعة والمُبتدِعين ووجوب الرّجوع إلى كتاب الله والتّمسّك بسُنّة رسول الله صلّى الله عليهِ وسلّم، ونَبْذِ كلِّ ابتداعٍ ومقاومةِ أصحابه، جاء مِن الجزيرة العربيّة، وأَعْلَنَهُ في النّاس الإمامُ محمّد بن عبد الوهّاب أثناء القرن الثّامن عشر .... ولمّا كانت نشأةُ هذه الدّعوة في صميم البلاد العربيّة ونجحت على خصومها الأوّلين في جزءٍ منها، وكانت مبنيّةً على الدّين وتوحيد الله - سبحانه - في أُلوهيّته وربوبيّته، ومَحْوِ كلّ آثار الشّرك - الّذي هو الظّلم العظيم -، والقضاء على الأوثان والأَنْصَاب الّتي نُصِبت لتُعْبَدَ مِن دونِ الله أو تُتّخَذ للتّقرّب بها إلى الله، ومنها القُبَاب والقُبور في المساجد والمَشَاهد - لمّا كان كذلك فقد فَهِمَ أعداءُ الإسلام قِيمتها ومَدَى ما سيكون لها مِن أبعادٍ في يقظةِ المسلمين ونهضة الأُمّة العربيّة الّتي هي مادّة الإسلام وعِزُّهُ، إذْ ما صلح أمرُ المسلمين أَوَّلَ دولتهم إلّا بما بُنِيَت عليه هذه الدّعوة، وقد قال الإمام مالكٌ: «لا يَصْلُحُ آخِرُ هذه الأُمّة إلّا بما صَلح به أَوَّلُها».
لهذا عزموا على مُقاومتها وسَخّروا كلَّ إمكانيّاتهم المادّيّة والفكريّة للقضاء عليها، وحشدوا العلماء القُبُوريِّين الجامِدين أو المَأْجُورِين للتَّنْفِير منها وتضليل اعتقاداتها، وربّما تكفير أهلها، كما جَنَّدُوا لها الجنود وأَمَدُّوها بكلّ أنواع أسلحة الفَتْكِ والدّمار للقضاء عليها .
تَحرَّشَ بها الإنكليز والعثمانيّون والفُرس، واصطدموا بها، وانتصر عليهم السُّعوديُّون في بعض المعارك، فالتجأت الدّولة العثمانيّة إلى مصر، وسَخَّرت لحَرْبِهَا محمّد علي وأبناؤُه - وهو الّذي كانوا سَخَّرُوه لحَرْبِ دولةِ الخِلافة وتَهوِينها - وكان قد جَدَّدَ جيشَهُ على أَحْدَثِ طرازٍ عند الأوروبيِّين آنذاك، فاستطاع الجيش المصريّ أن يَقضي على هذه القوّة النّاشئة، وظنّوا أنّهم استراحوا منها، وكان مِن الجرائم المُرتكَبَة أنّ أمير هذه الإِمارة السَّلَفِيَّة المُصْلِحَة أُسِرَ وذُهِبَ به إلى مصر، ثمّ إلى إسطمبول حيثُ أُعْدِمَ كما يُعْدَمُ المجرمون.
وهكذا يكون هذا الأميرُ المسلم السَّلَفِيُّ المُصْلِحُ مِن الّذين سُفِكَت دماؤُهم في نَصْرِ السُّنَّةِ ومُقاومة البدعة -رحمه الله-» (10).
رابعا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب من العلماء الذين أدوا واجبهم، وأحيوا سنة نبيهم:
لا شك في أنَّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان من العلماء الذين أدوا واجبهم الديني كمسؤولين عن الأمة، لهذا قال الشيخ أحمد حماني كما في مجموع فتاويه: «فمسؤوليّة العلماء أعظمُ من مسؤوليّة الحكّام والأمراء والوزراء، ذلكَ أنّ العامَّةَ قد لا تُفتنُ بهم ولا تتّخذهم قدوةً في الدِّين، وإِن كانَ مِن أَوْكَدِ واجباتهم حمايةُ وصيانةُ المسلمين في أموالهم وأرواحهم وأنفسهم ودينهم ودنياهم. على أنَّ كثيراً مِن علماء المسلمين –أزهريين وغير أزهريين، قدماء ومُحْدَثين- أدَّوا واجبهم، وأحيوا سنّة نبيِّهم، وبَصَّروا المسلمين بما جاء به دينهم، وحذَّروهم من البِدع والضلالات ومِن فتنة القبور والمشاهد، وعلى رأس هؤلاء، شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قَيِّم الجوزية، وأبو إسحاق الشاطبي، وابن عبد الوهاب...»(11).
خامسا: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي أخذ بها محمد بن سعود دعوة أيقظت المسلمين:
نقل الشيخ أحمد حماني كلاما للمستشرق الأمريكي: «لوثروب ستودارد»، يشهد فيه على أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي بداية اليقظة الكبرى للمسلمين، كما في كتابه: «حاضر العالم الإسلامي»(12)، حيث جاء فيه: «فيما العالم الإسلامي مستغرق في هجعته، ومدلج في ظلمته، إذا بصوت يدوي من قلب الصحراء، شبه الجزيرة، مهد الإسلام، يوقظ المؤمنين، ويدعوهم إلى الإصلاح والرجوع إلى سواء السبيل، وكان هذا الصارخ بهذا الصوت إنما هو المسلم المشهور محمد بن عبد الوهاب الذي أشعل نار الوهابية فاشتعلت واقتدت، واندلعت ألسنتها في كل زاوية من زوايا العالم الإسلامي، ثم أخذ هذا الداعي يحث المسلمين على إصلاح النفوس واستعادة المجد الإسلامي، اليقظة الكبرى في عالم الإسلام».
وعلق الشيخ أحمد حماني على كلام هذا المستشرق فقال: «هكذا يقول هذا المستشرق عن هذا الإمام محمد بن عبد الوهاب، وهي شهادة من كاتب أجنبي منصف، وعالم خبير بفنه، يشهد بأن دعوة ابن عبد الوهاب التي أخذ بها محمد ابن سعود كانت بداية اليقظة الكبرى في عالم الإسلام، وإنما كان بهذه الدعوة الأثر العظيم لأنها مبنية على دعوة المسلمين إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله، فقد كانت أول حادثة لابن عبد الوهاب أنه كان قاضيا فطبق حكما من أحكام القرآن الكريم، هو حكم حد الزاني، رفعت إليه امرأة ثبتت عليها جريمة الزنا ولم تنكرها، فحكم عليها بالحكم الشرعي وأقام عليها الحد، وسمع به أمير البلاد، فبعث إلى والي المدينة يأمره بقتله، وكان أمير المدينة صديقا له، فعزَّ عليه أن يقتله فأخبره، فخرج من العوينة بلاده والتجأ إلى الدرعية بلاد الأمير السعودي محمد بن سعود، فدعاه إلى نصرته وإلى حمايته، وإلى الأخذ بالمبادئ، فقبل ابن سعود هذه الدعوة وذلك في أواسط القرن الثاني عشر حوالي 1157 من الهجرة، فالتقيا على الحكم بالشريعة الإسلامية، والدعوة لدين الحق، مبرءا من البدع، منزها عن الانحراف، وتعاهد الرجلان: الإمام والشيخ، على نشر العقيدة وإقامة الشريعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى قامت الحكومة الإسلامية الأولى، وقد كانت هذه الحكومة على منهاج حكومة الخلفاء الراشدين»(13).
سادسا: محمد بن سعود رجل عظيم، وشخصية لها مكان في تاريخ اليقظة الإسلامية:
لا شك أن الملك محمد بن سعود رجل عظيم وشخصية مهمة في التاريخ الإسلامي الحاضر، فلا تعجب من الشيخ حماني لما وصفه بالرجل العظيم.
جاء في مقال للشيخ أحمد حماني بعنوان: «مؤتمر الفقه الإسلامي وجامعة محمد بن سعود»، ما يلي: «... سأبدأ بالحديث عن الجامعة، وعن الرجل العظيم الذي تحمل اسمه هذه الجامعة ... أعطيت هذه الجامعة اسم شخصية لها مكان في تاريخ اليقظة الإسلامية، والنهضة العربية، أسست هذه الجامعة عام 1394، وهي تحمل اسم الإمام محمد بن سعود رحمه الله، ومحمد بن سعود هو مؤسس الدولة السعودية وباني الحكومة الإسلامية، ومحي عهد الخلفاء الراشدين، حكم بلاده أثناء القرن الثاني عشر هجري والثامن عشر الميلادي، وكان قبل اتصاله بالإمام محمد بن عبد الوهاب إلى الدعوة الجديدة تلقاها بالقبول النجدية العتيدة، فلما دعاه ابن عبد الوهاب إلى الدعوة الجديدة تلقاها بالقبول وجعل الدولة السلفية شعار إمارته، واتخذ مدينة الدرعية عاصمة لهذه الإمارة، وأخذ يبث الدعوة الجديدة، وهي الدعوة السلفية، ويؤيدها بالقوة وحد السيف، فاستولى على العوينة، وهي مدينة ابن عبد الوهاب التي أخرج منها»(14).
وقال رحمه الله: «... ولا شك أنكم أدركتم أنها دعوة إلى اليقظة وإلى النهضة وإلى بناء الحكم على القواعد الصحيحة السليمة، دولة قوية مكينة، تبني حكمها على قواعد الدين الصحيح، بالشورى بين المسلمين ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ][الشورى:38]، وبالعدل المطلق، وبث العلم والتهذيب، وبتشييد المدارس في كل زاوية من زوايا البلاد، وبانتداب المعلمين، وبالقضاء على التعدي والسرقات، لابد أن تنهض بشعبها وأمتها نهضة سريعة قوية متينة، وأن ينشر فيها الأمن والطمأنينة والرجاء، وأن تقبل حكمها ودعوتها الجماهير الإسلامية، وهكذا لم يدم الأمر طويلا حتى ذابت الإمارات في هذه الدولة، ودخل الناس أفواجا تحت راياتها، وامتد نفوذها وظهرت تباشير اليقظة العامة في أمة المسلمين، ولكن هذه اليقظة أزعجت الملوك والأمراء المستبدين، والدول العظمى من أعداء المسلمين المتربصين، فأخذوا يكيدون لهذه الدولة ولهذه اليقظة في الأمة العربية حتى خيل لهم أنهم قضوا عليها، ولكن هيهات، ففي أوائل القرن الرابع عشر الهجري، والعشرين الميلادي وتب الملك عبد العزيز ابن سعود(15). فجدد هذه الدولة وأقام أركانها، ووحد أطراف الجزيرة العربية إلا أقلها، وطهر الحرمين الشريفين من آثار الاستبداد ومن آثار اللصوص والفساد، ثم جاء الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه يشييد الكليات والجامعات وفاءا لعهد جده الإمام محمد بن سعود الذي بنى حكم الدولة الإسلامية على العلم وعلى التهذيب، وهو الذي أصدر أمر ملكي بإنشاء هذه الجامعة، جامعة الإمام محمد بن سعود، إحياء لذكرى هذا الإمام الذي بنى حكمه على الدين الصحيح، وعلى العدل، وعلى تطبيق أحكام الشريعة في العبادات وفي المعاملات وفي الدين وفي الدنيا»(16).
سابعا: تعليق الشيخ أحمد حماني على كلمة الأمير فهد بن عبد العزيز رحمه الله:
إثر انعقاد مؤتمر الفقه الإسلامي بالرياض نقل الشيخ حماني كلام الأمير فهد بن عبد العزيز رحمه الله فقال: «في افتتاح الجلسة الأولى تكلم سمو الأمير فهد بن عبد العزيز (ولي العهد) فرحب بالمؤتمرين باسم جلالة الملك خالد الذي كان غائبا، وقال: «إن المسلمين في وحدة عقيدتهم وتشريعهم ونظمهم أمة لا نظير لهم بين الأمم، وشريعة الإسلام شريعة عامة لجميع الناس، شاملة لكل قضايا الحياة، وشؤونها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية صالحة لكل زمان ومكان، وعلماء المسلمين في عصورهم الزاهية لم يقفوا أمام أية مشكلة تجدُّ دون استنباط حل لها من أدلة الشريعة وقواعدها العامة التي أتم الله النعمة على هذه الأمة بأكملها، قال تعالى : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا] {المائدة:3}، وهذا يعني استقلال الشريعة الإسلامية في أصولها وفروعها، وعدم حاجة المسلمين في تشريعاتهم إلى رأي نظام من نظم البشر، وقد أثبت التاريخ لنا نحن المسلمين أننا كلما طبقنا شريعة الله صلحت أحوالنا ونهضنا بين الأمم، وكلما تخلينا عنها دبَّ الخلاف بيننا وتردَّت أحوالنا».
وعلق الشيخ حماني على كلام الأمير فهد قائلا: «هذه فقرات من الكلمة النفسية التي ألقاها هذا الأمير الكريم ونستفيد منها اعتزازه بأمة الإسلام، واعتباره أنها خير أمة أخرجت للناس، وأن الشريعة الإسلامية فيها كل ما يصلح حال المسلمين في اقتصادهم واجتماعهم، وفي سياستهم، في كل زمان ومكان، وأنَّ وحدة المسلمين ونهضتهم وقوتهم إنما تكون إذا طبقوا أحكام الشريعة الإسلامية، فإنهم حينئذ يصلحون وينهضون بين الأمم، وإذا تخلوا عن أحكام الشريعة فإنه يدبُّ الخلاف بينهم، ويتقهقرون في أحوالهم.
هذا ما يستفاد من هذه الكلمة النفسية، كلمة حق» (17).
نعم كلمة نفيسة بحق، فالمسلمون ليسوا بحاجة في تشريعاتهم إلى رأي نظام من نظم البشر الذي ابتلي العالم الإسلامي به إلا من رحم ربي كدولة التوحيد وفي مثل هذا يقول الشيخ أحمد حماني رحمه الله: «وكادت هذه البلوى تعم أقطار المسلمين إلا من رحم رب العالمين، والحمد لله أن طهر منها أرض الحرمين» (18).
هذا ما استطعت جمعه من كلام الشيخ أحمد حماني رحمه الله، وهو كلام نفيس أتى بحقائق تاريخية ستكون شاهدة على هؤلاء الدجالين الذين وصفوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنها دعوة تكفيرية إرهابية.
فإلى الله المشتكى وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم وأن ينفع به شباب وطني الغالي إنه على كل شيء قدير وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
===
(1): تقرير جمعيّة العلماء على رسالة الشِّرك ومظاهره: (ص:27-29)، ت: أبي عبد الرحمن محمود.
(2): جريدة السنة: (2/7).
(3): مناظرة المصلح والمحافظ: الحلقة الثامنة: «الشِّهَاب», الجزء (9) ص270، صفر1352هـ/جوان1933م.
(4): «البصائر»، عدد 168، ( ص4-5).
(5): مجلّة «الفتح» القاهريّة، السنة 4، العدد (168)، 7 جمادى الأولى 1348هـ/ 10 أكتوبر 1929م، (ص: 6-7).
(6): الشِّهَاب، جزء شوال 1352، (ص: 85-86).
(7): أنظر هذه المحاضرة في: محاضرات ومقالات الشيخ أحمد حماني/ جمع وترتيب عبد الرحمن دويب/ تقديم الأستاذ محمد الهادي حسني، (1/151). طبعة عالم المعرفة.
(8): رواه أبو داود برقم: (4291) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم(599).
(9): محاضرات ومقالات الشيخ أحمد حماني/ جمع وترتيب عبد الرحمن دويب/ تقديم الأستاذ محمد الهادي حسني، (1/153). طبعة عالم المعرفة.
(10): صراعٌ بين السُّنَّة والبدعة (1/ 50).
(11): فتاوى الشّيخ أحمد حمّانيّ: استشارت شرعيّة ومباحث فقهيّة (2/90). طبعة عالم المعرفة - الجزائر-.
(12): وهو كتاب ضخم يقع في أربع مجلدات، قام بتحقيقه: شكيب أرسلان - عجاج نويهض.
(13): محاضرات ومقالات الشيخ أحمد حماني/ جمع وترتيب عبد الرحمن دويب/ تقديم الأستاذ محمد الهادي حسني، (1/154). طبعة عالم المعرفة.
(14): محاضرات ومقالات الشيخ أحمد حماني/ جمع وترتيب عبد الرحمن دويب/ تقديم الأستاذ محمد الهادي حسني، (1/150). طبعة عالم المعرفة.
(15):وقد أثنى الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله على الملك عبد العزيز ابن سعود ووصفه بالملك العربي السلفي حين قال: «كان لقصة بناء الكعبة التي نشرناها بالجزء الماضي بمناسبة أشهر الحج أحسن موقع عند القراء، فرأينا أن نتبعها بقصة من نوعها لمثل مناسبتها، هي صفحة من تاريخ الملك العربي السلفي عبد العزيز آل سعود، الذي شرفه الله بخدمة ذلك البيت العظيم في هذا العهد، ومد تعالى بملكه رواق الأمن والعدل والتهذيب والدين الخالص عن ربوع الحجاز أرض الحرمين الشريفين. وأن في نهضة هذا الملك العظيم وفي حياته وصفاته لدرسا عميقا ومجالا واسعا للعبرة والتفكير» [آثار ابن باديس (4/230). مقال بعنوان: ملك العرب].
(16): محاضرات ومقالات الشيخ أحمد حماني/ جمع وترتيب عبد الرحمن دويب/ تقديم الأستاذ محمد الهادي حسني، (1/154-155). طبعة عالم المعرفة.
(17): محاضرات ومقالات الشيخ أحمد حماني/ جمع وترتيب عبد الرحمن دويب/ تقديم الأستاذ محمد الهادي حسني، (1/162). طبعة عالم المعرفة.
(18): روح الشريعة الإسلامية محاضرة ألقيت في ملتقى الفكر الإسلامي السابع المنعقد بتيزي وزو سنة 1974م، بواسطة الثمر الداني من محاضرات أحمد حماني لأبي أسامة عمر خلفة (ص:63).