الحمد لله وَحْدَه، والصلاةُ والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده وعلى آله وصحبِه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فهذه الحلقة الثانية من سلسلة: حجاب المرأة المسلمة في نظر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أقدم فيها الجزء الأول من مقال الأديب حمزة بكوشة رحمه الله التي رد بها على الشيخ مصطفى بن حلوش عند قوله: عادة الحجاب الثقيلة فجاء ردا قيما يستحق النشر فنسأل الله عزوجل أن يجعله في ميزان حسنات صاحبه وأن ينفع به الإسلام والمسلمين.
حجاب المرأة دين والمبالغة فيه عادة شريفة في الإسلام وقبله
للأستاذ الأديب حمزة بكوشة رحمه الله
(1)
كنت قرأت في البصائر الغراء عدد 41 مقالا للشيخ مصطفى بن حلوش تحت عنوان: (طواف وفد المؤتمر في عمالة وهران) قال فيه عند ذكر أهل «باريقو»(1): «وليست هذه الجماعة كالجماعات التي استقبلها في المدن السابقة بل جماعة تمثلت فيها جميع عناصر السكان الموجودين في «باريقو» فيها المسلمون- وهم الأكثرية- وفيها النصارى واليهود وكانت لطيفة بوجود الجنس اللطيف من المسيحيات واليهوديات فيها. ولولا عادة الحجاب الثقيلة لكان إلى جانبهن من جنسنا اللطيف المسلم عدد غير قليل».كذا.
ومادامت العربية عربية فتعبيره هذا المطلق عن التقييد لا يفهم منه إلا الأسف العميق على عدم سفور المرأة المسلمة كاليهودية والنصرانية ووقوفها معهن جنبا لجنب، فاستأت من تلك العبارة لا من صدورها من الشيخ (مصطفى حلوش) بل لنشرها بين أعمدة جريدة البصائر التي هي لسان حال جمعية العلماء المسلمين!
ولاحظت ذلك على أستاذنا الجليل الشيخ (الطيب العقبي) بما نشره لي في عدد 43 من البصائر(2).
ومن حسن الحظ نشرت جريدة البصائر في ذلك العدد سؤالا وجهه أحد تلامذة الجامع الأخضر للشيخ حلوش يطلب منه بيان رأيه في الموضوع فسكت مدة حتى ظننته فضل السكوت عن الجواب حيث لم يجد ما يؤيد مدعاه من آيات الكتاب واستحي أن يعترف بخطئه ويرجع إلى جادة الصواب فأبطل ظني ما نشره ذلك التلميذ في عدد 49 من البصائر من أن الشيخ حلوش كتب إلى أحد زملائه بقسنطينة يسأله عن كاتب السؤال ويسأله عن عنوانه ليجاريه برسالة خاصة وأخبره صديقه بعنوان السائل وطالت المدة ولم يظفر منه بجواب، فقلت إذن وراء الأكمة ما وراءها وأن الشيخ حلوش يريد التأثير بصديقه الذي شرب وإياه من منهل واحد على السذج والبسطاء وإن يدعو إلى السفور بلباقة وبراعة تحت طي الخفاء، وغاب عنه أن التلامذة يوجد فيهم كغيرهم من لا يخضع إلا عن بينة وبيان، ودليل وبرهان، كهذا التلميذ الذي لم تنطل عليه الشبهات، ولم يتأثر للمؤثرات. وآية ذلك نشره السر للعيان، حتى أنزل الشيخ حلوش إلى الميدان، من حيث لا يدري حلوش ولا أنا والله، وكنت قبلا أقول عسى بنزوله ينكشف الغطاء، ويمتاز الصواب عن الخطأ ويزول الشك باليقين، وينكشف الصبح لذي عينين.
نزل الشيخ حلوش إلى الميدان وكان المظنون عليه أن يرفع ما فقهه أولا فإذا به يمزقه كل ممزق فينشر بجريدة البصائر عدد (53)، و(54)، مقالا تحت عنوان (حجاب المرأة عادة لا دين) كذا. وهذا العنوان ألعن من كلمة الحجاب الثقيلة ولو كان قائله في بلد الإسلام وهو ينتسب للعلم والعلماء لحاكموه على هذا التصريح الذي هو إنكار لمعلوم من الدين، وسأبين ذلك بعد.
ورغما مما جاء في مقال الشيخ حلوش من الأدلة التي هي خارجة عن محل النزاع فأنا مصر على أن الحجاب من الإسلام والمبالغة التي سلكها الناس فيه سدا لذرائع الفساد، وإن كانت هذه المبالغة غير متفق عليها بين العلماء فهي عادة شريفة موجودة في العرب وغيرهم من الأمم الأخرى كاليونان وقد جاء في قاموس لاروس [ كانت نساء اليونان يستعملن الخمار إذا خرجن ويخفين وجوههن وكانت النساء تستعمله في القرون الوسطى].
وقد كان موجودا عند كثير من العرب، قال الشيخ مصطفى الغلاييني(3): ومما يدل عليه ما قاله الربيع بن زياد العبسي يرثي مالك بن زهير:
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ *** فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ.
يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ *** يلطمن أوجههن بالأسحار
قد كن يخبأن الوجوه تسترًا *** فاليوم حين برزن لِلنظار
يضربن حر وجوههن على فَتى *** عف الشَّمَائِل طيب الْأَخْبَار.
وقد كان الحجاب في الشرائع الأولى ودلت كتب التاريخ والأديان على أن سارة زوج إبراهيم الخليل صلوات الله عليه حين أراد الضيف تبشيرها بالحمل كانت البشارة بواسطة زوجها ولم يخاطبها بنفسه، ولما أرسل إبراهيم (إليعازر) ليخطب بنتا لابنه إسحاق، وتوجه إلى مدينة (ناحور) وخطب ابنة أخ إبراهيم التي تسمى (رفقا) وعاد إلى فلسطين حيث يوجد إسحاق فلما رأته أخذت البرقع وحجبت وجهها عنه وقد تلفعت (تامار) بثيابها وتحجبت ببرقعها عندما رآها يهوذا بن يعقوب بن إسحاق عليهم السلام حين مرروه بها.
أما في الشريعة الإسلامية فقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ﴾[الأحزاب:59]الآية. نص صريح في الحجاب، وقد قسم الشيخ مصطفى الغلاييني الحجاب إلى ثلاثة حجب في كتاب لباب الخيار فقال: «اعلم أن للحجاب ثلاثة حجب، حجاب يراد به أن لا يكون بين النساء للرجال اختلاط إلا مع ذي محرم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ».رواه البخاري(4)، وهذا عام لنساء النبي وغيرهن ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين، وحجاب يراد به ستر المرأة جميع بدنها إلا الوجه والكفين، وزاد بعض العلماء القدمين للفقيرات اللواتي تدعوهن الضرورة إلى العمل في المزارع وغيرها وهو المراد بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ﴾، وقوله: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾[النور:31].
وحجاب يراد به أن تستر المرأة جميع بدنها حتى وجهها وكفيها وهذا خاص بنساء النبي.
ثم رأى جمهور علماء الأمة بعد ذلك أن يعم هذا الشكل من الحجاب غيرهن أيضا عندما رأوا الحاجة ماسة إلى ذلك ولكنهم لم يوجبوه مطلقا بل حيث تدعو إليه الضرورة كالمدن التي فسدت فيها الأخلاق فلم تؤمن فيها الفتنة ولم نر منهم من نهى على نساء البوادي والقرى كشف وجوههن وأيديهن وأقدامهن». اهـ.
ومن هذا يتضح للقارئ أن حجاب المرأة دين لا محض عادة كما زعم الشيخ حلوش الذي أراد أن يحكم ببطلان الكلي لبطلان بعض جزئياته وهذا الشيخ رشيد رحمه الله الذي نقل الشيخ حلوش بعض نقول من كتابه الذي نسميه ويسميه الناس (نداء إلى الجنس اللطيف يوم المولد الشريف، في حقوق النساء في الإسلام)، ويسميه الشيخ حلوش بكتاب: (حقوق النساء في الإسلام) قال: «كل ما استحدثه الناس في المدن والقرى الكبيرة من المبالغة في حجب النساء هو من باب سد الذريعة لا من أصول الشريعة».
فأنت ترى أن الشيخ رشيد يجعل للحجاب أصلا في الشريعة يجعل المبالغة فيه سدا للذريعة.
والشيخ حلوش مع أخذه بعض نقول من كتاب الشيخ رشيد يقول حجاب المرأة عادة لا دين!.. فلست أدري هل الشيخ حلوش لم يذعن لقول الشيخ رشيد؟ أم لم يفهمه؟ أم تغافل عنه لحاجة في نفسه؟
لا أظن أن الشيخ حلوش لم يفهم كلام الشيح رشيد رضا رحمه الله لخلو كلام الشيخ رشيد من الغموض الناشئ من المصطلحات العلمية غالبا ولأن الشيخ حلوش يفهم؛ ولا أظنه لم يطلع عليه لأن الفصل الذي نقل منه عن الشيخ رشيد عدم وجوب ستر الوجه والكفين هو الذي أثبت فيه الشيخ رشيد مشروعية الحجاب ضمنا حيث قال: «كل ما استحدثه الناس في المدن والقرى من المبالغة في حجب النساء»...إلخ، فلماذا يقول حلوش بكل جراءة حجاب المرأة عادة لا دين؟!! أترك الجواب عن هذه المسألة أو المهزلة لأعضاء جمعية العلماء وعلى الخصوص رئيسها الجليل.
أخذ حلوش يسرد الأقوال في عدم وجوب ستر المرأة لوجهها وكفيها حتى وصل إلى قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسَاجِدَ كَمَا مُنِعَ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ»(5).
قال: «قد رأى العلماء أن لا حجة في قول عائشة ومنهم ابن حزم وقد رده بأربعة وجوه رابعها أن الإحداث إنما هو لبعض النساء»...إلخ.
هنا يسأل القارئ لماذا أخفى حلوش أسماء هؤلاء العلماء الذين رأوا أن لا حجة في قول أم المؤمنين؟ ولماذا أظهر ابن حزم دون عيره ألأنه ظاهري؟ أم ماذا؟ ولماذا طوى تلك الأوجه الثلاثة التي رد بها ابن حزم ولم يذكر إلا رابعها؟ مع أن هذا الوجه الرابع الذي يحقق الإحداث لبعض النساء دون البعض فيه الكفاية للدلالة على عدم الخروج إذا راعى سد الذريعة.
وعلاوة عليه إن ابن حزم الذي احتج حلوش بقوله ليست آراؤه بحجة عند المحققين من علماء الدين فهذا القاضي أبو بكر ابن العربي حذر الناس من آراء ابن حزم وكتبه ناهيك أنه قال في الجزء الثاني من كتاب العواصم من القواصم عن كتاب المحلى لابن حزم: كتاب المخلى (6).
ونحن وإن كنا نقدر قيمة ابن حزم العلمية وفلسفته لكنا لا نجرؤ أن نرد برأيه قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: «خُذُوا شَطْرَ دِينَكُمْ عَنِ هَذِهِ الْحُمَيْرَاءِ»(7).
ثم يقول حلوش: «وليس منها هذا الحجاب الثقيل الذي قصد منه في الأول سد ذريعة الفساد فلم يتحقق منه ما قصد بل قد أصبح عونا لبعض النساء على الوقوع في الآثام»...إلخ.
نسلم جدليا للشيخ حلوش أن القصد من هذا الحجاب لم يتحقق ولكن هل إذا تسرب الداء للجسم مع اتخاذ الحمية نترك الحمية؟
أما ما يدعيه من أنه عون لبعض النساء على الوقوع في الآثام فهو مقلد في هذه النظرية لدعاة السفور والفجور والعقل يحكم بإذن رأيهم لأن القصد من البرقع أن يحجب المرأة عن العيون بحيث تبصر غيرها ولا يبصرها حتى لا يفتتن بها لذلك أباح لها الفقهاء تركه عند أمن الفتنة.
البصائر: الجمعة 22 ذو الحجة 1355 الموافق ل 5مارس 1927. السنة الثانية العدد57، ص:4.
- يتبع -
=======
(1): هي مدينة معسكر حاليا وقد سميت بعدة أسماء من بينها هذا الاسم، واسم باريقو ترجمة حرفية للاسم (بالفرنسية: Perrégaux) نسبة إلى المارشال ألكسندر شارل بيريقو (بالفرنسية: Alexandre Charles Perrégaux).
(2): جاءت ضمن ملاحظاته على جريدة البصائر العدد (43) الصفحة (7)، حيث قال فيها: « جاء في مقال الشيخ مصطفى حلوش الذي عنوانه طواف وفد المؤتمر...إلخ»، وذكر نفس الكلام الموجود في مقدمة هذا المقال.
ثم عقب الشيخ حمزة بوكوشة بقوله: « وكان الأولى به يا سيدي المحرر أن يقول عادة الحجاب الشريفة، وإلا فمتى كانت عادة الحجاب ثقيلة عندنا معشر المسلمين؟ ومتى اسثقلها نساؤنا حتى يستثقلها رجالنا؟».اهـ.
(3):مصطفى بن محمد سليم الغلايينى (1303 - 1364 هـ / 1886 - 1944 م): شاعر، من الكتاب الخطباء، وهو من أعضاء المجمع العلمي العربي، كان مولده ووفاته ببيروت، تعلم بها وبمصر، وتتلمذ على يد محمد عبده (سنة 1320 هـ)، أصدر مجلة (النبراس) ببيروت، ووظف فيها أستاذا للعربية في المدرسة السلطانية أربع سنوات، وعين خطيبا للجيش الرابع (العثماني) في الحرب العامة الأولى، فصحبه من دمشق مخترقا الصحراء إلى ترعة السويس من جهة الإسماعيلية وحضر المعركة والهزيمة، ثم عاد إلى بيروت، مدرسا، وبعد الحرب أقام مدة في دمشق، وتطوع للعمل في جيشها العربي، وعاد إلى بيروت فاعتقل بتهمة الاشتراك في مقتل (أسعد بك) المعروف بمدير الداخلية (سنة 1922) وأفرج عنه فرحل إلى شرقي الأردن، فعهد إليه أميرها (الشريف عبد الله) بتعليم ابنيه، فمكث مدة وانصرف إلى بيروت، فنصب رئيسا للمجلس الإسلامي فيها، وقاضيا شرعيا إلى أن توفى.
من كتبه (نظرات في اللغة والأدب)، و(عظة الناشئين)، و(لباب الخيار في سيرة النبي المختار) رسالة اختصرها من كتابه (خيار المقول في سيرة الرسول - خ)، و(الإسلام روح المدنية) في الرد على كرومر، و(نظرات في كتاب السفور والحجاب)، و(الثريا المضية في الدروس العروضية)، و(أريج الزهر) مجموع مقالات له، و(رجال المعلقات العشر)، و(الدروس العربية) مدرسي، و(ديوان الغلاييني). [نقلا عن الأعلام للزركلي].
(4): صحيح البخاري ،كتاب النكاح، باب: لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم والدخول على المغيبة، رقم (5233).
(5): البخاري (869)، ومسلم (445) .
(6):قال الذهبي رحمه الله : «لم ينصف القاضي أبو بكر -رحمه الله- شيخ أبيه في العلم، ولا تكلم فيه بالقسط، وبالغ في الاستخفاف به، وأبو بكر فعلى عظمته في العلم لا يبلغ رتبة أبي محمد، ولا يكاد، فرحمهما الله وغفر لهما».
وأما كتابه المحلى من أنفع الكتب قال عز الدين بن عبد السلام: «ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل «المحلى» لابن حزم، وكتاب «المغني» للشيخ موفق الدين».
وعلق الذهبي على كلام ابن عبد السلام بقوله: «لقد صدق الشيخ عز الدين. وثالثهما: «السنن الكبير» للبيهقي، ورابعها «التمهيد» لابن عبد البر، فمن حصل هذه الدواوين، وكان من أذكياء المفتين وأدمن المطالعة فيها فهو العالم حقا».
(7):هذا حديث باطل لا أصل له. أنظر المنار المنيف في الصحيح والضعيف، والإرواء للألباني (1/10).
فهذه الحلقة الثانية من سلسلة: حجاب المرأة المسلمة في نظر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أقدم فيها الجزء الأول من مقال الأديب حمزة بكوشة رحمه الله التي رد بها على الشيخ مصطفى بن حلوش عند قوله: عادة الحجاب الثقيلة فجاء ردا قيما يستحق النشر فنسأل الله عزوجل أن يجعله في ميزان حسنات صاحبه وأن ينفع به الإسلام والمسلمين.
حجاب المرأة دين والمبالغة فيه عادة شريفة في الإسلام وقبله
للأستاذ الأديب حمزة بكوشة رحمه الله
(1)
كنت قرأت في البصائر الغراء عدد 41 مقالا للشيخ مصطفى بن حلوش تحت عنوان: (طواف وفد المؤتمر في عمالة وهران) قال فيه عند ذكر أهل «باريقو»(1): «وليست هذه الجماعة كالجماعات التي استقبلها في المدن السابقة بل جماعة تمثلت فيها جميع عناصر السكان الموجودين في «باريقو» فيها المسلمون- وهم الأكثرية- وفيها النصارى واليهود وكانت لطيفة بوجود الجنس اللطيف من المسيحيات واليهوديات فيها. ولولا عادة الحجاب الثقيلة لكان إلى جانبهن من جنسنا اللطيف المسلم عدد غير قليل».كذا.
ومادامت العربية عربية فتعبيره هذا المطلق عن التقييد لا يفهم منه إلا الأسف العميق على عدم سفور المرأة المسلمة كاليهودية والنصرانية ووقوفها معهن جنبا لجنب، فاستأت من تلك العبارة لا من صدورها من الشيخ (مصطفى حلوش) بل لنشرها بين أعمدة جريدة البصائر التي هي لسان حال جمعية العلماء المسلمين!
ولاحظت ذلك على أستاذنا الجليل الشيخ (الطيب العقبي) بما نشره لي في عدد 43 من البصائر(2).
ومن حسن الحظ نشرت جريدة البصائر في ذلك العدد سؤالا وجهه أحد تلامذة الجامع الأخضر للشيخ حلوش يطلب منه بيان رأيه في الموضوع فسكت مدة حتى ظننته فضل السكوت عن الجواب حيث لم يجد ما يؤيد مدعاه من آيات الكتاب واستحي أن يعترف بخطئه ويرجع إلى جادة الصواب فأبطل ظني ما نشره ذلك التلميذ في عدد 49 من البصائر من أن الشيخ حلوش كتب إلى أحد زملائه بقسنطينة يسأله عن كاتب السؤال ويسأله عن عنوانه ليجاريه برسالة خاصة وأخبره صديقه بعنوان السائل وطالت المدة ولم يظفر منه بجواب، فقلت إذن وراء الأكمة ما وراءها وأن الشيخ حلوش يريد التأثير بصديقه الذي شرب وإياه من منهل واحد على السذج والبسطاء وإن يدعو إلى السفور بلباقة وبراعة تحت طي الخفاء، وغاب عنه أن التلامذة يوجد فيهم كغيرهم من لا يخضع إلا عن بينة وبيان، ودليل وبرهان، كهذا التلميذ الذي لم تنطل عليه الشبهات، ولم يتأثر للمؤثرات. وآية ذلك نشره السر للعيان، حتى أنزل الشيخ حلوش إلى الميدان، من حيث لا يدري حلوش ولا أنا والله، وكنت قبلا أقول عسى بنزوله ينكشف الغطاء، ويمتاز الصواب عن الخطأ ويزول الشك باليقين، وينكشف الصبح لذي عينين.
نزل الشيخ حلوش إلى الميدان وكان المظنون عليه أن يرفع ما فقهه أولا فإذا به يمزقه كل ممزق فينشر بجريدة البصائر عدد (53)، و(54)، مقالا تحت عنوان (حجاب المرأة عادة لا دين) كذا. وهذا العنوان ألعن من كلمة الحجاب الثقيلة ولو كان قائله في بلد الإسلام وهو ينتسب للعلم والعلماء لحاكموه على هذا التصريح الذي هو إنكار لمعلوم من الدين، وسأبين ذلك بعد.
ورغما مما جاء في مقال الشيخ حلوش من الأدلة التي هي خارجة عن محل النزاع فأنا مصر على أن الحجاب من الإسلام والمبالغة التي سلكها الناس فيه سدا لذرائع الفساد، وإن كانت هذه المبالغة غير متفق عليها بين العلماء فهي عادة شريفة موجودة في العرب وغيرهم من الأمم الأخرى كاليونان وقد جاء في قاموس لاروس [ كانت نساء اليونان يستعملن الخمار إذا خرجن ويخفين وجوههن وكانت النساء تستعمله في القرون الوسطى].
وقد كان موجودا عند كثير من العرب، قال الشيخ مصطفى الغلاييني(3): ومما يدل عليه ما قاله الربيع بن زياد العبسي يرثي مالك بن زهير:
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ *** فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ.
يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ *** يلطمن أوجههن بالأسحار
قد كن يخبأن الوجوه تسترًا *** فاليوم حين برزن لِلنظار
يضربن حر وجوههن على فَتى *** عف الشَّمَائِل طيب الْأَخْبَار.
وقد كان الحجاب في الشرائع الأولى ودلت كتب التاريخ والأديان على أن سارة زوج إبراهيم الخليل صلوات الله عليه حين أراد الضيف تبشيرها بالحمل كانت البشارة بواسطة زوجها ولم يخاطبها بنفسه، ولما أرسل إبراهيم (إليعازر) ليخطب بنتا لابنه إسحاق، وتوجه إلى مدينة (ناحور) وخطب ابنة أخ إبراهيم التي تسمى (رفقا) وعاد إلى فلسطين حيث يوجد إسحاق فلما رأته أخذت البرقع وحجبت وجهها عنه وقد تلفعت (تامار) بثيابها وتحجبت ببرقعها عندما رآها يهوذا بن يعقوب بن إسحاق عليهم السلام حين مرروه بها.
أما في الشريعة الإسلامية فقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ﴾[الأحزاب:59]الآية. نص صريح في الحجاب، وقد قسم الشيخ مصطفى الغلاييني الحجاب إلى ثلاثة حجب في كتاب لباب الخيار فقال: «اعلم أن للحجاب ثلاثة حجب، حجاب يراد به أن لا يكون بين النساء للرجال اختلاط إلا مع ذي محرم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ».رواه البخاري(4)، وهذا عام لنساء النبي وغيرهن ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين، وحجاب يراد به ستر المرأة جميع بدنها إلا الوجه والكفين، وزاد بعض العلماء القدمين للفقيرات اللواتي تدعوهن الضرورة إلى العمل في المزارع وغيرها وهو المراد بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ﴾، وقوله: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾[النور:31].
وحجاب يراد به أن تستر المرأة جميع بدنها حتى وجهها وكفيها وهذا خاص بنساء النبي.
ثم رأى جمهور علماء الأمة بعد ذلك أن يعم هذا الشكل من الحجاب غيرهن أيضا عندما رأوا الحاجة ماسة إلى ذلك ولكنهم لم يوجبوه مطلقا بل حيث تدعو إليه الضرورة كالمدن التي فسدت فيها الأخلاق فلم تؤمن فيها الفتنة ولم نر منهم من نهى على نساء البوادي والقرى كشف وجوههن وأيديهن وأقدامهن». اهـ.
ومن هذا يتضح للقارئ أن حجاب المرأة دين لا محض عادة كما زعم الشيخ حلوش الذي أراد أن يحكم ببطلان الكلي لبطلان بعض جزئياته وهذا الشيخ رشيد رحمه الله الذي نقل الشيخ حلوش بعض نقول من كتابه الذي نسميه ويسميه الناس (نداء إلى الجنس اللطيف يوم المولد الشريف، في حقوق النساء في الإسلام)، ويسميه الشيخ حلوش بكتاب: (حقوق النساء في الإسلام) قال: «كل ما استحدثه الناس في المدن والقرى الكبيرة من المبالغة في حجب النساء هو من باب سد الذريعة لا من أصول الشريعة».
فأنت ترى أن الشيخ رشيد يجعل للحجاب أصلا في الشريعة يجعل المبالغة فيه سدا للذريعة.
والشيخ حلوش مع أخذه بعض نقول من كتاب الشيخ رشيد يقول حجاب المرأة عادة لا دين!.. فلست أدري هل الشيخ حلوش لم يذعن لقول الشيخ رشيد؟ أم لم يفهمه؟ أم تغافل عنه لحاجة في نفسه؟
لا أظن أن الشيخ حلوش لم يفهم كلام الشيح رشيد رضا رحمه الله لخلو كلام الشيخ رشيد من الغموض الناشئ من المصطلحات العلمية غالبا ولأن الشيخ حلوش يفهم؛ ولا أظنه لم يطلع عليه لأن الفصل الذي نقل منه عن الشيخ رشيد عدم وجوب ستر الوجه والكفين هو الذي أثبت فيه الشيخ رشيد مشروعية الحجاب ضمنا حيث قال: «كل ما استحدثه الناس في المدن والقرى من المبالغة في حجب النساء»...إلخ، فلماذا يقول حلوش بكل جراءة حجاب المرأة عادة لا دين؟!! أترك الجواب عن هذه المسألة أو المهزلة لأعضاء جمعية العلماء وعلى الخصوص رئيسها الجليل.
أخذ حلوش يسرد الأقوال في عدم وجوب ستر المرأة لوجهها وكفيها حتى وصل إلى قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسَاجِدَ كَمَا مُنِعَ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ»(5).
قال: «قد رأى العلماء أن لا حجة في قول عائشة ومنهم ابن حزم وقد رده بأربعة وجوه رابعها أن الإحداث إنما هو لبعض النساء»...إلخ.
هنا يسأل القارئ لماذا أخفى حلوش أسماء هؤلاء العلماء الذين رأوا أن لا حجة في قول أم المؤمنين؟ ولماذا أظهر ابن حزم دون عيره ألأنه ظاهري؟ أم ماذا؟ ولماذا طوى تلك الأوجه الثلاثة التي رد بها ابن حزم ولم يذكر إلا رابعها؟ مع أن هذا الوجه الرابع الذي يحقق الإحداث لبعض النساء دون البعض فيه الكفاية للدلالة على عدم الخروج إذا راعى سد الذريعة.
وعلاوة عليه إن ابن حزم الذي احتج حلوش بقوله ليست آراؤه بحجة عند المحققين من علماء الدين فهذا القاضي أبو بكر ابن العربي حذر الناس من آراء ابن حزم وكتبه ناهيك أنه قال في الجزء الثاني من كتاب العواصم من القواصم عن كتاب المحلى لابن حزم: كتاب المخلى (6).
ونحن وإن كنا نقدر قيمة ابن حزم العلمية وفلسفته لكنا لا نجرؤ أن نرد برأيه قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: «خُذُوا شَطْرَ دِينَكُمْ عَنِ هَذِهِ الْحُمَيْرَاءِ»(7).
ثم يقول حلوش: «وليس منها هذا الحجاب الثقيل الذي قصد منه في الأول سد ذريعة الفساد فلم يتحقق منه ما قصد بل قد أصبح عونا لبعض النساء على الوقوع في الآثام»...إلخ.
نسلم جدليا للشيخ حلوش أن القصد من هذا الحجاب لم يتحقق ولكن هل إذا تسرب الداء للجسم مع اتخاذ الحمية نترك الحمية؟
أما ما يدعيه من أنه عون لبعض النساء على الوقوع في الآثام فهو مقلد في هذه النظرية لدعاة السفور والفجور والعقل يحكم بإذن رأيهم لأن القصد من البرقع أن يحجب المرأة عن العيون بحيث تبصر غيرها ولا يبصرها حتى لا يفتتن بها لذلك أباح لها الفقهاء تركه عند أمن الفتنة.
البصائر: الجمعة 22 ذو الحجة 1355 الموافق ل 5مارس 1927. السنة الثانية العدد57، ص:4.
- يتبع -
=======
(1): هي مدينة معسكر حاليا وقد سميت بعدة أسماء من بينها هذا الاسم، واسم باريقو ترجمة حرفية للاسم (بالفرنسية: Perrégaux) نسبة إلى المارشال ألكسندر شارل بيريقو (بالفرنسية: Alexandre Charles Perrégaux).
(2): جاءت ضمن ملاحظاته على جريدة البصائر العدد (43) الصفحة (7)، حيث قال فيها: « جاء في مقال الشيخ مصطفى حلوش الذي عنوانه طواف وفد المؤتمر...إلخ»، وذكر نفس الكلام الموجود في مقدمة هذا المقال.
ثم عقب الشيخ حمزة بوكوشة بقوله: « وكان الأولى به يا سيدي المحرر أن يقول عادة الحجاب الشريفة، وإلا فمتى كانت عادة الحجاب ثقيلة عندنا معشر المسلمين؟ ومتى اسثقلها نساؤنا حتى يستثقلها رجالنا؟».اهـ.
(3):مصطفى بن محمد سليم الغلايينى (1303 - 1364 هـ / 1886 - 1944 م): شاعر، من الكتاب الخطباء، وهو من أعضاء المجمع العلمي العربي، كان مولده ووفاته ببيروت، تعلم بها وبمصر، وتتلمذ على يد محمد عبده (سنة 1320 هـ)، أصدر مجلة (النبراس) ببيروت، ووظف فيها أستاذا للعربية في المدرسة السلطانية أربع سنوات، وعين خطيبا للجيش الرابع (العثماني) في الحرب العامة الأولى، فصحبه من دمشق مخترقا الصحراء إلى ترعة السويس من جهة الإسماعيلية وحضر المعركة والهزيمة، ثم عاد إلى بيروت، مدرسا، وبعد الحرب أقام مدة في دمشق، وتطوع للعمل في جيشها العربي، وعاد إلى بيروت فاعتقل بتهمة الاشتراك في مقتل (أسعد بك) المعروف بمدير الداخلية (سنة 1922) وأفرج عنه فرحل إلى شرقي الأردن، فعهد إليه أميرها (الشريف عبد الله) بتعليم ابنيه، فمكث مدة وانصرف إلى بيروت، فنصب رئيسا للمجلس الإسلامي فيها، وقاضيا شرعيا إلى أن توفى.
من كتبه (نظرات في اللغة والأدب)، و(عظة الناشئين)، و(لباب الخيار في سيرة النبي المختار) رسالة اختصرها من كتابه (خيار المقول في سيرة الرسول - خ)، و(الإسلام روح المدنية) في الرد على كرومر، و(نظرات في كتاب السفور والحجاب)، و(الثريا المضية في الدروس العروضية)، و(أريج الزهر) مجموع مقالات له، و(رجال المعلقات العشر)، و(الدروس العربية) مدرسي، و(ديوان الغلاييني). [نقلا عن الأعلام للزركلي].
(4): صحيح البخاري ،كتاب النكاح، باب: لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم والدخول على المغيبة، رقم (5233).
(5): البخاري (869)، ومسلم (445) .
(6):قال الذهبي رحمه الله : «لم ينصف القاضي أبو بكر -رحمه الله- شيخ أبيه في العلم، ولا تكلم فيه بالقسط، وبالغ في الاستخفاف به، وأبو بكر فعلى عظمته في العلم لا يبلغ رتبة أبي محمد، ولا يكاد، فرحمهما الله وغفر لهما».
وأما كتابه المحلى من أنفع الكتب قال عز الدين بن عبد السلام: «ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل «المحلى» لابن حزم، وكتاب «المغني» للشيخ موفق الدين».
وعلق الذهبي على كلام ابن عبد السلام بقوله: «لقد صدق الشيخ عز الدين. وثالثهما: «السنن الكبير» للبيهقي، ورابعها «التمهيد» لابن عبد البر، فمن حصل هذه الدواوين، وكان من أذكياء المفتين وأدمن المطالعة فيها فهو العالم حقا».
(7):هذا حديث باطل لا أصل له. أنظر المنار المنيف في الصحيح والضعيف، والإرواء للألباني (1/10).