الأذان سُنّة المسلمين وخصيصة امتازوا بها عن الأمم السالفين

ابو ليث

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
8 جانفي 2010
المشاركات
10,466
نقاط التفاعل
10,286
النقاط
356
محل الإقامة
الجزائر
الأذان سُنّة المسلمين وخصيصة امتازوا بها عن الأمم السالفين.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فكما هو معلوم أنّ في إظهار شعائر الدين إعزاز له وللمنتمين إليه، ولأجله شُرع للمسلمين الانتقال من بلاد الشرك والإلحاد إلى بلاد الإسلام حيث تقام شرائعه وتعلو كلمته، فقال تعالى:﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾، فإن الله بحكمته ورحمته فرَضَ على المسلمين فرائض وألزمهم أن لا يُضيّعوها، وحَدّ حدوداً وأمرهم أن لا يعتدوها، وفَرَضَ عليهم تعظيم شعائر دينه وحرماته، قال سبحانه:﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾، وقال جلّ جلاله:﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾.
وإنّ من تلك الشعائر العظيمة ومعالم الدين الشهيرة إقامة الأذان للنداء للصلوات التي هي أعظم الأركان بعد الإيمان والإقرار لله بالتوحيد والإجلال، وللنّبيّ محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والإرسال. لكن كذلك للأسف قد ضيّعه المسلمون في جملة ما فرّطوا فيه في هذه الأزمان، فلم يلتفتوا إلى صيانته من اللّحن والتبديل، فرُفع في غير أوانه، وأحدث فيه ما ليس منه وحرفت ألفاظه ومعانيه كيدا من الشيطان وعدوانا.
وإني عمدت في ههنا تلخيص بعض ما وقفت عليه من مباحث في هذا الباب يجدر التنبيه إليها، هي للذكرى وتعميم الفائدة فجزى الله خيرا مبديها ونفعني بها ومن نظر.
وقبله يحسن تحديد ماهية الشيء لإدراك الغاية منه، فعندئذ يسهل على المقتدي تحري الصواب بعد بيانه ومجانبة الاعتداء والبغي فيه. فقد جاء في تعريف الأذان لغة أنّه يراد به الإعلام بأي شيء كان، قال صاحب الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/264): "وحقيقة الأذان بالمعنى المصدري -ويرادفه الأذين والتأذين بالمعجمة- لغة: الإعلام بأي شيء، لقوله تعالى:﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ أي إعلام. ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾أي أَعلِم" ا ه. وكذلك قال الأزهري رحمه الله [تهذيب اللغة (15/17)]: يُقال: آذَنْتُه أُوذِنه إِيذَانًا وأَذاناً. فالأذان: إسمٌ يَقوم مُقام الإيذان، وهو المصدر الحقيقيّ. والأذان للصّلاة: إعلامٌ بها وبوقتها. والأَذِين: مثل الأذان أيضًا" ا ه.
قال القرافي [الذخيرة (2/43)]: "قال ابن قتيبة: أصله من الْأُذُنِ كأنه أودع ما عمله أُذُنَ صاحبه". وهو من قولك: (أَذِنَ لَهُ): أي اسْتَمَعَ، قال صاحب مختار الصحاح (حرف الهمزة، مادة أذن :16): "ومنه قوله تعالى:﴿ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾". أي: استمعت لأمره. وهكذا الأذان يأذَن النّاس إليه، إذا علا ينصتون إليه.
وأما حقيقته شرعا فهو: للإعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة، كذلك قاله أحمد النّفراويّ شارح الرسالة [الفواكه الدواني (1/264)] والنووي في المجموع شرح المهذب (3/75)، وانظر الذخيرة (2/43) للقرافي، وفتح الباري (2/77) لابن حجر، والمغني (1/413) لابن قدامة رحم الله الجميع. ونبّه العلّامة ابن العثيمين في الشرح على زاد المستقنع (2/40) على نكتة لطيفة، قال: "أما تعريف الأذان شرعاً: فهو التعبُّد لله بذكرٍ مخصوص؛ بعد دخول وقت الصَّلاة؛ للإعلام به. وهذا أولى لأنَّ الأذان عبادة فينبغي التنويه عنها في التَّعريف" انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
وأما قوله: "وقت الصَّلاة" أي المفروضة -الخمس والجمعة- وهي المقصودة به، احترازا مما عداها كالعيدين وللكسوف وسائرها وإن أوجبت.
كما دلّ على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:﴿ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾، وأما السنة فما في الحديث عن أبي داود بإسناد صحيح عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: «لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاقُوسِ يُعْمَلُ لِيَضْرِبَ بِهِ النَّاسُ لِجَمْعِ الصَّلَاةِ طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ حَامِلٌ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ فَقُلْت: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ هَذَا النَّاقُوسَ؟ فَقَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ فَقُلْت: نَدْعُو بِهِ إلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ: أَوَ لَا أَدُلُّك عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْت: بَلَى، فَقَالَ تَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ ... " إلى آخر الأذان.
ومن فوائده بعدما تبيّن أنّ الغاية منه الإعلان بدخول وقت الصلاة وهو المقصود منه الموجب لمشروعيته، فكذلك هو للإعلام بأن الدار دار الإسلام، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يُغِير حتى يُصْبِح، فإن سمع أذاناً أمسك وإلّا أغار، ففي الصحيح عن أنس رضي الله عنه: «أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا، لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَخَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا رَكِبَ» الحديث. وهكذا كان من عهد أبي بكر إلى خالد رضي الله عنهما في سَيره إلى اليمامة، كما في مختصر السيرة للإمام ابن عبد الوهاب: (273)، "أنّ أيّما دار غشيتموها فسمعتم الأذان فيها بالصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ماذا نقموا وماذا يبغون، وأيما دار غشيتموها فلم تسمعوا فيها الأذان، فشنوا عليها الغارة" انتهى.
ولعل سبب ذلك لأنه يدل صريحا على أهم أسس العقيدة الإسلامية إذا ما حُللت جمله وتبيّنت جزئياته، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (2/92): "قال القرطبي وغيره: الأذان على قلّة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة لأنه بدأ بالأكبرية وهي تتضمن وجود الله وكماله ثم ثنّى بالتوحيد ونفي الشريك ثم بإثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم..." ا ه، "وقال القاضي عياض رحمه الله "ثم دعا إلى ما دعاهم إليه من العبادات فدعا إلى الصلاة وجعلها عقب إثبات النبوة لأن معرفة وجوبها من جهة النبيّ صلى الله عليه وسلم لا من جهة العقل، ثم دعا إلى الفلاح وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم، وفيه إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء وهي آخر تراجم عقائد الإسلام. ثم كرر ذلك بإقامة الصلاة للإعلام بالشروع فيها وهو متضمن لتأكيد الإيمان وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان وليدخل المصلي فيها على بينة من أمره وبصيرة من إيمانه ويستشعر عظيم ما دخل فيه وعظمة حق من يعبده وجزيل ثوابه". قال النووي رحمه الله في المجموع (3/75): هذا آخر كلام القاضي وهو من النفائس الجليلة وبالله التوفيق.
تنبيه: فينبغي إصلاح اللفظة عند النطق بها، فإن الأذان وإن كان أصله من الأذن كما سلف نقله، إلا أنّ معناه الإعلام وفي عُرْف الشّرع إعلام خاص بأوقات الصلاة المفروضة. حتى يُعلم أنّ قول القائل: الآذان بمدّ الهمزة يريد به الأذان لكنة ولحن، فإنّما هي مجموع الأذن آلة السمع المعروفة، فظهر الفرق. وقد نبّه عليه الشيخ حسن أيت علجت أثابه الله يومها في إحدى المحاضرات العلمية قال: "كان يُقرأ على الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى من كتاب الفقه فقرأ القارئ: "باب الآذان"، فتعقبه: بل "باب الأذان" فإن الآذان بمد الهمزة جمع أذن، والأذان بقصرها بمعنى الإعلام" انتهى بمعناه. قال ابن الأثير في النهاية (1/ 79): "يقال: آذَنَ يُؤْذِنُ إِيذَاناً، وأَذَّنَ يُؤَذِّنُ تَأْذِيناً، والمُشدَّد مخصوصٌ في الاستعمال بإعلام وقت الصّلاة" ا ه.
وكما يحضرني في خصوص هذا التمييز أيضا أبياتا من نظم شاعر الإسلام والعربية أحمد شوقي رحمه الله، يقول:
مررت بالمسجد المحزون أسأله ... هل في المصلى أو المحراب مروان
تغير المسجد المحزون واختلفت ... في منابره أحرار وعبدان
فلا الأذان أذان في منارته ... إذا تعالى ولا الآذان آذان
-فإنّا لله!-
وإنّه مما أُحدث فيه بشؤم الرأي: التطريب به؛ قالوا: هو أبلغ لاستجلاب المصلين وتشويقهم إلى الصلاة. قالوا: وقد أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان إلى بلال وقال: "هو أندى صوتا".
وجوابه من وجهين أو أكثر: نجمله ثم نستعرض كلام العلماء رحمهم الله في بيان هذه المسألة:
فنقول إنّما كانت حاجة المسلمين للأذان لقصد الإعلام بالصلاة وبوقتها، وليس فيه أنّ الموجب لمشروعيته التشويق إلى الصلاة، وقد تبيّن جليّا من خلال مطلب التعريف كنهه ومعناه. قال النووي رحمه الله في الشرح على صحيح مسلم (4/ 77): "ذكر العلماء في حكمة الأذان أربعة أشياء: إظهار شعار الإسلام وكلمة التوحيد والإعلام بدخول وقت الصلاة وبمكانها والدعاء إلى الجماعة" ا ه. فلم يَرِد فيه لا من حيث اللغة ولا من جهة الشرع ما يشدّ هذا الرأي، بل لعلهم قصدوا ابتداء إلى بوق أو أن يوروا نارا أو ناقوس لِيُضرب به للإعلان عنها. فأرشدهم الله إلى ما هو خير. وبالزيادة على مقصود الشارع استدراك عليه، كما أنّ صرف صريح المعنى إلى غيره دون موجب له، تَحكُّم في اللغة والشرع على سواء تأباه الضمائر.
هذا وإنّما كان تفويض الأذان إلى بلال لأنه كان أندى صوتا من عبد الله بن زيد على ما ذكر في الحديث؛ أي أرفع وأعلى صوتا؛ -رضوان الله عليهم أجمعين- فيكون أبلغ للمقصود منه، ومعلوم أن المقصود من الأذان الإعلام ومن شرطه الصوت، وكلما كان الصوت أعلى كان أولى. فليس فيه معنى التطريب ولا ما يقصدون. قال الخطابي رحمه الله في معالم السنن (1/ 153): "وفي قوله: «ألقِها على بلال فإنه أندى صوتا منك» دليل على أنّ من كان أرفع صوتا كان أولى بالأذان، لأن الأذان إعلام، فكل من كان الإعلام بصوته أوقع كان به أحق وأجدر" انتهى.
فلو قيل في معناه: "أطيّب وأحسن صوتا"؟ فقد قال أهل العلم -على فرض ذلك- أنّه ثمَّة فرق بين أن يكون المؤذن حسن الصوت وبين أن يطرب به. فحتى هذا ليس فيه ما يستروح إليه. فالأوّل سماحة وطَبع والآخر مُتكلَّفٌ.
وقد روى البخاري رحمه الله في الصحيح -تعليقا جازما به-: "قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا وَإِلَّا فَاعْتَزِلْنَا» (1)"، أي سهلا بلا تمطيط وتطريب تحسّ منه الصناعة وليس في الطّبع السّماحة به، بل لا يحصل إلّا بتكلُّف وتصنُّع.
فتبين بهذا أنّ مثل هذا العمل مخالف لما ذهب إليه السلف رضي الله عنهم في فهم نص الحديث. واعلم -أحسن الله إليك- أنّه قد يأتي الزغل في هذا ومثله بإغفال عمل صاحب الشريعة وأصحابه المكرمين، وترك الاهتداء بفهوم أئمة الهدى من صالح سلف المؤمنين؛ ولا يخفى ما فيه من الافتيات عليهم والجراءة على الدين. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في اجتماع الجيوش الإسلامية (2/89) "وهذا حال أرباب الأعمال التي كانت لغير الله عز وجل أو على غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحال أرباب العلوم والأنظار التي لم يتلقوها عن مشكاة النبوة، ولكن تلقوها عن زبالة أذهان الرجال وكناسة أفكارهم، فأتعبوا قواهم وأفكارهم وأذهانهم في تقرير آراء الرجال أو الانتصار لهم وفَهم ما قالوه وبثه في المجالس والمحاضر، وأعرضوا عما جاء به الرسول صفحا، ومن به رمقٌ منهم يُعِيره أدنى اِلْتفاتٍ طلبًا للفضيلة" ا ه.
كذلك فالتّطرِيب بالأذان والتّلحِين به أقرب إلى مضاهاة ما يفعله أهل الغناء بالأبيات، ويفعله كثير من قراء الأصوات على نحو ألحان الشعر أو ما يسمى (الإنشاد) ويوقِعون الإيقاعات عليه مثل الغناء سواء، ولا يُجيز ذلك أحدٌ من علماء الإسلام، وإنّ أقلّ أحواله أنّه ذريعة مُفضيَة إلى هذا إفضاء قريبا، فالمنع منه كالمنع من الذرائع الموصلة إلى الحرام.
فالحاصل أنّ التغني بالأذان والتطريب به بالترنّم والتّلحين في بعض صفاته كهيئة استهزاء بالذكر والنداء، منافٍ لتعظيم شعائر الدين والإيمان. وقد أنكره ابن عمر رضي الله عنهما وقال لذلك: "إنّك تبغي في أذانك" أي أنّه يتجاوز الحد بتمطيطه والتطريب به. وفي رواية: أنه قال: "إنك تختال في أذانك". كأنه يشير إلى تفخيم الكلام والتشادق فيه. ومهما يكن فقد كرهه السلف. وكل خير في اتباعهم وكل شر في مخالفتهم.
والله تعالى أعلم.

 
وهذه بعض الفتاوى لأهل العلم في مسألتنا:
1. قال أبو محمد بن أبي زيد القيرواني رحمه الله: [النَّوادر والزِّيادات على مَا في المدَوَّنة من غيرها من الأُمهاتِ (1/161)]: قال ابن حبيب: قال مالك: "التطريب في الأذان منكر" وقال ابن حبيب: "وكذلك التحزين لغير تطريب، ولا ينبغي إماتة حروفه، والتغني فيه، والسنة فيه أن يكون مترسلا محدرا مستعلنا، يرفع به الصوت لا يدمج، وتدمج الإقامة" ا ه.
والمترسل هو الذي يتمهل في تأذينه ويبيّن كلامه تبيينا يفهمه من يسمعه، وهو من قولك جاء فلان على رِسله أي: غير عجل.
وأما إدراج الإقامة: فذلك بأن يكون على الوصل بربط بعض جملها ببعض، ولا يترسل فيها ترسله في الأذان. ومع الإِدراج يُبيِّنها.
وحدُّه أنْ يفصل بَين كلمتي الأذان بسكتة بخلاف الإقامة.
تنبيه:
وقد أشكل بعضهم قول ابن حبيب "... وتدمج الإقامة". ومعلوم أن في انفراد الإقامة بدمج جملها بعضها في بعض على عكس الأذان، ذلك لأن المقصود منها الإعلام بالصلاة للحاضر القريب. فلا يحتاج إلى رفع الصوت كما في الأذان الأول يضطره إلى أخذ النفس بعد كل جملة منه. وقد قال بعضهم في هذا المعنى: "الإقامة معربة والأذان مجزوم". فجاء آخر وفهم منه: الوقوف على جمل الإقامة بمتحرك. ولم يلتفت إلى أنّ هذا مخالف لما تكلمت به العرب يأباه لسانهم؛ فإنهم لا يقفون على متحرك كما لا يبتدؤون الكلام بساكن. ونقل الحطاب في مواهب الجليل (2/ 76) عن ابن فرحون، قال: "الإقامة مُعْربة إذا وصل كلمة بكلمة، فإن وقفَ وقفَ على السكون، وأما الأذان فإنّه على الوقف" انتهى الغرض منه.
2. قال الْمُزَنِيّ رحمه الله: في [المختصر (1/62)]: قال الشافعي رحمه الله: "وأحب أن يكون المؤذن صيتا وأن يؤذن مترسلا بغير تمطيط ولا تَغَنٍّ فيه وأن تكون إقامته إدراجا مبيّنا" ا ه.
3. قال الحافظ النووي رحمه الله: [المجموع شرح المهذب (3 / 118-120)]: نقلا عن أبي إسحاق الشيرازي رحمه الله: "والمستحب أن يترسّل في الأذان ويدرج الاقامة لما روي عن ابن الزبير مؤذن بيت المقدس أن عمر رضى الله عنه قال " إذا أذنتَ فترسّل وإذا أقمت فَاحذِم" ولأن الأذان للغائبين فكان الترسل فيه أبلغ والإقامة للحاضرين فكان الإدراج فيه أشبه.
ويكره التمطيط وهو التمديد، والبغي وهو التطريب، لما روي أن رجلا قال لابن عمر رضي الله عنهما إني لأحبك في الله. فقال: وأنا أبغضك في الله إنك تبغي في أذانك " قال حماد يعني التطريب" ا ه.
وقال رحمه الله: "ووقع في المهذب: 'وإذا أقمت فَاحْذِمْ' ورواه البيهقي من طريقين أحدهما هكذا والثاني 'فَاحْذِر' بالراء بدل الميم، ومعناهما واحد وهو الإسراع وترك التطويل، قال ابن فارس: كل شيء أسرعت فيه فقد حذمته.
وأما الأثر المذكور عن ابن عمر فرواه أبو بكر ابن أبي داود السجستاني في كتابه المغازي وقال فيه تختال في أذانك بدل تبغي ...
وقوله البغي هو بفتح الباء الموحدة وإسكان الغين المعجمة وهو المبالغة في رفع الصوت ومجاوزة الحد. قال الأزهري: البغي أن يكون في رفع صوته يحكي كلام الجبابرة والمتكبرين والمتفيهقين، قال: والبغي في كلام العرب: الكِبر، والبغي: الضلال، والبغي: الفساد. قال صاحب الحاوي: البَغي تفخيم الكلام والتشادق فيه. قال: ويكره تلحين الأذان لأنه يخرجه عن الإفهام ولأن السلف تجافوه وإنما أحدث بعدهم" ا ه.
3. قال ابن الحاج رحمه الله: [المدخل (2 / 245، 246)]:
فصل في النهي عن الأذان بالألحان:
وليحذر في نفسه أن يؤذن بالألحان، وينهى غيره عما أحدثوا فيه مما يشبه الغناء. وهذا ما لم يكن في جماعة يطربون تطريبا يشبه الغناء حتى لا يعلم ما يقولونه من ألفاظ الأذان إلا أصوات ترتفع وتنخفض، وهي بدعة مستهجنة قريبة العهد بالحدوث أحدثها بعض الأمراء بمدرسة بناها، ثم سرى ذلك منها إلى غيرها، وهذا الأذان هو المعمول به في الشام في هذا الزمان، وهي بدعة قبيحة، إذ إن الأذان إنما المقصود به النداء إلى الصلاة، فلا بد من تفهيم ألفاظه للسامع، وهذا الأذان لا يفهم منه شيء لما دخل ألفاظه من شِبه الهُنوك والتغني، وقد ورد في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " … وقال الإمام أبو طالب المكي رحمه الله في كتابه: "ومما أحدثوه التلحين في الأذان وهو من البغي فيه والاعتداء، قال رجل من المؤذنين لابن عمر: إني لأحبك في الله، فقال له: لكني أبغضك في الله، فقال: ولم يا أبا عبد الرحمن؟ قال: لأنك تبغي في أذانك، وتأخذ عليه أجرة. وكان أبو بكر الآجري رحمه الله يقول: "خرجت من بغداد ولم يحل لي المقام بها قد ابتدعوا في كل شيء حتى في قراءة القرآن وفي الأذان" يعني الإجارة والتلحين انتهى." ا ه.
4. قال الحطاب المالكي رحمه الله: [مواهب الجليل (2/93)]: قال في "المدونة": ويكره التطريب في الأذان، قال في [الطّراز]: والتطريب: تقطيع الصوت وترعيده، وأصله خفة تصيب المرء من شدة الفرح أو من شدة التحزين، وهو من الاضطراب أو الطربة. قال في [العتبية]: التطريب في الأذان منكر، قال ابن حبيب: وكذلك التحزين من غير تطريب ولا ينبغي إمالة حروفه والتغني فيه، والسنة فيه أن يكون محدراً معلنا يرفع به الصوت انتهى. وقال ابن فرحون: والتطريب: مدّ المقصور، وقصر الممدود. وسمع عبد الله بن عمر رجلا يُطرِّب في أذانه، فقال: لو كان عمر حيّاً فكَّ لحييك انتهى. وقال ابن ناجي: يكره التطريب؛ لأنه ينافي الخشوع والوقار، وينحو إلى الغناء. والكراهة في التطريب على بابها إن لم تتفاحش وإلا فالتحريم. وألحق ابن حبيب التحزين بالتطريب. نقله أبو محمد... وفرق ابن ناجي بين الصوت الحسن والتطريب.
… فتحصل من هذا أنه يستحب في المؤذن أن يكون حسن الصوت، ومرتفع الصوت، وأن يُرجع صوته، ويكره الصوت الغليظ الفظيع، والتطريب والتحزين إن لم يتفاحش وإلا حرُم" ا ه.
5. قال القرافي رحمه الله: في [الذخيرة (2/56)]: قال ابن القاسم: "ما رأيت أحدا من مؤذني المدينة يَطرب" يعني العمل على خلافه.
والتَّطريب من الاضطراب الذي يصيب الإنسان من الخوْف أو الفرح مشبه بتقطيع الصوت وترعيده بذلك، وكرهه لما فيه من التَّشبيه بالغناء الذي ينزه التَّقرُّب عنه. وفي الجواهر قال ابن حبيب: وكذلك التَّحزِين بغير تطريب، ولا يبالغ في المدِّ بل يكون عدلا" ا ه.
6. قال ابن عثيمين رحمه الله: [الشرح الممتع (2 / 62، 63)]: الملحّن: المطرَّب به، أي: يؤذّن على سبيل التطريب به كأنّما يجر ألفاظ أغنية: فإنّه يُجزئ لكنه يكره. ومن العلماء من قال: لا يصحُّ الأذان الملحَّن؛ لأنَّ الأذان عبادة، والتَّلحين يخرجه عن ذلك، ويميل به إلى الطَّرب والأغاني.
والملحون: هو الذي يقع فيه اللّحن، أي: مخالفة القواعد العربيَّة، ولكن اللّحن ينقسم إلى قسمين:
قسم لا يصح معه الأذان، وهو الذي يتغير به المعنى.
وقسم يصح به الأذان مع الكراهة، وهو الذي لا يتغير به المعنى، فلو قال المؤذن " الله أكبار " لا يصح؛ لأنه يحيل المعنى، فإن " أكبار " جمع كَبَر، كأسباب جمع سبب وهو " الطبل " ا ه.
قال مُقَيّده: ومن الأخطاء الشائعة في الأذان أيضا جرّ إليها في الغالب إرادة التطريب به والتلحين:
وقد نَبَّه على أغلب هذه المواضع الحطاب في مواهب الجليل (2 / 94)، وانظر أيضا [معجم المناهي اللفظية لبكر أبي زيد (حرف الألف) 51].
• المدّ في أول " أَشْهَدُ " فيخرج إلى حيِّز الاستفهام، يقول: "آآشْهَدُ" والمراد أن يكون خبرا إنشائيا، وكذلك في أوّل الجلالة، يقول: "آآلله أَكْبَر".
• الوقف على " لَا إلَهَ " وهو تعطيل محض ثم يبتدئ: "إِلَّا الله". والصواب النطق بها كلمة واحدة دون وقف أو فصل.
• أنّ بعضهم لا يُدغم تنوين "مُحَمَّدًا" في "الرَّاءِ" بعدها، وهو لحن خفي عند القرّاء.
• أنّ بعضهم لا ينطق بِالْهَاءِ من "الصَّلَاة" في قوله: "حَيَّ عَلَى الصَّلَاة" ولا بِالْحَاءِ من "حَيَّ عَلَى الْفَلَاح"، فيخرج إلى الدعاء إلى "صَلَا النَّار" في الأول. وإلى "الفَلَا" في الثاني، والفَلَا: جمع فلاة، وهي المفازة.
ويُقال: (صَلَيْتُ) الرجل نارا إذا أدخلته النار وجعلته يصلاها. وفي الباب قول الله تعالى:﴿ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا ﴾،﴿ وَيُصَلَّى سَعِيرًا ﴾
• مدّ همزة " أَكْبَرُ " وتسكينها، وفتح النُّونِ من " أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ "، والمدّ على هَاءِ " إلَهَ " وتسكينها أو تنوينها، وهو أفحش، والإتيان بِهَاءٍ زائدة بعد الهَاءِ من " إلَهَ " وضمّ " مُحَمَّدًا "، ومدّ " حَيَّ " أو تخفيفها.
• وإبدال همزة " أَكْبَرُ" وَاوًا، يقول: "اللهُ وَكبر". وقيل له مساغ في اللغة يُصحح به الأذان اضطرارا، على أنّ مرجع ألفاظ الأذان إلى الشرع وإنّما هو من جهة السمع. فالأولى قول "اللهُ أَكْبَرُ " بتحقيق الهمزة، هذا ما أفاده الشيخ ابن عثيمين رحمه الله. وانظر [مجموع فتاويه (12/167)].
• وقلب الألف هاء من الله. يقول: هالله أكبر.
• مدّ (أنّ) يقول: (أَشْهَدُ أَنّا مُحَمَّدًا رَسُولُ الله) وهو غلط والمعنى فاسد، مخل بالشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
• والمدّ من الحيعلتين، في قوله: حيّ على˜ الصلاة، حيّ على˜ الفلاح، فالمعلوم عند التقاء الساكنين قصر المد في حالة الوصل.
• نصب لام (رسول) في " أَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله"، فيخرج بذلك عن كونه خبرا. ويختل به المعنى. والصواب: رفعه معلوم من قواعد اللغة.
• ولا تسقط الهاء من (الله)، لما فيه من تحريف لإسم الجلالة، ولما روي عن الأعمش رحمه الله أنه سئل عمن يفعله فقال: «لا يؤذن لكم من يدغم الهاء» (2)، يقول: "أَلَا أَكْبَر" ويقول: "أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا الا، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الا".
• ومن الخطأ أيضا إعراب الأذان. نقل الحطاب في [مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (2/76)]: "قال اللّخميّ: الأذان والتكبير كله جَزْم. وقال غيره: وعوام النّاس يضمّون الرّاء من "اللَّهُ أَكْبَرُ" الأول، والصواب جزمها، لأن الأذان سُمع مَوقوفا" ا ه. وقد سبق نقل كلام ابن فرحون رحمه الله: "أما الأذان فإنّه على الوقف"، وكذلك أفتى به العلّامة عبد الرزاق عفيفي رحمه الله (** ) قال: "السّنّة أن يفرد كل تكبيرة بحالها ويتنفس بعدها ثم يقول " الله أكبر"، سواء ربع التكبير يعنى كبر في أول الأذان أربع تكبيرات أم كبر تكبيرتين" انتهى كلامه رحمه الله.
فهذا مجمل القول في هذا المبحث والله تعالى أعلم.
خاتمة:
فالواجب على من أراد التطوع للقيام بهذه الشعيرة، من كافة المسلمين، أن يأخذ عِلم كيفيته ويتلقّنه عن معلميه تلقينا صحيحا يحجزه عن الخطأ والتكلّف، والرجاء من الله تعالى أن لا يأثم فيما سبق به جهله. إنّ ربنا غفور شكور. فإنّه كذلك كان من خبر أبي محذورة، وقد روى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه علّمه الأذان، وقصته بذلك في صحيح مسلم وغيره.
والوصية أيضا لإخواني أئمة المساجد بالحرص على اختيار الأنسب للقيام بهذه الشعيرة العظيمة التي هي عَلم على علو الإسلام والسّنّة وظهورها، محتسبين في ذلك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخير له، وقد علمتم أنّ الأذان حكاه عبد الله بن زيد رضي الله عنه ووكله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلال رضي الله عن الجميع، قال عليه الصلاة والسلام: "هو أندى صوتا"، فاختص به منهم من كان أندى وأمدّ صوتا، وقد كانوا عربا لا يلحنون، أما في هذا الزمان وقد أصاب اللسان العُجمة، فالميزتان جميعا، ومع ما منّ الله به من هذه الآلات العصرية، فعدم التطريب به واللّحن فيه أوكد. والله أعلى وأعلم.
آخره الحمد لله. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليما كثيرا.

إعداد
أبي عبد الله حميد بن مصطفى
مستغانم -الجزائر.

____________
[1] رواه الدارقطني رحمه الله مرفوعاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وإسناده لا يصح. وانظر الضعيفة للإمام الألباني رحمه الله (5/206: 2184)
[2] قال بن الجوي رحمه الله في الموضوعات (2/87): باب النهي عن أذان من يدغم الهاء: أنبأنا محمد بن ناصر أنبأنا أبو غالب البقّال حدثنا البَرقانيّ حدثنا الدّارقُطنيّ حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث حدثنا علي بن جَمِيل الرّقيّ قال: " كنا نمشي مع عيسى بن يونس فجاء رجل ظننت أنه كان حائكا فقال: ألا أكبر؟ فقال عيسى بن يونس حدثني الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤذن لكم من يدغم الهاء".
قلنا: كيف يقول؟ قال يقول: أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا الا، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الا.
قال أبو بكر بن أبي داود: هذا حديث منكر، وإنما مرّ الأعمش برجل يؤذن يدغم الهاء" ا ه.
وجاء في العلل للدّارقطنيّ رحمه الله (8/ 174: 1492): "وسئل عن حديث أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤذن لكم من يدغم الهاء".
فقال: يرويه علي بن جميل، عن عيسى بن يونس، عن الأعمش كذلك، كذلك قال: وعلي بن جميل ضعيف، ويقال: إن الصحيح من ذلك أنه من قول الأعمش" ا ه.

 
بارك الله فيك عمي ابو ليث
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top