الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
إن مكة المكرمة أفضل البقع على وجه الأرض على الإطلاق على الراجح من أقوال أهل العلم والفضل ، وقد عظّمها الله تبارك وتعالى أيّما تعظيم ، وخصّها بخصائص عديدة ،وميّزها بمميّزات جليلة، وذلك لبيان فضلها وشرفها ، وعلوّ قدرها ومنزلتها ومكانتها ،قال تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } [آل عمران: ـ 9796]
وقال تعالى: {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد } [البلد: 1ـ 2]
ومكة المكرمة لم تزل حرماً من حين خلق الله السموات والأرض، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم افتتح مكة: «لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم، فانفروا، فإن هذا بلد حرم[1] الله يوم خلق السموات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهوو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها»، قال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، قال: قال: «إلا الإذخر».[2]
وهي أحبّ البلاد إلى الله ،وأحبّ البلاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فعن عبد الله بن عدي الحمراء رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على الحَزْورة فقال: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت.[3]
وفي لفظ : " ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك "[4].
وفضائل مكة المكرمة ومزاياها لا تعدّ ولا تحصى في كتاب الله ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنزلتها ومكانتها في قلوب أهل الإسلام والإيمان تكاد تعجز عن الوصف.
وقد ثبت مضاعفة أجر وثواب الصلاة في المسجد الحرام ،فعن أبي الدرداء وجابر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة ، وفي مسجدي هذا ألف صلاة وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة[5].
وقد ورد ذكر اسم المسجد الحرام في كتاب الله تعالى في خمسة عشر موضعاً ، وقد اختلف أهل العلم في المراد به على سبعة أقوال[6]،والراجح من ذلك أن مضاعفة الصلاة تتعلق بجميع حرم مكة المكرمة ،وبه قال جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية ، وبه قال ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ،ومجاهد , وقتادة ،وابن تيمية ،وابن القيم ، وابن باز ،وشيخنا صالح الفوزان ،وعبد الله الغديان ،وصالح اللحيدان ،وغيرهم.
والذي بيّن معالم وأماكن ومواضع حدود الحرم[7] هو النبي الكريم إبراهيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، وهو أمر توقيفيّ.
قال النووي رحمه الله: ذكر الأزرقي وغيره بأسانيدهم أن إبراهيم الخليل عليه السلام علمها, ونصب العلامات فيها ، وكان جبريل عليه السلام يريه مواضعها, ثم أُمر نبيناا صلى الله عليه وسلم بتجديدها ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم معاوية رضي الله عنهم ، وهي إلى الآن بينة ولله الحمد.
قال الأزرقي رحمه الله في آخر كتاب "مكة ": أنصاب الحرم التي على رأس الثنية ما كان من وجوهها في هذا الشق فهو حرم , وما كان في ظهرها فهو حل قال: وبعض الأعشاش في الحل وبعضه في الحرم.[8]
وعن ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث تميم بن أسد الخزاعي يجدّد أنصاب الحرم، وكان إبراهيم عليه السلام وضعها ، يريها إياه جبريل عليه السلام.[9]
الأدلة على أن مضاعفة أجر الصلاة عامّة في جميع حرم مكة :
أولا : قال تعالى : {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنآ إنه هو السميع البصير} [الإسراء: 1]
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به من بيت أم هانئ رضي الله عنها ،والبيت خارج عن المسجد الحرام ،وكل ذلك سمّاه الله تعالى حرما .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل، ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي الى السماء الدنيا. فلما جئت الى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: من هذا؟ قال: هذا جبريل. قال: هل معك احد؟ قال: نعم، معي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فقال: أرسل اليه؟ قال: نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد، على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة؛ إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بينه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى ،حتى عرج بي الى السماء الثانية، فقال لخازنها: افتح ، فقال له خازنها مثل ما قال الأول، ففتح".[10]
وقد ثبت أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به من مسجد الكعبة عند الحطيم ، كما ورد من حديث عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به: " بينما أنا في الحطيم، - وربما قال: في الحجر - مضطجعا إذ أتاني آت....الحديث.[11]
ويمكن الجمع بينهما كما أفاده العلماء وهو : أنه عليه الصلاة والسلام كان نائما في بيت أم هانئ رضي الله عنها ، وبيتها حينئذ كان في شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته صلى الله عليه وسلم ن فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فأخرجه من البيت إلى المسجد ، فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك الى باب المسجد، فأركبه البراق.[12]
جاء في "الموسوعة الفقهية (27/239) : " ذهب الحنفية في المشهور والمالكية والشافعية إلى أن المضاعفة تعم جميع حرم مكة ، فقد ورد من حديث عطاء بن أبي رباح قال : بينما ابن الزبير يخطبنا إذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام تفضل بمائة ، قال عطاء : فكأنه مائة ألف ، قال : قلت : يا أبا محمد ، هذا الفضل الذي يذكر في المسجد الحرام وحده أو في الحرم ؟ قال : بل في الحرم ، فإن الحرم كله مسجد .....اهـ
ثانيا :
قال تعالى : {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28]
فهذه الآية أيضا من أصرح ما يكون في الدّلالة على أن المقصود بالمسجد الحرام هو الحرم كلّه وليس المسجد فقط، بل نقل أبو محمد ابن حزم رحمه الله أنه لا خلاف بين أهل العلم في ذلك.[13]
وقد نقل الشربيني إجماع المفسرين على ذلك.[14]
قال عطاء بن أبي رباح رحمه الله : " الحرم كله قبلة ومسجد، قال: {فلا يقربوا المسجد الحرام} [التوبة: 28] لم يعن المسجد وحده، إنما عنى مكة والحرم. قال ذلك غير مرة.[15]
قال القرطبي رحمه الله : يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع، فإذا جاء رسول منهم خرج الإمام إلى الحل ليسمع ما يقول ، ولو دخل مشرك الحرم مستوراً ومات نبش قبره وأخرجت عظامه.[16
ثالثا :
قال تعالى : {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } [آل عمران: 97]
هذه الآية الكريمة تبيّن أنه إذا دخل الخائف حدود الحرم يأمن من كل سوء وشرّ، ويجب أن يعطى الأمان، وهذا كان معروفا مشهورا حتى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم-أي: في الأيام الجاهلية-، كما قال الحسن البصري رحمه الله : “كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم، فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج.
وقد امتنّ الله تبارك وتعالى بهذه المنّة والمزيّة العظيمة ، وهذه الميزة الجليلة على أهل الحرم دون غيرهم ، حيث قال جلّ وعزّ : {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]
رابعا :
قال تعالى : {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} [التوبة: 7]
ومن المعلوم أن المعاهدة التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار قريش لم تكن في مسجد الكعبة ، وإنما كانت بموضع يعرف بالحديبية ،وهو معروف معلوم على حدود الحرم ، بل بعضه في الحلّ وبعضه في الحرم كما في حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه.
خامسا :
قال الله تعالى : {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله} [البقرة: 217]
قال الجصاص رحمه الله : والمراد إخراج المسلمين من مكة حين هاجروا إلى المدينة، فجعل المسجد الحرام عبارة عن الحرم. ويدل على أن المراد جميع الحرم كله قوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} والمراد به من انتهك حرمة الحرم بالظلم فيه.[17]
سادسا :
قال الله تعالى : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج:25].
قال الجصاص رحمه الله : فإن الإلحاد هو الميل عن الحق إلى الباطل، وإنما سمي اللحد في القبر; لأنه مائل إلى شق القبر قال الله تعالى: {وذروا الذين يلحدون في أسمائه} [الأعراف: 180] وقال: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي} [النحل: 103] أي لسان الذي يومئون إليه. و "الباء" في قوله: {بإلحاد} زائدة، كقوله: {تنبت بالدهن} [المؤمنون: 20] أي تنبت الدهن، وقوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم} [آل عمران: 159] . وروي عن ابن عمر أنه قال "ظلم الخادم فما فوقه بمكة إلحاد". وقال عمر "احتكار الطعام بمكة إلحاد". وقال غيره: "الإلحاد بمكة الذنوب". وقال الحسن: "أراد بالإلحاد الإشراك بالله".
الإلحاد مذموم; لأنه اسم للميل عن الحق ولا يطلق في الميل عن الباطل إلى الحق، فالإلحاد اسم مذموم، وخص الله تعالى الحرم بالوعيد في الملحد فيه تعظيما لحرمته. ولم يختلف المتأوّلون للآية أن الوعيد في الإلحاد مراد به من ألحد في الحرم كله وأنه غير مخصوص به المسجد، وفي ذلك دليل على أن قوله: {والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد} قد أريد به الحرم; لأن قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد} هذه الهاء كناية عن الحرم وليس للحرم ذكر متقدم إلا قوله: {والمسجد الحرام} فثبت أن المراد بالمسجد ههنا الحرم كله. وقد روى عمارة بن ثوبان قال: أخبرني موسى بن زياد قال: سمعت يعلى بن أمية قال: قال رسول الله "احتكار الطعام بمكة إلحاد". وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: "بيع الطعام بمكة إلحاد، وليس الجالب كالمقيم". وليس يمتنع أن يكون جميع الذنوب مرادا بقوله: {بإلحاد بظلم} فيكون الاحتكار من ذلك وكذلك الظلم والشرك، وهذا يدل على أن الذنب في الحرم أعظم منه في غيره. ويشبه أن يكون من كره الجوار بمكة ذهب إلى أنه لما كانت الذنوب بها تتضاعف عقوبتها آثروا السلامة في ترك الجوار بها مخافة مواقعة الذنوب التي تتضاعف عقوبتها. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يلحد بمكة رجل عليه مثل نصف عذاب أهل الأرض". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعتى الناس على الله رجل قتل في الحرم ورجل قتل غير قاتله ورجل قتل بذحول الجاهلية".[18]
سابعا :
عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا، وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبع مائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة......،وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل.[19]
وهذا من أصرح الأدلّة على أن مضاعفة أجر الصلاة تتعلّق بجميع الحرم وليست خاصة بمسجد الكعبة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الحرم كلّه هو المسجد الحرام.[20]
قال ابن القيم رحمه الله: وفي هذا كالدلالة على أن مضاعفة الصلاة بمكّة تتعلّق بجميع الحرم ، لا يخصّ بها المسجد الذي هو مكان الطواف ، وأن قوله :صلاة فيالمسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي ، كقوله تعالى فلا يقربوا المسجد الحرام) [ التوبة : 28 ] وقوله تعالى : (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) [ الإسراء : 1 ] وكان الإسراء من بيت أم هانئ.[21]
إن مكة المكرمة أفضل البقع على وجه الأرض على الإطلاق على الراجح من أقوال أهل العلم والفضل ، وقد عظّمها الله تبارك وتعالى أيّما تعظيم ، وخصّها بخصائص عديدة ،وميّزها بمميّزات جليلة، وذلك لبيان فضلها وشرفها ، وعلوّ قدرها ومنزلتها ومكانتها ،قال تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } [آل عمران: ـ 9796]
وقال تعالى: {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد } [البلد: 1ـ 2]
ومكة المكرمة لم تزل حرماً من حين خلق الله السموات والأرض، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم افتتح مكة: «لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم، فانفروا، فإن هذا بلد حرم[1] الله يوم خلق السموات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهوو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها»، قال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، قال: قال: «إلا الإذخر».[2]
وهي أحبّ البلاد إلى الله ،وأحبّ البلاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فعن عبد الله بن عدي الحمراء رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على الحَزْورة فقال: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت.[3]
وفي لفظ : " ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك "[4].
وفضائل مكة المكرمة ومزاياها لا تعدّ ولا تحصى في كتاب الله ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنزلتها ومكانتها في قلوب أهل الإسلام والإيمان تكاد تعجز عن الوصف.
وقد ثبت مضاعفة أجر وثواب الصلاة في المسجد الحرام ،فعن أبي الدرداء وجابر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة ، وفي مسجدي هذا ألف صلاة وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة[5].
وقد ورد ذكر اسم المسجد الحرام في كتاب الله تعالى في خمسة عشر موضعاً ، وقد اختلف أهل العلم في المراد به على سبعة أقوال[6]،والراجح من ذلك أن مضاعفة الصلاة تتعلق بجميع حرم مكة المكرمة ،وبه قال جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية ، وبه قال ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ،ومجاهد , وقتادة ،وابن تيمية ،وابن القيم ، وابن باز ،وشيخنا صالح الفوزان ،وعبد الله الغديان ،وصالح اللحيدان ،وغيرهم.
والذي بيّن معالم وأماكن ومواضع حدود الحرم[7] هو النبي الكريم إبراهيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، وهو أمر توقيفيّ.
قال النووي رحمه الله: ذكر الأزرقي وغيره بأسانيدهم أن إبراهيم الخليل عليه السلام علمها, ونصب العلامات فيها ، وكان جبريل عليه السلام يريه مواضعها, ثم أُمر نبيناا صلى الله عليه وسلم بتجديدها ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم معاوية رضي الله عنهم ، وهي إلى الآن بينة ولله الحمد.
قال الأزرقي رحمه الله في آخر كتاب "مكة ": أنصاب الحرم التي على رأس الثنية ما كان من وجوهها في هذا الشق فهو حرم , وما كان في ظهرها فهو حل قال: وبعض الأعشاش في الحل وبعضه في الحرم.[8]
وعن ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث تميم بن أسد الخزاعي يجدّد أنصاب الحرم، وكان إبراهيم عليه السلام وضعها ، يريها إياه جبريل عليه السلام.[9]
الأدلة على أن مضاعفة أجر الصلاة عامّة في جميع حرم مكة :
أولا : قال تعالى : {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنآ إنه هو السميع البصير} [الإسراء: 1]
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به من بيت أم هانئ رضي الله عنها ،والبيت خارج عن المسجد الحرام ،وكل ذلك سمّاه الله تعالى حرما .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل، ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي الى السماء الدنيا. فلما جئت الى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: من هذا؟ قال: هذا جبريل. قال: هل معك احد؟ قال: نعم، معي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فقال: أرسل اليه؟ قال: نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد، على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة؛ إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بينه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى ،حتى عرج بي الى السماء الثانية، فقال لخازنها: افتح ، فقال له خازنها مثل ما قال الأول، ففتح".[10]
وقد ثبت أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به من مسجد الكعبة عند الحطيم ، كما ورد من حديث عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به: " بينما أنا في الحطيم، - وربما قال: في الحجر - مضطجعا إذ أتاني آت....الحديث.[11]
ويمكن الجمع بينهما كما أفاده العلماء وهو : أنه عليه الصلاة والسلام كان نائما في بيت أم هانئ رضي الله عنها ، وبيتها حينئذ كان في شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته صلى الله عليه وسلم ن فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فأخرجه من البيت إلى المسجد ، فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك الى باب المسجد، فأركبه البراق.[12]
جاء في "الموسوعة الفقهية (27/239) : " ذهب الحنفية في المشهور والمالكية والشافعية إلى أن المضاعفة تعم جميع حرم مكة ، فقد ورد من حديث عطاء بن أبي رباح قال : بينما ابن الزبير يخطبنا إذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام تفضل بمائة ، قال عطاء : فكأنه مائة ألف ، قال : قلت : يا أبا محمد ، هذا الفضل الذي يذكر في المسجد الحرام وحده أو في الحرم ؟ قال : بل في الحرم ، فإن الحرم كله مسجد .....اهـ
ثانيا :
قال تعالى : {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28]
فهذه الآية أيضا من أصرح ما يكون في الدّلالة على أن المقصود بالمسجد الحرام هو الحرم كلّه وليس المسجد فقط، بل نقل أبو محمد ابن حزم رحمه الله أنه لا خلاف بين أهل العلم في ذلك.[13]
وقد نقل الشربيني إجماع المفسرين على ذلك.[14]
قال عطاء بن أبي رباح رحمه الله : " الحرم كله قبلة ومسجد، قال: {فلا يقربوا المسجد الحرام} [التوبة: 28] لم يعن المسجد وحده، إنما عنى مكة والحرم. قال ذلك غير مرة.[15]
قال القرطبي رحمه الله : يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع، فإذا جاء رسول منهم خرج الإمام إلى الحل ليسمع ما يقول ، ولو دخل مشرك الحرم مستوراً ومات نبش قبره وأخرجت عظامه.[16
ثالثا :
قال تعالى : {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } [آل عمران: 97]
هذه الآية الكريمة تبيّن أنه إذا دخل الخائف حدود الحرم يأمن من كل سوء وشرّ، ويجب أن يعطى الأمان، وهذا كان معروفا مشهورا حتى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم-أي: في الأيام الجاهلية-، كما قال الحسن البصري رحمه الله : “كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم، فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج.
وقد امتنّ الله تبارك وتعالى بهذه المنّة والمزيّة العظيمة ، وهذه الميزة الجليلة على أهل الحرم دون غيرهم ، حيث قال جلّ وعزّ : {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]
رابعا :
قال تعالى : {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} [التوبة: 7]
ومن المعلوم أن المعاهدة التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار قريش لم تكن في مسجد الكعبة ، وإنما كانت بموضع يعرف بالحديبية ،وهو معروف معلوم على حدود الحرم ، بل بعضه في الحلّ وبعضه في الحرم كما في حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه.
خامسا :
قال الله تعالى : {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله} [البقرة: 217]
قال الجصاص رحمه الله : والمراد إخراج المسلمين من مكة حين هاجروا إلى المدينة، فجعل المسجد الحرام عبارة عن الحرم. ويدل على أن المراد جميع الحرم كله قوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} والمراد به من انتهك حرمة الحرم بالظلم فيه.[17]
سادسا :
قال الله تعالى : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج:25].
قال الجصاص رحمه الله : فإن الإلحاد هو الميل عن الحق إلى الباطل، وإنما سمي اللحد في القبر; لأنه مائل إلى شق القبر قال الله تعالى: {وذروا الذين يلحدون في أسمائه} [الأعراف: 180] وقال: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي} [النحل: 103] أي لسان الذي يومئون إليه. و "الباء" في قوله: {بإلحاد} زائدة، كقوله: {تنبت بالدهن} [المؤمنون: 20] أي تنبت الدهن، وقوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم} [آل عمران: 159] . وروي عن ابن عمر أنه قال "ظلم الخادم فما فوقه بمكة إلحاد". وقال عمر "احتكار الطعام بمكة إلحاد". وقال غيره: "الإلحاد بمكة الذنوب". وقال الحسن: "أراد بالإلحاد الإشراك بالله".
الإلحاد مذموم; لأنه اسم للميل عن الحق ولا يطلق في الميل عن الباطل إلى الحق، فالإلحاد اسم مذموم، وخص الله تعالى الحرم بالوعيد في الملحد فيه تعظيما لحرمته. ولم يختلف المتأوّلون للآية أن الوعيد في الإلحاد مراد به من ألحد في الحرم كله وأنه غير مخصوص به المسجد، وفي ذلك دليل على أن قوله: {والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد} قد أريد به الحرم; لأن قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد} هذه الهاء كناية عن الحرم وليس للحرم ذكر متقدم إلا قوله: {والمسجد الحرام} فثبت أن المراد بالمسجد ههنا الحرم كله. وقد روى عمارة بن ثوبان قال: أخبرني موسى بن زياد قال: سمعت يعلى بن أمية قال: قال رسول الله "احتكار الطعام بمكة إلحاد". وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: "بيع الطعام بمكة إلحاد، وليس الجالب كالمقيم". وليس يمتنع أن يكون جميع الذنوب مرادا بقوله: {بإلحاد بظلم} فيكون الاحتكار من ذلك وكذلك الظلم والشرك، وهذا يدل على أن الذنب في الحرم أعظم منه في غيره. ويشبه أن يكون من كره الجوار بمكة ذهب إلى أنه لما كانت الذنوب بها تتضاعف عقوبتها آثروا السلامة في ترك الجوار بها مخافة مواقعة الذنوب التي تتضاعف عقوبتها. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يلحد بمكة رجل عليه مثل نصف عذاب أهل الأرض". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعتى الناس على الله رجل قتل في الحرم ورجل قتل غير قاتله ورجل قتل بذحول الجاهلية".[18]
سابعا :
عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا، وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبع مائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة......،وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل.[19]
وهذا من أصرح الأدلّة على أن مضاعفة أجر الصلاة تتعلّق بجميع الحرم وليست خاصة بمسجد الكعبة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الحرم كلّه هو المسجد الحرام.[20]
قال ابن القيم رحمه الله: وفي هذا كالدلالة على أن مضاعفة الصلاة بمكّة تتعلّق بجميع الحرم ، لا يخصّ بها المسجد الذي هو مكان الطواف ، وأن قوله :صلاة فيالمسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي ، كقوله تعالى فلا يقربوا المسجد الحرام) [ التوبة : 28 ] وقوله تعالى : (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) [ الإسراء : 1 ] وكان الإسراء من بيت أم هانئ.[21]