« نصيحة الصَّائم »
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه.
أمَّا بعد:
فإنَّ أعمار الأمم الماضية كانت ـ كما جاء في الآثار ـ طويلةً ممتدَّة، فلهذا يمكن للصَّالحين منهم ملؤها بالأعمال الكثيرة الجليلة، أمَّا هذه الأمَّة فأعمارها ما بين الستِّين إلى السَّبعين، لكنَّها لمَّا كانت الأمَّة الصَّفيَّة النَّقيَّة عوَّضهم الله تعالى من طول العمر بمواسم الخير الَّتي تُضاعف فيها الأجور، وتكثر فيها أبواب الخير، ويُعان فيها العبد على الطَّاعة.
وإن أجلَّ موسمٍ من هذه المواسم الفاضلة وأعلاها مقامًا وأفضلها عائدة هو شهر رمضان، ولهذا فإنَّ المسلم الموفَّق هو من يحرص على الاستكثار من اغتنام فضائله واستدراك ما استودعه الله فيه من أساب الفلاح والسَّعادة، والمعلوم أنَّ السبب الأعظم للفلاح هو تزكية النَّفس كما قال تعالى: «قد أفلح من زكَّاها»، وتزكيتها إنَّما تكون بالعلم النَّافع الَّذي يرفع عنها وصف الجهل، والعمل الصالح الَّذي يرفع عنها وصف الظُّلم، وهما الوصفان اللَّذان جُبلت عليهما كما قال الله سبحانه: «وحملها الإنسان إنَّه كان ظلومًا جهولًا»، فمن تحلَّى بالظُّلم والجهل فقد خسر، ومن تخلَّى عنهما وتلبَّس بضدِّهما من الإيمان والعمل الصَّالح فقد فاز، قال الله تعالى: «والعصر عن الإنسان لفي خسر، إلَّا الَّذين آمنوا وعملوا الصَّالحات وتواصوا بالحقِّ وتواصوا بالصَّبر».
وقد اختيرت عبادة الصَّوم لتكون وظيفة رمضان، لما في الصَّوم من خاصَّة تهذيب النَّفس، إذ يمسك فيه الإنسانُ عن الطَّعام الحسيِّ المكثِّف للقلب، الجالبِ للخمول، ويُقبل فيه على العبادات الَّتي شُرعت في شهر الصَّوم، كالصَّلاة وقراءة القرآن والدُّعاء والاعتكاف والعمرة، فيتحصَّل له من مجموع ذلك حكمةُ الصَّوم الَّتي هي: تزكية النَّفس بالتَّقوى وإلجامُها بالأدب.
وقد جاء في النُّصوص الإشارة إلى هاتين الحكمتين:
1ـ أمَّا التَّقوى ففي قوله تعالى: «يا أيُّها الذين آمنوا كتب عليكم الصِّيام كما كُتب على الَّذين من قبلكم لعلكم تتَّقون»، فقد شُرع الصَّوم لتحصيل التَّقوى، وهي فعل الأمر وترك النَّهي رجاءَ عفو الله ومغفرته.
ولا تتحصَّل التَّقوى إلَّا بهذين: ترك النَّهي وفعل الأمر، فيكون ذلك وقايةً للمسلم من عذاب الله تعالى، ومن هنا كان اسمها «التَّقوى»، فهي مشتقَّة من الوقاية، وإنَّما يُتَّقى الله بترك مناهيه كما قال سبحانه: «يا أيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا الله وذروا ما بقي من الرِّبا»، وبفعل أوامره وعبادته كما قال سبحانه: «يا أيُّها النَّاس اعبدوا ربَّكم الَّذي خلقكم والَّذين من قبلكم لعلَّكم تتَّقون».
2ـ وأمَّا الأدب ففي قول النَّبيِّ
وقد اجتمعت الحكمتان: التَّقوى والأدب في قول النَّبيِّ
فعلى الصَّائم أن يجعل من باله استكمال هاتين الحكمتين، فيتباعد عن المعاصي القوليَّة والفعليَّة وهي قول الزُّور والعمل به، ويُتمِّم ذلك بفعل الطَّاعات فرضِها ونفلها، ويختم على ذلك بخاتم الأدب والسَّكينة، وإلَّا فإنَّه لم يصنع شيئًا، فإنَّ الله تعالى لم يشرع الصَّوم ليعذِّب عبده بالجوع والعطش، ولكن ليزكِّيه بالتَّقوى ويجمِّله بالأدب.
ثمَّ إنَّ هاهنا نصائح شتَّى، تُعين الصَّائم على كمال اغتنام الشَّهر وساعاته باللَّيل والنَّهار.
النَّصيحة الأولى: أن يستحضر منَّة الله عليه ببلوغ الشَّهر، فإنَّها من أجلِّ النِّعم، أن يمدَّ الله في عمر العبد وينسأ في أجله حتَّى يدرك مواسم الطَّاعة والخير، ولعلَّه أن يُحدثَ توبةً يصلح بها حاله ويدوم عليها حتَّى يوافيه أجله، فما أعظمها من منَّة.
وإنَّ استحضار نِعَم الرَّحمن تَعالى، والتَّعبُّدَ له بشكرها من العبادات الَّتي يحبُّها الله تعالى ويرضى عن أصحابها، «وإن تشكروا يَرْضَهُ لكم»، وكثيرٌ مِن النَّاس مَنْ يستحضر شكر النِّعم الدُّنيويَّة كالطَّعام والشَّراب والكسوة والوَلَد، ويغفل عن شكر النِّعم الأخرويَّة من العلم والإيمان والقرآن والتَّوفيق لطاعة الرَّحمن، مع أنَّ هذه أجلُّ قدرًا وأحمدُ عاقبةً.
النَّصيحة الثَّانية: أن يتعلَّم الهَدْيَ النَّبويَّ في العمل في رمضان، فإنَّ موافقة السُّنَّة في إخلاصٍ تجعل العمل القليل كثيرًا، وقد أطبق السَّلف الصَّالح رحمهم الله على أنَّ اقتصادًا في سنَّة خيرٌ من اجتهادٍ في بدعة، فرحم الله امرءً نظر في أمره، وأقبل على تعلُّم السُّنَّة في أيِّ عملٍ قبل أن يشرع فيه.
النَّصيحة الثَّالثة: أن يستغلَّ الصَّائمُ كريمَ الوقت في كريم العمل، ولا يزاحم الطَّاعات بالتَّفاهات، فلا يترك شراء الحوائج وأغراض العيد وكسوة الأولاد ليخرج في اللَّيل، لا سيَّما في العشر الأواخر، فيضيِّع فضلَها وأجرَها في الأسواق وصخبها ومنكراتها، بل ينبغي أن يحرص على قضاء الحوائج قبل رمضان، فإن أدركه رمضان وهو محتاجٌ إلى بعض ذلك فلا يزاحم بها وقت الصَّلاة فرضها ونفلها، كما يترك بعض النَّاس التَّراويح للخروج إلى الشِّراء، ويستطيل بعضهم الصَّلاة من أجل ذلك، وربَّما يتركها قبل تمامها من جرَّاء ذلك، وفي هذا تفويتٌ للفضل العظيم الوارد في قول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «من قام مع الإمام حتَّى ينصرف كُتب له قيام ليلة» [أخرجه أصحاب السُّنن].
النَّصيحة الرَّابعة: لزوم المساجد، وقد كان ذلك من هدي السَّلف ومن شأنهم في أيَّام الصَّوم، وفيه فائتان عظيمتان:
الأولى: السَّلامة من الآفات الَّتي تخدش الصَّوم، من اللَّغو، والنَّظر إلى المحرَّمات، والكلام فيما لا يعني، وقد أخرج أبو بكر ابن أبي شيبة في «المصنَّف» (8966) عن أبي المتوكِّل أنَّ أبا هريرة وأصحابَه كانوا إذا صاموا جلسوا في المسجد.
الثَّانية: الإقبال على الطَّاعات، كقراءة القرآن والمحافظة على الرَّواتب، وأقلُّ ذلك: أجرُ انتظار الصَّلوات وعمارة المساجد.
النَّصيحة الخامسة: أن يأخذ نفسه بالاجتهاد في رمضان شيئًا فشيئا، إلى أن ينتهي آخرُ ما عنده من الاجتهاد في آخر الشَّهر، فإنَّ أفضل الشَّهر آخره.
وهذا خلافًا لما يقع فيه بعض العامَّة من الاجتهاد في أوَّل الشَّهر طربًا بالوافد وفرحًا بالوارد، ثمَّ يترك الاجتهاد في آخره، وربَّما يترك العمل أصلًا، وهذا عكسٌ للقضيَّة وخروجٌ عمَّا ينبغي.
آخرُ نصيحة الصَّائم، والحمد لله.
موضوع للأخ الشيخ خالد حمودة نقلا عن منتديات التصفية و التربية.