الأذان سُنّة المسلمين وخصيصة امتازوا بها عن الأمم السالفين.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فكما هو معلوم أنّ في إظهار شعائر الدين إعزاز له وللمنتمين إليه، ولأجله شُرع للمسلمين الانتقال من بلاد الشرك والإلحاد إلى بلاد الإسلام حيث تقام شرائعه وتعلو كلمته، فقال تعالى:﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾، فإن الله بحكمته ورحمته فرَضَ على المسلمين فرائض وألزمهم أن لا يُضيّعوها، وحَدّ حدوداً وأمرهم أن لا يعتدوها، وفَرَضَ عليهم تعظيم شعائر دينه وحرماته، قال سبحانه:﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾، وقال جلّ جلاله:﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾.
وإنّ من تلك الشعائر العظيمة ومعالم الدين الشهيرة إقامة الأذان للنداء للصلوات التي هي أعظم الأركان بعد الإيمان والإقرار لله بالتوحيد والإجلال، وللنّبيّ محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والإرسال. لكن كذلك للأسف قد ضيّعه المسلمون في جملة ما فرّطوا فيه في هذه الأزمان، فلم يلتفتوا إلى صيانته من اللّحن والتبديل، فرُفع في غير أوانه، وأحدث فيه ما ليس منه وحرفت ألفاظه ومعانيه كيدا من الشيطان وعدوانا.
وإني عمدت في ههنا تلخيص بعض ما وقفت عليه من مباحث في هذا الباب يجدر التنبيه إليها، هي للذكرى وتعميم الفائدة فجزى الله خيرا مبديها ونفعني بها ومن نظر.
وقبله يحسن تحديد ماهية الشيء لإدراك الغاية منه، فعندئذ يسهل على المقتدي تحري الصواب بعد بيانه ومجانبة الاعتداء والبغي فيه. فقد جاء في تعريف الأذان لغة أنّه يراد به الإعلام بأي شيء كان، قال صاحب الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/264): "وحقيقة الأذان بالمعنى المصدري -ويرادفه الأذين والتأذين بالمعجمة- لغة: الإعلام بأي شيء، لقوله تعالى:﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ أي إعلام. ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾أي أَعلِم" ا ه. وكذلك قال الأزهري رحمه الله [تهذيب اللغة (15/17)]: يُقال: آذَنْتُه أُوذِنه إِيذَانًا وأَذاناً. فالأذان: إسمٌ يَقوم مُقام الإيذان، وهو المصدر الحقيقيّ. والأذان للصّلاة: إعلامٌ بها وبوقتها. والأَذِين: مثل الأذان أيضًا" ا ه.
قال القرافي [الذخيرة (2/43)]: "قال ابن قتيبة: أصله من الْأُذُنِ كأنه أودع ما عمله أُذُنَ صاحبه". وهو من قولك: (أَذِنَ لَهُ): أي اسْتَمَعَ، قال صاحب مختار الصحاح (حرف الهمزة، مادة أذن :16): "ومنه قوله تعالى:﴿ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾". أي: استمعت لأمره. وهكذا الأذان يأذَن النّاس إليه، إذا علا ينصتون إليه.
وأما حقيقته شرعا فهو: للإعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة، كذلك قاله أحمد النّفراويّ شارح الرسالة [الفواكه الدواني (1/264)] والنووي في المجموع شرح المهذب (3/75)، وانظر الذخيرة (2/43) للقرافي، وفتح الباري (2/77) لابن حجر، والمغني (1/413) لابن قدامة رحم الله الجميع. ونبّه العلّامة ابن العثيمين في الشرح على زاد المستقنع (2/40) على نكتة لطيفة، قال: "أما تعريف الأذان شرعاً: فهو التعبُّد لله بذكرٍ مخصوص؛ بعد دخول وقت الصَّلاة؛ للإعلام به. وهذا أولى لأنَّ الأذان عبادة فينبغي التنويه عنها في التَّعريف" انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
وأما قوله: "وقت الصَّلاة" أي المفروضة -الخمس والجمعة- وهي المقصودة به، احترازا مما عداها كالعيدين وللكسوف وسائرها وإن أوجبت.
كما دلّ على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:﴿ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾، وأما السنة فما في الحديث عن أبي داود بإسناد صحيح عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: «لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاقُوسِ يُعْمَلُ لِيَضْرِبَ بِهِ النَّاسُ لِجَمْعِ الصَّلَاةِ طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ حَامِلٌ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ فَقُلْت: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ هَذَا النَّاقُوسَ؟ فَقَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ فَقُلْت: نَدْعُو بِهِ إلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ: أَوَ لَا أَدُلُّك عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْت: بَلَى، فَقَالَ تَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ ... " إلى آخر الأذان.
ومن فوائده بعدما تبيّن أنّ الغاية منه الإعلان بدخول وقت الصلاة وهو المقصود منه الموجب لمشروعيته، فكذلك هو للإعلام بأن الدار دار الإسلام، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يُغِير حتى يُصْبِح، فإن سمع أذاناً أمسك وإلّا أغار، ففي الصحيح عن أنس رضي الله عنه: «أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا، لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَخَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا رَكِبَ» الحديث. وهكذا كان من عهد أبي بكر إلى خالد رضي الله عنهما في سَيره إلى اليمامة، كما في مختصر السيرة للإمام ابن عبد الوهاب: (273)، "أنّ أيّما دار غشيتموها فسمعتم الأذان فيها بالصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ماذا نقموا وماذا يبغون، وأيما دار غشيتموها فلم تسمعوا فيها الأذان، فشنوا عليها الغارة" انتهى.
ولعل سبب ذلك لأنه يدل صريحا على أهم أسس العقيدة الإسلامية إذا ما حُللت جمله وتبيّنت جزئياته، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (2/92): "قال القرطبي وغيره: الأذان على قلّة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة لأنه بدأ بالأكبرية وهي تتضمن وجود الله وكماله ثم ثنّى بالتوحيد ونفي الشريك ثم بإثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم..." ا ه، "وقال القاضي عياض رحمه الله "ثم دعا إلى ما دعاهم إليه من العبادات فدعا إلى الصلاة وجعلها عقب إثبات النبوة لأن معرفة وجوبها من جهة النبيّ صلى الله عليه وسلم لا من جهة العقل، ثم دعا إلى الفلاح وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم، وفيه إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء وهي آخر تراجم عقائد الإسلام. ثم كرر ذلك بإقامة الصلاة للإعلام بالشروع فيها وهو متضمن لتأكيد الإيمان وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان وليدخل المصلي فيها على بينة من أمره وبصيرة من إيمانه ويستشعر عظيم ما دخل فيه وعظمة حق من يعبده وجزيل ثوابه". قال النووي رحمه الله في المجموع (3/75): هذا آخر كلام القاضي وهو من النفائس الجليلة وبالله التوفيق.
تنبيه: فينبغي إصلاح اللفظة عند النطق بها، فإن الأذان وإن كان أصله من الأذن كما سلف نقله، إلا أنّ معناه الإعلام وفي عُرْف الشّرع إعلام خاص بأوقات الصلاة المفروضة. حتى يُعلم أنّ قول القائل: الآذان بمدّ الهمزة يريد به الأذان لكنة ولحن، فإنّما هي مجموع الأذن آلة السمع المعروفة، فظهر الفرق. وقد نبّه عليه الشيخ حسن أيت علجت أثابه الله يومها في إحدى المحاضرات العلمية قال: "كان يُقرأ على الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى من كتاب الفقه فقرأ القارئ: "باب الآذان"، فتعقبه: بل "باب الأذان" فإن الآذان بمد الهمزة جمع أذن، والأذان بقصرها بمعنى الإعلام" انتهى بمعناه. قال ابن الأثير في النهاية (1/ 79): "يقال: آذَنَ يُؤْذِنُ إِيذَاناً، وأَذَّنَ يُؤَذِّنُ تَأْذِيناً، والمُشدَّد مخصوصٌ في الاستعمال بإعلام وقت الصّلاة" ا ه.
وكما يحضرني في خصوص هذا التمييز أيضا أبياتا من نظم شاعر الإسلام والعربية أحمد شوقي رحمه الله، يقول:
مررت بالمسجد المحزون أسأله ... هل في المصلى أو المحراب مروان
تغير المسجد المحزون واختلفت ... في منابره أحرار وعبدان
فلا الأذان أذان في منارته ... إذا تعالى ولا الآذان آذان
-فإنّا لله!-
وإنّه مما أُحدث فيه بشؤم الرأي: التطريب به؛ قالوا: هو أبلغ لاستجلاب المصلين وتشويقهم إلى الصلاة. قالوا: وقد أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان إلى بلال وقال: "هو أندى صوتا".
وجوابه من وجهين أو أكثر: نجمله ثم نستعرض كلام العلماء رحمهم الله في بيان هذه المسألة:
فنقول إنّما كانت حاجة المسلمين للأذان لقصد الإعلام بالصلاة وبوقتها، وليس فيه أنّ الموجب لمشروعيته التشويق إلى الصلاة، وقد تبيّن جليّا من خلال مطلب التعريف كنهه ومعناه. قال النووي رحمه الله في الشرح على صحيح مسلم (4/ 77): "ذكر العلماء في حكمة الأذان أربعة أشياء: إظهار شعار الإسلام وكلمة التوحيد والإعلام بدخول وقت الصلاة وبمكانها والدعاء إلى الجماعة" ا ه. فلم يَرِد فيه لا من حيث اللغة ولا من جهة الشرع ما يشدّ هذا الرأي، بل لعلهم قصدوا ابتداء إلى بوق أو أن يوروا نارا أو ناقوس لِيُضرب به للإعلان عنها. فأرشدهم الله إلى ما هو خير. وبالزيادة على مقصود الشارع استدراك عليه، كما أنّ صرف صريح المعنى إلى غيره دون موجب له، تَحكُّم في اللغة والشرع على سواء تأباه الضمائر.
هذا وإنّما كان تفويض الأذان إلى بلال لأنه كان أندى صوتا من عبد الله بن زيد على ما ذكر في الحديث؛ أي أرفع وأعلى صوتا؛ -رضوان الله عليهم أجمعين- فيكون أبلغ للمقصود منه، ومعلوم أن المقصود من الأذان الإعلام ومن شرطه الصوت، وكلما كان الصوت أعلى كان أولى. فليس فيه معنى التطريب ولا ما يقصدون. قال الخطابي رحمه الله في معالم السنن (1/ 153): "وفي قوله: «ألقِها على بلال فإنه أندى صوتا منك» دليل على أنّ من كان أرفع صوتا كان أولى بالأذان، لأن الأذان إعلام، فكل من كان الإعلام بصوته أوقع كان به أحق وأجدر" انتهى.
فلو قيل في معناه: "أطيّب وأحسن صوتا"؟ فقد قال أهل العلم -على فرض ذلك- أنّه ثمَّة فرق بين أن يكون المؤذن حسن الصوت وبين أن يطرب به. فحتى هذا ليس فيه ما يستروح إليه. فالأوّل سماحة وطَبع والآخر مُتكلَّفٌ.
وقد روى البخاري رحمه الله في الصحيح -تعليقا جازما به-: "قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا وَإِلَّا فَاعْتَزِلْنَا» (1)"، أي سهلا بلا تمطيط وتطريب تحسّ منه الصناعة وليس في الطّبع السّماحة به، بل لا يحصل إلّا بتكلُّف وتصنُّع.
فتبين بهذا أنّ مثل هذا العمل مخالف لما ذهب إليه السلف رضي الله عنهم في فهم نص الحديث. واعلم -أحسن الله إليك- أنّه قد يأتي الزغل في هذا ومثله بإغفال عمل صاحب الشريعة وأصحابه المكرمين، وترك الاهتداء بفهوم أئمة الهدى من صالح سلف المؤمنين؛ ولا يخفى ما فيه من الافتيات عليهم والجراءة على الدين. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في اجتماع الجيوش الإسلامية (2/89) "وهذا حال أرباب الأعمال التي كانت لغير الله عز وجل أو على غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحال أرباب العلوم والأنظار التي لم يتلقوها عن مشكاة النبوة، ولكن تلقوها عن زبالة أذهان الرجال وكناسة أفكارهم، فأتعبوا قواهم وأفكارهم وأذهانهم في تقرير آراء الرجال أو الانتصار لهم وفَهم ما قالوه وبثه في المجالس والمحاضر، وأعرضوا عما جاء به الرسول صفحا، ومن به رمقٌ منهم يُعِيره أدنى اِلْتفاتٍ طلبًا للفضيلة" ا ه.
كذلك فالتّطرِيب بالأذان والتّلحِين به أقرب إلى مضاهاة ما يفعله أهل الغناء بالأبيات، ويفعله كثير من قراء الأصوات على نحو ألحان الشعر أو ما يسمى (الإنشاد) ويوقِعون الإيقاعات عليه مثل الغناء سواء، ولا يُجيز ذلك أحدٌ من علماء الإسلام، وإنّ أقلّ أحواله أنّه ذريعة مُفضيَة إلى هذا إفضاء قريبا، فالمنع منه كالمنع من الذرائع الموصلة إلى الحرام.
فالحاصل أنّ التغني بالأذان والتطريب به بالترنّم والتّلحين في بعض صفاته كهيئة استهزاء بالذكر والنداء، منافٍ لتعظيم شعائر الدين والإيمان. وقد أنكره ابن عمر رضي الله عنهما وقال لذلك: "إنّك تبغي في أذانك" أي أنّه يتجاوز الحد بتمطيطه والتطريب به. وفي رواية: أنه قال: "إنك تختال في أذانك". كأنه يشير إلى تفخيم الكلام والتشادق فيه. ومهما يكن فقد كرهه السلف. وكل خير في اتباعهم وكل شر في مخالفتهم.
والله تعالى أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فكما هو معلوم أنّ في إظهار شعائر الدين إعزاز له وللمنتمين إليه، ولأجله شُرع للمسلمين الانتقال من بلاد الشرك والإلحاد إلى بلاد الإسلام حيث تقام شرائعه وتعلو كلمته، فقال تعالى:﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾، فإن الله بحكمته ورحمته فرَضَ على المسلمين فرائض وألزمهم أن لا يُضيّعوها، وحَدّ حدوداً وأمرهم أن لا يعتدوها، وفَرَضَ عليهم تعظيم شعائر دينه وحرماته، قال سبحانه:﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾، وقال جلّ جلاله:﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾.
وإنّ من تلك الشعائر العظيمة ومعالم الدين الشهيرة إقامة الأذان للنداء للصلوات التي هي أعظم الأركان بعد الإيمان والإقرار لله بالتوحيد والإجلال، وللنّبيّ محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والإرسال. لكن كذلك للأسف قد ضيّعه المسلمون في جملة ما فرّطوا فيه في هذه الأزمان، فلم يلتفتوا إلى صيانته من اللّحن والتبديل، فرُفع في غير أوانه، وأحدث فيه ما ليس منه وحرفت ألفاظه ومعانيه كيدا من الشيطان وعدوانا.
وإني عمدت في ههنا تلخيص بعض ما وقفت عليه من مباحث في هذا الباب يجدر التنبيه إليها، هي للذكرى وتعميم الفائدة فجزى الله خيرا مبديها ونفعني بها ومن نظر.
وقبله يحسن تحديد ماهية الشيء لإدراك الغاية منه، فعندئذ يسهل على المقتدي تحري الصواب بعد بيانه ومجانبة الاعتداء والبغي فيه. فقد جاء في تعريف الأذان لغة أنّه يراد به الإعلام بأي شيء كان، قال صاحب الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/264): "وحقيقة الأذان بالمعنى المصدري -ويرادفه الأذين والتأذين بالمعجمة- لغة: الإعلام بأي شيء، لقوله تعالى:﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ أي إعلام. ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾أي أَعلِم" ا ه. وكذلك قال الأزهري رحمه الله [تهذيب اللغة (15/17)]: يُقال: آذَنْتُه أُوذِنه إِيذَانًا وأَذاناً. فالأذان: إسمٌ يَقوم مُقام الإيذان، وهو المصدر الحقيقيّ. والأذان للصّلاة: إعلامٌ بها وبوقتها. والأَذِين: مثل الأذان أيضًا" ا ه.
قال القرافي [الذخيرة (2/43)]: "قال ابن قتيبة: أصله من الْأُذُنِ كأنه أودع ما عمله أُذُنَ صاحبه". وهو من قولك: (أَذِنَ لَهُ): أي اسْتَمَعَ، قال صاحب مختار الصحاح (حرف الهمزة، مادة أذن :16): "ومنه قوله تعالى:﴿ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾". أي: استمعت لأمره. وهكذا الأذان يأذَن النّاس إليه، إذا علا ينصتون إليه.
وأما حقيقته شرعا فهو: للإعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة، كذلك قاله أحمد النّفراويّ شارح الرسالة [الفواكه الدواني (1/264)] والنووي في المجموع شرح المهذب (3/75)، وانظر الذخيرة (2/43) للقرافي، وفتح الباري (2/77) لابن حجر، والمغني (1/413) لابن قدامة رحم الله الجميع. ونبّه العلّامة ابن العثيمين في الشرح على زاد المستقنع (2/40) على نكتة لطيفة، قال: "أما تعريف الأذان شرعاً: فهو التعبُّد لله بذكرٍ مخصوص؛ بعد دخول وقت الصَّلاة؛ للإعلام به. وهذا أولى لأنَّ الأذان عبادة فينبغي التنويه عنها في التَّعريف" انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
وأما قوله: "وقت الصَّلاة" أي المفروضة -الخمس والجمعة- وهي المقصودة به، احترازا مما عداها كالعيدين وللكسوف وسائرها وإن أوجبت.
كما دلّ على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:﴿ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾، وأما السنة فما في الحديث عن أبي داود بإسناد صحيح عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: «لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاقُوسِ يُعْمَلُ لِيَضْرِبَ بِهِ النَّاسُ لِجَمْعِ الصَّلَاةِ طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ حَامِلٌ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ فَقُلْت: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ هَذَا النَّاقُوسَ؟ فَقَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ فَقُلْت: نَدْعُو بِهِ إلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ: أَوَ لَا أَدُلُّك عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْت: بَلَى، فَقَالَ تَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ ... " إلى آخر الأذان.
ومن فوائده بعدما تبيّن أنّ الغاية منه الإعلان بدخول وقت الصلاة وهو المقصود منه الموجب لمشروعيته، فكذلك هو للإعلام بأن الدار دار الإسلام، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يُغِير حتى يُصْبِح، فإن سمع أذاناً أمسك وإلّا أغار، ففي الصحيح عن أنس رضي الله عنه: «أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا، لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَخَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا رَكِبَ» الحديث. وهكذا كان من عهد أبي بكر إلى خالد رضي الله عنهما في سَيره إلى اليمامة، كما في مختصر السيرة للإمام ابن عبد الوهاب: (273)، "أنّ أيّما دار غشيتموها فسمعتم الأذان فيها بالصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ماذا نقموا وماذا يبغون، وأيما دار غشيتموها فلم تسمعوا فيها الأذان، فشنوا عليها الغارة" انتهى.
ولعل سبب ذلك لأنه يدل صريحا على أهم أسس العقيدة الإسلامية إذا ما حُللت جمله وتبيّنت جزئياته، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (2/92): "قال القرطبي وغيره: الأذان على قلّة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة لأنه بدأ بالأكبرية وهي تتضمن وجود الله وكماله ثم ثنّى بالتوحيد ونفي الشريك ثم بإثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم..." ا ه، "وقال القاضي عياض رحمه الله "ثم دعا إلى ما دعاهم إليه من العبادات فدعا إلى الصلاة وجعلها عقب إثبات النبوة لأن معرفة وجوبها من جهة النبيّ صلى الله عليه وسلم لا من جهة العقل، ثم دعا إلى الفلاح وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم، وفيه إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء وهي آخر تراجم عقائد الإسلام. ثم كرر ذلك بإقامة الصلاة للإعلام بالشروع فيها وهو متضمن لتأكيد الإيمان وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان وليدخل المصلي فيها على بينة من أمره وبصيرة من إيمانه ويستشعر عظيم ما دخل فيه وعظمة حق من يعبده وجزيل ثوابه". قال النووي رحمه الله في المجموع (3/75): هذا آخر كلام القاضي وهو من النفائس الجليلة وبالله التوفيق.
تنبيه: فينبغي إصلاح اللفظة عند النطق بها، فإن الأذان وإن كان أصله من الأذن كما سلف نقله، إلا أنّ معناه الإعلام وفي عُرْف الشّرع إعلام خاص بأوقات الصلاة المفروضة. حتى يُعلم أنّ قول القائل: الآذان بمدّ الهمزة يريد به الأذان لكنة ولحن، فإنّما هي مجموع الأذن آلة السمع المعروفة، فظهر الفرق. وقد نبّه عليه الشيخ حسن أيت علجت أثابه الله يومها في إحدى المحاضرات العلمية قال: "كان يُقرأ على الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى من كتاب الفقه فقرأ القارئ: "باب الآذان"، فتعقبه: بل "باب الأذان" فإن الآذان بمد الهمزة جمع أذن، والأذان بقصرها بمعنى الإعلام" انتهى بمعناه. قال ابن الأثير في النهاية (1/ 79): "يقال: آذَنَ يُؤْذِنُ إِيذَاناً، وأَذَّنَ يُؤَذِّنُ تَأْذِيناً، والمُشدَّد مخصوصٌ في الاستعمال بإعلام وقت الصّلاة" ا ه.
وكما يحضرني في خصوص هذا التمييز أيضا أبياتا من نظم شاعر الإسلام والعربية أحمد شوقي رحمه الله، يقول:
مررت بالمسجد المحزون أسأله ... هل في المصلى أو المحراب مروان
تغير المسجد المحزون واختلفت ... في منابره أحرار وعبدان
فلا الأذان أذان في منارته ... إذا تعالى ولا الآذان آذان
-فإنّا لله!-
وإنّه مما أُحدث فيه بشؤم الرأي: التطريب به؛ قالوا: هو أبلغ لاستجلاب المصلين وتشويقهم إلى الصلاة. قالوا: وقد أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان إلى بلال وقال: "هو أندى صوتا".
وجوابه من وجهين أو أكثر: نجمله ثم نستعرض كلام العلماء رحمهم الله في بيان هذه المسألة:
فنقول إنّما كانت حاجة المسلمين للأذان لقصد الإعلام بالصلاة وبوقتها، وليس فيه أنّ الموجب لمشروعيته التشويق إلى الصلاة، وقد تبيّن جليّا من خلال مطلب التعريف كنهه ومعناه. قال النووي رحمه الله في الشرح على صحيح مسلم (4/ 77): "ذكر العلماء في حكمة الأذان أربعة أشياء: إظهار شعار الإسلام وكلمة التوحيد والإعلام بدخول وقت الصلاة وبمكانها والدعاء إلى الجماعة" ا ه. فلم يَرِد فيه لا من حيث اللغة ولا من جهة الشرع ما يشدّ هذا الرأي، بل لعلهم قصدوا ابتداء إلى بوق أو أن يوروا نارا أو ناقوس لِيُضرب به للإعلان عنها. فأرشدهم الله إلى ما هو خير. وبالزيادة على مقصود الشارع استدراك عليه، كما أنّ صرف صريح المعنى إلى غيره دون موجب له، تَحكُّم في اللغة والشرع على سواء تأباه الضمائر.
هذا وإنّما كان تفويض الأذان إلى بلال لأنه كان أندى صوتا من عبد الله بن زيد على ما ذكر في الحديث؛ أي أرفع وأعلى صوتا؛ -رضوان الله عليهم أجمعين- فيكون أبلغ للمقصود منه، ومعلوم أن المقصود من الأذان الإعلام ومن شرطه الصوت، وكلما كان الصوت أعلى كان أولى. فليس فيه معنى التطريب ولا ما يقصدون. قال الخطابي رحمه الله في معالم السنن (1/ 153): "وفي قوله: «ألقِها على بلال فإنه أندى صوتا منك» دليل على أنّ من كان أرفع صوتا كان أولى بالأذان، لأن الأذان إعلام، فكل من كان الإعلام بصوته أوقع كان به أحق وأجدر" انتهى.
فلو قيل في معناه: "أطيّب وأحسن صوتا"؟ فقد قال أهل العلم -على فرض ذلك- أنّه ثمَّة فرق بين أن يكون المؤذن حسن الصوت وبين أن يطرب به. فحتى هذا ليس فيه ما يستروح إليه. فالأوّل سماحة وطَبع والآخر مُتكلَّفٌ.
وقد روى البخاري رحمه الله في الصحيح -تعليقا جازما به-: "قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا وَإِلَّا فَاعْتَزِلْنَا» (1)"، أي سهلا بلا تمطيط وتطريب تحسّ منه الصناعة وليس في الطّبع السّماحة به، بل لا يحصل إلّا بتكلُّف وتصنُّع.
فتبين بهذا أنّ مثل هذا العمل مخالف لما ذهب إليه السلف رضي الله عنهم في فهم نص الحديث. واعلم -أحسن الله إليك- أنّه قد يأتي الزغل في هذا ومثله بإغفال عمل صاحب الشريعة وأصحابه المكرمين، وترك الاهتداء بفهوم أئمة الهدى من صالح سلف المؤمنين؛ ولا يخفى ما فيه من الافتيات عليهم والجراءة على الدين. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في اجتماع الجيوش الإسلامية (2/89) "وهذا حال أرباب الأعمال التي كانت لغير الله عز وجل أو على غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحال أرباب العلوم والأنظار التي لم يتلقوها عن مشكاة النبوة، ولكن تلقوها عن زبالة أذهان الرجال وكناسة أفكارهم، فأتعبوا قواهم وأفكارهم وأذهانهم في تقرير آراء الرجال أو الانتصار لهم وفَهم ما قالوه وبثه في المجالس والمحاضر، وأعرضوا عما جاء به الرسول صفحا، ومن به رمقٌ منهم يُعِيره أدنى اِلْتفاتٍ طلبًا للفضيلة" ا ه.
كذلك فالتّطرِيب بالأذان والتّلحِين به أقرب إلى مضاهاة ما يفعله أهل الغناء بالأبيات، ويفعله كثير من قراء الأصوات على نحو ألحان الشعر أو ما يسمى (الإنشاد) ويوقِعون الإيقاعات عليه مثل الغناء سواء، ولا يُجيز ذلك أحدٌ من علماء الإسلام، وإنّ أقلّ أحواله أنّه ذريعة مُفضيَة إلى هذا إفضاء قريبا، فالمنع منه كالمنع من الذرائع الموصلة إلى الحرام.
فالحاصل أنّ التغني بالأذان والتطريب به بالترنّم والتّلحين في بعض صفاته كهيئة استهزاء بالذكر والنداء، منافٍ لتعظيم شعائر الدين والإيمان. وقد أنكره ابن عمر رضي الله عنهما وقال لذلك: "إنّك تبغي في أذانك" أي أنّه يتجاوز الحد بتمطيطه والتطريب به. وفي رواية: أنه قال: "إنك تختال في أذانك". كأنه يشير إلى تفخيم الكلام والتشادق فيه. ومهما يكن فقد كرهه السلف. وكل خير في اتباعهم وكل شر في مخالفتهم.
والله تعالى أعلم.